الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

والذي بعثك بالحقّ ما رأيته ولا أتاني ، وما أقبلت إلاّ حين احتبس عليّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ خشيت أن تكون سخطة من الله تعالى ورسوله ، قال : فنزلت الحجرات : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) إلى قوله : (حَكِيمٌ). (١)

٦. تنازعهم في الغنائم إلى حدّ التخاصم

إنّ صحابة النبي بعد انتصارهم على المشركين في غزوة بدر ، استولوا على أموالهم وتنازعوا فيها إلى حدّ التخاصم ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب.

وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم أحقّ بها منّا ونحن منعنا عنه العدوّ وهزمناهم.

وقال الذين أحدقوا برسول الله : لستم بأحقّ بها منّا نحن أحدقنا برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وخفنا أن يصيب العدوّ منه غرّة واشتغلنا به فنزل : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). (٢)

قال ابن كثير : سأل أبو أمامة عبادة عن الأنفال؟ قال فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا ، فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله ، فقسّمه رسول الله بين المسلمين عن سواء. (٣)

وفي الآية إلماعات إلى سوء أخلاقهم حيث يعظ سبحانه هؤلاء السائلين ويأمرهم بأُمور ثلاثة بقوله :

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٢٠٩.

(٢) الأنفال : ١.

(٣) تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٨٣.

٥٤١

١. (فَاتَّقُوا اللهَ) في أُموركم وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا ، فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير ممّا تختصمون بسببه.

٢. (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) : أي لا تسبّوا.

٣. (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) : أي لا تخالفوه ولا تشاجروا. (١)

فالإمعان في الآيات النازلة حول هؤلاء المتنازعين والروايات الواردة في تفسير الآية ، لا تدع مجالاً للشكّ في أنّ لفيفاً من الحاضرين في غزوة بدر لم يبلغوا مرحلة عالية تميزهم عن غيرهم ، بل كانوا كسائر الناس الذين يتنازعون على حطام الدنيا وزبرجها دون أن يستشيروا النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في أمرها ، ويسألونه عن حكمها ، أفهؤلاء الذين كانوا يتنازعون على حطام الدنيا ، يصبحون مُثُلاً للفضيلة وكرامة النفس والطهارة؟!

٧. استحقاقهم مسَّ عذاب عظيم

كانت السنّة الجارية في الأنبياء الماضين انّهم إذا حاربوا أعداءهم وظفروا بهم ينكّلون بهم بالقتل ليعتبر به من وراءهم حتّى يكفّوا عن عدائهم لله ورسوله ، وكانوا لا يأخذون أسرى حتّى يثخنوا في الأرض ويستقر دينهم بين الناس ، فعند ذلك لم يكن مانع من الأسر ، ثمّ يعقبه المنّ أو الفداء.

يقول سبحانه في آية أُخرى : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) (٢) فأجاز أخذ الأسر ، لكن بعد الإثخان في الأرض واستتباب الأمر.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٨٥.

(٢) محمد : ٤.

٥٤٢

غير أنّ لفيفاً من الصحابة كانوا يصرون على النبي بالعفو عنهم وقبول الفداء منهم (قبل الإثخان في الأرض) فأخذوا الأسرى ، فنزلت الآية في ذم هؤلاء وعرّفهم بأنّهم استحقوا مسَّ عذاب عظيم لو لا ما سبق كتاب من الله ، يقول سبحانه : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). (١)

والمستفاد من الآيتين أمران :

الأوّل : انّ الحافز لأكثرهم أو لفئة منهم هو الاستيلاء على عرض الدنيا دون الآخرة كما يشير إليه سبحانه بقوله : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ). (٢)

الثاني : لقد بلغ عملهم من الشناعة درجة ، بحيث استحقُّوا مسَّ عذاب عظيم ، غير أنّه سبحانه دفع عنهم العذاب لما سبق منه في الكتاب ، قال سبحانه : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ) أخذ الأسرى (عَذابٌ عَظِيمٌ).

فقوله : (عَذابٌ عَظِيمٌ) يعرب عن عظم المعصية التي اقترفوها حتّى استحقوا بها العذاب العظيم.

أفيمكن وصف من أراد عرض الدنيا مكان الآخرة واستحقّ مس عذاب عظيم بأنّه ذو ملكة نفسانية تصده عن اقتراف الكبائر والإصرار على الصغائر ، كلاّ ، ولا.

__________________

(١) الأنفال : ٦٧ ـ ٦٩.

