الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

انّه لم يألكم نصحاً.

فسكت الناس فلما قرأ عليهم الكتاب سمعوا له وأطاعوا. (١)

وأمّا استخلاف عثمان فقد ذكره المؤرخون ونقتصر على نصّ ابن الأثير في كامله ، قال :

٢. انّ عمر بن الخطاب لما طعن قيل له : يا أمير المؤمنين لو استخلفت؟ فقال : مَنْ استخلف؟ لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته ، ولو كان سالم مولى حذيفة حياً لاستخلفته.

فقال رجل : أدلك عليه عبد الله بن عمر ، فقال عمر : قاتلك الله كيف استخلف من عجز عن طلاق امرأته ... إلى أن قال :

عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ انّهم من أهل الجنة ، وهم : علي وعثمان وعبد الرحمن وسعد والزبير بن العوام وطلحة بن عبد الله. فلما أصبح عمر دعا علياً وعثمان وسعداً وعبد الرحمن والزبير ، فقال لهم :

إنّي نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ، ولا يكون هذا الأمر إلاّ فيكم ، وقد قبض رسول الله وهو عنكم راض ، وانّي لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم ، ولكنّي أخافكم فيما بينكم فيختلف الناس ، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنها فتشاوروا فيها ، واختاروا رجلاً منكم ، فإذا مت فتشاوروا ثلاثة أيّام ، وليصلّ بالناس صهيب ، ولا يأتي اليوم الرابع إلاّ وعليكم أمير.

فاجتمع هؤلاء الرهط في بيت حتّى يختاروا رجلاً منهم.

قال لصهيب : صلّ بالناس ثلاثة أيام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على

__________________

(١) الكامل في التاريخ : ٢ / ٢٩٢ ؛ طبقات ابن سعد الكبرى : ٣ / ٢٠٠.

٤٦١

رءوسهم ، فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف ، وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رءوسهما ، وإن رضي ثلاثة رجلاً وثلاثة رجلاً ، فحكّموا عبد الله بن عمر ؛ فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر ، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع فيه الناس. (١)

وعلى هذه السيرة جرى أصحاب السياسة بعد حياة الرسول ولم يكن عندهم أيّ رؤى في تعيين الخليفة لا بالشورى ولا ببيعة أهل الحل والعقد ، بل كان التنصيص عندهم هو الطريق الوحيد ، لكن لا من الله سبحانه بل من جانب الخليفة الذي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة.

٣. روى المؤرخون انّه لما اغتيل عمر بن الخطاب وأحسّ بالموت ، أرسل ابنه عبد الله إلى عائشة واستأذن منها أن يدفن في بيتها مع رسول الله ومع أبي بكر ، فأتاها عبد الله ، فأعلمها ، فقالت : نعم وكرامة ، ثمّ قالت : يا بُني ، أبلغ عمر سلامي وقل له ، لا تدع أُمّة محمد بلا راع ، استخلف عليهم ، ولا تدعهم بعدك هملا ، فانّي أخشى عليهم الفتنة ، فأتاه فأعلمه. (٢)

٤. انّ عبد الله بن عمر دخل على أبيه قبيل وفاته فقال : إنّي سمعت الناس يقولون مقالة ، فآليت أن أقولها لك ، وزعموا انّك غير مستخلف وانّه لو كان لك راعي إبل أو غنم ثمّ جاءك وتركها لرأيت ان قد ضيّع فرعاية الناس أشد. (٣)

٥. قدم معاوية المدينة لأخذ البيعة من أهلها لابنه يزيد ، فاجتمع مع عدّة من الصحابة ، وأرسل إلى عبد الله بن عمر فأتاه وخلا به ، وكلمه بكلام ، وقال : انّي كرهت أن أدع أُمّة محمد بعدي كالضأن لا راعي لها. (٤)

__________________

(١) الكامل في التاريخ : ٣ / ٣٥.

(٢) الإمامة والسياسة : ١ / ٣٢.

(٣) حلية الأولياء : ١ / ٤٤.

(٤) الإمامة والسياسة : ١ / ١٦٨.

