الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

نبيّ بعده اسمه أحمد ، يقول سبحانه حاكياً عن المسيح : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ). (١)

فهذا النوع من التنبّؤ لا يخضع للبداء ، لأنّه على طرف النقيض من مصالح النبوّة ، إذ معنى ذلك إيجاد الفوضى عند ظهور النبيّ اللاحق. وقس على هذين المورد ، ما ورد عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حول المهدي وظهوره وبسطه العدل والقسط.

وبذلك يعلم أنّ ما يخضع للبداء في مقام الإثبات أُمور نادرة تتعلّق بأُمور خارجة عن النظام التشريعي والعقائدي ونسبتها إلى غيرها كنسبة الواحد إلى الأُلوف ، فلا يُورِث البداء في مثل تلك الأُمور أيّ شك وترديد في تنبّؤات الأنبياء.

أضف إلى ذلك انّه يشترط في صحّة البداء وقوعه في حياة المخبر ، كما هو الحال في قصة الخليل ويونس والمسيح والنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وعلى ذلك فما أخبر به النبي والوصي يحدد احتمال ظهور الخلاف بحياتهم ، فإذا انقضت آجالهم فلا يبقى أيّ موضوع للبداء.

فنخرج بالحصيلة التالية : انّ كلّ ما ورد في القرآن والسنّة والآثار بعد رحيل النبيّ من الأخبار أُمور محتومة لا يتطرّق إليها البداء.

الرابعة : البداء ومسألة جفّ القلم

إذا كان البداء بمعنى تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة فهو لا يجتمع مع ما روي عن النبي من أنّه قال لأبي هريرة : «جفّ القلم بما

__________________

(١) الصف : ٦.

٤٢١

أنت لاق» (١) ، فانّ الحديث يعرب عن تماميّة الأُمور والفراغ عن الأمر دون أي تجديد في المصير بالعمل وغيره.

أقول : إذا كان الميزان في صحّة العقيدة هو تطابقها مع كتاب الله العزيز والسنّة النبويّة المتضافرة أو المتواترة فيجب أن نعتمد عليهما لا على أخبار الآحاد وإنْ رواها الإمام البخاري في صحيحه ، وقد عرفت دلالة الكتاب العزيز على انّه سبحانه (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ). (٢) وقال سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). (٣)

إلى غير ذلك من الآيات الصحيحة في تمكّن الإنسان من تغيير ما قدّر.

وأمّا ما رواه أبو هريرة فلو أخذنا بحديثه فيُحمل على ما قدر في أُمّ الكتاب وفي علمه الذاتي سبحانه لا ما قُدِّر في لوح المحو والإثبات وفي مقام علمه الفعلي.

ويؤيّد ما ذكرنا ما رواه البخاري في باب أسماه «العمل بالخواتيم» ، وقد ورد في أحاديث الباب قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : وإنّما الأعمال بالخواتيم. (٤)

فإذا كانت العبرة بخواتيم الأعمال ، فمعنى ذلك انّ المصير يتغيّر ، ولو كان ما قدر ثابتاً كانت العبرة بالأوائل لا بالخواتيم.

إنّ القول بجفاف القلم وانّ الله سبحانه فرغ من الأمر عقيدة مستوردة ، انتحلتها اليهود كما أشار إليها سبحانه في القرآن الكريم بقوله : (قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) (٥) ، والآية وإن وردت في مورد الإنفاق ، ولكن العبرة بعموم اللفظ (يَدُ اللهِ

__________________

(١) صحيح البخاري : ٤ / ٢٣٠ ، كتاب القدر ، الحديث ٦٥٩٦.

(٢) الرحمن : ٢٩.

(٣) الرعد : ٣٩.

(٤) نفس المصدر : برقم ٦٦٠٧.

(٥) المائدة : ٦٤.

٤٢٢

 مَغْلُولَةٌ) دون خصوص المورد ، كما هو الحال في عامّة الآيات الواردة في سبب خاص.

