الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

٣. لا شكّ انّ الآيات قد أثنت على جمع من الصحابة وقد أوضحنا مقاصدها ، ومع ذلك كلّه فالثناء ثناء جمعي لا يتعلّق بآحادهم ، نظير الثناء على قوم بني إسرائيل في قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ). (١)

وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ). (٢)

وقد أدرك بعض المحقّقين من أهل السنّة انّ وصف الصحابة بالعدالة كلّهم يخالف ما روي في حقّهم ، ولذلك عاد إلى تفسير هذا الكلام وقال : إنّه ليس معنى «الصحابة كلّهم عدول» انّ كلاً منهم سالم من الكبيرة ، فانّه بعيد من الصواب ، لأنّ منهم من سمع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو يقول : «لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» ثمّ قاتل مع معاوية فكان قاتل عمار بن ياسر ، ثمّ كان يتبجّح بذلك ويقول لمّا يأتي إلى أبواب بني أُمية : «قاتلُ عمار بالباب» ، فهل يحكم لهذا بانّه عدل بمعنى انّه سالم من الكبائر؟! إنّما معنى قول أُولئك المحدِّثين انّهم لا يتّهمون بالكذب على الرسول فيما يروونه من الأحاديث عنه ، أليس قتل عمار من أفسق الفسق؟! فقد خالف قول رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الذي سمعه منه وهذا الغادر هو أبو الغادية الجهني. (٣)

قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» عند شرح الحديث الذي فيه قصة حاطب بن أبي بلتعة ما نصّه : وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدّم انّ المؤمن

__________________

(١) البقرة : ٤٧.

(٢) الجاثية : ١٦.

(٣) المقالات السنية : ٣٦٥.

٦٠١

ولو بلغ بالصلاح أن يقطع له بالجنة ، لا يعصم من الوقوع في الذنب. (١)

٤. انّ الاعتقاد المُسْبق بعدالة الصحابة آل ـ في كثير من الأحيان ـ بمحقّقي أهل السنّة إلى عدم التدبّر العميق في التاريخ ونقده ، ممّا أدّى إلى وقوعهم في مأزق كبير حفاظاً على ذلك المعتقد ، وهو إسدال الستار على كثير من حقائق التاريخ التي حدثت بعد رحيل الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ودامت حوالي قرن واحد ، فتراهم يؤولون ما صدر عن الصحابة من التكفير والتفسيق والنهب والقتل بالاتّكاء على النظرية القائلة : بأنّهم كانوا مجتهدين مخطئين ، ومثابين في الوقت نفسه!! حتّى أنّ من كثر خطأه زاد ثوابه وأجره ، وهذا من غرائب الأُمور.

أوَما آن للمحقّقين من أهل السنّة أن يخوضوا عباب التاريخ نقداً وتمحيصاً ، ويرفعوا ربقة التقليد للسلف والجري وراءهم ، لكي يفهموا التاريخ على ما هو عليه ويرفعوا اليد عن الاعتقاد بعدالة كلّ صحابي بلا استثناء.

إنّ الدعاية الأموية لغاية ترسيخ ملكهم وإبعاد الناس عن أئمة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ حاكت حول الصحابة حالة قدسية وهمية على نحو لم ترخص فيه لأحد الخروج عن هذا الإطار والتدبّر فيما شجر بين الصحابة من مشاجرات.

إنّ الدعاية الأموية نشرت بين الناس أكاذيب وتهماً حول الشيعة للمساس بهم ، من سبّ الصحابة وبغضهم وتفسيقهم وكفرهم ، وهذا ـ شهيدي الله ـ كذب بلا مرية ، وفرية يتحمل أوزارها آل أُمية وآل مروان.

فكيف يمكن للشيعة أن تبغض الصحابة مع أنّ رواد التشيع كانوا منهم وقد حفل التاريخ بأسمائهم وتشيعهم؟!

__________________

(١) فتح الباري : ١٢ / ٣١٠.

٦٠٢

وليس عند الشيعة في هذا المجال إلاّ مسألة «عدالة الصحابة بأجمعهم» ، فإنّهم لا يعتقدون بعدالة الكلّ ، ويقولون : إنّ مثلهم بين المسلمين كمثل التابعين ، وهذا أمر يوافقه الكتاب العزيز والسنّة النبوية والتاريخ الصحيح.

٥. وممّا يدلّ على إكبار الشيعة لصحابة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وتبجيلهم لهم ، انّ الكتب الرجالية للشيعة لم تزل إلى يومنا هذا تحتفل بذكر أسماء الصحابة كلّ حسب وسع المؤلّفين وطاقتهم.

هذا هو رجال البرقي من الأُصول الرجالية ، وقد أدرج في رجاله أسماء صحابة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قبل صحابة سائر الأئمة.

وهذا هو الشيخ الطوسي في كتابه المعروف ب ـ «رجال الطوسي» أدرج في كتاب في باب من روى عن النبي أسماء ٤٣٠ شخصاً من الصحابة ، كما أنّه أدرج من الصحابيات أسماء ٣٨ امرأة ، فاشتمل الكتاب على ترجمة ٤٦٨ شخصاً. (١)

وقد تبعه غير واحد من أصحاب المعاجم فذكروا أسماء جمع غفير من الصحابة الذين لهم رواية عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، ممّا يدلّ على أنّ للصحابة مقاماً ومكرمة لدى الشيعة ، إلاّ ما قامت البيّنة على إعراضهم عن الطريق المهيع.

