الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

٩. صحابي يُقتص منه

وهذا حارث بن سويد بن الصامت شهد بدراً لكنّه قتل المِجذَر بن زياد يوم أُحد لثأر جاهلي فقُتِل بأمر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ. يقول ابن الأثير : «لا خلاف بين أهل الأثر انّ هذا قتله النبي بالمجذر بن زياد ، لأنّه قتل المجذر يوم أُحد غيلة. (١)

١٠. دعاء النبي على مُحلم بن جثامة

خرج هو ومعه نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة حتّى إذا كانوا ببطن «اضم» مرّ بهم عامر بن الاضبط الأشجعي على بعير له ، وسلم عليهم بتحية الإسلام ، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله لشيء كان بينه وبينه وأخذ بعيره ومتاعه ، فلمّا قدموا على رسول الله وأخبروه الخبر ، فنزل فيهم قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) الآية. (٢)

وفي تفسير ابن كثير قال له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : لا غفر الله لك. (٣)

هذه نماذج من أصحاب النبي الذين اقترفوا المعاصي في حياة النبي وتنبّأ النبي بسوء مصيرهم ، أو ندد بعملهم ، وإلاّ فالمجروحون من أصحابه كثير. وكفى في نقض الموجبة الكلية (الصحابة كلّهم عدول) القضية الجزئية.

__________________

(١) أُسد الغابة : ١ / ٣٣٢.

(٢) أُسد الغابة : ٤ / ٣٠٩ ؛ النساء : ٩٤.

(٣) تفسير ابن كثير : ١ / ٥٣٩.

٥٦١

١١

عدالة الصحابة والتاريخ الصحيح

لقد أوقفك الامعان في آيات الذكر الحكيم والسنّة النبوية على أنّ الصحابة لم يكونوا على وتيرة واحدة ، فكان فيهم الصالح والطالح ، والعادل والفاسق ، ومن حسنتْ صحبتُه ، ومن ساءتْ ، وبذلك انثلمتِ القاعدةُ العامّة المدّعاة في حقّ الصحابة وهي : «انّ الصحابة كلّهم عدول» ، وقد بُرْهن في المنطق على أنّ نقيض الموجبة الكلية هو السالبة الجزئية ، وما ذكرناه من النماذج ليس إلاّ سوالب جزئية بالنسبة إلى الضابطة الكلية.

فهلمّ معي نسلّط الأضواء على ملامح من حياة الصحابة بعد رحيل الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فهي مشرقة من جانب ، إذ حملوا لواء الإسلام بأيديهم ، ونشروه في ربوع الأرض وقاتلوا وقتلوا ، وهذا ممّا لا يُنكر ، ومُظلمة من جانب آخر فانّ بعض من صحب النبي وعاشره اقترف جرائم لا تُغتفر ، سوّد بها صحيفة حياته حتّى عدّ عاراً على الصحابة أنفسِهم.

٥٦٢

وها نحن نذكر في المقام نبذة موجزة عن بعض الصحابة الذين عدلوا عن الطريق المهيع لتكون نموذجاً لما لم نذكر ، فانّ استقصاء ذلك الجانب من حياة الصحابة رهن كتاب مفرد.

١. صحابيّ يقتل صحابيّاً ويزني بزوجته

إنّ مالك بن نويرة بن حمزة اليربوعي يعرّفه الطبري بقوله : بعث النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مالك بن نويرة على صدقة بني يربوع وكان قد أسلم هو وأخوه متمم بن نويرة الشاعر. (١) ولما ارتحل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ شاع الارتداد في القبائل ، وبعث أبو بكر خالد بن الوليد ليطفئ هذه الفتنة ، ولكنّ خالداً ، تجاوز الحدّ فقتل الصحابي : مالك بن نويرة ، ولم يقتصر على قتله فحسب ، بل زنى بزوجته أيضاً.