يقول العلاّمة محمد هادي معرفة : إنّ ذكر الإنفاق كيف يشاء في ذيل الآية جاء بياناً لأحد مصاديق بسط يده تعالى وشمول قدرته ، وليس ناظراً إلى الانحصار فيه ، ولعلّ ذكر ذلك كان بسبب ما واجه المسلمين في إبّان أمرهم من الضيق وعدم التوفّر في تهيئة التجهيز الكافي والحصول على الإمكانات اللازمة ، فأخذت اليهود في الطعن عليهم بأنّ ذلك هو المقدّر لهم ، وليس بوسعه تعالى أن يفسح لهم المجال أو يوسع عليهم في المعاش. (١)

وفي رواية أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ تصريح بأنّ الفراغ من الأمر عقيدة اليهود ، قال الإمام علي بن موسى الرضا ـ عليه‌السلام ـ لسليمان بن حفص المروزي ، متكلّم خراسان وقد استعظم مسألة البداء في التكوين : «أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب» قال : أعوذ بالله من ذلك ، وما قالت اليهود؟ قال : «قالت اليهود : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) يعنون انّ الله قد فرغ من الأمر فليس يحدث شيئاً». (٢)

وروى الصدوق باسناده إلى إسحاق بن عمّار ، عمّن سمعه ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ انّه قال في الآية الشريفة : لم يعنوا انّه هكذا (أي مكتوف اليد) لكنّهم قالوا : قد فرغ من الأمر فلا يزيد ولا ينقص. فقال الله جلّ جلاله تكذيباً لقولهم : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) ألم تسمع الله عزّ وجلّ يقول : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). (٣)

__________________

(١) شبهات وردود : ٣٦١.

(٢) عيون أخبار الرضا : ١ / ١٤٥ ، باب ١٣ ، رقم ١.

(٣) توحيد الصدوق : ١٦٧ ، باب ٢٥ ، رقم ١.

٤٢٣

وممّن صرّح بما ذكرنا الراغب الاصفهاني في مفرداته ، قال : قيل : إنّهم لمّا سمعوا انّ الله قد قضى كلّ شيء قالوا : إذاً يد الله مغلولة ، أي في حكم المقيد لكونها فارغة. (١)

إنّ يهود عصر الرسالة استنكروا تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة ، وما هذا إلاّ لاعتقادهم بالفراغ عن التكوين والتشريع.

وبهذا فسّره الجبائي قوله سبحانه : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ). (٢)

وبهذا الشأن نزل قوله سبحانه : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (٣)

وممّا يشهد على أنّ القول بالفراغ عن الأمر وجفاف القلم من العقائد المستوردة هو ما عليه اليهود في عامّة القرون من أنّه سبحانه بعد ما فرغ من خلق السماوات والأرض خلال الستة أيام ، استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت جاء في سفر التكوين : فأكملت السماوات والأرض وكلّ جندها ، وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمله فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. (٤)

يقول سبحانه ردّاً على تلك العقيدة : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ). (٥)

__________________

(١) المفردات : ٣٦٣.

(٢) البقرة : ١١٥ ، لاحظ مجمع البيان : ١ / ١٩١.

(٣) البقرة : ١٠٦.

(٤) سفر التكوين : الاصحاح : ٢ / ١.

(٥) ق : ٣٨.

٤٢٤

واللغب في اللغة بمعنى التعب والإعياء وما يقرب منه.

أخي العزيز

هذا هو البداء ، وهذا هو معناه في الكتاب والسنّة ، وتلك هي آثاره البنّاءة في شخصية الإنسان.

وهو من صميم الدين ، ولا يلازمه نسبة الجهل إلى الله تعالى.

ولو قدحت في ذهنك شبهة ، فأعد القراءة بوعي وإمعان حتّى تزول الشبهة ، وتقف على الجواب في ثنايا ما ذكرناه ، بفضل من الله.

٤٢٥
٤٢٦

الفصل التاسع

 نظام الحكم في الإسلام بعد رحلة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٤٢٧
٤٢٨

الأمر الأوّل

الحكومة حاجة ملحَّة

إنّ وجود الدولة في الحياة البشرية ليس أمراً تقتضيه الحياة المعاصرة التي اشتدت فيها الحاجة إلى الحكومة ، بل هي حاجة طبيعية ضرورية للإنسان الاجتماعي عبر القرون.

فإذا الدولة حاجة طبيعية تقتضيها الفطرة الإنسانية بحيث يُعدّ الخارج على الدولة ونظامها وتدبيرها : إمّا متوحشاً ساقطاً ، أو موجوداً يفوق الموجود الإنساني.

انّ استعراض ما قام به الباحثون والمفكّرون من تبيين ضرورة الحكومة في المجتمع الإنساني ، وانّه لولاها لانهارت الحياة وانفصمت عقد الاجتماع وعادت الفوضى إلى المجتمع الإنساني ، ممّا لا تسعه هذه الرسالة ولنتركها لمحلها.

