الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

٣

 الصحبة

 ونفي البعد الإعجازي لها

إنّ دعوة الأنبياء ـ لا سيّما دعوة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ـ ابتنيت على أُسس رائجة في ميادين الدعوة ، فكانوا يدعون بالقول والعمل والتبشير والتنذير ، ومثل هذا النوع من الدعوة يؤثر في طائفة دون طائفة ، كما أنّه عند التأثير يختلف تأثيره عند من يلبّي دعوته ، ولم تكن دعوته دعوة إعجازية خارجة عن قوانين الطبيعة ، فالرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لم يقم بتربية الناس وتعليمهم عن طريق الإعجاز ، بل قام بإرشاد الناس ودعوتهم إلى الحق مستعيناً بالأساليب التربوية المتاحة والإمكانيات المتوفرة ، والدعوة القائمة على هذا الأساس يختلف أثرها في النفوس حسب اختلاف استعدادها وقابلياتها ، ولم يكن تأثير الصحبة في تكوين الشخصية الإسلامية كمادة كيمياوية تستعمل في تحويل عنصر كالنحاس إلى عنصر آخر كالذهب حتّى تصنع الصحبةُ الجيلَ الكبير الذي يناهز مائة ألف ، أُمّة عادلة مثالية تكون قدوة وأُسوة للأجيال المستقبلة ، فانّ هذا ممّا لا يقبله العقل السليم.

فبالنظر إلى ما ذكرنا نخرج بالنتيجة التالية :

٥٠١

إنّ الأُصول التربوية تقضي بأنّ بعض الصحابة يمكن أن يصل في قوة الإيمان ورسوخ العقيدة إلى درجات عالية ، كما يمكن أن يصل بعضهم في الكمال والفضيلة إلى درجات متوسطة ، ومن الممكن أن لا يتأثر بعضهم بالصحبة وسائر العوامل المؤثرة إلاّ شيئاً طفيفاً لا يجعله في صفوف العدول وزمرة الصالحين.

ويقول بعض المعاصرين تحت عنوان : «هل للصحابي خصوصية مسألة العدالة» :

وأرى أنّ أوّل الخلل يكون عند ما نتعامل مع الصحابة وكأنّهم جنس آخر غير البشر ، والقرآن الكريم والسنّة المطهرة لا يوجد فيها أبداً هذا التفريق بين الصحابة وغيرهم إلاّ ميزة الفضل للمهاجرين والأنصار الذين كانت لهم ميزة الجهاد والإنفاق أيّام ضعف الإسلام وذلّة أهله ، أمّا بقية الأُمور كطروء النسيان والوهم والخطأ وارتكاب بعض الكبائر ، فهذه وجدت وحصل من بعض السابقين ومن كثير من اللاحقين.

ولم أجد دليلاً مقنعاً صحيحاً صريحاً يفرق بين شروط العدالة بين جيل وآخر ، لا استثني من ذلك صحابة ولا تابعين. (١)

وما ذكرناه هو نتيجة التحليل على ضوء الأُصول النفسية والتربوية غير أنّ البحث لا يكتمل ولا يصحّ القضاء الباتّ إلاّ بالرجوع إلى القرآن الكريم حتّى نقف على نظره فيهم ، كما تجب علينا النظرة العابرة إلى كلمات الرسول في حقّهم ثمّ ملاحظة سلوكهم في زمنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وبعده. وسيوافيك بيانه في الفصول المستقبلة.

__________________

(١) الصحبة والصحابة : ٢١٧ ـ ٢١٨.

٥٠٢

٤

الصحابة أبصر بحالهم من غيرهم

إنّ من سبر تاريخ الصحابة بعد رحيل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، يجد فيه صفحات مليئة بألوان الصراع والنزاع بينهم ، حافلة بتبادل التّهم والشتائم ، بل تجاوز الأمر بهم إلى التقاتل وسفك الدماء ، فكم من بدري وأُحدي انتُهكت حرمته ، وصُبّ عليه العذاب صبّاً ، أو أُريق دمه بيد صحابي آخر.