٤٦٢

الآن حصحص الحق

إنّ هذا البحث الضافي المقرون بالشواهد والدلائل التاريخية يثبت بوضوح انّ نظام الحكم بعد رحيل النبي كان قائماً على التنصيب من الله سبحانه كتنصيبه للنبي ، وتشهد على ذلك الأُمور المتقدّمة التي نأتي بخلاصتها ليستنتج منها النتيجة المبتغاة ، وإليك إعادة الدلائل إجمالاً :

١. انّ الدولة الإسلامية الفتية كانت محاطة بعد وفاة النبي بأعداء في الداخل والخارج ، فمقتضى المصلحة العامة في تلك الظروف الحرجة تعيين الإمام لئلاّ تُترك الدولة بعد وفاة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عرضة للاختلاف وبالتالي تمكن أعداءها منها.

٢. انّ حياة العرب في عاصمة الإسلام وخارجها كانت حياة قبلية والتعصبات العشائرية لا تزال راسخة في نفوسهم ، وترك أمر الخلافة إلى مجتمع هذا حاله يؤدّي إلى التشاغل والاختلاف وبالتالي إلى القتل والدمار.

٣. انّ الفراغات الهائلة الطارئة بعد رحيل النبي على ما تقدم لا يسد إلاّ بتنصيب من يكون له مؤهلات علمية ونفسية يقوم بوظائف النبي في تلك المجالات دون أن يكون نبياً أو رسولاً والذي يتمتع بهذه المؤهلات يجب أن يكون خاضعاً لرعاية إلهية ولا يعرّف إلاّ من جانبه.

٤. انّ تصور النبي للخلافة الإسلامية هو إيكالها إلى الله سبحانه.

٥. كما أنّ تصور الصحابة وسيرتهم في الخلافة هي سيرة التنصيب وكانوا يحتجون بأنّ في تركه تعريضاً للأُمّة للهلاك والدمار وفريسة للذئاب والأعداء.

وهل يمكن أن يلتفت الخلفاء وأُمّ المؤمنين إلى ضرورة التنصيب صيانة للأُمّة

٤٦٣

عن وقوعها فريسة للأعداء ولا يلتفت إليه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الذي أُوتي من العلم ما أُوتي ، ويقول سبحانه في حقّه : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً). (١)

كلّ ذلك يعرب عن أنّ القائد الحكيم بأمر من الله سبحانه سلك مسلكاً ونهج منهجاً يطابق هذه الأُصول والمقدمات وما خالفها وعيّن القائد بعده في حياته وأعلنه للأُمّة في موسم أو مواسم.

هذا ما أوصلنا إليه السبر والتقسيم والمحاسبة في الأُمور الاجتماعية والسياسية فيجب علينا عندئذ الرجوع إلى الكتاب والسنّة لنقف ونتعرف على ذلك القائد المنصوب ، ونذعن بأنّ عمل النبيّ كان مرافقاً لهذه الأُصول العقلائية التي تقدّمت. وهذا ما سيوافيك بعد دراسة نظرية مبدئية الشورى للحكم.

__________________

(١) النساء : ١١٣.

٤٦٤

الأمر الخامس

هل الشورى أساس الحكم والخلافة؟

ربما يتصوّر بعض الكتاب الجدد انّ نظام الحكم في الإسلام هو الشورى ، وقد حاول غير واحد من المعاصرين صبّ صيغة الحكومة الإسلامية على أساس المشورة بجعله بمنزلة الاستفتاء الشعبي بملاحظة انّه لم يكن من الممكن بعد وفاة النبي مراجعة كلّ الأفكار لقلّة وسائل المواصلات فاكتفوا بالشورى ، واستدلّوا عليه بآيتين كريمتين :

١. (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ). (١)

٢. (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ). (٢)

هذه النظرية وإن كانت لها روعة خاصة خصوصاً وانّها تتجاوب مع روح العصر لكن الواقع على خلافها لما عرفت من أنّ عمر بن الخطاب أخذ بزمام الحكم بتعيين الخليفة الأوّل ، وانّ الثالث استتب له الأمر بشورى سداسية عيّنها نفس الخليفة ، حتّى أنّ الخليفة الأوّل أخذ زمام الحكم ببيعة نفرات قليلة ، وهم :

__________________

(١) آل عمران : ١٥٩.

(٢) الشورى : ٣٨.

