الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

الأمر الثالث

 أنظمة الحكم في المجتمعات البشريّة

إنّ لنظم الحكم في العالم ألواناً وأنواعاً نذكر عناوينها باختصار :

١. النظام الملكي.

٢. الحكومة الأشرافية.

٣. حكومة الأغنياء.

٤. النظام الجمهوري.

إلى غير ذلك من الأنظمة المعروفة لدى السياسيّين ، غير أنّ المهم لنا في المقام كيفيّة نظام الحكم في الإسلام بعد رحيل الرسول الأكرم ، أمّا في زمانه فلا شكّ أنّه الحاكم المبعوث من الله سبحانه وليس للناس اختيار في ردّه وقبوله. يقول سبحانه : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ). (١)

إنّ البحث عن صيغة الحكومة الإسلامية من أهمّ المباحث لكنّها ـ للأسف ـ قلّت العناية بترسيم شكلها ومعالمها وما يرجع إليها من المباحث.

__________________

(١) الأحزاب : ٣٦.

٤٤١

أمّا الشيعة فبما أنّهم كانوا يمثّلون طول العصور جبهة الرفض والمعارضة للحكومات الجائرة لم تسنح لهم الظروف أن يتحدّثوا عن صيغة الحكومة الإسلامية ، وأمّا السنّة فقد تبعوا في ترسيمها الوضع السائد على الحكومات بعد رحيله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وزعمت أنّها حكومات إسلامية شرعية من دون أن ترفع النقاب عن واقع الحكومة الإسلامية ، ولأجل ذلك غابت الصورة الحقيقية للحكومة الإسلامية عن أذهان أكثر المسلمين ، ومن حاول أن يستجلي كيفية النظام الإسلامي يجب عليه رعاية الأُمور الثلاثة :

أوّلاً : العودة إلى المصادر الأساسية للإسلام ، ونعني بها الكتاب والسنّة المطهرة.

ثانياً : أن لا يخلطوا بين ما وقع وجرى على الساحة الإسلامية في مجال الحكم ، وبين ما هو مرسوم لنظام الحكم في أصل الشريعة المقدّسة.

ثالثاً : أن لا يخلطوا بين تاريخ المسلمين ونظام الدين ، لأنّ ذلك التاريخ لا يكون ممثّلاً واقعياً لكلّ تعاليم الدين ، ولا مبرزاً لجميع حقائقه.

إنّ التتبع في الكتاب والسنّة يقضي بأنّ الحكومة في الإسلام تقوم بأحد أمرين ، لكلّ واحد ظرفه الخاصّ :

١. التنصيص الإلهي على الحاكم الأعلى باسمه وشخصه. وهذا فيما لو كان هناك نصّ أو نصوص على حاكمية شخص معيّن على الأُمّة كما في النبيّ الأكرم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ باتّفاق المسلمين ، أو الأئمّة المعصومين حسب ما تذهب إليه الشيعة.

ومن المعلوم ، أنّه لو كان نصّ لما جاز العدول عنه إلى الطريق الآخر الذي سنشير إليه.

٢. التنصيص الإلهي على صفات الحاكم الأعلى ، وشروطه ، ومواصفاته

٤٤٢

الكليّة فيما إذا لم يكن هناك تنصيص على الشخص ، أو كان لكن الظروف تحول دون الوصول إليه والانتفاع بقيادته.

وبما انّ البحث في الرسالة مركّز على بيان صيغة الحكومة بعد رحيل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لا مطلقاً حتّى يشمل البحث الأحوال الحاضرة ، فتتحدد الدراسة ببيان نظام الحكم بعد وفاة الرسول الأكرم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقط وأمّا ما هي صيغة الحكم في الأحوال الحاضرة فهو رهن كتاب مفرد قمنا ببيانها في محاضراتنا. (١)

__________________

(١) لاحظ مفاهيم القرآن ، الجزء الثاني تجد فيه بغيتك.