وهذا ممّا لا يختلف فيه اثنان ، بيد أنّ الذي ينبغي التنبيه عليه ، هو أنّ كلاً من المتصارعين ، كان يعتقد أنّ خصمه متنكّبٌ عن جادة الصواب ، وأنّه مستحقّ للعقاب أو القتل ، وهذا الاعتقاد ، حتّى وإن كان نابعاً عن اجتهاد ، فإنّه يكشف عن أنّ كلاً من الفئتين المختلفتين لم تكن تعتقد بعدالة الفئة الأُخرى.

فإذا كان الصحابي يعتقد أنّ خصمه عادل عن الحق ومجانب لشريعة الله ورسوله ، وهو على أساس ذلك يبيح سلّ السيف عليه وقتله ، فكيف يجوز لنا نحن أن نحكم بعدالتهم ونزاهتهم جميعاً ، وأن نضفي عليهم ثوب القدسيّة على حدّ سواء؟! ونُبرّأهم من كل زيغ وانحراف؟

أو ليس الإنسان أعرف بحاله وأبصر بروحيّاته؟

أو ليس الصحابة أعرف منّا بنوازع أنفسهم ، وبنفسيات أبناء جيلهم؟

٥٠٣

هذا وراء ما دار بينهم كلمات تكشف عن اعتقاد بعضهم في حق بعض ، فالاتّهام بالكذب والنفاق والشتم والسب كان من أيسر الأُمور المتداولة بينهم ، فهذا هو سعد بن عبادة سيّد الخزرج ، يخاطب سعد بن معاذ ، وهو سيد الأوس وينسبه إلى الكذب كما حكاه البخاري في صحيحه.

قالت عائشة : فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخرج فقال لسعد [بن معاذ] كذبت لعمر الله ... فقام أُسيد ابن حضير وهو ابن عم سعد [بن معاذ] فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنّه فإنّك منافق تجادل عن المنافقين ، فتثاور الحيّان حتّى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله قائم على المنبر ، فلم يزل رسول الله يخفِّضهم حتّى سكتوا وسكت. (١)

وليست هذه القضية فريدة في بابها فلها عشرات النظائر في الصحاح والمسانيد وفي غضون التاريخ. وإنّما ذكرته ليكون كنموذج لما لم أذكر ، وسيوافيك في الفصول التالية نماذج من أفعالهم وأقوالهم التي يكشف عن اعتقادهم في حقّ مخالفيهم.

أو ليس من العجب العجاب ، انّ الصحابي يصف صحابياً آخر ـ في محضر النبي ـ بالكذب ، والآخر يصف خصمه بالنفاق ، وكلا الرجلين من جبهة الأنصار وسنامهم؟! ولكن الذين جاءوا بعدهم يصفونهم بالعدل والتقوى ، والزهد والتجافي عن الدنيا ، وهل سمعت ظئراً أرحم بالطفل من أُمّه. (٢)

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ٢٤٥ ، كتاب التفسير ، رقم الحديث ٤٧٥٠.

(٢) مثل يضرب.

٥٠٤

٥

ما هي الغاية من نقد آراء الصحابة وأفعالهم؟

قد أثبتت البحوث السابقة انّ الصحابة من جنس البشر وليسوا من جنس الملائكة المعصومين الذين (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (١) فهم كالتابعين وتابعي التابعين في كلّ ما يجوز وما لا يجوز ، فتحريم البحث عن حياتهم ونقد آرائهم وأفعالهم ، تخصيص بلا جهة.

وقد تذرّعوا في تحريم نقدهم «بأنّ الصحابة هم المصدر لأخذ الدين والمسلمون متطفّلون على موائدهم حيث أخذوا عنهم دينهم ، فنقد آرائهم وأفعالهم ينتهي إلى تقويض دعائم الدين» ولكن هذا التذرّع لا يثبت أمام الآيات الصريحة والأحاديث النبوية والتاريخ الصحيح الواردة في نقد آراء الصحابة وأفعالهم.

أضف إلى ذلك : انّ المسلمين كما أخذوا دينهم عن الصحابة أخذوا عن التابعين أيضاً ، فلو ثبت ما تذرّعوا به لسرى التحريم إلى التابعين أيضاً ، وقد اتّفق

__________________

(١) التحريم : ٦.

٥٠٥

المسلمون على خلافه في مورد التابعين.

إنّ البحث حول الصحابة لا يؤول إلى انهيار الدين وتصدّع الشريعة ، ما دام يعيش بين ظهرانيهم علماء ربّانيّون هم أُسوة في الحياة ، أُمناء على الدين والدنيا ، فلا يضرّ جرح طائفة أو فئة خاصة بثبات الدين وقوامه.