٤٦٥

عمر بن الخطاب وأبو عبيدة ، من المهاجرين وبشر بن سعد ، من الخزرج ، وأسيد بن حضير من الأنصار ، وأمّا الباقون من رجال الأوس لم يبايعوا أبا بكر إلاّ تبعاً لرئيسهم «سعد بن حضير» ، كما أنّ الخزرجيين رغم حضورهم في السقيفة ، امتنعوا من البيعة لأبي بكر. (١)

وقد غاب عن المجلس كبار الصحابة كالإمام علي ـ عليه‌السلام ـ والمقداد ، وأبي ذر ، وحذيفة بن اليمان ، وأبي بن كعب ، وطلحة ، والزبير وعشرات آخرين من الصحابة. دون أن يكون هناك شورى وإنّما وقعت الأُمّة أمام عمل مفروغ عنه.

وأحسن كلمة تعبر عن خلافة أبي بكر ما ذكره عمر ابن الخطاب بقوله : ... إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت ، ألا وانّها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها ، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر ، من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه ، تغرّة ان يقتلا. (٢)

نقد كون الشورى مبدأ الحكم

إنّ هنا أُموراً تثبت بوضوح على أنّ الشورى لم يكن مبدأً لنظام الحكم بعد رحيل الرسول ، وإليك الإشارة إليها.

١. لو كان أساس الحكم هو الشورى ، لوجب على الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ التصريح به أوّلاً ، وبيان حدوده وخصوصياته ثانياً ، بأن يبين من هم الذين يشاركون في الشورى ، هل هم القراء وحدهم ، أو السياسيون أو القادة العسكريون أو الجميع؟ وما هي شرائط المنتخب؟ وأنّه لو حصل هناك اختلاف في الشورى فما هو

__________________

(١) راجع تاريخ الطبري : ٢ / ٤٤٥.

(٢) صحيح البخاري : ٨ / ١٦٩ ، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت.

٤٦٦

المرجح؟ هل هو كمية الآراء وكثرتها ، أو الرجحان بالكيفية ، وخصوصيات المرشحين وملكاتهم النفسية والمعنوية؟

فهل يصحّ سكوت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على الاجابة عن هذه الأسئلة التي تتصل بجوهر مسألة الشورى ، وقد جعل الشورى طريقاً إلى تعيين الحاكم؟

٢. انّ القوم يعبّرون عن أعضاء الشورى بأهل الحل والعقد ، ولا يفسرونه بما يرفع إبهامه ، فمن هم أهل الحل والعقد؟ وما ذا يحلون وما ذا يعقدون؟ أهم أصحاب الفقه والرأي الذين يرجع إليهم الناس في أحكام دينهم؟ وهل يشترط حينئذ درجة معينة من الفقه والعلم؟ وما هي تلك الدرجة؟ وبأي ميزان توزن؟ ومن إليه يرجع الأمر في تقديرها؟ أم غيرهم ، فمن هم؟

وربما تجد من يبدل كلمة أهل الحلّ والعقد ب «الأفراد المسئولين» وما هو إلاّ وضع كلمة مجملة مكان كلمة مثلها.

٣. وعلى فرض كون الشورى أساس الحكم ، فهل يكون انتخاب أعضاء الشورى ملزماً للأُمّة ، ليس لهم التخلّف عنه؟ أو يكون بمنزلة الترشيح حتّى تعطي الأُمّة رأيها فيه؟ وما هو دليل كلّ منهما؟

هذه الأسئلة كلّها ، لا تجد لها جواباً في الكتاب والسنّة ولا في كتب المتكلّمين ، ولو كانت مبدأً للحكم لما كان السكوت عنها سائغاً ، بل لكان على عاتق التشريع الإسلامي الإجابة عنها وإضاءة طرقها.

٤. انّ الحكومة الإسلامية دعامة الدين وأساس نشر العدل والقسط في المجتمع ودعوة الناس من الأديان كافة إلى الإسلام إلى ما لها من الفوائد العظيمة التي لا تدرك ولا توصف بالبيان.

فلو كانت صيغة الحكومة هي التنصيب فقد أدى التشريع الإسلامي

٤٦٧

وظيفته وجاز له السكوت عن البحث حول الحكومة وصيغتها وسائر الأُمور الراجعة إليها ، وأمّا لو كانت صيغة الحكومة من الشورى أو البيعة فلما ذا لم يرد في الكتاب والسنّة التصريح بذلك الأمر وبيان شرائط الشورى من المنتخِب والمنتخَب.

انّا نرى أنّه روي عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حول القدر نحو ٢٥٠ رواية ، وحول آداب التخلي ما لا يحصى ، وهكذا في أكثر الأُمور العادية النازلة مرتبة ومكانة ، فهل من المعقول سكوت التشريع الإسلامي عن أمر بالغ الأهمية والخطورة وإسهاب الكلام في أُمور عادية؟!