(٢) الأنفال : ٦٧.

٥٤٣

٨. الفرار من الزحف

لقد دارت الدوائر على المسلمين يوم أُحد ، لأنّهم عصوا أمر الرسول وتركوا مواقعهم على الجبل طمعاً في الغنائم فأصابهم ما أصابهم من الهزيمة التي ذكرتها كتب السيرة والتاريخ على وجه مبسوط. وبالتالي تركوا النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في ساحة الحرب وليس معه إلاّ عدد قليل من الصحابة ، ولم تنفع معهم دعواته ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بالعودة إلى ساحة القتال ونصرته ، فقد خذلوه في تلك الساعات الرهيبة ، وأخذوا يلتجئون إلى الجبال حذراً من العدو ، ويتحدّث سبحانه تبارك وتعالى عن تلك الهزيمة النكراء بقوله : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ). (١)

فالخطاب موجّه للذين انهزموا يوم أُحد ، وهو يصف خوفهم من المشركين وفرارهم يوم الزحف ، غير ملتفتين إلى أحد ، ولا مستجيبين لدعوة الرسول ، حين كان يناديهم من ورائهم ويقول : هلم إليَّ عباد الله أنا رسول الله ... ومع ذلك لم يُجبه أحد من المولّين.

والآية تصف تفرقهم وتولّيهم على طوائف أُولاهم بعيدة عنه ، وأُخراهم قريبة ، والرسول يدعوهم ولا يجيبه أحد لا أوّلهم ولا آخرهم ، فتركوا النبيّ بين جموع المشركين غير مكترثين بما يصيبه من القتل أو الأسر أو من الجراح.

نعم كان هذا وصف طوائف منهم وكانت هناك طائفة أُخرى ، التفت حول النبي ودفعت عنه شرّ الأعداء ، وهم الذين أُشير إليهم بقوله سبحانه :

__________________

(١) آل عمران : ١٥٣.

٥٤٤

(وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ). (١)

ثمّ إنّه سبحانه يصرح بتولّيهم وفرارهم عن الجهاد وينسب زلّتهم إلى الشيطان ويقول : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ). (٢) وليس هؤلاء من أصحاب النفاق (لأنّ المنافق لا يُغفر له ولا يعفى عنه) بل من الصحابة العدول!

٩. نسبة الغرور إلى الله ورسوله

إنّ غزوة الأحزاب من المغازي المعروفة في الإسلام ، حيث اتحد المشركون واليهود للانقضاض على الإسلام ، فحاصروا المدينة وهم عشرة آلاف مدجّجين بالسلاح ، وحفر المسلمون خندقاً حول المدينة لمنع العدو من اقتحامها وقد طال الحصار نحو شهر.

وفي هذه الغزوة امتحِن أصحابُ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وزلزلوا زلزالاً عظيماً ، وتبيّن الثابت من المستزلّ ، وانقسم أصحابه إلى قسمين :

١. المؤمنون وشعارهم (هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً). (٣)

٢. المنافقون والذين في قلوبهم مرض وشعارهم : (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً). (٤)

فضعفاء الإيمان من المؤمنين كانوا يظنون بالله انّه وعدهم وعداً غروراً ، فهل

__________________

(١) آل عمران : ١٤٤.

(٢) آل عمران : ١٥٥.

(٣) الأحزاب : ٢٢.

(٤) الأحزاب : ١٢.

٥٤٥

يصحّ وصف هؤلاء بالعدالة والتزكية؟! وهم ـ طبعاً ـ غير المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، ويدلّ على ذلك ، عطف (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) على المنافقين ، قال سبحانه : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).

ومن يمعن النظر في الآيات الواردة حول غزوة الأحزاب يعرف مدى صمود كثير من الصحابة أمام ذلك السيل الجارف ، فإنّ كثيراً منهم كانوا يستأذنون النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ للرجوع إلى المدينة بحجة انّ بيوتهم عورة ويقول سبحانه : (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً). (١)

١٠. المنافقون المندسّون بين الصحابة

لقد شاع النفاق بين الصحابة منذ نزول النبي ، بالمدينة ، وقد ركّز القرآن على عصبة المنافقين وصفاتهم ، وفضح نواياهم ، وندّد بهم في السور التالية : البقرة ، آل عمران ، المائدة ، التوبة ، العنكبوت ، الأحزاب ، محمد ، الفتح ، الحديد ، المجادلة ، الحشر ، والمنافقون.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المنافقين كانوا جماعة هائلة في المجتمع الإسلامي ، بين معروف عرف بسمة النفاق ووصمة الكذب ، وغير معروف بذلك ، ولأنّه مقنّع بقناع الإيمان والحب للنبي ، فلو كان المنافقون جماعة قليلة غير مؤثرة لما رأيت هذه العناية البالغة في القرآن الكريم.