ومع ذلك كلّه ، نرى أنّ علماء الرجال وأصحاب الجرح والتعديل يحذرون من نقد حياة الصحابة أشدَّ الحذر ويعدّون ذلك من عمل المبتدعة ، يقول الحافظ ابن حجر في الفصل الثالث من «الإصابة» :

اتّفق أهل السنّة على أنّ الجميع عدول ، ولم يخالف في ذلك إلاّ شذوذ من المبتدعة ، وقد ذكر الخطيب في الكفاية فصلاً نفيساً في ذلك ، فقال : عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم ، ثمّ نقل عدّة آيات حاول بها إثبات عدالتهم وطهارتهم جميعاً ، إلى أن قال : روى الخطيب بسنده إلى أبي زرعة الرازي قال : إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله فاعلم أنّه زنديق ، وذلك انّ الرسول حقّ والقرآن حق ، وما جاء به حقّ ، وإنّما أدّى إلينا ذلك كلّه الصحابة ، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنّة ، والجرح بهم أولى وهم زنادقة. (١)

أقول : إنّ نقد الصحابي عقيدة وفعلاً ليس لغاية إبطال الكتاب والسنّة ، ولا لإبطال شهود المسلمين ، وإنّما الغاية من البحث في عدالتهم هي الغاية ذاتها من البحث في عدالة غيرهم ، فالغاية في الجميع هي التعرف على الصالحين والطالحين ، حتّى يتسنّى لنا أخذ الدين عن الصلحاء واجتناب أخذه عن غيرهم ، فلو قام الرجل بهذا العمل وتحمّل العبء الثقيل ، لما كان عليه لوم ، فلو قال أبو

__________________

(١) الإصابة : ١ / ١٧.

٥٠٦

زرعة مكان هذا القول : «إذا رأيت الرجل يتفحّص عن أحد من أصحاب الرسول لغاية العلم بصدقه أو كذبه ، أو خيره أو شرّه ، حتّى يأخذ دينه عن الخيرة الصادقين ويتحرز عن الآخرين ، فاعلم أنّه من جملة المحقّقين في الدين والمتحيرين للحقيقة» ، لكان أحسن وأولى ، بل هو الحق والمتعيّن.

ومن غير الصحيح أن يتهم العالم أحداً ، يريد التثبّت في أُمور الدين ، والتحقيق في مطالب الشريعة ، بالزندقة وانّه يريد جرح شهود المسلمين لإبطال الكتاب والسنّة ، وما شهود المسلمين إلاّ الآلاف المؤلّفة من أصحابه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، فلا يضرّ بالكتاب والسنّة جرح لفيف منهم وتعديل قسم منهم ، وليس الدين القيم قائماً بهذا الصنف من المجروحين «ما هكذا تورد يا سعد الإبل».

٥٠٧

٦

هل الصحابة الكرام فوق الأنبياء؟

إنّ من سبر كتب الحديث والتفسير يجد انّ السلف الصالح ينسبون إلى الأنبياء قصصاً خرافية ويلهجون بأكاذيب شنيعة بلا اكتراث ولا تكذيب ، ولكنّهم يتورّعون عن دراسة حياة الصحابي ونقد أفعاله وآرائه وأقواله ، وربما يتّهمون الناقل بالزندقة وإبطال شهود المسلمين ، فما هذا التبعيض؟! فهل يحظى الصحابة بالتكريم أكثر ممّا يحظى به الأنبياء؟! وهل هم فوق رجال السماء في النزاهة وكرامة النفس؟! وإليك بعض الأكاذيب الشنيعة التي ملئت بها كتب التفاسير.

١. أُكذوبة الغرانيق

قال ابن كثير في تفسير قوله سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ* وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ

٥٠٨

 الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). (١)

قد ذكر كثير من المفسّرين هاهنا قصة الغرانيق ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظناً منهم انّ مشركي قريش قد أسلموا ، ولكنّها من طرق كلّها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح.