٦. روّاد التشيّع من الصحابة

إنّ التشيع ليس إلاّ نفس الإسلام الذي اتّفق عليه الفريقان ، ويختلف عن سائر الفرق في مسألة التنصيص على الخلافة ، فالشيعة الأوائل هم الذين اتّبعوا قول الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في حقّ علي ـ عليه‌السلام ـ وكانوا مع علي ـ عليه‌السلام ـ في حياة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وبعد

__________________

(١) رجال الشيخ ، باب من روى عن النبي من الصحابة ، ص ٢٤ ـ ٥٣.

٦٠٣

رحيله.

فها نحن نضع أمام القارئ الكريم قائمة بأسماء ثلّة من الصحابة الذين شهدت أعمالهم على أوصافهم ، وأفعالهم على نيّاتهم ، وأثنى أصحاب الرجال والتراجم عليهم أو على الأقل سكت عنهم التاريخ ، ولنكتف بذكر القليل منهم عن الكثير ، وهم :

جندب بن جنادة (أبو ذر الغفاري) ، عمار بن ياسر ، سلمان الفارسي ، المقداد بن عمرو بن ثعلبة الكندي ، حذيفة بن اليمان صاحب سرّ النبيّ ، خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين ، الخباب بن الأرت التميمي ، سعد بن مالك أبو سعيد الخدري ، أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري ، قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ، أنس بن الحرث بن منبه أحد شهداء كربلاء ، أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد الذي استضاف النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عند دخوله المدينة ، جابر بن عبد الله الأنصاري أحد أصحاب بيعة العقبة ، هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال فاتح جلولاء ، مالك بن الحارث الأشتر النخعي ، مالك بن نويرة ردف الملوك الذي قتله خالد بن الوليد ، البراء بن عازب الأنصاري ، أُبيّ بن كعب سيد القرّاء ، عبادة بن الصامت الأنصاري ، عبد الله بن مسعود صاحب وضوء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ومن سادات القرّاء ، أبو الأسود الدؤلي ظالم بن عمير واضع أُسس النحو بأمر الإمام عليّ ، خالد بن سعيد بن أبي عامر بن أُمية بن عبد شمس خامس من أسلم ، أُسيد بن ثعلبة الأنصاري من أهل بدر ، الأسود بن عيسى بن وهب من أهل بدر ، بشير بن مسعود الأنصاري من أهل بدر ومن القتلى بواقعة الحرة بالمدينة ، ثابت أبو فضالة الأنصاري من أهل بدر ، الحارث بن النعمان بن أُمية الأنصاري من أهل بدر ، رافع بن خديج

٦٠٤

الأنصاري ممّن شهد أُحداً ولم يبلغ وأجازه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، كعب بن عمير بن عبادة الأنصاري من أهل بدر ، سماك بن خرشة أبو دجانة الأنصاري من أهل بدر ، سهيل بن عمرو الأنصاري من أهل بدر ، عتيك بن التيهان من أهل بدر ، ثابت بن عبيد الأنصاري من أهل بدر ، ثابت بن حطيم بن عدي الأنصاري من أهل بدر ، سهل بن حنيف الأنصاري من أهل بدر ، أبو مسعود عقبة بن عمرو من أهل بدر ، أبو رافع مولى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الذي شهد مشاهده كلّها مع مشاهد عليّ ـ عليه‌السلام ـ وممّن بايع البيعتين : العقبة والرضوان وهاجر الهجرتين : للحبشة مع جعفر وللمدينة مع المسلمين ، أبو بردة بن دينار الأنصاري من أهل بدر ، أبو عمر الأنصاري من أهل بدر ، أبو قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري من أهل بدر ، عقبة بن عمر بن ثعلبة الأنصاري من أهل بدر ، قرظة بن كعب الأنصاري ، بشير بن عبد المنذر الأنصاري أحد النقباء ببيعة العقبة ، يزيد بن نويرة بن الحارث الأنصاري ممّن شهد له النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بالجنة ، ثابت بن عبد الله الأنصاري ، جبلة بن ثعلبة الأنصاري ، جبلة بن عمير بن أوس الأنصاري ، حبيب بن بديل بن ورقاء الخزاعي ، زيد بن أرقم الأنصاري شهد مع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بضعة عشر وقعة ، أعين بن ضبيعة بن ناجية التميمي ، يزيد الأسلمي من أهل بيعة الرضوان ، تميم بن خزام ، جندب بن زهير الأزدي ، جعدة بن هبيرة المخزومي ، جارية بن قدامة التميمي السعدي ، جبير بن الحباب الأنصاري ، حبيب بن مظاهر الأسدي ، حكيم بن جبلة العبدي ، خالد بن أبي دجانة الأنصاري ، خالد بن الوليد الأنصاري ، زيد بن صوحان العبدي ، الحجاج بن عمرو بن غزية الأنصاري ، زيد بن شرحبيل الأنصاري ، زيد بن جبلة التميمي ، بديل بن ورقاء الخزاعي ، أبو عثمان الأنصاري ، مسعود بن مالك