فلمّا قدم خالد المدينة بالسبي ومعه سبعة عشر من وفد بني حنيفة ، دخل المسجد وعليه قباء عليه صدأ الحديد ، متقلداً السيف ، وفي عمامته أسهُم ، فمرّ بعمر فلم يكلّمه ودخل على أبي بكر ، فرأى منه كلّ ما يُحب ، وإنّما وجد عليه عمر لقتله مالك بن نويرة وتزوّجه بامرأته. (٢)

وكانت شناعة الأمر بمكان ، بحيث انّ عمر بن الخطاب لمّا ولي الأمر عزله وكتب إلى أبي عبيدة : انّي قد استعملتك وعزلت خالداً. (٣)

__________________

(١) الاستيعاب : ٣ برقم ٢٣٠٣.

(٢) مختصر تاريخ دمشق : ٨ / ١٩ ؛ سير إعلام النبلاء : ٣ / ٢٣٥ في ترجمة خالد برقم ٨٣ ولاحظ تاريخ الطبري : ٢ / ٢٧٢ وأُسد الغابة : ٢ / ٩٥ والإصابة : ٥ / ٧٥٥ في ترجمة مالك بن نويرة.

(٣) سير اعلام النبلاء : ٣ / ٢٣٦.

٥٦٣

٢. سمرة بن جندب يبيع الخمر

تولّى سمرة بن جندب (أحد الصحابة) إمارة البصرة في عهد معاوية ، وقد سفك من الدماء الكثير ، ومن شنائع ما اقترفه ، بيعه الخمر في عهد عمر.

أخرج مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال : بلغ عمر انّ سمرة باع خمراً ، فقال : قاتل الله سمرة ، ألم يعلم أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها. (١)

ولم تقتصر القبائح التي ارتكبها سمرة بن جندب على ذلك ، بل تعداه إلى سفك الدماء والإسراف في قتل النفوس البريئة.

روى الطبري في حوادث سنة ٥٠ ، قال : عن محمد بن سليم ، قال : سألتُ أنس بن سيرين هل كان سمرة قتل أحداً؟ قال : وهل يحصى من قتله سمرة بن جندب ، استخلفه زياد على البصرة ، وأتى الكوفة فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس ، فقال له : هل تخاف أن تكون قد قتلت أحداً بريئاً؟ قال : لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت.

وروى أيضاً عن أبي سوار العدوي قال : قتل سمرة بن جندب من قومي في غداة سبعة وأربعين رجلاً قد جمع القرآن. (٢)

٣. قدامة بن مظعون بدري يشرب الخمر

قدامة بن مظعون بن حبيب القريشي ، وهو خال عبد الله وحفصة ابني عمر بن الخطاب ، وقد استعمله عمر بن الخطاب على البحرين ، فقدم الجارود سيد عبد

__________________

(١) صحيح مسلم : ٥ / ٤١ باب تحريم الخمر والميتة.

(٢) تاريخ الطبري : ٣ / ١٧٦.

٥٦٤

القيس على عمر بن الخطاب من البحرين ، فقال : يا أمير المؤمنين انّ قدامة شرب المسكر ، فقال عمر : من يشهد معك ، فقال : أبو هريرة ، فدعي أبو هريرة ، فقال : بم تشهد ، فقال : لم أره يشرب ، ولكنّي رأيته سكران يقي. فقال عمر : لقد تنطعت في الشهادة ، ثمّ كتب إلى قدامة أن يقدم عليه من البحرين ، فقدم ، فقال الجارود لعمر : أقم على هذا كتاب الله الخ. (١)

قال عبد الرزاق في «المصنّف» : سمعت أيوب بن أبي يقول : لم يحدّ في الخمر أحد من أهل بدر إلاّ قدامة بن مظعون. (٢)

٤. أبو جندل يُحدّ حدّ الخمر

أبو جندل بن سهيل بن عمرو القرشي العامري ، وكان أبوه سهيل كاتب قريش في صلح الحديبية ، وهو ممّن فرّ من مشركي مكة والتحق بالمسلمين في صلح الحديبية.

ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرت انّ أبا عبيدة بالشام وجد أبا جندل بن سهيل بن عمرو ، وضرار بن الخطاب وأبا الأزور ، وهم من أصحاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قد شربوا الخمر.