قال ابن أبي حاتم : حدّثنا يونس بن حبيب ، حدّثنا أبو داود ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال :

قرأ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بمكة النجم ، فلمّا بلغ هذا الموضع : (أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ، قال : فألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى وانّ شفاعتهن ترتجى ، قالوا : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، فسجد وسجدوا ، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). (٢)

لا يشكّ أي مسلم عارف بحقّ النبي الخاتم في أنّ القصة مكذوبة ، والأدلّة على نزاهة النبي عن هذه ، كثيرة ، ويكفيك انّ سورة الحجّ مدنية أمر فيها بالأذان بالحجّ وأذن فيها بالقتال وأمر فيها بالجهاد ولم يكن هذا الأمر وهذا الإذن إلاّ بعد الهجرة بأعوام. وانّ الذي بين ذلك ، وبين الوقت الذي يجعلونه لخرافة الغرانيق أكثر من عشرة أعوام. ولو أغمضنا عن ذلك ، إذ لا مانع من كون السورة مكية وبعض آياتها مدنية ، لكفى في إبطالها ما أقمنا عليه في

__________________

(١) الحج : ٥٢ ـ ٥٤.

(٢) تفسير ابن كثير : ٤ / ٦٥٥ ؛ ولاحظ تفسير الطبري : ١٧ في تفسير نفس الآية ، ص ١٣١ ، وغيرهما.

٥٠٩

محاضراتنا. (١)

والغرض الأسنى من ذكر هذه الأُكذوبة انّ القوم ينقلون هذه الأكاذيب الشنيعة المنسوبة إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ولكنّهم يتورّعون عن دراسة حال الصحابي ونقد رأيه وفعله ، فكأنّ الصحابة عندهم أرفع وأنزه من الأنبياء المعصومين بنص الكتاب!!

وهذه القصة التي وردت في كتب التفسير لأهل السنّة صارت أساساً لكتاب «الآيات الشيطانية» لسلمان رشدي المرتدّ حيث نشر كتابه هذا في الملأ العام وأضاف إلى هذه القصة أضعافاً كثيرة ممّا أوحى إليه شيطانه. وقد حكم الإمام الخميني ـ رحمه‌الله ـ بارتداده ووجوب قتله.

٢. اتّهام داود ـ عليه‌السلام ـ بقتل زوج أوريا وتزوّجها

إنّ نبي الله داود ـ عليه‌السلام ـ أحد الأنبياء العظام الذي وصفه سبحانه بقوله : (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) (٢) وقد بلغ من الكمال حدّاً ، أن كانت الجبال تتجاوب معه في التسبيح ، يقول سبحانه : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ). (٣)

كما سخّر له الله سبحانه الجبال والطير ، فقال : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ* وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ). (٤)

__________________

(١) سيرة سيّد المرسلين : ١ / ٤٨٨ ـ ٤٩٧.

(٢) البقرة : ٢٥١.

(٣) سبأ : ١٠.

(٤) ص : ١٩١٨.

٥١٠

أفهل يتصوّر في حق نبي بلغ من الكمال ما بلغ أن يعشق امرأة محصنة وهي أوريا ، ثمّ يمهد الطريق لقتل زوجها لغاية التزوّج بها؟ ومع ذلك ملئت بهذه الخرافة ، التفاسير.

يروي المفسرون في تفسير قوله سبحانه : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ* إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ* إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ* قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ). (١)

 ... جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة حتّى وقع عند رجليه ، وهو قائم يصلّي ، فمدّ يده ليأخذه فتنحى ، فتبعه فتباعد حتّى وقع في كوّة ، فذهب ليأخذها ، فطار من الكوّة ، فنظر أين يقع ، فذهب في أثره ، فأبصر امرأة تغتسل على سطح لها ، فرأى امرأة من أجمل الناس خلقاً ، فحانت منها التفاتة فأبصرته ، فالتَفّت بشعرها فاستترت به ، فزاده ذلك فيها رغبة ، فسأل عنها ، فأُخبر أنّ لها زوجاً غائباً بمسلحة كذا وكذا. فبعث إلى صاحب المسلحة يأمره أن يبعث إلى عدوّ كذا وكذا ... فبعثه ففتح له أيضاً ، فكتب إلى داود ـ عليه‌السلام ـ بذلك ، فكتب إليه أن ابعثه إلى عدوّ كذا وكذا ... فبعثه فقتل في المرة الثالثة ، وتزوّج امرأته.