٦٠٥

الأسدي ، ثعلبة أبو عمرة الأنصاري ، أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي ، عبد الله بن حزام الأنصاري شهيد أُحد ، سعد بن منصور الثقفي ، سعد بن الحارث بن الصمد الأنصاري ، الحارث بن عمر الأنصاري ، سليمان بن صرد الخزاعي ، شرحبيل بن مرّة الهمداني ، شبيب بن رت النميري ، سهل بن عمر صاحب المربد ، سهيل بن عمر أخو سهل المار ذكره ، عبد الرحمن الخزاعي ، عبد الله بن خراش ، عبد الله بن سهيل الأنصاري ، عبيد الله بن العازر ، عدي بن حاتم الطائي ، عروة بن مالك الأسلمي ، عقبة بن عامر السلمي ، عمر بن هلال الأنصاري ، عمر بن أنس بن عون الأنصاري من أهل بدر ، هند بن أبي هالة الأسدي ، وهب بن عبد الله بن مسلم بن جنادة ، هاني بن عروة المذحجي ، هبيرة بن النعمان الجعفي ، يزيد بن قيس بن عبد الله ، يزيد بن حوثرة الأنصاري ، يعلى بن عمير النهدي ، أنس بن مدرك الخثعمي ، عمرو العبدي الليثي ، عميرة الليثي ، عليم بن سلمة الفهمي ، عمير بن حارث السلمي ، علباء بن الهيثم بن جرير وأبوه الهيثم من قواد الحملة في قتال الفرس بواقعة ذي قار ، عون بن عبد الله الأزدي ، علاء بن عمر الأنصاري ، نهشل بن ضمرة الحنظلي ، المهاجر بن خالد المخزومي ، مخنف بن سليم الأزدي ، محمد بن عمير التميمي ، حازم بن أبي حازم البجلي ، عبيد بن التيهان الأنصاري وهو أوّل المبايعين للنبي ليلة العقبة ، أبو فضالة الأنصاري ، أويس القرني الأنصاري ، زياد بن النضر الحارثي ، عوض بن علاط السلمي ، معاذ بن عفراء الأنصاري ، علاء بن عروة الأزدي ، الحارث بن حسان الذهلي صاحب راية بكر بن وائل ، بجير بن دلجة ، يزيد بن حجية التميمي ، عامر بن قيس الطائي ، رافع الغطفاني الأشجعي ، وأبان بن سعيد بن العاص بن أُمية بن عبد شمس من أُمراء السرايا أيّام النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ومن خلّص أصحاب الإمام علي ـ عليه‌السلام ـ وأمثالهم من

٦٠٦

الصحابة الكرام.

فهؤلاء هم طليعة الصحابة وسنام العرب من المهاجرين والأنصار ، قد استضاءوا بنور النبوّة والوحي واستقامت أُمورهم وكانوا على الصراط المستقيم في حياتهم ، وكم لهم من نظائر في صحابة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أعرضنا عن ذكرهم مخافة الإطناب.

٧. انّ أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ كانوا باستمرار يدعون للصحابة ويترضّون عليهم ، ومن المعلوم أنّهم ـ عليهم‌السلام ـ يدعون للصالحين وما أكثر الصالحين فيهم يقول الإمام أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في بعض خطبه مادحاً أصحاب النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ :

لقد رأيت أصحاب محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فما أرى أحداً منكم يشبههم ، لقد كانوا يصبحون شُعثاً غبراً ، وقد باتوا سجّداً وقياماً ، يراوحون بين جباههم وخدودهم ، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم ، كأنّ بين أعينهم رُكَبَ المعزى من طول سجودهم ، إذا ذُكر الله هملت أعينهم حتّى تَبُلَّ جيوبهم ، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف ، خوفاً من العقاب ورجاءً للثواب». (١)

وقال أيضاً مادحاً أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : أين القوم الذين دُعوا إلى الإسلام فقبلوه ، وقرءوا القرآن فأحكموه ، وهيجُوا إلى القتال فولهوا وله اللقاح إلى أولادها ، وسلبوا السيوف أغمادها ، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً ، وَصَفّاً صفّاً ، بعضٌ هلك ، وبعض نجا ، لا يُبَشّرون بالأحياء ، ولا يُعَزَّونَ عن الموتى ، مُرْهُ العيون من البكاء ، خمصُ البطون من الصيام ، ذُبَّل الشفاه من الدعاء ، صُفرُ الألوان من السَّهَر ، على وجوههم غبرة الخاشعين ، أُولئك إخواني الذاهبون ، فحقّ

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ٩٣ ، شرح محمد عبده ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٧ / ٧٧.