وأمّا الاستدلال بالآيتين الكريمتين فلا يصحّ تماماً في المقام.

أمّا الآية الأُولى أوّلاً : قوله سبحانه : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) (١) فالخطاب فيها متوجه إلى الحاكم الذي استقرت حكومته ، فيأمره سبحانه أن ينتفع من آراء رعيته فأقصى ما يمكن التجاوز به عن الآية ، هو انّ من وظائف كلّ الحكام التشاور مع الأُمّة ، وأمّا انّ الخلافة بنفس الشورى ، فلا يمكن الاستدلال عليه بهذه الآية.

وثانياً : انّ المتبادر من الآية هو أنّ التشاور لا يوجب حكماً للحاكم ، ولا يلزمه بشيء ، بل هو يقلب وجوه الرأي ويستعرض الأفكار المختلفة ، ثمّ يأخذ بما هو المفيد في نظره ، وذلك لقوله سبحانه في نفس الآية : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ، المعرب عن أنّ العزم والتصميم والاستنتاج من الآراء والأخذ بما هو الأصلح راجع إلى نفس المشير ، وهذا يتحقّق في ظرف يكون هناك مسئول تام الاختيار في استحصال الأفكار والعمل بالنافع منها ، حتّى يخاطب بقوله : (فَإِذا عَزَمْتَ) ،

__________________

(١) آل عمران : ١٥٩.

٤٦٨

وأمّا إذا لم يكن ثمة رئيس ، فلا تنطبق عليه الآية ، إذ ليس في انتخاب الخليفة بين المشيرين من يقوم بدعوة الأفراد للمشورة ، لغاية استعراض آرائهم ، ثمّ تمحيص أفكارهم ، والأخذ بالنافع منها ، ثمّ العزم القاطع عليه.

وكلّ ذلك يعرب عن أنّ الآية ترجع إلى غير مسألة الحكومة وما شابهها. ولأجل ذلك لم نر أحداً من الحاضرين في السقيفة احتجّ بهذه الآية.

وأمّا الآية الثانية فهي : قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ). (١)

فيقرر كيفية دلالتها على كون الشورى مبدأً للحكم بالبيان التالي :

أنّ المصدر (أمْر) أضيف إلى الضمير (هُمْ) ، وهو يفيد العموم والشمول لكلّ أمر ، ومنه الخلافة ، فيعود معنى الآية أنّ شأن المؤمنين في كلّ مورد ، شورى بينهم.

يلاحظ عليه : أنّ الآية تأمر بالمشورة في الأُمور المضافة إلى المؤمنين ، وأمّا أنّ تعيين الخليفة من الأُمور المضافة إليهم ، فهو أوّل الكلام ، والتمسّك بالآية في هذا المجال ، تمسّك بالحكم في إثبات موضوعه.

وبعبارة أُخرى : إنّ الآية حثّت على الشورى فيما يمتّ إلى شئون المؤمنين بصلة ، لا فيما هو خارج عن حوزة أُمورهم ، أمّا كون تعيين الإمام داخلاً في أُمورهم ، فهو أوّل الكلام ، إذ لا ندري هل هو من شئونهم أو من شئون الله سبحانه ، ولا ندري ، هل هي إمرة وولاية إلهية تتم بنصبه سبحانه وتعيينه ، أو إمرة وولاية شعبية ، ويجوز للناس التدخّل فيها. ومع هذا الترديد لا يصحّ التمسّك بالآية.

__________________

(١) الشورى : ٣٨.

٤٦٩

الأمر السادس

 النصوص الدينية وتنصيب عليّ ـ عليه‌السلام ـ للإمامة

قد تبيّن بما قدّمناه من الأبحاث على ضوء الكتاب والسنّة ومن خلال مطالعة تاريخ الإسلام والمحاسبة في الأُمور الاجتماعية والسياسيّة ، وفي ظلّ هداية العقل الصريح ، انّ خليفة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وإمام المسلمين يجب أن يكون منصوباً من جانب الرسول بإذن من الله سبحانه ، وعندئذ يلزمنا الرجوع إلى الكتاب والسنّة لنقف على ذلك القائد المنصوب فنقول :