فقال أبو جندل : «ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طمعوا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات» ، فكتب أبو عبيدة إلى عمر : انّ أبا جندل خصمني بهذه الآية. فكتب عمر : انّ الذي زيّن لأبي جندل الخطيئة زيّن له الخصومة ، فاحددهم ، فقال أبو الأزور : أتحدّوننا؟ قال أبو عبيدة : نعم ، قال :

__________________

(١) الاستيعاب : ٣ / ١٢٧٦ ، باب قدامة.

(٢) مصنف بن عبد الرزاق : ٩ / ٢٤٠ برقم ١٧٠٧٥.

٥٦٥

فدعونا نلقى العدو غداً فإن قُتلنا فذاك ، وإن رجعنا إليكم فحدُّونا ، فلقى أبو جندل وضرار وأبو الأزور العدوَّ فاستشهد أبو الأزور وحّد الآخران. فقال أبو جندل : هلكتُ. فكتب بذلك أبو عبيدة إلى عمر ، فكتب عمر إلى أبي جندل وترك أبا عبيدة : انّ الذي زين لك الخطيئة حظر عليك التوبة. (١)

٥. أبو محجن الثقفي يُحد ثمانِ مرات

أبو محجن مالك بن حبيب الثقفي ، سمع من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وروى عنه ، وحدث عنه أبو سعد البقال ، قال : سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يقول : أخوف ما أخاف عليكم على أُمّتي من بعدي ثلاث : إيمان بالنجوم ، وتكذيب بالقدر ، وحيف الأئمة.

ففي الاستيعاب : كان شاعراً مطبوعاً كريماً إلاّ أنّه منهمكاً في الشراب لا يكاد يُقلع عنه ، ولا يردعه حدّ ولا لوم لائم ، وجلده عمر بن الخطاب في الخمر مراراً ونفاه إلى جزيرة في البحر ، وبعث معه رجلاً فهرب منه ولحق بسعد بن أبي وقاص بالقادسية وهو محارب للفرس ، وكان قد همّ بقتل الرجل الذي بعثه معه عمر ، فأحس الرجل بذلك ، فخرج فارّاً فلحق بعمر فأخبره خبره ، فكتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص بحبس ابن محجن ، فحبسه.

وروى عن ابن جريج قال : بلغني انّ عمر بن الخطاب حدّ أبا محجن الثقفي في الخمر سبع مرات ، وقال قبيصة بن ذويب : ضرب عمر بن الخطاب أبا محجن الثقفي في الخمر ثماني مرات ، ومن رواية أهل الاخبار انّ ابناً لأبي محجن الثقفي دخل على معاوية ، فقال له معاوية : أبوك الذي يقول :

__________________

(١) الاستيعاب : ٤ / ١٦٢٣.

٥٦٦

إذا متُّ فادفنّي إلى جنب كرمة

تروّي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفنني بالفلاة فإنّني

أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها(١)

وقد عقد الحافظ الكبير عبد الرزاق باباً أسماه «باب من حدّ من أصحاب النبي وذكره فيه».

٦. مسلم بن عقبة يشن الغارة على أهل المدينة

مسلم بن عقبة الأشجعي من صحابة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ذكره ابن حجر في «الإصابة» برقم ٧٩٧٧ ، وكفى في حقّه ما ذكره الطبري في حوادث سنة ٦٤ ه‍ ، قال : ولمّا فرغ مسلم بن عقبة من قتال أهل المدينة وإنهاب جنده أموالهم ثلاثاً ، شخص بمن معه من الجند متوجهاً إلى مكة ، فلما وصل إلى قفا المشلل نزل به الموت ، وذلك في آخر محرم من سنة ٦٤ ه‍. (٢)

٧. بسر بن أرطاة يذبح ولدي عبيد الله بن العباس

بسر بن أرطاة من أصحاب الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ شهد فتح مصر واحتفظ بها ، وكان من شيعة معاوية ، وكان معاوية وجّهه إلى اليمن والحجاز في أوّل سنة أربعين وأمره أن ينظر من كان في طاعة عليّ ـ عليه‌السلام ـ فيوقع بهم ، ففعل ذلك.