٤٤٣

الأمر الرابع

 التنصيص الإلهي على الحاكم باسمه وشخصه

لا شكّ أنّ النبيّ الأكرم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كان حاكماً منصوباً من جانبه سبحانه ولم يختلف فيه أحد من المسلمين إنّما الاختلاف في صيغة الحكومة الإسلامية ، بعد رحيله ، فهل هي كانت على غرار حكومة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأنّ الله سبحانه نصب شخصاً أو أشخاصاً معيّنين للحكومة على لسان نبيّه ، أو أنّ الحكومة بعده ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على غرار الطريق الثاني ، أعني : التنصيص على الصفات والشروط الكليّة اللازمة للحاكم ، وحث الأُمّة على تعيين الحاكم من عند أنفسهم حسب تلك الصفات والشروط وعلى ضوء تلكم المواصفات؟

فهناك قولان ، ذهبت إلى كلّ واحد طائفة من المسلمين.

إنّ طائفة كبيرة من المسلمين ذهبت إلى أنّ صيغة الحكومة بعد الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كانت حكومة تنصيصية إلهية على غرار حكومة النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والله سبحانه نصّ على أسماء من يجب أن يخلفوا نبيّه على لسان نبيّه ، وأوجب طاعتهم وحرّم مخالفتهم.

ويمكن استجلاء الحقيقة بالطرق الثلاثة التالية :

١. هل المصالح كانت تقتضي التنصيص على الاسم ، أو كانت تقتضي

٤٤٤

التنصيص على الوصف وترك الاختيار للأُمّة؟

٢. إنّ الفراغ الذي يحدث برحيل النبيّ الأكرم هل يسدّ بانتخاب الأُمّة ، أو لا يسدّ إلاّ بالتنصيص على فرد معيّن؟

٣. ما هو المرتكز في أذهان المسلمين في حياة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وبعد رحيله؟

وها نحن نأخذ كلّ واحد من هذه الطرق بالبحث والتحليل.

٤٤٥

١

 المصالح العالية تقتضي التنصيص على الاسم

كانت المصالح بعد رحيل النبي مقتضية لأن ينصب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ شخصاً مكانه ، وكان في ترك الأمر إلى رأي الأُمّة مفسدة ، ويعلم ذلك من خلال دراسة أمرين

أ: الأُمّة الإسلامية والخطر الثلاثي

كانت الأُمّة الإسلامية قُبيل وفاة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ محصورة بأكبر امبراطوريتين عرفهما تاريخ تلك الفترة. امبراطوريتان كانتا على جانب كبير من القوّة والبأس والقدرة العسكرية المتفوّقة ممّا لم يتوصّل المسلمون إلى أقلّ درجة منها ... وتلك الامبراطوريتان هما : الروم وإيران. هذا من الخارج.

وأمّا من الداخل ، فقد كان الإسلام والمسلمون يُعانون من جماعة المنافقين الذين كانوا يشكّلون العدوّ الداخلي المبطّن (أو ما يسمى بالطابور الخامس).

كان المنافقون يتربصون بالنبي الدوائر ، حتّى أنّهم كادوا له ذات مرّة ، وأرادوا أن يجفلوا به بعيره في العقبة عند عودته من حجّة الوداع ، وربّما اتّفقوا مع

٤٤٦

اليهود والمشركين لتوجيه الضربات إلى الكيان الإسلامي من الداخل تخلّصاً من هذا الدين الذي هدّد مصالحهم ، ولقد كان المنافقون ولا يزالون أشدّ خطراً من أيّ شيء آخر على الإسلام ، وذلك لأنّهم كانوا يوجّهون ضرباتهم بصورة ماكرة وخفيّة ، وبنحو يخفى على العاديين من الناس.

لقد تصدى الذكر الحكيم لفضح المنافقين والتشهير بجماعتهم وخططهم في أكثر السور القرآنية ، مثل البقرة ، آل عمران ، المائدة ، الأنفال ، التوبة ، العنكبوت ، الأحزاب ، محمّد ، الفتح ، المجادلة ، الحديد ، والحشر.