٦٠٧

لنا أن نظمأ إليهم ، ونعضَّ الأيدي على فراقهم». (١)

وللأئمّة المعصومين كلمات أُخرى حول الصحابة غير ما ذكرناه ، منقولة في كتب الشيعة ، وهذا هو الإمام زين العابدين ـ عليه‌السلام ـ يقول في دعائه : «اللهمّ وأصحاب محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ خاصة الذين أحسنوا الصحبة والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره ، وكاتفوه وأسرعوا إلى وفادته ، وسابقوا إلى دعوته ...». (٢)

هذا ونختم الفصل بذكر حوار دار بين الحسن البصري وعالم من علماء الزيدية ، وبما أنّ «الحقيقة بنت البحث» (٣) يكون لنشر هذا الحوار أهمية لا تخفى على القارئ الكريم.

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١١٧ ، شرح محمد عبده ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٧ / ٢٩١.

(٢) الصحيفة السجادية : الدعاء الرابع.

(٣) مثل سائر.

٦٠٨

خاتمة المطاف

١٤

 مناظرة بين الحسن البصري وعالم زيدي

الحسن البصري أحد التابعين ، وقد توفّي ١١٠ ه‍ ، وكانت له حلقات تدريس ووعظ في البصرة ، وهو ممّن كان يتبنّى عدالة الصحابة ونزاهتهم عن كلّ رين وشين.

ولما كانت تلك العقيدة بعيدة عن الكتاب والسنّة ومخالفةً لما جاء من الآيات الكريمة والأحاديث الشريطة ، دعا أحد علماء الزيدية إلى نقد كلامه ، وقد نقل تلك المناظرة السيد المدنيّ في كتابه.

ونحن سنذكر نصّ كلام البصري والزيدي ونترك القضاء إلى القارئ الكريم.

نظرية الحسن البصري في صحابة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ

قال : حينما ذكرت عنده حرب الجمل وصفين : «تلك دماء طهر الله منها أسيافنا ، فلا نلطخ فيها ألسنتنا ، ثمّ إنّ تلك الأحوال قد غابت عنّا ، وبعُدت

٦٠٩

أخبارها على حقائقها فلا يليق بنا أن نخوض فيها ، ولو كان واحد من هؤلاء قد أخطأ لوجب أن يحفظ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فيه ، فمن المروءة أن يحفظ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في عائشة زوجته ، وفي الزبير ابن عمته ، وفي طلحة الّذي وقاه بيده ، ثمّ ما الّذي ألزمنا وأوجب علينا أن نلعن أحداً من المسلمين أو نبرأ منه ، وأي ثواب في اللعنة والبراءة ، إنّ الله تعالى لا يقول يوم القيامة للمكلّف لِمَ لَمْ تَلعن؟ بل يقول له : لِمَ لعنت؟ ولو انّ إنساناً عاش عمره كلّه لم يلعن إبليس لم يكن عاصياً ولا آثماً ، ولو جعل الإنسان عوض اللعنة استغفر الله كان خيراً له ؛ ثمّ كيف يجوز للعامة أن تدخل نفسها في أُمور الخاصة؟ وأُولئك قوم كانوا أُمراء هذه الأُمّة وقادتها ، ونحن اليوم في طبقة سافلة جدّاً عنهم ، فكيف يحسن بنا التعرض لذكرهم؟ أليس بقبيح من الرعية أن تخوض في دقائق أُمور الملك وأحواله ، وشئونه التي ترى بينه وبين أهله وبني عمه ونسائه ومراديه؟ وقد كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ صهراً لمعاوية ، وأُخته أُمّ حبيبة تحته ، فالأدب أن تحفظ أُمّ حبيبة وهي أُمّ المؤمنين في أخيها ، وكيف يجوز أن يلعن من جعل بينه وبين رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مودة ، أليس المفسّرون كلّهم قالوا : هذه الآية نزلت في أبي سفيان وهي قوله تعالى : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) (١) ، وكان ذلك مصاهرة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أبا سفيان وتزوجه ابنته ... على أنّ جميع ما تنقله الشيعة من الاختلاف بينهم والمشاجرة لم يثبت ، ولم يكن القوم إلاّ كبني أُمّ واحدة ، ولم يتكدر باطن أحد منهم على صاحبه قط ، ولا وقع بينهم اختلاف ولا نزاع ...». انتهى كلام البصري.

__________________

(١) الممتحنة : ٧.

٦١٠

نقد العالم الزيدي رأي الحسن

قال : ما هذا نصّه : «لو لا انّ الله تعالى أوجب معاداة أعدائه ، كما أوجب موالاة أوليائه ، وضيّق على المسلمين تركها ، إذ دلّ العقل عليها ، وأوضح الخبر عنها ، يقول سبحانه : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) (١) وقوله تعالى : (لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) (٢) ، وقوله تعالى : (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ). (٣)

ولإجماع المسلمين على أنّ الله تعالى فرض عداوة أعدائه ، وولاية أوليائه وانّ البغض في الله واجب ، والحبّ في الله واجب ... لما تعرضنا لمعاداة أحد من الناس في الدين ، ولا البراءة منه ، ولكانت عداوتنا للقوم تكلّفاً ، ولو قلنا : إنّ الله عزّ وجلّ يعذرنا إذا قلنا : يا رب غاب أمرهم عنّا فلم يكن لخوضنا في أمر قد غاب عنّا معنى ، لاعتمدنا على هذا العذر وواليناهم ولكنا نخاف أن يقول سبحانه لنا : إن كان أمرهم قد غاب عن أبصاركم فلم يغب عن قلوبكم وأسماعكم ، قد أتتكم به الأخبار الصحيحة التي بمثلها ألزمتم أنفسكم الإقرار بالنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وموالاة من صدقه ، ومعاداة من عصاه وجحده ، وأمرتم بتدبّر القرآن ، وما جاء به الرسول ، فهلا حذرتم من أن تكونوا من أهل هذه الآية القائلين غداً : (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا). (٤)

__________________

(١) المجادلة : ٢٢.