وقد ارتكب جرائم كثيرة ذكرها التاريخ ، ولمّا كانت تمس عدالة الصحابة

__________________

(١) الاستيعاب : ٤ / ١٧٤٩. ولاحظ مصنف عبد الرزاق : ٩ / ٢٤٣ برقم ١٧٠٧٧.

(٢) تاريخ الطبري : ٤ / ٣٨١ ، حوادث سنة ٦٤.

٥٦٧

وكرامتهم أعرض ابن حجر عن استعراضها مكتفياً بالقول : وله أخبار شهيرة في الفتن لا ينبغي التشاغل بها!!

ومن جرائمه التي لا تستقال ولا تغتفر ذبحه ولدي عبيد الله بن العباس.

قال الطبري : أرسل معاوية بن أبي سفيان بعد تحكيم الحكمين بسر بن أبي أرطاة ، فساروا من الشام حتّى قدموا المدينة وعامل علي ـ عليه‌السلام ـ على المدينة يومئذ أبو أيوب الأنصاري ، ففر منهم أبو أيوب. ثمّ صعد بسر على المنبر ونادى : يا أهل المدينة والله لو لا ما عهد إليّ معاوية ما تركت بها محتلماً إلاّ قتلته ـ إلى أن قال ـ : ثمّ مضى بسر إلى اليمن وكان عليها عبيد الله بن العباس ، فلمّا بلغه مسيره فرّ إلى الكوفة واستخلف عبد الله بن عبد المدان الحارثي على اليمن ، فأتاه بسر فقتله وقتل ابنه ، ولقي بسر ثَقَل عبيد الله بن عباس وفيه ابنان له ، فذبحهما. (١)

٨. أُمّ المؤمنين وتزعّمها لجيش جرار

أمر الله تبارك وتعالى أُمّهات المؤمنين بملازمة بيوتهن بقوله : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ). (٢)

وقد خالفت أُمّ المؤمنين عائشة أمر الكتاب العزيز حينما خرجت مع طلحة والزبير في جيش جرّار لمحاربة الإمام أمير المؤمنين علي ـ عليه‌السلام ـ الذي بايعه جمهور الصحابة من المهاجرين والأنصار.

وكان لها موقف عدائي واضح من الإمام أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ ، ولمّا بلغها قتل

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٤ / ١٠٧ ؛ وسير اعلام النبلاء : ٣ / ٤٠٩ برقم ٦٥.

(٢) الأحزاب : ٣٣.

٥٦٨

الإمام ـ عليه‌السلام ـ أنشدت قائلة :

فألقت عصاها واستقرّ بها النوى

كما قرّ عيناً بالإياب المسافر(١)

فهذه الصحابية مع ما لها من منزلة رفيعة بين المسلمين قادت جيشاً كبيراً لمحاربة الإمام ـ عليه‌السلام ـ ، ودارت بينهما معركة شرسة ، قُتل فيها من المسلمين ما يربو على عشرة آلاف حسب ما ذكره الطبري. (٢)

وربما يقال : انّ القتلى يفوق هذا العدد.

هذه نماذج ممّا يطالعه القارئ في مرآة التاريخ ، ولو حاولنا الاستقصاء لفاق هذا العدد بكثير.

ومن سبر التاريخ بروح موضوعية وتجرد ، يجد انّ فئة من الصحابة سوّدت وجه التاريخ بنحو يثير أسف الخلف على هذا السلف.

ادّعاء العدالة لعامة الصحابة تنكّر للطبيعة البشرية

إنّ الصحابة الكرام لهم غرائز جامحة كسائر الناس ، فمن الغريب استثناء هذا الجيل عن سائر الأجيال ، وإضفاء هالة من القداسة عليهم بلا استثناء. ولم يكن للصحبة ، البعد الإعجازي حتّى يقلب فطرتهم رأساً على عقب ، ويحوّلهم إلى أشخاص مثاليّين ، بل هم بشر ـ كسائر البشر ـ لهم ميول وغرائز ، قد ينفلت زمامها ، فتُلقي بهم في وديان الهوى والظلم والعصيان.

وما ذكرناه هو الذي يدعمه الذكر الحكيم والسنّة النبوية وتاريخ

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٤ / ١١٥.