وهناك ثلة من المحقّقين ألّفوا كتباً ورسائل حول النفاق والمنافقين ، وقد قام بعضهم بإحصاء ما يرجع إليهم فبلغ مقداراً يقرب من عشر القرآن الكريم.

__________________

(١) الأحزاب : ١٣.

٥٤٦

ومع ذلك فهل يمكن عد جميع من صحب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عدولاً؟!

نعم المنافقون ليسوا من الصحابة ولكنّهم كانوا مندسّين فيهم ، وعند ذلك فكثيراً ما يشتبه الصحابي الصادق بالمنافق ، ولا يتميّز المنافق عن المؤمن ، حتّى أنّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ربما كان لا يعرفهم ، يقول سبحانه : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ). (١)

فهذا يجر الباحث ـ الذي يريد الإفتاء على ضوء ما قاله الصحابة ـ التفتيش عن حال الصحابي حتّى يعرف المنافق عن غيره ، فلو اشتبه الحال فلا يكون قوله ولا روايته حجّة.

هذا بعض قضاء القرآن في حق الصحابة ، ولسنا بصدد الاستقصاء بأنّ أصناف الصحابة المجانبين للعدالة ، أكثر (٢) ممّا ذكرنا لكن التفصيل لا يناسب وضع الكتاب.

__________________

(١) التوبة : ١٠١.

(٢) كالسّماعين (التوبة : ٤٧٤٥ ،) خالطوا العمل الصالح بغيره (التوبة : ١٠٢) ، المسلمون غير المؤمنين (الحجرات : ١٤) ، المؤلفة قلوبهم (التوبة : ٦٠).

٥٤٧

١٠

السنّة النبوية وعدالة الصحابة

درسنا عدالة الصحابة في ضوء القرآن الكريم وخرجنا بالنتيجة التالية : انّ حال الصحابة كحال التابعين ، ففيهم عادل وفاسق ، وصالح وطالح ، منهم من يُستدرّ به الغمام ومنهم من دون ذلك.

ومن حسن الحظ انّ السنّة النبوية تدعم ذلك الموقف ، فلنذكر منها نزراً قليلاً حسب ما يقتضيه وضع الرسالة.

١. زعيم الفئة الباغية

روى مسلم عن أبي سعيد قال : أخبرني من هو خير منّي ـ أبو قتادة ـ انّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال لعمّار حين جعل يحفر الخندق وجعل يمسح رأسه ويقول : بُؤسَ ابنُ سمية تقتلك فئة باغية. (١)

وروى البخاري عن أبي سعيد انّه قال : كنّا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين ، فرآه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، فجعل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ينفض التراب عنه ويقول : ويح عمار

__________________

(١) جامع الأُصول : ٩ / ٤٢ برقم ٦٥٨٠.

٥٤٨

يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار.

قال الحميدي في هذا الحديث زيادة مشهورة لم يذكرها البخاري أصلاً من طريق هذا الحديث ، ولعلّها لم تقع إليه فيها ، أو وقعت فحذفها لغرض قصده في ذلك ، وأخرجها أبو بكر البرقاني ، وأبو بكر الإسماعيلي قبله ، وفي هذا الحديث عندهما انّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : ويح عمّار ، تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ، ويدعونه إلى النار. (١)

وقد كشف الحميدي عن نوايا البخاري انّه ربما يتلاعب بالحديث فيحذف بعض أجزائه لغرض معيّن ، وهو إنّما حذف هذه الجملة المشهورة ، أعني : «تقتله الفئة الباغية» بقصد تبرئة معاوية ، وتبرير أعماله.

ونحن نسأل القائلين بعدالة الصحابة من هي الفئة الباغية التي قتلت عماراً؟! وهل كان فيها من صحابة النبي من يؤيّد موقف الفئة الباغية؟! لا شكّ انّ معاوية كان يترأس الفئة الباغية وكان عمرو بن العاص وزيره في الحرب ، وكان انتصار معاوية في حرب صفين رهن مكيدة عمرو بن العاص ، وكان بين الفئة الباغية من الصحابة النعمان بن بشير الأنصاري ، وعُقْبة بن عامر الجهني ، وأبو الغادية يسار بن سبع الجهني وغيرهم.