كما نزلت في حقّهم سورة خاصة باسم المنافقين ، ولا يسعنا نقل معشار ما تآمروا به في الفترة المدنية ، ويكفي في ذلك قوله سبحانه في حقّهم : (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ). (١)

ويشير أيضاً إلى تآمرهم ليلاً ونهاراً حيث كانوا يبيّتون خلاف ما يظهرونه ويبدونه أمام النبيّ كما يقول : (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ). (٢)

وكان من المحتمل جدّاً أن يتفق هذا الخطر الثلاثي ـ الناقم على الإسلام ـ على محو الدين وهدم كلّ ما بناه الرسول طوال ثلاثة وعشرين عاماً من الجهود والمتاعب ، وتضييع كلّ ما قدّمه المسلمون من تضحيات في سبيل إقامته.

إنّ احتمال قيام المؤامرات واتّحاد قوى الشرك مع الطابور الخامس لم يكن يوم ذاك غائباً عن ذهنية المشرِف على الأوضاع السياسية فضلاً عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، ومثل هذا يفرض على القائد العليم أن يدحض جميع تلك المخططات والمؤامرات

__________________

(١) التوبة : ٤٨.

(٢) النساء : ٨١.

٤٤٧

بتنصيب خليفة من بعده عارفاً بالكتاب والسنّة ، شُجاعاً مِقْداماً ، واعياً بالأوضاع السياسية ، حازماً ، يمسك بزمام الأُمور ويقود المجتمع الإسلامي إلى ساحل الأمان وهذا بخلاف ما لو ارتحل دون أن يفكر بمستقبل الحكومة الإسلامية والمؤامرات والفتن التي تحدق بها ، ويدلي بالأمر إلى الأُمّة كي تنتخب لها قائداً من بعده ، فانّ اتخاذ مثل هذا الموقف كان على خلاف مصالح الأُمّة ، وبعيداً عن ذهنية من كان محيطاً بالأوضاع الداخلية لأُمّته والنزاعات الطائفية التي كانت قائمة على قدم وساق والتي ربما كانت تنتهي إلى حروب داخلية تجعل الأُمّة عرضة لأطماع الأعداء التوسعية التي يحكي عنها قوله سبحانه : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ). (١)

ب : النظام القبلي يمنع من الاتفاق على قائد

لقد كان من أبرز ما يتميز به المجتمع العربي قبل الإسلام ، هو النظام القبلي ، والتقسيمات العشائرية التي كانت تحتلّ ـ في ذلك المجتمع ـ مكانة كبرى ، وتتمتّع بأهميّة عظيمة.

فلقد كان شعب الجزيرة العربية ، غارقاً في هذا النظام الذي كان سائداً في كلّ أنحائها.

ولقد كان للقبيلة أكبر الدور في الحياة العربية ـ قبل الإسلام ـ وعلى أساسها كانت تدور المفاخرات وتنشد القصائد ، وتُبنى الأمجاد ، كما كانت هي منشأ أكثر الحروب وأغلب المنازعات التي ربما كانت تستمرّ قرناً أو أزيد ، كما حدث بين الأوس والخزرج ، أكبر قبيلتين عربيّتين في يثرب (المدينة) كلّفهم مئات القتلى قبل

__________________

(١) الطور : ٣٠.

٤٤٨

دخول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ المدينة.

ورغم ما أوجد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في ضوء التعاليم الإسلامية من تحولات عظيمة في حياة العرب إلاّ أنّ أكثرها كانت تتعلّق بقضايا عقائدية ومسائل أخلاقية ، لا بالحياة القبلية ، ولم يكن من الممكن أن ينقلب النظام القبلي العربي في خلال ثلاث وعشرين عاماً ويتبدل كلّيّاً. بل كان التعصب للقبيلة ولشيخها هو المظهر الأتم للحياة القبلية.

وعلى ضوء ذلك فهل يجوز في منطق العقل أن يترك القائد ـ كالنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ـ أُمّته المفطورة على التعصبات القبلية والاختلافات العرفيّة دون أن يعين مصير الخلافة بتنصيب خليفة من بعده ، وفي تعيينه قطع لدابر الاختلاف والفرقة ، وسدّ لأفواه الطامعين بالخلافة؟!