(٢) الممتحنة : ١٣.

(٣) المائدة : ٨١.

(٤) الأحزاب : ٦٧.

٦١١

فأمّا لفظة اللعن فقد أمر الله بها وأوجبها ألا ترى قوله تعالى : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ) (١) فهو إخبار معناه الأمر ، كقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (٢) ، وقد لعن الله تعالى الغاصبين بقوله : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ) (٣) ، وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) (٤) ، وقوله : (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً). (٥) وقال الله لإبليس : (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) (٦) وقال : (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً). (٧)

فأمّا قول من يقول : أي ثواب في اللعن؟ وانّ الله تعالى لا يقول للمكلف : لِمَ لَمْ تلعن؟ بل قد يقول له : لِمَ لعنت؟ وانّه لو جعل مكان لعن الله فلاناً اللهمّ اغفر لي لكان خيراً له ، ولو انّ إنساناً عاش عمره كله ولم يلعن إبليس لم يؤاخذ بذلك ... فكلام جاهل لا يدري ما يقول ، اللعن طاعة لله ، ويستحقّ عليها الثواب إذا فعلت على وجهها ، وهو أن يلعن مستحق اللعنة لله وفي الله ، لا في المعصية والهوى ، لأنّ الشرع قد ورد بها في نفي الولد ، ونطق بها القرآن ، وهو أن يقول الزوج في الخامسة «انّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين» فلو لم يكن الله تعالى يريد أن يتلفظ عباده بهذه اللفظة ، لما جعلها من معالم الشرع ولما كررها في كثير من كتابه العزيز.

__________________

(١) البقرة : ١٥٩.

(٢) البقرة : ٢٢٨.

(٣) المائدة : ٧٨.

(٤) الأحزاب : ٥٧.

(٥) الأحزاب : ٦١.

(٦) ص : ٧٨.

(٧) الأحزاب : ٦٤.

٦١٢

لعن بعضهم بعضاً

ودعم كلامه بكثير من الحجج القاطعة ، وأضاف بعد ذلك يقول : «وقد كان كثير من الصحابة يلعن عثمان وهو خليفة ، منهم : عائشة كانت تقول : اقتلوا نعثلاً». (١) لعن الله نعثلة ، ومنهم : عبد الله بن مسعود ، وقد لعن معاوية علي بن أبي طالب ، وابنيه حسناً وحسيناً وهم أحياء يرزقون في العراق ، وهو يلعنهم في الشام على المنابر ، ويقنت عليهم في الصلوات ، وقد لعن أبو بكر وعمر سعد بن عبادة وهو حي ، وبرئا منه ، وأخرجاه من المدينة إلى الشام ، ولعن عمر خالد بن الوليد لماّ قتل مالك بن نويرة ، وما زال اللعن ماشياً في المسلمين إذا عرفوا من الإنسان معصية تقتضي اللعن والبراءة.

ولو كان حفظ شخص معتبراً من أجل أبيه لوجب أن يحفظ الصحابة في أولادهم فلا يلعنوا ، فيجب أن لا يلعن عمر بن سعد قاتل الحسين من أجل أبيه ـ سعد ـ ولا يلعن يزيد من أجل أبيه معاوية ، ويزيد هو صاحب واقعة الحرة ، وقاتل الحسين ، وأن يحفظ عمر بن الخطاب في عبيد الله ابنه قاتل الهرمزان ، والمحارب علياً في صفين.

ولو كان الإمساك عن عداوة من عادى الله من أصحاب محمّد رسول الله من حفظ رسول الله في أصحابه ، ورعاية عهده وعقده لم نعادهم ولو ضربت رقابنا بالسيوف ، ولكن محبة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لأصحابه ليست كمحبة الجهال الذين يضع أحدهم حجته لصاحبه مع المعصية ، وإنّما أوجب رسول الله محبة أصحابه لطاعة

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٤ / ٤٥٩ ؛ الكامل : ٣ / ٢٠٦ ؛ النهاية لابن الأثير : ٥ / ٨٠ ؛ تذكرة الخواص : ٦٤ و ٦٦ ؛ الفتوح : ٢ / ٢٤٩ ـ ٢٥٥.

٦١٣

الله فإذا عصوا الله وتركوا ما أوجب محبتهم ، فليس عند رسول الله محاباة في ترك لزوم ما كان عليه في محبتهم.