٢. عصيان أمر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بإحضار القلم والدواة

قد روى أصحاب الصحاح انّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أمر بإحضار القلم والدواة ليكتب كتاباً لا يضلّوا بعده أبداً ، وقد حال بعض الحاضرين بينه وبين ما يروم إليه ، وقد أخرجه البخاري في غير مورد من صحيحه.

__________________

(١) جامع الأُصول : ٩ / ٤٤ برقم ٦٥٨٣.

٥٤٩

ففي كتاب العلم أخرج عن ابن عباس انّه قال : لما اشتدّ بالنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وجعه ، قال : «ائتوني بكتاب اكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده» ، قال عمر : إنّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ غلبه الوجع ، وعندنا كتاب الله حسبنا ، فاختلفوا وكثر اللغط ، قال : «قوموا عنّي ولا ينبغي عندي التنازع» فخرج ابن عباس يقول : إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وبين كتابه. (١)

وأخرج أيضاً عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنّه قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ، ثمّ بكى حتّى خَضَبَ دمعُه الحصباءَ ، فقال : اشتدّ برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وجعه يوم الخميس ، فقال : «ائتوني بكتاب اكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً». فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : هجر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ؟ قال : «دعوني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه». (٢)

وهنا نكتة لا بدّ من إلفات القارئ إليها وهي : انّ فعل النبي (طلب الكتاب) ، نسب في الصورة الأُولى إلى غلبة الوجع وعند ذاك سمّي القائل به وهو عمر ، وفي الصورة الثانية نسب إلى الهجر والهذيان ، ولم يذكر اسم القائل ، وجاء مكان «عمر» لفظة : «قالوا».

ولما كانت الصورة الأُولى أخف وطأة من الثانية ، جاء فيها ذكر القائل دون الثانية.

والقائل في الجميع واحد.

ويذكره أيضاً بشكل آخر في موضع ثالث ، يقول :

اشتدّ برسول الله وجعه فقال : «ائتوني بكتف اكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده

__________________

(١) صحيح البخاري : ١ / ٣٨ ، برقم ١١٤.

(٢) صحيح البخاري : ٢ / ٢٨٧ ، برقم ٣٠٥٣.

٥٥٠

أبداً» فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : ماله أهجر؟ استفهموه ، فقال : «ذروني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه». (١)

وفي صورة رابعة قال بعضهم : إنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قد غلبه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده ، ومنهم من يقول غير ذلك ، فلمّا أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : قوموا. (٢)

أُنشدك بالله انّ من يخالف أمر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الذي تدلّ القرائن على كونه إلزامياً ، ثمّ يصف أمره بأنّه نتيجة غلبة الوجع أو الهجر والهذيان هل يوصف هذا بأنّه صاحب ملكة رادعة عن اقتراف المحرمات؟!

وما أبعد ما بين وصف هؤلاء وبين وصفه سبحانه لنبيّه الكريم بقوله : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى).

كيف يقول ذلك الصحابي حسبنا كتاب الله؟! فلو كان هذا صحيحاً فلما ذا ألف المسلمون الصحاح والسنن والمسانيد؟!

٣. الانقلاب على الأعقاب بعد رحيل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ

١. أخرج البخاري وعن أبي حازم قال : سمعت سهل بن سعد يقول : سمعت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يقول : أنا فَرَطُكُم على الحوض من ورده شرب منه ، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً ، ليرد عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثمّ يحال بيني وبينهم.

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ٣٢١ ، برقم ٣١٦٨

(٢) صحيح البخاري : ٣ / ١٣٢ برقم ٤٤٣٢ ، ولاحظ أيضاً : ٤ / ١٠ برقم ٥٦٦٩ ورقم ٧٣٦٦.