وأوضح دليل على التعصبات القبلية في الشئون الاجتماعية ولا سيما في الخلافة العامة ، هو الخلاف والتشاجر الذي ظهر في السقيفة حيث سارعت كلّ قبيلة إلى ترشيح زعيمها للخلافة متجاهلة كلّ المبادئ والتعاليم الإسلامية ، فهذا هو الناطق بلسان الأنصار يرفع عقيرته في السقيفة ويقول :

نحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منّا وقد دفّت دافّة من قومكم (١) إذ هم يريدون أن يجتازون (٢) ويغصبونا الأمر.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على رسوخ التعصبات القبلية في نفوسهم.

أفيصحّ لقائد محنك كالنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أن يترك الأمر لقوم هذا مبلغ تفكيرهم وتغلغلهم في العصبية القبلية متجاهلة كل المعايير الإسلاميّة في الحاكم

__________________

(١) جاء جماعة ببطء.

(٢) أي يدفعوننا من أصلنا.

٤٤٩

الإسلامي.

وهذا هو أحد المهاجرين الحاضرين في السقيفة يتعصّب لقريش ويقول :

«... لن تعرف العرب هذا الأمر (أي الزعامة) إلاّ لهذا الحيّ من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ...».

ومن قرأ تاريخ السقيفة والمناقشات الدائرة بين الحاضرين (الأوس والخزرج وجمع من المهاجرين) يلاحظ كيف تأجّجت نار العصبية بين هؤلاء بحيث أخذ كلّ يتعصّب لقبيلته دون أن ينظر إلى مصالح الإسلام والمسلمين.

إلى هنا تبين انّ المصلحة كانت تكمن في التنصيب للخلافة دون الإدلاء بها إلى الأُمّة ، وقد أوضحنا حالها من خلال دراسة أمرين :

١. الخطر الثلاثي المُحدِق بالإسلام والمسلمين.

٢. التعصبات القبلية التي تحول دون الاتّفاق على شيء وتؤجّج نار الطائفية بين المسلمين.

ونبحث الآن في العامل الثاني الذي يدعم نظرية التنصيب من جانب النبيّ بوحي من الله.

٤٥٠

٢

الفراغات الهائلة لا تسدّ إلاّ بالتنصيص

إنّ النبيّ الأكرم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، كان يملأ فراغاً كبيراً وعظيماً في حياة الأُمّة الإسلامية ، ولم تكن مسئولياته وأعماله مقتصرة على تلقّي الوحي الإلهي ، وتبليغه إلى الناس فحسب ، بل كان يقوم بالأُمور التالية :

١. يُفسِّر الكتاب العزيز ، ويشرح مقاصده وأهدافه ، ويكشف رموزه وأسراره.

٢. يُبيِّن أحكام الموضوعات التي كانت تَحْدُثُ في زمن دعوته.

٣. يَرُدّ على الحملات التشكيكية ، والتساؤلات العويصة المريبة التي كان يثيرها أعداء الإسلام من يهود ونصارى.

٤. يصون الدين من التحريف والدسّ ، ويراقب ما أخذه عنه المسلمون من أُصول وفروع ، حتّى لا تَزِلّ فيه أقدامهم.

وهذه الأُمور الأربعة كان النبي يمارسها ويملأ بشخصيته الرسالية ثغراتها. ولأجل جلاء الموقف نوضح كلّ واحد من هذه الأُمور.

٤٥١

أمّا الأمر الأوّل : فيكفي فيه قوله سبحانه : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (١) فقد وصف النبي في هذه الآية بأنّه مبيّن لما في الكتاب ، لا مجرّد تال له فقط.

وقوله سبحانه : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (٢) فكان النبي يتولى بيان مُجْمَلِهِ ومُطْلَقِهِ ومُقَيَّده ، بقدر ما تتطلبه ظروفه.