إنّ من أحاط بسيرة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يجد علي بن أبي طالب وزير رسول الله في أمره وولي عهده وصاحب الأمر من بعده ، ومن وقف على أقوال النبي وأفعاله في حلّه وترحاله ، يجد نصوصه في ذلك متواترة ، كما أنّ هناك آيات من الكتاب العزيز تهدينا إلى ذلك ، ونحن نكتفي في هذا المجال بذكر آية الولاية من الكتاب ونتبعها بحديثي المنزلة والغدير :

١. آية الولاية

قال سبحانه :

٤٧٠

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ). (١)

وقبل الاستدلال بالآية نذكر شأن نزولها ، روى المفسرون عن أنس بن مالك وغيره انّ سائلاً أتى المسجد وهو يقول : من يقرض المليء الوفيّ ، وعليّ راكع يشير بيده للسائل : اخلع الخاتم من يدي ، فما خرج أحد من المسجد حتى نزل جبرئيل ب :

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ). (٢)

وإليك توضيح الاستدلال :

إنّ المستفاد من الآية انّ هناك أولياء ثلاثة وهم : الله تعالى ، ورسوله ، والمؤمنون الموصوفون بالأوصاف الثلاثة ، وانّ غير هؤلاء من المؤمنين هم مولّى عليهم ، ولا يتحقّق ذلك إلاّ بتفسير الولي بالزعيم والمتصرّف في شئون المولّى عليه ، إذ هذه الولاية تحتاج إلى دليل خاص ، ولا يكفي الإيمان في ثبوتها ، بخلاف ولاية المحبّة والنصرة ، إذ هما من فروع الإيمان ، فكلّ مؤمن محبّ لأخيه المؤمن وناصر له.

__________________

(١) المائدة : ٥٥.

(٢) رواه الطبري في تفسيره : ٦ / ١٨٦ ؛ والجصاص في أحكام القرآن : ٢ / ٤٤٦ ؛ والسيوطي في الدر المنثور : ٢ / ٢٩٣ ؛ وغيرهم. وأنشأ حسّان بن ثابت في ذلك أبياته المعروفة ، وهي :

أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي

وكلّ بطيء في الهدى ومسارع

أيذهب مدحي والمحبين ضائعاً

وما المدح في ذات الإله بضائع

فأنت الذي أعطيت إذ أنت راكع

فدتك نفوس القوم يا خير راكع

بخاتمك الميمون يا خير سيد

ويا خير شار ثم يا خير بائع

فأنزل فيك الله خير ولاية

وبيَّنها في محكمات الشرائع

٤٧١

هذا مضافاً إلى الاختصاص المستفاد من كلمة إنّما وأحاديث شأن النزول الواردة في الإمام علي ـ عليه‌السلام ـ ، فهذه الوجوه الثلاثة تجعل الآية كالنصّ في الدلالة على ما يرتئيه الإمامية في مسألة الإمامة.

فإن قلت : إذا كان المراد من قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) هو الإمام علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ فلما ذا جيء بلفظ الجماعة؟

قلت : جيء بذلك ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه ، ولينبِّه على أنّ سجيَّة المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان وتفقّد الفقراء حتى إن لزمهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة ، لم يؤخّروه إلى الفراغ منها. (١)

وهناك وجه آخر أشار إليه الشيخ الطبرسي ، وهو أنّ النكتة في إطلاق لفظ الجمع على أمير المؤمنين ، تفخيمه وتعظيمه ، وذلك انّ أهل اللغة يعبّرون بلفظ الجمع عن الواحد على سبيل التعظيم ، وذلك أشهر في كلامهم من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه. (٢)

ربما يقال إنّ المراد من الوليّ في الآية ليس هو المتصرف ، بل المراد الناصر والمحبّ بشهادة ما قبلها وما بعدها ، حيث نهى الله المؤمنين أن يتّخذوا اليهود والنصارى أولياء ، وليس المراد منه إلاّ النصرة والمحبة ، فلو فُسّرت في الآية بالمتصرّف يلزم التفكيك. (٣)

والجواب عنه : أنّ السّياق إنّما يكون حجّة لو لم يقم دليل على خلافه ، وذلك

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٦٤٩ ، دار الكتاب العربي ، بيروت.

(٢) مجمع البيان : ٤٣ / ٢١١.

(٣) الإشكال للرازي في : مفاتيح الغيب : ١٢ / ٢٨.