٥٥١

قال أبو حازم : فَسَمِعَني النعمان بن أبي عيّاش وأنا أُحدِّثهم هذا ، فقال : هكذا سمعتَ سهلاً؟ فقلت : نعم ، قال : وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعتُه يزيد فيه قال : إنّهم منّي ، فيقال : إنّك لا تدري ما بدّلوا بعدك ، فأقول : سُحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي. (١)

٢. أخرج البخاري عن المغيرة ، قال سمعت أبا وائل ، عن عبد الله رضي‌الله‌عنه ، عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : أنا فَرَطُكم على الحوض ، وليرفعنّ رجال منكم ثمّ ليُختلجُنَّ دوني ، فأقول : يا ربّ أصحابي ، فقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. (٢)

٣. أخرج البخاري عن أنس ، عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : ليردَنَّ عليّ ناس من أصحابي الحوض حتّى إذا عرفتهم ، اختُلِجُوا دوني فأقول : أصحابي؟! فيقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك. (٣)

٤. أخرج البخاري عن سهل بن سعد قال ، قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : إنّي فَرَطُكم على الحوض من مرّ عليّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثمّ يحال بيني وبينهم. (٤)

٥. أخرج البخاري عن أبي هريرة انّه كان يحدث انّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلّئون عن الحوض ، فأقول : يا رب أصحابي ، فيقول : إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، انّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى. (٥)

٦. أخرج البخاري عن أبي المسيب انّه كان يحدِّث عن أصحاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ

__________________

(١) صحيح البخاري : ٤ / ٣٥٥ ، برقم ٧٠٥٠ و ٧٠٥١.

(٢) صحيح البخاري : ٤ / ٢٢٧ ، برقم ٦٥٧٦.

(٣) صحيح البخاري : ٤ / ٢٢٨ ، برقم ٦٥٨٢ ، ٦٥٨٣ ، ٦٥٨٥.

(٤) صحيح البخاري : ٤ / ٢٢٨ ، برقم ٦٥٨٢ ، ٦٥٨٣ ، ٦٥٨٥.

(٥) صحيح البخاري : ٤ / ٢٢٨ ، برقم ٦٥٨٢ ، ٦٥٨٣ ، ٦٥٨٥.

٥٥٢

انّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : يرد عليّ الحوض رجال من أصحابي فيحلّئون عنه ، فأقول : يا ربّ أصحابي ، فيقول : إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى. (١)

٧. أخرج البخاري عن ابن عباس في حديث : ... ثمّ يؤخذ برجال من أصحابي ذات اليمين وذات الشمال ، فأقول : أصحابي ، فيقال : إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم ، فأقول كما قال العبد الصالح عيسى ابن مريم : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ـ إلى قوله : ـ (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢). (٣)

٨. أخرج البخاري عن العلاء بن المسيب قال : لقيت البراء بن عازب فقلت : طوبى لك صحبت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وبايعته تحت الشجرة ، فقال : يا ابن أخي انّك لا تدري ما أحدثنا بعده. (٤)

٩. أخرج ابن أبي شيبة عن أبي بكرة انّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : ليردنّ على الحوض رجال ممّن صحبني ورآنى حتّى إذا رفعوا إليّ اختلجوا دوني فلأقولنّ : ربّي أصحابي! فليُقالَنّ إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. (٥)

١٠. أخرج مسلم عن أسماء بنت أبي بكر ، قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : إنّي على الحوض حتّى أنظر من يرد عليّ منكم ، وسيؤخذ أُناس دوني ، فأقول : يا ربّ منّي ومن أُمّتي ، فيقال : أما شعرت ما عملوا بعدك ، والله ما برحوا بعدك يرجعون

__________________

(١) صحيح البخاري : ٤ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨ ، برقم ٦٥٨٦.

(٢) المائدة : ١١٧ ـ ١١٨.

(٣) صحيح البخاري : ٢ / ٤٠٢ ، كتاب أحاديث الأنبياء ، برقم ٣٤٤٧.

(٤) صحيح البخاري : ٣ / ٦٤ ، كتاب المغازي برقم ٤١٧٠.

(٥) مصنّف ابن أبي شيبة : كتاب الفضائل برقم ٣٥ ؛ مسند أحمد : ٥ / ٤٨.

٥٥٣

أعقابهم.

قال : فكان ابن أبي مليكة يقول : اللهم إنّا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا وأن نفتن عن ديننا. (١)

وتنتهي أسانيد هذه الروايات إلى شخصيات نظراء ، سهل بن سعد ، أبي وائل عن عبد الله ، أنس بن مالك ، أبي هريرة ، ابن المسيب ، واقتصرنا بما رواه البخاري وتركنا ما نقله غيره ، وما ظنّك بحديث يرويه الإمام البخاري وقد نقل شيئاً منه في الفتن ، وقسماً أكثر في باب الحوض.