فلمّا دخلت عليه لم يلبث إلاّ يسيراً حتّى بعث الله له ملكين في صورة أُنسيّين ، فطلبا أن يدخلا عليه ، فتسوّرا عليه المحراب ، فما شعر وهو يصلّي إذ هما

__________________

(١) ص : ٢١ ـ ٢٤.

٥١١

بين يديه جالسين ، ففزع منهما فقالا : (لا تَخَفْ) إنّما نحن (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) يقول : لا تخف (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) إلى عدل القضاء فقال : قُصّا عليَّ قصتكما ، فقال أحدهما (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) قال الآخر : وأنا أُريد أن آخذها فأكمل بها نعاجي مائة ، قال : وهو كاره ، قال : إذاً لا ندعك وذاك ، قال : يا أخي أنت على ذلك بقادر ، قال : فإن ذهبت تروم ذلك ضربنا منك هذا وهذا. يعني طرف الأنف والجبهة.

قال : يا داود أنت أحقّ أن يضرب منك هذا وهذا. حيث لك تسع وتسعون امرأة ، ولم يكن لأُوريا إلاّ امرأة واحدة ، فلم تزل تعرضه للقتل حتّى قتلته. وتزوّجت امرأته ، فنظر فلم ير شيئاً ، فعرف ما قد وقع فيه ، وما قد ابتلى به. (١)

ومعنى ذلك انّه كان لداود ٩٩ زوجة وأراد أن يتمّها بامرأة غيره وبذلك ظلم أخاه ، فبعث الله ملكين يطرحان عمله بصورة أُخرى وانّ هناك أخوين لأحدهما ٩٩ نعجة وللآخر نعجة واحدة فأراد صاحب النعاج الكثيرة أن يتملّك النعجة الوحيدة.

وهذه القصة الخرافية وأمثالها تُنسب إلى الأنبياء بلا اكتراث ومع ذلك لا يرضون لأحد أن ينقد حياة صحابي حتى يأخذ دينه من عين صافية ومن رجال صلحاء ، أعني : الذين خامر الدين والإيمان أنفسهم وأرواحهم

ما هكذا تورد يا سعدُ الابل.

__________________

(١) الدر المنثور : ٧ / ١٦٠ ، تفسير سورة ص ؛ تفسير الطبري : ٢٣ / ٩٣ ، وغيرهما.

٥١٢

٧

 مظاهر الغلو في الصحابة

الغلو هو تجاوز الحدّ ، ومنه غلا السعر : إذا تجاوز حدّه ، قال سبحانه : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ). (١)

فالغلو في الدين في الآية ، كناية عن الغلو في رسوله ، أعني : المسيح عيسى بن مريم.

فذكر سبحانه أوّلاً واقعَ المسيح وانّه كان بشراً رسولاً ، لا يختلف عمّن تقدّم من الرسل ، وهو كلمة الله التي حملتها مريم وولدتها.

ثمّ أشار ثانياً إلى أنواع غلوهم فحلّت الآلهة الثلاثة مكان الإله الواحد ، وُعّد المسيح أحد الآلهة تارة ، وابن الإله أُخرى ، فهذا كلّه غلو وإفراط ، قال : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً). (٢)

فكما أنّ الإفراط غلو وتجاوز للحد فهكذا التفريط والتقصير ، والداعي إلى

__________________

(١) النساء : ١٧١.

(٢) النساء : ١٧١.

٥١٣

الأخير إمّا عجز الإنسان وعيّه عن أداء الحقّ ، أو حسده وحقده.

وللإمام أمير المؤمنين حول الإفراط والتفريط كلمتان نأتي بهما :

١. قال : الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق ، والتقصير عن الاستحقاق عيّ أو حسد. (١)

٢. وقال : إنّ دين الله بين المقصر والغالي ، فعليكم بالنمرقة الوسطى ، فيها يلحق المقصر ، ويلحق إليها الغالي. (٢)

فالمسلم الحرّ ، لا يعدل عن النمرقة الوسطى ، وهو يخضع للحق مكان خضوعه للملق والعاطفة ، أو للبغض والحسد.