٤٧٢

لعدم الوثوق حينئذ بنزول الآية في ذلك السياق ، إذ لم يكن ترتيب الكتاب العزيز في الجمع موافقاً لترتيبه في النزول بإجماع الأُمّة ، وفي التنزيل كثير من الآيات الواردة على خلاف ما يعطيه السياق كآية التطهير المنتظمة في سياق النساء مع ثبوت النص على اختصاصها بالخمسة أهل الكساء. (١)

٢. حديث «المنزلة»

روى أهل السير والتاريخ انّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ خلّف عليّ بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ على أهله في المدينة عند توجّهه إلى تبوك ، فأرجف به المنافقون ، وقالوا ما خلّفه إلاّ استثقالاً له وتخوّفاً منه ، فضاق صدره بذلك ، فأخذ سلاحه وأتى النبيّ وأبلغه مقالتهم ، فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ :

«كذبوا ، ولكنّي خلّفتك لما تركت ورائي ، فارجع واخلف في أهلي وأهلك ، أفلا ترضى يا عليّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي؟». (٢)

إضافة كلمة «منزلة» ـ وهي اسم جنس ـ إلى هارون يقتضي العموم ، فالرواية تدلّ على أنّ كلّ مقام ومنصب كان ثابتاً لهارون فهو ثابت لعليّ ، إلاّ ما استثني وهو النبوّة ، بل الاستثناء أيضاً قرينة على العموم ولولاه لما كان وجه للاستثناء ، وكون المورد هو الاستخلاف على الأهل لا يدلّ على الاختصاص ، فإنّ المورد لا يكون

__________________

(١) المراجعات : ١٦٧ ، الرقم ٤٤.

(٢) السيرة النبوية لابن هشام : ٢ / ٥١٩ ـ ٥٢٠. وقد نقله من أصحاب الصحاح ، البخاري في غزوة تبوك : ٦ / ٣ ، ط ١٣١٤ ؛ ومسلم في فضائل علي : ٧ / ١٢٠ ؛ وابن ماجة في فضائل أصحاب النبي : ١ / ٥٥ ؛ والإمام أحمد في غير مورد من مسنده ، لاحظ : ١ / ١٧٣ ، ١٧٥ ، ١٧٧ ، ١٧٩ ، ١٨٢ ، ١٨٥ ، ٢٣٠ ؛ وغيرهم من الأثبات الحفاظ.

٤٧٣

مخصِّصاً ، كما لو رأيت الجنب يمسّ آية الكرسي مثلاً فقلت له لا يمسَّن آيات القرآن محدث ، يكون دليلاً على حرمة مسّ القرآن على الجنب مطلقاً.

وأمّا منزلة هارون من موسى فيكفي في بيانها قوله سبحانه حكاية عن موسى :

(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي). (١)

وقد أُوتي موسى جميع ذلك كما يقول سبحانه :

(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى). (٢)

وقد استخلف موسى أخيه هارون عند ذهابه إلى ميقات ربّه مع جماعة من قومه ، قال سبحانه :

(وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ). (٣)

وهذا الاستخلاف وإن كان في قضية خاصّة ووقت خاص ، لكن اللفظ مطلق والمورد لا يكون مخصّصاً. ومن هنا لو فرض غيبة أُخرى لموسى من قومه مع عدم تنصيصه على استخلاف هارون كان خليفة له بلا إشكال. وهارون وإن كان شريكاً لموسى في النبوّة إلاّ أنّ الرئاسة كانت مخصوصة لموسى ، فموسى كان وليّاً على هارون وعلى غيره ، وهذا دليل على أنّ منزلة الإمامة منفصلة من النبوة ، وإنّما

__________________

(١) طه : ٣٢٢٩.

(٢) طه : ٣٦.

(٣) الأعراف : ١٤٢.

٤٧٤

اجتمع الأمران لأنبياء مخصوصين ، لأنّ هارون لو كان له القيام بأمر الأُمّة من حيث كان نبياً لما احتاج فيه إلى استخلاف موسى إيّاه وإقامته مقامه. (١)

٣. حديث «الغدير»

حديث الغدير ، ممّا تواترت به السنّة النبويّة وتواصلت حلقات أسانيده منذ عهد الصحابة والتابعين إلى يومنا الحاضر ، رواه من الصحابة (١١٠) صحابياً ومن التابعين (٨٤) تابعياً ، وقد رواه العلماء والمحدّثون في القرون المتلاحقة ، وقد أغنانا المؤلّفون في الغدير عن إراءة مصادره ومراجعه ، وكفاك في ذلك كتب لمّة كبيرة من أعلام الطائفة ، منهم : العلاّمة السيد هاشم البحراني (المتوفّى ١١٠٧ ه‍) مؤلّف «غاية المرام» ، والسيد مير حامد حسين الهندي (المتوفّى ١٣٠٦ ه‍) مؤلّف «العبقات» ، والعلاّمة الأميني (المتوفّى ١٣٩٠ ه‍) مؤلف «الغدير» ، والسيد شرف الدين العاملي (المتوفّى ١٣٨١ ه‍) مؤلّف «المراجعات».