سيرة رسول الله في الأعداء والأولياء

لقد كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يحب أن يعادي أعداء الله ولو كانوا عترته كما يحب أن يوالي أولياء الله ولو كانوا أبعد الخلق نسباً منه ، والشاهد على ذلك إجماع الأُمّة على أنّ الله تعالى أوجب عداوة من ارتد بعد الإسلام ، وعداوة من نافق وإن كان من أصحاب رسول الله ، وانّ رسول الله هو الذي أمر بذلك ودعا إليه ، فقد أوجب قطع يد السارق ، وضرب القاذف ، وجلد البكر إذا زنت ، وإن كان من المهاجرين والأنصار.

ألا ترى أنّه قال : لو سرقت فاطمة لقطعت يدها وهي ابنته الجارية مجرى نفسه لم يحابها في دين الله ولا راقبها في حدود الله ، وجلد أصحاب الإفك وفيهم سطح بن اثاثة وكان من أهل بدر ، فلو كان محل أصحاب رسول الله ـ عليه‌السلام ـ أن لا يعادون إذا عصوا الله ولا يذكرون بالقبيح لأجل اسم الصحبة لكان كذلك صاحب موسى المسطور ثناؤه في القرآن لمّا اتّبع هواه فانسلخ عمّا أُوتي من الآيات ، قال سبحانه : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) (١) ، ولكان ينبغي محل عبدة العجل من أصحاب موسى ـ عليه‌السلام ـ هذا المحل ، لأنّ هؤلاء كلهم قد صحبوا موسى رسولاً جليلاً من رسل الله تعالى ، ولو كانت الصحابة تعرف هذه المنزلة لالتزمت به مع أنّ الأمر على خلاف ذلك ، فهذا علي وعمار وأبو الهيثم بن التيهان ، وخزيمة بن ثابت ، وجميع من كان مع علي

__________________

(١) الأعراف : ١٧٥.

٦١٤

من المهاجرين والأنصار لم يروا ذلك ، فلم يتغافلوا عن طلحة والزبير حتّى فعلوا بهما وبمن معهما ما يفعل بالشراة في عصرنا ، وهذا طلحة والزبير وعائشة ومن كان معهم وفي جانبهم لم يروا أن يمسكوا عن علي حتّى قصدوا له وحاربوه ، وهذا معاوية وعمرو لم يريا علياً بالعين التي يرى بها العامي صديقه أو جاره ولم يقصرا دون ضرب وجهه بالسيف ، ولعنه ولعن أولاده ، وكلّ من كان حياً من أهله ، وقتل أصحابه ، وقد لعنهما هو أيضاً في الصلاة المفروضة ولعن معهما أبا الأعور السلمي وأبا موسى الأشعري ، وكلاهما من الصحابة ، وهذا سعد بن أبي وقاص ومحمد بن سلمة وأُسامة بن زيد وسعد بن عمرو بن نفيل وعبد الله بن عمر وحسان بن ثابت وأنس بن مالك لم يروا أن يقلدوا علياً في حرب طلحة ، ولا طلحة في حرب علي ، وطلحة والزبير بإجماع المسلمين أفضل من هؤلاء المعدودين ، لأنّهم زعموا أنّهم قد خافوا أن يكون علي قد غلط وزل في حربهما ، وخافا أن يكونا قد زلا وغلطا في حرب علي ، وهذا عثمان قد نفى أبا ذر إلى الربذة كما يفعل بأهل الخنا والريب ، وهذا عمار وابن مسعود تلقيا عثمان بما تلقياه به لما ظهر لهما بزعمهما منه ما وعظاه لأجله ، ثمّ فعل عثمان ما تناهى إليكم ، ثمّ فعل القوم بعثمان ما قد علمتم وعلم الناس كلهم ، وهذا عمر يقول : في قصة الزبير بن العوام لما استأذنه في الغزو إنّي ممسك بباب هذا الشعب أن يتفرق أصحاب محمد في الناس فيضلوهم ... ولا أنكر الناس على عمر هذا القول ، ولا أنكروا على عثمان دوس بطن عمار ، ولا كسر ضلع أبي مسعود ، ولا على عمار وابن مسعود ما تلقيا به عثمان كإنكار العامة اليوم الخوض في حديث الصحابة ، ولا اعتقدت الصحابة في أنفسها ما تعتقده العامة فيها ، اللهمّ إلاّ أن يزعموا أنّهم أعرف بحق القوم منهم ، وهذا علي والعباس ما زالا على كلمة واحدة يكذبان الرواية «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» ويقولان : انّها

٦١٥

مختلقة ، قالا : وكيف كان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يعرّف هذا الحكم غيرنا ويكتمه عنا ونحن الورثة ، ونحن أولى الناس بأن يؤدى هذا الحكم إلينا.