(٢) تاريخ الطبري : ٣ / ٥٤٠.

٥٦٩

الصحابة ، فمن حاول الإصرار على موقفه من عدالة الصحابة كلّهم ، فقد خالف صريح القرآن الكريم والسنّة الشريفة وما أطبق عليه التاريخ الصحيح.

وعلى الرغم من ذلك فإنّ القائلين بعدالة الصحابة استدلّوا بوجوه :

الأوّل : الإجماع.

الثاني : ثناء الكتاب على الصحابة.

الثالث : ثناء السنّة عليهم.

وسنعقد بحثاً في الفصول الآتية نتناول فيه هذه الوجوه نقداً وتمحيصاً.

٥٧٠

١٢. أدلّة القائلين بعدالة الصحابة

١

 الإجماع على عدالة الصحابة

استدلّ القائلون بعدالة الصحابة وهم جمهور السنّة بوجوه :

الأوّل : الإجماع على عدالتهم وقد مرّ آنفاً كلمة إمام الحنابلة وغيره ، يقول ابن حزم :

انّا نقطع على غيب قلوبهم انّهم كلّهم مؤمنون صالحون ماتوا كلّهم على الإيمان والهدى والبر ، كلّهم من أهل الجنّة لا يلج أحد منهم النار. (١)

يلاحظ عليه : بأنّه كيف يدّعي الإجماع على خلاف ما نطق به الكتاب العزيز والسنّة النبوية والتاريخ الصحيح ، أو ليس هذا الإجماع ، إجماعاً على خلاف الحجج القطعية؟! ثمّ كيف يدّعي الإجماع مع أنّ في عدالة الصحابة أقوالاً مختلفة نذكر منها ما يلي :

يقول الخطيب في كتابه : «السنّة قبل التدوين».

إنّ للصحبة شرفاً عظيماً يمنح صاحبها ميزة خاصة ، وهي انّ جميع الصحابة

__________________

(١) ابن حزم حياته وعصره لأبي زهرة : ٢٥٩.

٥٧١

عند من يعتدّ به من أهل السنّة عدول ، سواء من لابس منهم الفتن ومن لم يلابس ، وهو قول الجمهور.

وقال قوم : إنّ حكمهم في العدالة حكم من بعدهم في لزوم البحث عن عدالتهم عند الرواية.

ومنهم من قال : إنّهم لم يزالوا عدولاً إلى أن وقع الاختلاف والفتن بينهم ، فبعد ذلك لا بدّ من البحث في عدالتهم.

ومنهم من قال ـ وهم المعتزلة ـ : إنّ كلّ من قاتل عليّاً عالماً فهو فاسق مردود الرواية والشهادة ، لخروجهم على الإمام الحقّ.

ومنهم من قال برد رواية الكلّ وشهادتهم ، لأنّ أحد الفريقين فاسق وهو غير معلوم ولا معيّن.

ومنهم من قال : بقبول رواية كلّ واحد منهم وشهادته إذا انفرد ، لأنّ الأصل فيه العدالة ، وقد شككنا في فسقه ، ولا يقبل ذلك منه مع مخالفه ، لتحقّق فسق أحدهما من غير تعيين. (١)

وقد مرّ انّ عمر بن عبد العزيز ، وأحمد بن حنبل وغيرهما قالوا بلزوم الإمساك عمّا شجر بين الصحابة في الخلاف ، وما روي عنهم من اقتراف المعاصي ، ومعنى ذلك انّهم وقفوا على واقع الأمر وأرادوا التغطية على الواقع الملموس ، حفظاً لعقائد المسلمين!!

كلام التفتازاني في حقّ الصحابة

وهناك كلام للشيخ التفتازاني في شرح مقاصده مع أنّه استولت عليه

__________________

(١) السنّة قبل التدوين : ٢٥٨.