إنّ كثيراً من أهل السنّة ، غالوا في حقّ الصحابة وتجاوزوا الحد ، خضوعاً للعاطفة ، وإغماضاً عمّا ورد في حقّهم في الكتاب العزيز والسنّة النبوية والتاريخ الصحيح ، فألبسوهم جميعاً لباس العدالة ـ بل العصمة من غير وعي ـ فصاروا مصادر للدين ، أُصوله وفروعه ، دون أن يقعوا في إطار الجرح والتعديل ، من غير فرق بين من آمن قبل بيعة الرضوان وبعدها ، ومن آمن قبل الفتح أو بعده ، ومن غير فرق بين الطلقاء وأبنائهم والأعراب ، مع تفريق الكتاب العزيز بينهم في الإيمان والإخلاص ، فالكلّ في نظرهم من أوّلهم إلى آخرهم عدول ، لا يخطئون ولا يسهون ، ولا يعصون.

وليس هذا إلاّ نوعا من الغلو لم يعهد في أُمّة عبر التاريخ.

مظاهر الغلو

وهنا ـ وراء القول بعدالتهم بل عصمتهم ـ مظاهر للغلو ، نشير إليها :

__________________

(١) نهج البلاغة : قصار الكلمات ، ٣٤٧.

(٢) ربيع الأبرار للزمخشري : ٢ / ٦٣.

٥١٤

١. سنّة الصحابة

يرى غير واحد من الباحثين انّ للصحابة سنّة ، تُعتبر حجة يعمل بها ، وإن لم تكن في الكتاب الكريم ولا في المأثور عن النبي ، قال مؤلّف كتاب «السنّة قبل التدوين». (١)

«وتطلق السنّة أحياناً عند المحدّثين وعلماء أُصول الفقه على ما عمل به أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، سواء أكان في الكتاب الكريم أم في المأثور عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أم لا. ويحتج لذلك بقوله عليه الصلاة والسلام : «عليكم بسُنّتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنّواجذ». وقوله أيضاً : «تفترق أُمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلاّ واحدة» ، قالوا : ومَن هم يا رسول الله؟ قال : «ما أنا عليه وأصحابي».

ومن أبرز ما ثبت في السنّة بهذا المعنى (سنّة الصحابة) حد الخمر ، وتضمين الصناع ، وجمع المصاحف في عهد أبي بكر برأي الفاروق ، وحمل الناس على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة ، وتدوين الدواوين ... وما أشبه ذلك ممّا اقتضاه النظر المصلحي الذي أقرّه الصحابة رضي الله عنهم.

ثمّ قال :

وممّا يدلّ على أنّ السنّة هي العمل المتبع في الصدر الأوّل قول علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ لعبد الله بن جعفر عند ما جلد شارب الخمر أربعين جلدة : «كفّ. جلد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أربعين ، وأبو بكر أربعين ، وكمّلها عمر ثمانين وكلّ سنّة». (٢)

روى السيوطي : قال حاجب بن خليفة شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب

__________________

(١) الدكتور محمد عجاج الخطيب ، أُستاذ الحديث وعلومه في كلية الشريعة بدمشق.

(٢) تدوين السنة : ٢٠ ، ط دار الفكر.

٥١٥

وهو خليفة فقال في خطبته : ألا إنّ ما سنَّ رسول الله وصاحباه فهو دين نأخذ به ، وننتهي إليه وما سنّ سواهما فإنّما نرجئه. (١)

هذا وقد احتلّت فتوى الصحابة منزلة الآثار النبوية يأخذ بها فقهاء السنّة ، يقول الشيخ أبو زهرة : ولقد وجدناهم (الفقهاء) يأخذون جميعاً بفتوى الصحابي ولكن يختلفون في طريق الأخذ ، فالشافعي كما يصرح في «الرسالة» يأخذ بفتواهم على أنّها اجتهاد منهم واجتهادهم أولى من اجتهاده ، ووجدنا مالكاً ـ رضي‌الله‌عنه ـ يأخذ بفتواهم على انّها من السنّة. الخ

وهذا يعرب عن أنّ للصحابة حق التشريع وجعل الأحكام في ضوء المصالح العامة ، مع أنّ الكتاب العزيز دلّ بوضوح على أنّ حق التشريع خاص بالله فقط ، ولا يحق لأحد أن يفرض رأيه على الآخرين.

فدفعُ زمام التشريع إلى غيره سبحانه أشبه بعمل أهل الكتاب حيث اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله. فلم يعبدوهم ، بل خضعوا لهم في التحريم والتحليل فصاروا أرباباً في مجال التقنين والتشريع.