وهذا عمر بن الخطاب يشهد لأهل الشورى أنّهم النفر الذين توفّي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو عنهم راض ، ثمّ يأمر بضرب أعناقهم إن أخّروا فصل حال الإمامة بعد أن ثلبهم ، وقال في حقهم ما لو سمعه اليوم من قائل لوضعت ثوبه في عنقه سحبا إلى السلطان ، ثمّ شهدت عليه بالرفض واستحلت دمه ، فإن كان الطعن على بعض الصحابة رفضاً فعمر بن الخطاب أرفض الناس ، وإمام الروافض كلّهم ، وقد شاع واشتهر قول عمر : «كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرّها فمن عاد لمثلها فاقتلوه» ، وهذا طعن في العقد وقدح في البيعة الأصلية ، ثمّ ما نقل عنه في ذكر أبي بكر في خلواته قوله عن عبد الرحمن ابنه : إنّه دويبة سوء ، وهو خير من أبيه ، ثمّ عمر القائل في سعد بن عبادة رئيس الأنصار وسيدها : اقتلوا سعداً قتل الله سعداً اقتلوه فانّه منافق ، وقد شتم أبا هريرة وطعن في روايته ، وشتم خالد بن الوليد ، وطعن في دينه ، وحكم بفسقه ، وبوجوب قتله ، وخون عمرو بن العاص ، ومعاوية بن أبي سفيان ، ونسبهما إلى سرقة مال الفيء واقتطاعه ، وكان سريعاً إلى المساءة ، كثير الجبة والشتم والسب لكلّ أحد ، وقلّ أن يكون في الصحابة من سلم من معرة لسانه ويده ولذلك أبغضوه ، وملوا أيامه مع كثرة الفتوح فيها ، فهلا احترم عمر الصحابة كما تحترمهم العامة ، إمّا أن يكون عمر مخطئاً ، وإمّا أن تكون العامة على خطأ.

الصحابة كسائر الناس

إنّ غرضنا الذي يجري بكلامنا أن نوضح أنّ الصحابة قوم من الناس لهم ما

٦١٦

للناس ، وعليهم ما عليهم ، من أساء منهم ذممناه ، ومن أحسن منهم حمدناه وليس لهم على غيرهم من المسلمين كثير فضل إلاّ بمشاهدة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ومعاصرته لا غير ، بل ربما كانت ذنوبهم أفحش من ذنوب غيرهم ، لأنّهم شاهدوا الاعلام والمعجزات ، وقد قرب اعتقادهم من الضرورة ، ونحن لم نشاهد ذلك فكانت عقائدنا محض النظر والفكر ، وهي معرضة للشكوك والشبه ، فمعاصينا أخف لأنّنا أعذر.

ثمّ نعود إلى ما كنّا فيه ، فنقول : هذه عائشة أُمّ المؤمنين خرجت بقميص رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهي تقول : هذا قميص رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لم يبل وعثمان قد أبلى سنّته. اقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً ، ثمّ لم ترض بذلك حتى قالت : أشهد أنّ عثمان جيفة على الصراط غداً ... فمن الناس من يقول : روت بذلك خبراً ، ومن الناس من يقول : موقوف عليها ، وبدون هذا لو قاله إنسان اليوم يكون عند العامة زنديقاً ، ثمّ قد حصر عثمان ، حصره أعيان الصحابة فما كان أحد ينكر ذلك ولا يعظمه ، ولا يسعى في إزالته ، وإنّما أنكر على المحاصرين رجل كما علمتم من وجوه أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ثمّ من أشرافهم ، ثمّ أقرب إليه من أبي بكر وعمر ، وهو مع ذلك إمام المسلمين ، والمختار منهم للخلافة وهو الإمام علي.

فإن كان القوم قد أصابوا فإذن ليست الصحابة في الموضع الذي وضعتهم به العامة ، وإن كان ما أصابوا فهذا هو الذي نقول : من أنّ الخطأ جائز على آحاد الصحابة كما يجوز على آحادنا ، ولسنا نقدح في الإجماع ولسنا ندعي إجماعاً حقيقياً على قتل عثمان ، وإنّما نقول : إنّ كثيراً من المسلمين فعلوا ذلك ، والخصم يسلم أنّ ذلك كان خطأ ومعصية ، فقد سلم أنّ الصحابي يجوز أن يخطئ ويعصي وهو المطلوب.

٦١٧

من أُنكِرَ عليهم من الصحابة

وهذا المغيرة بن شعبة ، وهو من الصحابة ادّعي عليه الزنا وشهد عليه قوم بذلك ، فلم ينكر ذلك عمر ، ولا قال : هذا محال وباطل ، لأنّ هذا صحابي من صحابة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ولا يجوز عليه الزنا ، وهلا أنكر عمر على الشهود ، وقال لهم : ويحكم هلا تغافلتم عنه ، فإنّ الله قد أوجب الإمساك عن مساوئ أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأوجب الستر عليهم ، وهلا تركتموه لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في قوله : «دعوا إليّ أصحابي» ما رأينا عمر إلاّ قد أنصت لسماع الدعوى ، وإقامة الشهادة وأقبل يقول : يا مغيرة ذهب ربعك ، ذهب نصفك ، يا مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك حتّى اضطرب الرابع فجلد الثلاثة ، وهلا قال المغيرة لعمر : كيف تسمع قول هؤلاء ، وليسوا من الصحابة ، وأنا من الصحابة ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قد قال : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» ما رأيناه قال ذلك ، بلى استسلم لحكم الله تعالى.