والقرآن الكريم ليس كتاباً عادياً ، على نسق واحد ، حتّى يستغني عن بيان النبي ، بل فيه المُحكَم والمتشابه ، والعام والخاص ، والمطلَق والمقيَّد ، والمنسوخ والناسخ ، يقول الإمام علي ـ عليه‌السلام ـ : «وخلّف (النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ) فيكم ما خلّفت الأنبياء في أُممها : كتاب ربّكم فيكم ، مبيّناً حلالَه وحرامه ، وفرائضه وفضائله ، وناسخه ومنسوخه ، ورُخَصَه وعزائمه ، وخاصّه وعامّه ، وعِبره وأمثاله ، ومُرسله ومَحْدُدَهُ ، ومحكمه ومتشابهه ، مفسّراً مجمله ، ومبيِّناً غوامضه». (٣)

وأمّا الأمر الثاني : فهو غني عن التوضيح ، فإنّ الأحكام الشرعية وصلت إلى الأُمّة عن طريق النبي ، سواء أكانت من جانب الكتاب أو من طريق السنّة.

وأمّا الأمر الثالث : فبيانه أنّ الإسلام قد تعرض ، منذ ظهوره ، لأعنف الحملات التشكيكية ، وكانت تتناول توحيده ورسالته وإمكان المعاد ، وحشر الإنسان ، وغير ذلك. وهذا هو النبي الأكرم ، عند ما قدم عليه جماعة من كبار النصارى لمناظرته ، استدلّوا لاعتقادهم بنبوة المسيح ، بتولده من غير أب ، فأجاب

__________________

(١) النحل : ٤٤.

(٢) القيامة : ١٩١٦.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١.

٤٥٢

النبي بوحي من الله سبحانه ، بأنّ أمر المسيح ليس أغرب من أمر آدم حيث ولد من غير أب ولا أُمّ قال سبحانه : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). (١)

وأنت إذا سبرت تفاسير القرآن الكريم ، تقف على أنّ قسماً من الآيات نزلت في الإجابة عن التشكيكات المتوجهة إلى الإسلام من جانب أعدائه من مشركين ويهود ونصارى وقد وردت حول المعاد جملة كثيرة من الشبهات التي كانوا يعترضون بها على عقيدة المعاد ، وأجاب القرآن عنها.

وأمّا الأمر الرابع : فواضح لمن لاحظ سيرة النبي الأكرم ، فقد كان هو القول الفصل وفصل الخطاب ، إليه يفيء الغالي ، ويلحق التالي ، فلم يُرَ إبّان حياته مذهب في الأُصول والعقائد ، ولا في التفسير والأحكام. وكان ـ بقيادته الحكيمة ـ يرفع الخصومات والاختلافات ، سواء فيما يرجع إلى السياسة أو غيرها. (٢)

هذه هي الأُمور التي مارسها النبي الأكرم أيّام حياته ، ومن المعلوم أنّ رحلته وغيابه صلوات الله عليه ، يخلّف فراغاً هائلاً ومفزعاً في هذه المجالات الأربعة ،فيكون التشريع الإسلامي حينئذ أمام أُمور ثلاثة :

الأوّل : أن لا يبدي الشارع اهتماماً بسدّ هذه الفراغات الهائلة التي ستحدث بعد الرسول ، ورأى تركَ الأُمور لتجري على عَواهنها.

__________________

(١) آل عمران : ٥٩. ولاحظ سورة الزخرف : ٦١٥٧.

(٢) يكفي في ذلك ملاحظة غزوة الحديبية ، وكيف تغلّب بقيادته الحكيمة على الاختلاف الناجم ، من عقد الصلح مع المشركين وما نجم في غزوة بني المصطلق من تمزيق وحدة الكلمة ، أو ما ورد في حجّة الوداع ، حيث أمر من لم يَسُق هدياً. بالإحلال ، ونجم الخلاف من بعض أصحابه ، فحسمه بفصله القاطع.

٤٥٣

الثاني : أن تكون الأُمّة ، قد بلغت بفضل جهود صاحب الدعوة في إعدادها ، حدّاً تقدر معه بنفسها على سدّ ذلك الفراغ.

الثالث : أن يستودع صاحب الدعوة ، كلّ ما تلقاه من المعارف والأحكام بالوحي ، وكلّ ما ستحتاج إليه الأُمّة بعده ، يستودعه شخصية مثالية ، لها كفاءة تَقَبُّلِ هذه المعارف والأحكام وتحمُّلها ، فتقوم هي بسد هذا الفراغ بعد رحلته صلوات الله عليه.