ولا بدّ من الكلام في مقامين :

الأوّل : من هم الذين أخبر النبي عن ارتدادهم بعد رحيله؟

الثاني : ما هو المراد من ارتدادهم؟

أمّا الأوّل : فالقرائن القطعية تدلّ على انّ المراد ، بعض أصحابه الذين عاشوا معه وكان يعرفهم وهم يعرفونه واجتمعوا معه في فترة زمنية ، وليس هؤلاء إلاّ لفيف من أصحابه ، والدليل على ذلك ما جاء في متونها من الكلمات التالية :

١. ليردنّ علي أقوام أعرفهم ويعرفونني كما في رقم ١ ، ٤.

٢. حتّى إذا عرفتهم اختلجوا دوني (رقم ٣).

٣. أنا فرطكم على الحوض وليرفعن رجال منكم (رقم ٢).

٤. فأقول : يا ربّ أصحابي (رقم ٣ ، ٥ ، ٦).

إذا كان من علائم هؤلاء :

١. انّ الرسول يعرفهم وهم يعرفونه ، وانّهم من رجال عصر الرسول (رجال

__________________

(١) شرح صحيح مسلم للنووي : ١٥ / ٦١ برقم ٢٢٩٣.

٥٥٤

منكم) لا من الأجيال المستقبلة ، فهؤلاء أصحابه الذين عاشوا معه في عصر الرسالة ، حتّى استحقوا بأن يصفهم النبي عند الاستغاثة بقوله : «يا رب أصحابي».

فلا أظن من يدرس هذه الروايات الواردة الصحيحين وغيرهما بتجرّد وموضوعية أن يدور في خلده ، انّ المراد من الذين ارتدوا على أدبارهم ، أُمّته الذين أتوا بعده وعاشوا في أحقاب بعيدة عن عصر الرسول ، ولم يكن فيها من وجود الرسول عين ولا أثر ، إذ لو كان هذا هو المراد ، فمتى عاش معهم النبي ، حتّى عرفهم وعرفوه؟ ومتى كانوا معه حتّى صحّ وصفهم بقوله : «رجال منكم» ومتى صحبوه (فترة قصيرة أو طويلة) وصاروا أصحابه؟

ومن التجنّي على الحقيقة القول : «بأنّ جميع الأُمّة أصحاب النبي ، كما أنّ جميع من يقلّدون الشافعي مثلاً أصحابه» فانّ هذا التفسير في المقيس عليه ممنوع فكيف المقيس؟ فأصحاب الشافعي هم الذي تربّوا على يديه والتفُّوا حوله وانتفعوا بعلمه ، وأمّا الذين جاءوا بعده ولم يشاهدوه فهم أتباعه ، لا أصحابه ، فلو صح إطلاق الأصحاب عليهم ، فإنّما هو إطلاق مجازي لا حقيقي.

وأمّا المقيس فالحال فيه واضحة.

فالصحابة ، في الروايات والآثار ، هم الذين أقاموا مع رسول الله فترة من الزمن ، أو رأوا رسول الله وأدركوه وأسلموا ، إلى غير ذلك من التعاريف التي ذكرها الجزري في «أُسد الغابة». (١)

وليس هذا المورد إلاّ كسائر الموارد التي وردت فيها كلمة الصحابة ، مثلاً رووا عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّه قال : «لا تسبُّوا أصحابي» كما رووا عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّه قال : مثل

__________________

(١) أُسد الغابة : ١ / ١٢١١.

٥٥٥

أصحابي كالنجوم ، إلى غير ذلك من الموارد ، فالمراد من الجميع هو المعنى المصطلح.

وقد ألّف غير واحد من الرجاليين كتباً في حياة الصحابة ، كالاستيعاب لابن عبد البرّ ، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر ، وإلى غير ذلك من الموارد التي أُطلقت فيها كلمة الصحابة وأُريد بها ، من كانوا وعاشوا معه.

إنّ المتبادر من قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ، أو «إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك» أو «إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى» ، هو انّهم كانوا معك ولكن اقترفوا هذه الجريمة بعد رحيل الرسول ، دون فاصل زماني طويل ، وقد كان المترقب من هؤلاء الذين رأوا شمس الرسالة واستضاءوا بها ، أن يتّبعوا دينه وشريعته ولا يعدلوا عنه قيد شعرة ، ولكنّهم ـ للأسف ـ ارتدوا على أدبارهم القهقرى.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل ، أعني : رفع الستر عن هؤلاء الذين ارتدوا وبدلوا.