ومجمل الحديث هو انّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أذَّن في الناس بالخروج إلى الحجّ في السنة العاشرة من الهجرة ، وأقلّ ما قيل انّه خرج معه تسعون ألفاً ، فلمّا قضى مناسكه وانصرف راجعاً إلى المدينة ووصل إلى غدير «خم» ، وذلك يوم الخميس ، الثامن عشر من ذي الحجّة ، نزل جبرئيل الأمين عن الله تعالى بقوله :

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ). (٢)

فأمر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أن يردّ من تقدّم ، ويحبس من تأخّر حتى إذا أخذ القوم منازلهم نودي بالصلاة ، صلاة الظهر ، فصلّى بالناس ، ثمّ قام خطيباً وسط القوم

__________________

(١) مجمع البيان : ٤٣ / ٤٧٣.

(٢) المائدة : ٦٧.

٤٧٥

على أقتاب الإبل ، فقال : «الحمد لله ونستعينه ونؤمن ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا. الذي لا هادي لمن أضلّ ولا مضلّ لمن هدى ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله.

أمّا بعد ؛ أيّها الناس قد نبّأني اللطيف الخبير : أنّه لم يعمّر نبيّ إلاّ مثل نصف عمر الذي قبله ، وإنّي أُوشك أن ادعى فأُجيب ، وإنّي مسئول ، وأنتم مسئولون ، فما ذا أنتم قائلون؟».

قالوا : نشهد إنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيراً.

قال : «ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، وأنّ جنّته حق ، وناره حق ، وأنّ الموت حق ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور؟».

قالوا : بلى نشهد بذلك. قال : «اللهمّ اشهد ـ ثمّ قال : ـ أيّها الناس ألا تسمعون؟» قالوا : نعم.

قال : «فإنّي فرط على الحوض ، وأنتم واردون على الحوض ، وإنّ عرضه ما بين صنعاء وبصرى ، فيه أقداح عدد النجوم من فضة ، فانظروا كيف تخلّفوني في الثقلين».

فنادى مناد : وما الثقلان يا رسول الله؟

قال : «الثقل الأكبر : كتاب الله ، طرف بيد الله عزّ وجلّ وطرف بأيديكم ، فتمسّكوا به لا تضلّوا ؛ والآخر الأصغر : عترتي ، وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فسألت ذلك لهما ربّي ، فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا».

٤٧٦

ثمّ أخذ بيد علي فرفعها حتّى رئي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون ، فقال : «أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟» قالوا : الله ورسوله أعلم.

قال : «إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه ـ يقولها ثلاث مرّات ، وفي لفظ أحمد إمام الحنابلة : أربع مرّات ، ثمّ قال : ـ اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبّه ، وأبغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار ، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب». ثمّ لم يتفرّقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) الآية. فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «الله أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضا الربّ برسالتي ، والولاية لعليّ من بعدي».

ثمّ طفق القوم يهنّئون أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ وممّن هنّأه ـ في مقدّم الصحابة ـ الشيخان : أبو بكر وعمر ، كلّ يقول : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة. قال ابن عبّاس : وجبت ـ والله ـ في أعناق القوم.

فقال حسّان : ائذن لي يا رسول الله أن أقول في عليّ أبياتاً تسمعهنّ ، فقال : «قل على بركة الله» فقام حسّان ، فقال : يا معشر مشيخة قريش أتبعها قولي بشهادة من رسول الله في الولاية ماضية ، ثمّ قال :