أمّا الاحتمال الأوّل : فساقط جداً ، لا يحتاج إلى البحث ، فإنّه لا ينسجم مع غرض البعثة ، فإنّ في ترك سدّ هذه الفراغات ضياعاً للدين والشريعة ، وبالتالي قطع الطريق أمام رُقيّ الأُمّة وتكاملها فيبقى أمامنا احتمالان ندرسهما تالياً.

دراسة الاحتمال الثاني

أن تكون الأُمّة قد بلغت بفضل جهود صاحب الدعوة في إعدادها حدّاً تقدر معه بنفسها على سدِّ ذلك الفراغ. غير أنّ التاريخ والمحاسبات الاجتماعية يبطلان هذا الاحتمال ويثبتان انّه لم يقدّر للأُمّة بلوغ تلك الذروة لتقوم بسدّ هذه الثغرات التي خلّفها غياب النبيّ الأكرم ، لا في جانب التفسير ولا في جانب الأحكام ، ولا في جانب ردّ التشكيكات ودفع الشبهات ، ولا في جانب صيانة الدين عن الانحراف.

أمّا في جانب التفسير ، فيكفي وجود الاختلاف الفاحش في تفسير آيات الذكر الحكيم حتى فيما يرجع إلى أعمال المسلمين اليومية كما هو الحال في تفسير آية الوضوء.

٤٥٤

وأمّا في مجال الأحكام ، فيكفي في ذلك الوقوف على أنّ بيان الأحكام الدينيّة حصل تدريجاً على ما تقتضيه الحوادث والحاجات الاجتماعية في عهد الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، ومن المعلوم انّ هذا النمط كان مستمرّاً بعد الرسول ، غير انّ ما ورثه المسلمون منه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لم يكن كافياً للإجابة عن ذلك ، أمّا الآيات القرآنية في مجال الأحكام فهي لا تتجاوز ثلاثمائة آية ، وأمّا الأحاديث في هذا المجال ، فالذي ورثته الأُمّة لا يتجاوز خمسمائة حديث ، وهذا القدر لا يفي بالإجابة عن جميع الموضوعات المستجدّة.

ولا نعني من ذلك انّ الشريعة الإسلامية ناقصة في إيفاء أغراضها التشريعية وشمول المواضيع المستجدّة ، بل المقصود انّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كان يراعي في إبلاغ الحكم حاجة الناس ومقتضيات الظروف الزمنية ، فلا بدّ في إيفاء غرض التشريع على وجه يشمل المواضيع المستجدة والمسائل المستحدثة أن يستودع أحكام الشريعة من يخلفه ويقوم مقامه.

وأمّا في مجال ردّ الشبهات والتشكيكات وإجابة التساؤلات ، فقد حصل فراغ هائل بعد رحلة النبيّ من هذه الناحية ، فجاءت اليهود والنصارى تترى ، يطرحون الأسئلة ، حول أُصول الإسلام وفروعه ، ولم يكن في وسع الخلفاء آنذاك الإجابة الصحيحة عنها ، كما يشهد بذلك التاريخ الموجود بأيدينا.

وأمّا في جانب صيانة المسلمين عن التفرقة ، والدّين عن الانحراف ، فقد كانت الأُمّة الإسلامية في أشدّ الحاجة إلى من يصون دينها عن التحريف وأبناءها عن الاختلاف ، فإنّ التاريخ يشهد على دخول جماعات عديدة من أحبار اليهود ورهبان النصارى ومؤبدي المجوس بين المسلمين ، فراحوا يدسّون الأحاديث الإسرائيلية والأساطير النصرانية والخرافات المجوسية بينهم ، ويكفي في ذلك أن

٤٥٥

يذكر الإنسان ما كابده البخاري من مشاقّ وأسفار في مختلف أقطار الدولة الإسلامية ، وما رواه بعد ذلك ، فإنّه ألفى الأحاديث المتداولة بين المحدثين في الأقطار الإسلامية ، تربو على ستمائة ألف حديث ، لم يصحّ لديه منها أكثر من أربعة آلاف ، وكذلك كان شأن سائر الذين جمعوا الأحاديث وكثير من هذه الأحاديث التي صحّت عندهم كانت موضع نقد وتمحيص عند غيرهم. (١)

فهذه المجعولات على لسان الوحي ، تقلع الشريعة من رأس ، وتقلب الأُصول ، وتتلاعب بالأحكام ، وتشوّش التاريخ ، أو ليس هذا دليلاً على عدم وفاء الأُمّة بصيانة دينها عن الانحراف والتشويش؟!