وهاهنا من هو أمثل من المغيرة وأفضل قدامة بن مضعون لما شرب الخمر في أيّام عمر فأقام عليه الحدّ ، وهو رجل من علية الصحابة ومن أهل بدر المشهود لهم بالجنة ، فلم يرد عمر الشهادة ، ولا درأ عنه الحدّ لعلمه أنّه بدري ، ولا قال : نهى رسول الله عن ذكر مساوئ أصحابه.

وقد ضرب عمر أيضاً ابنه الحدّ فمات ، وكان ممّن عاصر رسول الله ، ولم تمنعه معاصرته له من إقامة الحدّ عليه ... وهذا علي ـ عليه‌السلام ـ قال : ما حدثني أحد بحديث عن رسول الله إلاّ استحلفته عليه ، أليس هذا اتهاماً لهم بالكذب وما استثنى أحداً من المسلمين إلاّ أبا بكر ـ على ما ورد في الخبر ـ وقد صرح غير مرّة بتكذيب أبي هريرة ، وقال : لا أحد أكذب من هذا الدوسي على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وقال أبو بكر في

٦١٨

مرضه الذي توفي فيه : «وددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة ولو كان أغلق على حرب» ، فندم والندم لا يكون إلاّ عن ذنب ، ثمّ ينبغي للعاقل أن يفكر في تأخر علي عن بيعة أبي بكر ستة أشهر إلى أن ماتت فاطمة سلام الله عليها ، فإن كان مصيباً فأبو بكر على الخطأ في انتصابه للخلافة ، وإن كان مصيباً فعلي على الخطأ في تأخره عن البيعة وحضور المسجد.

وقال أبو بكر في مرضه للصحابة : فلما استخلفت عليكم خيركم في نفسي ـ يعني عمر ـ فكلكم ورم أنفه ، يريد أن يكون الأمر له ، لما رأيتم الدنيا قد جاءت ، أما والله لتتخذن ستائر الديباج ونضائد الحرير ... أليس هذا طعناً في الصحابة وتصريحاً بنسبتهم إلى الحسد لعمر لمّا نص عليه بالعهد؟! وقال له طلحة لمّا ذكر عمر للأمر : ما ذا تقول : لربك إذا سألك عن عباده وقد وليت عليهم فظاً غليظاً ، فقال أبو بكر : اجلسوني أبالله تخوفني إذا سألني قلت وليت عليهم خير أهلي ، ثم شتمه ، فهل قول طلحة إلاّ طعن في عمر؟! وهل قول أبي بكر إلاّ طعن في طلحة؟!

وسيتعرض العالم الزيدي إلى تأييد ما ذهب إليه بكثير من الأحداث التاريخية التي عرضت لطعن بعض الصحابة لبعضهم الأمر الذي يدلّ بوضوح على ضحالة ما قيل من عدالة الصحابة أجمعين اكتعين ، وأضاف الزيدي قائلاً :

حديث أصحابي كالنجوم وضعه الأمويّون

«وكيف يصحّ أن يقول رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم». ولا شبهة انّ هذا يوجب أنّ أهل الشام وصفين على هدى ، وأن يكون أهل العراق أيضاً على هدى ، وأن يكون قاتل عمار بن ياسر مهتدياً ، وقد صحّ

٦١٩

الخبر الصحيح أنّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال له : تقتلك الفئة الباغية ، وقال الله في القرآن : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) (١) ومن يفارق أمر الله تعالى لا يكون مهتدياً ، وكان يجب أن يكون بسر بن أرطاة الذي ذبح ولدي عبيد الله بن العباس الصغيرين مهتدياً لأنّ بسراً من الصحابة ، وكان يجب أن يكون عمرو بن العاص ومعاوية اللذين كانا يلعنان عليّاً في أدبار الصلاة وولديه مهتديين ، وقد شذ بعض الصحابة فشرب الخمر وزنا كابن محجن الثقفي ، فمن اقتدى به يكون مهتدياً ولا شبهة انّ هذا الحديث موضوع من موضوعات العصابة الأموية التي نصرت الأمويين بوضعها للأحاديث.

وذكر الزيدي بعض الأحاديث الموضوعة ثمّ قال :

فأمّا ما ورد في القرآن من قوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) وقوله سبحانه : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ...) (٣) ، وقول النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «إنّ الله اطّلع على أهل بدر» ، إن كان الخبر صحيحاً فانّه مشروط بسلامة العاقبة ، ولا يجوز أن يخبر الحكيم مكلفاً غير معصوم بأن لا عقاب له فليفعل ما شاء.

ومن أنصف وتأمّل أحوال الصحابة وجدهم مثلنا يجوز عليهم ما يجوز علينا ، ولا فرق بيننا وبينهم إلاّ الصحبة لا غير فإنّ لها منزلة وشرفاً ولكن لا إلى حد يمتنع على كلّ من رأى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وصحبه يوماً أو شهراً أو أكثر من ذلك أن لا يخطئ ويزل ، وأضاف الزيدي قائلاً :

__________________

(١) الحجرات : ٩.

(٢) الفتح : ١٨.

(٣) الفتح : ٢٩.

٦٢٠