٥٧٢

العصبية بدعوته إلى ترك الكلام في حقّ البغاة والجائرين من الصحابة ، ولكنّه أصحر بالحقيقة ، قائلاً :

ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ والمذكور على ألسنة الثقات يدلّ بظاهره على أنّ بعضهم قد حاد عن طريق الحقّ ، وبلغ حدّ الظلم والفسق وكان الباعث له الحقد والعناد والحسد واللداد ، وطلب الملك والرئاسة ، والميل إلى اللذات والشهوات ، إذ ليس كلّ صحابي معصوماً ولا كلّ من لقي النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بالخير موسوماً إلاّ أنّ العلماء لحسن ظنهم بأصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق ، وذهبوا إلى أنّهم محفوظون عمّا يوجب التضليل والتفسيق ، صوناً لعقائد المسلمين عن الزيغ والضلالة في حقّ كبار الصحابة لا سيما المهاجرين منهم ، والأنصار ، والمبشرين بالثواب في دار القرار.

وأمّا ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فمن الظهور بحيث لا مجال للإخفاء ، ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء ، إذ تكاد تشهد به الجماد والعجماء ، ويبكي له من في الأرض والسماء ، وتنهد منه الجبال وتنشق الصخور ، ويبقى سوء عمله على كرّ الشهور ، ومرّ الدهور فلعنة الله على من باشر أو رضي أو سعى ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى. (١)

__________________

(١) شرح المقاصد : ٥ / ٣١٠ ـ ٣١١ ؛ وراجع كتاب الأربعين لمحمد طاهر القمي الشيرازي : ٦٣٣ ، بحار الأنوار : ٢٨ / ٣٦٤.

٥٧٣

٢

ثناء القرآن على الصحابة

استدلّ غير واحد من القائلين بعدالة الصحابة كلّهم ، بآيات ورد فيها الثناء على طوائف منهم ، وليس على كلّ الصحابة ، لكن حب المستدلين للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأصحابه ، حال بينهم وبين ما تهدف إليها آيات الثناء ، فزعموا انّها تُثني على الصحابة بأجمعهم وانّه سبحانه شمل الجميع بثنائه وأشاد بفضلهم وفضيلتهم من دون استثناء وإليك هذه الآيات.

الآية الأُولى

يقول سبحانه : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). (١)

أثنى سبحانه في هذه الآية المباركة على طوائف ثلاثة عبّر عن كلّ منها بلفظ خاص.

__________________

(١) التوبة : ١٠٠.

٥٧٤

١. السابقون الأوّلون من المهاجرين

أثنى سبحانه على السابقين من المهاجرين وحذف متعلّق السبق ، وبما أنّهم من المهاجرين ، يُعلم أنّ متعلّقه هو الهجرة أي الذين هاجروا أيّام هجرة النبي أو بعدها بقليل ، وبما انّ لفظة «من» في قوله «من المهاجرين» للتبعيض ، فهو يخرج المتأخرين في الهجرة فلا يعمّ المهاجرين غير السابقين ، وعلى هذا فالآية تنطبق على من آمن بالنبي قبل الهجرة ثمّ هاجر قبل وقعة بدر التي منها ابتدأ ظهور الإسلام على الكفر.

وأمّا المهاجرون بعد وقعة أُحد ، فلا يمكن الاستدلال بالآية عليهم لعدم وجود الموضوع أي السبق في الهجرة والنصرة.

٢. السابقون الأوّلون من الأنصار

أثنى سبحانه فيها على السابقين الأوّلين من الأنصار ، وذلك لأنّ قوله : «والانصار» عطف على قوله : «المهاجرين» فيكون تقدير الآية : السابقون الأوّلون من الأنصار ، ومتعلّق السبق وإن كان محذوفاً ، ولكن كونهم من الأنصار ، قرينة على أنّ المراد ، السبق في النصرة بالإنفاق والإيواء فلا يدخل فيهم مطلق الأنصار ولا أبناؤهم ، وحلفاؤهم ، فالآية تثني على السابقين الأوّلين من الأنصار وهم الذين آمنوا بالنبي وآووه وتهيّئوا لنصرته عند ما هاجر إلى المدينة ، ولا تُثني على عامة الأنصار ، وما ذكرناه هو الظاهر من المفسرين. قال الرازي : إنّ الآية تتناول الذين سبقوا في الهجرة والنصرة ، فهو لا يتناول إلاّ قدماء الصحابة ، لأنّ كلمة «من» تفيد التبعيض. (١)

__________________

(١) التفسير الكبير : ١٦ / ١٧١.