هذا البحث الضافي يثبت حقيقة ناصعة ، وهي عدم تمكّن الأُمّة ، مع ما لها من الفضل ، من القيام بسدِّ الفراغات الهائلة التي خلّفتها رحلة النبيّ الأكرم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ويبطل بذلك الاحتمال الثاني تجاه التشريع الإسلامي بعد عصر الرسالة. فيتعين الاحتمال الثالث الذي ندرسه تالياً.

دراسة الاحتمال الثالث

أن يستودع صاحب الدعوة ، كلّ ما تلقّاه من المعارف والأحكام بالوحي ، وكلّ ما ستحتاج إليه الأُمّة بعده ، شخصيّة مثالية ، لها كفاءة تقبُّل هذه المعارف والأحكام وتحمّلها ، فتقوم هي بسدِّ هذا الفراغ بعد رحلته ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وبعد بطلان الاحتمالين الأوّلين لا مناص من تعيُّن هذا الاحتمال ، فإنّ وجود إنسان مثالي كالنبيّ في المؤهّلات ، عارف بالشريعة ومعارف الدين ، ضمان لتكامل المجتمع ، وخطوة ضرورية في سبيل ارتقائه الروحي والمعنوي ، فهل يسوغ لله سبحانه أن

__________________

(١) لاحظ حياة محمد ، لمحمّد حسين هيكل ، الطبعة الثالثة عشرة : ٥٠٤٩.

٤٥٦

يهمل هذا الأمر الضروري في حياة الإنسان الدينية؟

إنّ الله سبحانه جهَّز الإنسان بأجهزة ضرورية فيما يحتاج إليها في حياته الدنيوية المادية ، ومع ذلك كيف يعقل إهمال هذا العنصر الرئيسي في حياته المعنوية والدينية؟!

يقول المفكّر الإسلامي الكبير ابن سينا :

إنّه تعالى قد زوّده بإنبات الشعر على أشفار عينيه وحاجبيه وتقعير الأخمص من القدمين لكي تكون حياته لذيذة غير متعبة ، فهل تكون حاجته إلى هذه الأُمور أشد من حاجته إلى الإمام المنصوب من الله الذي يضمن كماله بعلمه وتقواه ، وقيادته الحكيمة. (١)

ومن الواضح انّ التعرف على هذا الشخص الذي توفرت فيه مؤهلات غيبية لا يحصل إلاّ عن طريق تنصيبه من قبل النبي بأمر من الله سبحانه ، وهذا ما يدعم نظرية التنصيب مكان انتخاب الأُمّة.

__________________

(١) كتاب النجاة ، ص ٣٠٤.

٤٥٧

٣

 ما هو مرتكز الصحابة في صيغة الحكومة؟

لقد دلّت المحاسبات العقلية والاجتماعية السابقة على لزوم تنصيب الإمام من جانب الله تعالى ، وأثبتت أن إدلاء الأمر إلى نظر الأُمّة وانتخابها وتعيينها خطأ فاضح ، يأباه العقل وترفضه المصالح العامة وتعارضه المحاسبات الاجتماعية.

وهناك جانب آخر يسلط الضوء على نظرية الإمامة وهو تصور النبي وأصحابه للإمامة والخلافة.

أمّا الأوّل فالقرائن والشواهد تؤكد على أنّ مسألة الإمامة كانت عندهم تنصيبية وفيما ننقل من الشاهدين تصريح بذلك :

١. لما عرض الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ نفسه على بني عامر الذين جاءوا إلى مكة في موسم الحجّ ودعاهم إلى الإسلام ، قال له كبيرهم؟ أرأيت إن بايعناك على أمرك ثمّ أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟

فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء». (١)

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام : ٢ / ٤٢٤ ـ ٤٢٥.