روى الثعلبي باسناده عن عدي بن حاتم قال : أتيت رسول الله وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال لي : «يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك» قال : فطرحته ، ثم انتصب إليه وهو يقرأ هذه الآية : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً) (٢) حتى فرغ منها ، فقلت : إنّا لسنا نعبدهم ، فقال : «أليس يحرّمون ما أحله الله فتحرّمونه ، ويحلّون ما حرّم الله فتتحلّونه؟» قال : فقلت : بلى ، قال : «فتلك عبادة» (٣).

وأين هذا ممّا عليه أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ روى جابر بن عبد الله عن أبي جعفر

__________________

(١) تاريخ الخلفاء : ١٦.

(٢) التوبة : ٣١.

(٣) تفسير الثعلبي : ٥ / ٣١٤.

٥١٦

الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : «يا جابر إنّا لو كنّا نحدّثكم برأينا وهوانا ، لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله». (١)

وممّن وقف على خطورة الموقف ، الشوكاني قال : والحق إنّ قول الصحابي ليس بحجّة ، فانّ الله سبحانه وتعالى لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلاّ نبيّنا محمّداً ، وليس لنا إلاّ رسول واحد ، والصحابة ومن بعدهم مكلّفون على السواء باتّباع شرعه والكتاب والسنّة ، فمن قال : إنّه تقوم الحجّة في دين الله بغيرهما فقد قال في دين الله بما لا يثبت وأثبت شرعاً لم يأمر الله به. (٢)

وممّن بالغ في حجّية قول الصحابي ـ غير المسند إلى الرسول ـ ابن قيّم الجوزية في كتابه «اعلام الموقعين» وقد أوضحنا حال أدلّته البالغة إلى ستة وأربعين دليلاً ، في تقديمنا لكتاب طبقات الفقهاء ، القسم الأوّل ، فلاحظ. (٣)

والعجب انّ الصحابة لم يدّعوا لأنفسهم هذا المقام ولم يغالوا في حقّهم ولم يتجاوزوا الحد ، وهذا هو عمر بن الخطاب يقول : وإنّي لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم ، وآمركم بأشياء لا تصلح لكم. (٤)

وقد شاع وذاع عن الخلفاء قولهم : أقول فيها برأيي فإن أصبتُ فمن الله ، وإن أخطأت فمنّي أو من الشيطان» فكيف يمكن أن يكون الرأي المردد بين الله وغيره حكماً شرعياً لازم الاتّباع إلى يوم البعث.

إن هذا إلاّ الغلو الواضح النابع من القول بعصمتهم من غير وعي.

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة : ١ / ١٧.

(٢) إرشاد الفحول : ٢١٤.

(٣) الفقه الإسلامي منابعه وأدواره : ٢٨٩ ـ ٣٠٣.

(٤) تاريخ بغداد : ١٤ / ٨١.

٥١٧

٢. العزوف عن نقد الصحابة

من مظاهر الغلو في الصحابة هو العزوف عن نقد الصحابة ، والمنع عن التكلم حول ما دار بينهم من النزاع والنقاش ، يقول إمام الحنابلة :

وخير هذه الأُمّة بعد نبيّها ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أبو بكر ، وخيرهم بعد أبي بكر عمر ، وخيرهم بعد عمر ، عثمان ، وخيرهم بعد عثمان علي ـ رضوان الله عليهم ـ خلفاء راشدون مهديّون ، ثمّ أصحاب محمّد بعد هؤلاء الأربعة لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم ، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ، ليس له أن يعفو عنه ، بل يعاقبه ثمّ يستتيبه ، فإن تاب قبل منه ، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة ، وجلده في المجلس حتّى يتوب ويراجع. (١)

وقال الإمام الأشعري : ونشهد بالجنة للعشرة الذين شهد لهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بها ونتولّى بها ونتولّى سائر أصحاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ونكفّ عمّا شجر بينهم ... (٢)

وقال أبو الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي (المتوفّى ٣٧٧ ه‍) عند ما ذكر عقائد أهل السنّة ومنها : الكفّ عن أصحاب محمد. (٣)

وعند ما يقف الباحث على مصادر جمة وتظهر أمامه أفانين من اقتراف المعاصي وسفك الدماء الطاهرة ، وهتك الحرمات ، ويجابههم بهذه الحقائق ، فإنّهم يلتجئون إلى ما يُروى عن عمر بن عبد العزيز وأحياناً عن الإمام أحمد بن حنبل من لزوم الإمساك عمّا شجر بين الصحابة من الاختلاف ، وكثيراً ما يقولون حول الدماء التي أُريقت بيد الصحابة ـ حيث قتل بعضهم بعضاً ـ تلك دماء طهّر الله

__________________

(١) كتاب السنة لأحمد بن حنبل : ٥٠.