وأمّا الأمر الثاني ، فهل المراد من الارتداد هو الخروج عن الدين ، أو المراد من الارتداد هو الأعم من الرجوع عن العقيدة ، أو السلوك على غير ما أوصى به النبي في غير واحد من الأُمور؟ ، ولعل المراد هو الثاني حيث إنّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أوصى بالثقلين وأهل بيته ، فخالفوا وصية الرسول ، كما أنّهم خالفوا في كثير من الأحكام ، المذكورة في محلّها ، فقدّموا الاجتهاد على النصّ ، والمصلحة المزعومة على أمره ، وبذلك أحدثوا في دينه بدعاً ، ليس لها في الكتاب والسنّة أصل.

موقف النبي ممّن لم تحسن صحبته

ما مرّ من الروايات لا تهدف شخصاً معيّناً بالذكر ، وهناك روايات تخص

٥٥٦

بعض الصحابة بالذكر من الذين لم تحسن صحبتهم ويخبر عن سوء مصيرهم ويندد بسوء عملهم ، وهي كثيرة ، ونذكر منها النزر اليسير :

١. كلّهم مغفور له إلاّ

أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : من يصعد ، الثنيّة ، ثنيّة المُرار فانّه يحطّ عنه ، ما حطّ عن بني إسرائيل قال : فكان أوّل من صعدها ، خيَلنا خيلَ بني الخزرج ثمّ تتامّ الناس ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «وكلّهم مغفور له إلاّ صاحب الجمل الأحمر» فأتيناه فقلنا له : تعال يستغفر لك رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، فقال : والله لأن أجد ضالّتي أحبّ إليّ من أن يستغفر لي صاحبكم ، وكان رجل ينشد ضالّة له. (١)

إنّ مسلماً وان ذكره في كتاب صفات المنافقين ، لكنّه لا دليل على أنّه كان منهم ، بل كان من ضعفاء الإيمان ، أو مرضى القلوب ، أو السمّاعين ، إلى غير ذلك من الأصناف المتوفرة في صحابة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وقد ذكر الشراح انّه كان الجدّ بن قيس الأنصاري.

وروى مسلم بعد هذا الحديث عن أنس بن مالك قال : كان منّا رجل من بني النجّار قد قرأ البقرة وآل عمران ، وكان يكتُب لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، فانطلق هارباً حتّى لحق بأهل الكتاب قال فرفعوه ، قالوا : هذا كان يكتب لمحمد ، فأُعجبوا به ....

٢. اللهم إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد

أخرج البخاري عن سالم ، عن أبيه قال : بعث النبي خالد بن الوليد إلى بني

__________________

(١) صحيح مسلم : ٨ / ٢٢٣ ، صفات المنافقين وأحكامهم.

٥٥٧

جذيمة ، فدعاهم إلى الإسلام فلم يُحسِنُوا أن يقولوا أسلمنا ، فجعلوا يقولون : صبأنا صبانا ، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر ، ودفع إلى كلّ رجل منّا أسيره ، حتّى إذا كان يوم ، أمر خالد أن يقتل كلّ رجل منّا أسيره ، فقلت : والله لا أقتل أسيري ، ولا يَقْتُل رجل من أصحابي أسيره حتّى قدمنا على النبي فذكرناه ، فرفع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يده فقال : «اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد» مرّتين. (١)

هذا هو سيف الإسلام ، وبطله يقتل الأبرياء واحداً بعد الآخر ، ويتبرأ النبي الأعظم من جريمته ولكنّه يُصبح بعد رحيل الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ رجلاً بارّاً وسيفاً مسلولاً سلّه رسول الله ولا يُغمد ، وإن زنى بزوجة مالك بن نويرة وقتله ، فما حال غيره!

٣. تنبّؤه بمصير ذي الخويصرة

أخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه بينما نحن عند رسول الله وهو يقسم قسماً ، أتاه ذو الخويصرة ، وهو رجلٌ من بني تميم ، فقال : يا رسول الله اعدل ، فقال : «ويلك ، ومن يعدل إذا لم أعدل ، قد خِبتُ وخسرتُ إن لم أكن أعدِلُ». فقال عمر : يا رسول الله ، ائذَن لي فيه فأضرِبَ عُنقَهُ؟ فقال : «دَعْهُ ، فإنّ له أصحاباً يحقِّرُ أحدكم صلاتَه مع صلاتهم ، وصيامَه مع صيامهم ، يقرءون القرآن لا يُجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدِّين كما يمرقُ السَّهم من الرّمية».