يناديهم يوم الغدير نبيّهم

بخمّ واسمع بالرسول منادياً

٤٧٧

وقد جاءه جبريل عن أمر ربّه

بانّك معصوم فلا تك وانيا

وبلّغهم ما أنزل الله ربّهم

إليك ولا تخش هناك الأعاديا

فقام به إذ ذاك رافع كفّه

بكفّ عليّ معلن الصوت عاليا

فقال فمن مولاكم ووليّكم

فقالوا ولم يبدوا هناك تعاميا

إلهك مولانا وأنت وليّنا

ولن تجدن فينا لك اليوم عاصياً

فقال له قم يا عليّ فإنّني

رضيتك من بعدي إماماً وهادياً

فمن كنت مولاه فهذا وليّه

فكونوا له أنصار صدق موالياً

هناك دعا اللهم وال وليّه

وكن للذي عادى عليّاً معادياً

فيا ربّ انصر ناصريه لنصرهم

إمام هدى كالبدر يجلو الدياجيا(١)

__________________

(١) الغدير : ١ / ٣٤ ـ ٣٦ وج ٢ ، ص ٧٣. وقد جاءت مصادر الخطبة في ثنايا الكتاب ، بما لا يسعنا ذكرها في المقام

٤٧٨

دلالة الحديث

إنّ دلالة الحديث على إمامة مولانا أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ دلالة واضحة ، لم يشكّ فيها أيّ عربي صميم عصر نزول الحديث وبعده إلى قرون ، ولم يفهموا من لفظة المولى إلاّ الإمامة.

إنّ هناك قرائن حالية ومقالية تجعل الحديث كالنّصّ في أنّ المراد من المولى هو الأولى بالتصرّف في شئون المؤمنين على غرار ما كان للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من الولاية.

أمّا القرينة الحالية (المقامية) فيكفينا في بيانها ما ذكره التفتازاني بقوله :

«المولى قد يراد به المعتِق والمعتَق والحليف ، والجار ، وابن العمّ ، والناصر ، والأولى بالتصرّف ، وينبغي أن يكون المراد به في الحديث هو هذا المعنى ، ليطابق صدر الحديث ، ولأنّه لا وجه للخمسة الأُول وهو ظاهر ، ولا للسادس لظهوره ، وعدم احتياجه إلى البيان وجمع الناس لأجله».

ثمّ قال :

«لا خفاء في أنّ الولاية بالناس ، والتولّي والمالكية لتدبير أمرهم والتصرّف فيهم بمنزلة النبي ، وهو معنى الإمامة». (١)

وأمّا القرائن المقالية فكثيرة نشير إلى بعضها :

القرينة الأُولى : صدر الحديث وهو قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ :

«ألست أولى بكم من أنفسكم».

__________________

(١) شرح المقاصد : ٥ / ٢٧٤٢٧٣. ولكنّه رمى الحديث بعدم التواتر فلم يأخذ به في المقام حيث إنّ مسألة الإمامة ليست من الفروع عند الإماميّة.

أقول : لكنّها من مسائل الفروع عندهم ، فعلى فرض صحّة الرواية تكون حجّة وإن لم تكن متواترة عنده.

٤٧٩

أو ما يؤدّي مؤدّاه من ألفاظ متقاربة ، ثمّ فرَّع على ذلك قوله :

«فمن كنت مولاه فعليّ مولاه» وقد روى هذا الصدر من حفّاظ أهل السنّة ما يربو على أربعة وستين عالماً. (١)

القرينة الثانية : نعي النبيّ نفسه إلى الناس حيث إنّه يعرب عن أنّه سوف يرحل من بين أظهرهم فيحصل بعده فراغ هائل ، وانّه يُسدّ بتنصيب علي ـ عليه‌السلام ـ في مقام الولاية. (٢)

القرينة الثالثة : قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «يا أيّها الناس بم تشهدون؟» قالوا : نشهد أن لا إله إلاّ الله ، قال : «ثمّ مه؟» قالوا : وأنّ محمّداً عبده ورسوله. قال : «فمن وليكم؟» قالوا : الله ورسوله مولانا.

ثمّ ضرب بيده إلى عضد علي ، فأقامه ، فقال : «من يكن الله ورسوله مولاه فانّ هذا مولاه ...».

هذا لفظ جرير ، وقريب منه لفظ أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ ولفظ زيد بن أرقم وعامر بن ليلى ، وفي لفظ حذيفة بن أسيد بسند صحيح :

«ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله؟ ... ـ إلى أن قال

قالوا : بلى نشهد بذلك.

قال : «اللهم اشهد» ـ ثمّ قال : ـ يا أيّها الناس إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فهذا مولاه ، يعني

__________________

(١) لاحظ نقولهم في كتاب الغدير ، ج ١ ، موزَّعين حسب قرونهم.

(٢) المصدر السابق : ٣٧٠.

٤٨٠