(٢) الإبانة : ٤٠ ، ط دار النفائس ، ومقالات الإسلاميين : ٢٩٤.

(٣) التنبيه والردّ : ١٥.

٥١٨

منها أيدينا فلا نلوّث بها ألسنتنا.

غير أنّ هذه الكلمة ـ من أيّ شخص صدرت ـ تخالف القرآن الكريم والسنّة النبوية والعقل الصريح.

أمّا القرآن الكريم فقد وصف طوائف من الصحابة بالأوصاف التي سوف تقف عليها عند تصنيف الصحابة والتي منها الفسق وقال فيما قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ). (١)

وأمّا السنّة النبوية فهي تصف قتلة عمار بالفئة الباغية حيث قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «تقتلك الفئة الباغية ، تدعوهم إلى الجنّة ويدعونك إلى النار». (٢) وكان معاوية ، وعمرو بن العاص يقودان الفئة الباغية.

ويقول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في حقّ الخوارج : «تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق». (٣)

وهذه الأحاديث وأمثالها كثيرة مبثوثة في الصحاح والمسانيد ، فإذا كان الإمساك أمراً واجباً والإطلاق أمراً محرماً ، فلما ذا أطلق الوحي الإلهي والنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لسانهما بوصف هؤلاء بالأوصاف الماضية؟!

وأمّا العقل فلا يجوّز لنا أن نلبس الحق بالباطل ونكتم الحقّ ونكيل للظالم والعادل بمكيال واحد ، أمّا ما روي عن الإمام أحمد فلعلّه يريد به الإمساك عن الكلام فيهم بالباطل والهوى ، وأمّا الكلام فيهم بما اشتهر اشتهار الشمس في رائعة النهار ونقله المحدّثون والمؤرخون في كتبهم وأُشير إليه في الذكر الحكيم فلا معنى

__________________

(١) الحجرات : ٦.

(٢) الجمع بين الصحيحين : ٢ / ٤٦١ ، رقم ١٧٩٤.

(٣) السنّة لابن حنبل ، رقم ٤١.

٥١٩

للزوم الإمساك عنه.

ثمّ إنّه يُستشفّ من هذا الكلام أنّ الدماء التي أُريقت في وقائع الجمل وصفين والنهروان ، كانت قد سُفكت بغير حق ، وهذا ـ وأيم الحق ـ عين النصب ، وقضاء بالباطل ، وإلاّ فأي ضمير حرّ يحكم بأنّ قتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، كان قتالاً بغير حقّ؟! وكلّنا يعلم أنّ أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ كان على بيّنة من ربّه وبصيرة من دينه ، يدور معه الحقّ حيثما دار ، وهو الذي يقول : «والله لو أُعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصيَ اللهَ في نملة أسلبُها جِلْبَ شعيرة ما فعلتُ».

ما هذا التجنّي أمام الحقائق الواضحة؟!

أو ليس العزوف عن نقد الصحابة تكريساً للأخطاء ، وإيغالاً في التقديس؟!

أو ليس تنزيه الصحابة جميعاً تنكّراً للطبيعة البشرية.

إنّ النقد الموضوعي تعزيز لجبهة الحق ، وتمييز الخبيث من الطيّب ، والمبطل عن المحق قال سبحانه : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ). (١)

ولو كان الكفّ عمّا اقترفوا أمراً واجباً فلما ذا خرق النبي هذا الستر وأخبر عن رجوعهم عن الطريق المهيع.

وهذا هو الإمام البخاري يروي روايات كثيرة حول ارتداد بعض الصحابة بعد رحيل النبي ، نكتفي بواحدة منها.

إنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : بينما أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتّى إذا

__________________

(١) آل عمران : ١٧٩.

٥٢٠