٤٥٨

٢. لما بعث النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ سليط بن عمرو العامري إلى ملك اليمامة الذي كان نصرانياً ، يدعوه إلى الإسلام وقد كتب معه كتاباً ، فقدم على هوذة ، فأنزله وحباه وكتب إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يقول فيه : ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله ، وأنا شاعر قومي وخطيبهم ، والعرب تهاب مكاني فاجعل لي بعض الأمر أتّبعك.

فقدم سليط على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأخبره بما قال هوذة ، وقرأ كتابه ، فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «لو سألني سيابة من الأرض ما فعلت. باد وباد ما في يده». (١)

إنّ هذين النموذجين التاريخيين للّذين لم تمسّهما أيدي التحريف والتغيير يدلاّن خصوصاً الأوّل بوضوح كامل على تصور النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عن مسألة الخلافة والقيادة من بعده ، فهما يدلاّن على أنّ هذه المسألة كانت إذا طرحت على النبي ، وسئل عمّن سيخلفه في أمر قيادة الأُمّة كان يتجنب إرجاعها إلى نفسه أو إلى نظر الأُمّة ، بل يرجع أمرها إلى الله تعالى ، أو يتوقّف في إبداء النظر فيه على الأقل.

وأمّا تصوّر الصحابة لمسألة الخلافة والمرتكز في أذهانهم فقد كان يدور حول التنصيب ، أي سدّ الفراغ بتنصيب إمام سابق على إمامة إمام لاحق ، وما كان يدور في خلدهم ، انتخاب الشعب ، أو أهل الحلّ والعقد من الأُمّة ، وإليك شواهد على ذلك.

ما هو المرتكز في أذهان الصحابة؟

إنّ المتتبع في تاريخ الصحابة والخلفاء والذين تعاقبوا على مسند الخلافة بعد النبي ، يرى بوضوح انّ الطريقة التي اتّبعها أُولئك الصحابة ، والخلفاء كانت هي الطريقة الانتصابية ـ وإن كان الانتصاب من جانب شخص لا من الله

__________________

(١) طبقات ابن سعد الكبرى : ١ / ٢٦٢.

٤٥٩

سبحانه ـ لا الانتخابية الشعبية.

فالخليفة السابق كان يعين الخليفة اللاحق ، إمّا مباشرة أو بتعيين أشخاص يتولون تعيين الخليفة والاتفاق عليه ، ولم يترك أحد أُولئك أمر القيادة إلى نظر الأُمّة وإرادتها واختيارها ، أو يتكل على آراء المهاجرين والأنصار ، أو أهل الحلّ والعقد ليختاروا مَن يشاءون للخلافة والامرة.

فمن يلاحظ تاريخ الصدر الأوّل يرى انّ خلافة عمر ابن الخطاب تمت بتعيين من أبي بكر.

١. روى ابن الأثير في كامله أنّ أبا بكر أملى على عثمان عهده ، ولكنّه غشي عليه أثناء الإملاء ، فأكمله عثمان وكتب فيه استخلاف عمر من عند نفسه ، ثمّ إنّه لما أفاق أبو بكر من غشيته ، وافق على ما كتبه عثمان ، وإليك نصّ ما كتبه ابن الأثير :

إنّ أبا بكر أحضر عثمان بن عفان ليكتب عهده إلى عمر فقال له : اكتب بسم الله الرّحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين ، أمّا بعد ... ثمّ أُغمي عليه ... فكتب عثمان أمّا بعد : فانّي قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم ألكم خيراً.

ثمّ أفاق أبو بكر فقال : اقرأ عليّ ، فقرأ عليه ، فكبّر أبو بكر ، وقال : أراك خفت أن يختلف الناس ان متُّ في غشيتي.

قال عثمان : نعم.

قال : جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله.

فلما كتب العهد أمر به أن يقرأ على الناس فجمعهم ، وأرسل الكتاب مع مولى له ومعه عمر ، وكان عمر يقول للناس : انصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله

٤٦٠