٤. انّ فيك شعبة من الكفر

قد سبّ أبو هريرة رجلاً بأُمّ له في الجاهلية فاستعدى رسول الله على أبي

__________________

(١) صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب بعث النبي خالد بن الوليد ، الحديث ٤٣٣٩.

٥٥٨

هريرة ، فقال له رسول الله : «إنّ فيك شعبة من الكفر» فحلف أبو هريرة أن لا بسب بعده مسلماً. (١)

٥. امتناع الرسول من الصلاة على أحد أصحابه

أخرج الحاكم في مستدركه عن زيد بن خالد الجهني ـ رضي‌الله‌عنه ـ انّ رجلاً من أصحاب رسول الله توفّي يوم حنين أو خيبر ، فامتنع ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من الصلاة عليه ، لأنّه غلّ في سبيل الله ففتّشوا متاعه فوجدوا خِرزاً من خرز اليهود لا يساوي درهمين. (٢)

٦. تنبّؤ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بالمصير الأسود لبعض أصحابه

أخرج البخاري عن أبي هريرة قال شهدنا خيبر ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لرجل ممّن معه يدّعي الإسلام : «هذا من أهل النّار». فلمّا حضر القتال قاتل الرجل أشدّ القتال حتّى كثُرت به الجِراحَة ، فكادَ بعض الناس يرتاب ، فوجد الرّجل ألمَ الجِراحَة ، فأهوى بيده إلى كنانته ، فاستخرج منها أسهماً فنَحَر بها نفسه ، فاشتدّ رجال من المسلمين فقالوا : يا رسول الله ، صدّق الله حديثك ، انتحَر فلانٌ فقتل نفسه ، فقال : «قم يا فلانُ ، فأذِّن أنّه لا يدخلُ الجنّة إلاّ مؤمنٌ ، إنّ الله يُؤيِّد الدّين بالرَّجلِ الفاجر». (٣)

٧. صحابي يخلو بامرأة

روى ابن كثير في تفسير قوله سبحانه : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)

__________________

(١) مجمع الزوائد : ٨ / ٨٦ ، كتاب الأدب ، باب في من يُعيّر بالنسب أو غيره.

(٢) مستدرك الحاكم : ٢ / ١٢٧ ، كتاب الجهاد ؛ مسند أحمد : ٤ / ١١٤.

(٣) صحيح البخاري : ٣ / ٧٣ ، برقم ٤٢٠٣.

٥٥٩

قال : روى الإمام أبو جعفر بسنده عن أبي اليسر كعب بن عمرو الأنصاري قال : أتتني امرأة تبتاع منّي بدرهم تمراً ، فقلت : إنّ في البيت تمراً أجود من هذا ، فدخلت فأهويت إليها فقبّلتها ، فأتيت عمر فسألته فقال : اتّق الله واستر على نفسك ولا تخبرن أحداً ، فلم أصبر حتّى أتيت أبا بكر فسألته فقال : اتّق الله واستر على نفسك ولا تخبرن أحداً ، قال : فلم أصبر حتّى أتيت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فأخبرته فقال : «أخلفت رجلاً غازياً في سبيل الله في أهله بمثل هذا؟» حتّى ظننت انّي من أهل النار حتّى تمنيتُ انّي أسلمت ساعتئذ ، فأطرق رسول الله ساعة فنزل جبريل ، فقال أبو اليسر : فجئت فقرأ عليّ رسول الله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) فقال إنسان : يا رسول الله له خاصة أم للناس عامة؟ قال : «للناس عامة». (١)

٨. صحابي يجلس بين رجلي امرأة

أخرج عبد الرزاق عن يحيى بن جعدة انّ رجلاً من أصحاب النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ذكر امرأة وهو جالس مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فاستأذنه لحاجة ، فأذن له ، فذهب يطلبها فلم يجدها ، فأقبل الرجل يريد أن يبشر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بالمطر ، فوجد المرأة جالسة على غدير فدفع في صدرها وجلس بين رجليها فصار ذكره مثل الهدبة ، فقام نادماً حتّى أتى النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فأخبره بما صنع فقال له «استغفر ربّك وصلّ أربع ركعات» قال : وتلا عليه : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) الآية. (٢)

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٤٦٣ والآية ١١٣ من سورة هود.

(٢) تفسير ابن كثير : ٢ / ٤٦٣.

٥٦٠