٥٧٥

دفع وهم

وربما يتوهم انّ الآية بصدد الثناء على عامة المهاجرين والأنصار ، وهذا هو الظاهر من خطباء القوم ومؤلّفيهم وهو الذي ذكره الرازي قولاً ثانياً وقال : منهم من قال تتناول الآية جميع الصحابة ، لأنّ جملة الصحابة موصوفون بكونهم سابقين أوّلين بالنسبة إلى سائر المسلمين ، وكلمة «من» في قوله (مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) ليست للتبعيض ، بل للتبيين ، أي والسابقون الأوّلون الموصوفون بوصف كونهم مهاجرين وأنصاراً ، كما في قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) وكثير من الناس ذهبوا إلى هذا القول. (١)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ المتّبع في تفسير الآية ، هو المتبادر عند أهل اللسان من ظاهر الآية ، فإذا كان الصحابة حسب شهادة بعض الآيات منقسمين إلى قسمين سابق في الهجرة والنصرة ولاحق فيهما ، يكون السبق واللحوق قائمين بنفس الصحابة ، فمنهم سابق ومنهم لاحق لا أنّ كلّهم سابقون ، ومن آمن بعدهم لاحقون. يقول سبحانه (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا). (٢)

وثانياً : لو كانت الآية بصدد الثناء على عامة المهاجرين والأنصار ، بل مطلق الصحابة وإن لم يكونوا منهما ، تلزم لغوية قوله : (السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) ، بل يكفي أن يقال : (المهاجرون والأنصار و...) ، لأنّ سبب الرضا والثناء هو هجرتهم ونصرتهم لا سبقهم على سائر الاجيال ، لأنّ سبقهم على سائر المسلمين في الأجيال اللاحقة لم يكن أمراً اختيارياً لهم ، وهذا بخلاف ما لو بان الثناء على

__________________

(١) التفسير الكبير : ١٦ / ١٧١.

(٢) الحديد : ١٠.

٥٧٦

صنف من الصحابة دون صنف ، لأنّ سبق الأوّل في الهجرة والنصرة على سائر الصحابة إنّما كان بملاك الاختيار.

وثالثاً : إذا كان المراد من الآية عامّة الصحابة الذين أدركوا النبي وأسلموا ، يكون المراد من الطائفة الثالثة في (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) سائر المسلمين في الأجيال المتلاحقة.

فكان اللازم عندئذ أن يقول : «والذين يتّبعونهم بإحسان ، بصيغة المضارع لا الماضي ، كما أتى به سبحانه في سورة الجمعة وقال : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). (١)

فأراد من الآية الأُولى عامة الصحابة ، ومن الآية الثانية (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) كلّ من يأتي بعد الصحابة إلى يوم القيامة ، قال الله سبحانه بعث النبي إليهم فإنّ شريعته خاتمة الشرائع.

إلى هنا تمّ تفسير الطائفتين ، وإليك بيان الطائفة الثالثة الواردة في الآية.

٣. والذين اتّبعُوهم بإحسان

ما هو المراد من الموصول؟! وما هو المراد من القيد بإحسان؟

أمّا الأوّل فالمراد هم الذين تحقق اتباعهم في عصر نزول الآية ، لا من يتحقّق في الأجيال الآتية ، وبما انّ مبدأ ظهور السابقين ، هو ظهور الإسلام في الفترة المكية ومنتهاهم هو انتصار الإسلام على مظاهر الشرك في المنطقة ، أعني :

__________________

(١) الجمعة : ٣٢.

٥٧٧

غزوة بدر ، يكون نهاية هؤلاء مبدأ لظهور الطائفة الثالثة وتتحدد نهايتهم ببيعة الرضوان أو فتح مكة لقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «لا هجرة بعد الفتح».

وأمّا الثاني ، فالآية لا تثني على كلّ من اتبع السابقين بالهجرة والنصرة ولكن تقيّد الاتّباع بقوله : «بإحسان» أي يكون الاتّباع مقروناً ومصحوباً بالإحسان في القول والعمل ، فتقييد الرضا بحسن سلوكهم وسيرتهم يخرج من هاجر ونصر ، من دون اتّباع مصحوب بإحسان ، بأن ساءت سيرته ، ولم يحسن سلوكه.

والله سبحانه يعلن رضاه عن هذه الطائفة مثل السابقين ويقول : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ). (١)

فلو وجدنا صحابياً آمن وهاجر أو نصر النبي ولكن شككنا في حسن سلوكه وسيرته ، لا تكون الآية دليلاً على رضاه سبحانه

عنه ، للشكّ في شمول الآية له فضلاً عمّن ثبت سوء سيرته.

هذا ما هو المتبادر والمفهوم من الآية ، وهي دليل قاطع على أنّه سبحانه رضي عن طوائف ثلاث من الصحابة ، لا عن كلّهم ، والاستدلال به على الموجبة الكلية «عدالة كلّ صحابي» كما ترى.

الآية الثانية

استدلّوا على عدالة الصحابة بآية ثانية ، نظيرة الآية المتقدّمة في تصنيف الصحابة إلى أصناف ثلاثة.

وهذه الطوائف الثلاث التي أشارت إليها الآية عبارة عن :

١. الفقراء المهاجرين.

__________________

(١) المجادلة : ٢٢.

٥٧٨

٢. الذين تبوّءُوا الدار والإيمان (الأنصار).

٣. والذين جاءوا من بعدهم.

ولكلّ من الأصناف سمات وميزات ، مذكورة فيها ويتميزون بها عن سائر الصحابة قال سبحانه : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ). (١)

فهذه الآيات الثلاث نظير ما تقدّم من الآيتين ، لا تُثني على عامّة الصحابة ، بل على فريق منهم.

أمّا المهاجرون فتثني على من تمتّع منهم بالصفات التالية :

أ. (أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ).

ب. (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً).

ج. (يَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ).

فمن تمتّع بهذه الصفات الثلاث من المهاجرين فقد أثنى القرآن عليه ، وبما انّ من أبرز صفاتهم ، كونهم مشرّدين من ديارهم وأموالهم ، فيكون المقصود هم الذين هاجروا قبل وقعة «بدر». فينطبق على السابقين الأوّلين من المهاجرين في

__________________

(١) الحشر : ١٠٨

٥٧٩

الآية السابقة.

وأمّا الأنصار فإنّما تثني على من تمتّع منهم بالصفات التالية :

أ. (تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي آمنوا بالله ورسوله ، فخرج بذلك من اتّهم بالنّفاق وكان في الواقع منافقاً.

ب. (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا).

ج. (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ).

وبما انّ من أبرز صفاتهم ، هو إيواء المهاجرين والأنصار وإيثارهم على الأنفس ، فيكون المراد من آمنوا بالنبيّ وآووه وآووا المهاجرين ، فينطبق على من آمن وآوى قبل غزوة بدر لانتفاء الإيواء بعدها خصوصاً بعد إجلاء «بني قينقاع» غبَّ معركة «بدر» حيث خرجوا من قلاعهم وأموالهم وأسلحتهم ، تاركين جميع ذلك للمسلمين. فينطبق على السابقين الأوّلين من الأنصار في الآية السابقة.

وأمّا التابعون لهم ، أعني : الذين جاءوا من بعدهم فإنّما أثنى على من تمتع منهم بالصفات التالية :

أ. (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ).

ب. (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا).

فالعلائم المذكورة للطائفة الثالثة ، كناية عن الاتّباع بإحسان الذي ورد في الآية الأُولى ، فتنطبق على التابعين فيها.

فظهر انّ الآيات الواردة في سورة الحشر ، تتّحد مضموناً مع ما ورد في سورة التوبة ولا تختلف عنها قيد شعرة.

فالاستدلال بهذه الآيات وما تقدّمها على أنّ القرآن أثنى على الصحابة جميعهم من أوّلهم إلى آخرهم ـ الذين ربّما جاوز عددهم المائة ألف ـ غفلة عن

٥٨٠