ولكن المهم لنا هو تبيين سيرة الرسول في تأسيس الحكومة الإسلامية بعد ما استتب له الأمر ، وهو يعرب عن أنّ الحكومة تعد بنى تحتيّة لإجراء عامّة الأحكام الإسلامية ، وانّه لولاها لتعطلت الأحكام ، وتوقّف إجراء الحدود والتعزيرات ، وبالتالي سادت الفوضى على الحياة ، فلذلك نقتصر في المقام على بيان سيرة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بعد نزوله المدينة المنورة فنقول :

من تتبع سيرة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يقف على أنّه قام بتأسيس الدولة بكلّ ما لهذه

٤٢٩

الكلمة من معنى ، فقد مارس ما هو شأن الحاكم السياسي من تشكيل جيش منظم ، وعقد معاهدات ومواثيق مع الطوائف الأُخرى ، وتنظيم الشئون الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية ممّا يتطلّبه أي مجتمع منظم ذو طابع قانوني ، وصفة رسمية ، وصيغة سياسية ، واتخاذ مركز للقضاء وإدارة الأُمور وهو المسجد ، وتعيين مسئوليات إدارية ، وتوجيه رسائل إلى الملوك والأُمراء في الجزيرة العربية وخارجها ، وتسيير الجيوش والسرايا وبذلك يكون الرسول الأعظم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أوّل مؤسس للدولة الإسلامية التي استمرت من بعده ، واتسعت وتطورت وتبلورت ، واتخذت صوراً أكثر تكاملاً في التشكيلات والمؤسسات وإن كانت الأُسس متكاملة في زمن المؤسس الأوّل ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

ومن ملامح تأسيس حكومته قيامه بأُمور تعد من صميم العمل السياسي والنشاط الإداري الحكومي ، نذكر من باب المثال لا الحصر :

١. انّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عقد بين أصحابه وبين الطوائف والقبائل الأُخرى المتواجدة في المدينة كاليهود وغيرهم اتفاقية وميثاقاً يعتبر في الحقيقة أوّل دستور للحكومة الإسلامية.

٢. انّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ جهز الجيوش وبعث السرايا إلى مختلف المناطق في الجزيرة ، وقاتل المشركين وغزاهم ، وقاتل الروم ، وقام بمناورات عسكرية لارهاب الخصوم ، وقد ذكر المؤرخون أنّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ خاض أو قاد خلال ١٠ أعوام من حياته المدنية ٨٥ حرباً بين غزوة وسريّة.

٣. بعد ان استتبّ له الأمر في المدينة وما حولها وأمن جانب مكة وطرد اليهود لتآمرهم ضد الإسلام والمسلمين من المدينة وما حولها وقلع جذورهم ، توجه باهتمام خاص إلى خارج الجزيرة ، وإلى المناطق التي لم تصل إليها دعوته ودولته

٤٣٠

من مناطق الجزيرة ، فراح يراسل الملوك والأُمراء ويدعوهم إلى الانضواء تحت راية الإسلام والدخول تحت ظل دولته والقبول بحكومته الإلهية.

٤. انّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بعث السفراء والمندوبين السياسيين إلى الملوك والزعماء وكان عملاً بديعاً من أعمال الدبلوماسية ، وهذه الدبلوماسية الفطنة التي لجأ إليها النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في مخاطبة الملوك في عصره لم تذهب كلّها سدى.

٥. انّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ نصب القضاة وعيّن الولاة ، وأعطاهم برامج للإدارة والسياسة ، فأوصاهم فيما أوصاهم بتعليم أحكام الإسلام ونشر الأخلاق والآداب التي جاء بها الإسلام ، وتعليم القرآن الكريم ، وجباية الضرائب الإسلامية كالزكاة وإنفاقها على الفقراء والمعوزين ، وما شابه ذلك من المصالح العامة ، وفصل الخصومات بين الناس ، وحلّ مشاكلهم) والقضاء على الظلم والطغيان ، وغير ذلك من المهام والصلاحيات والمسئوليات الإدارية والاجتماعية.

٦. انّ من قرأ سورة الأنفال والتوبة ومحمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يلاحظ كيف يرسم القرآن فيها الخطوط العريضة لسياسة الحكومة الإسلامية وبرامجها ووظائفها. فهي تشير إلى مقومات الحكومة الإسلامية المالية ، وأُسس التعامل مع الجماعات غير الإسلامية ، ومبادئ الجهاد والدفاع وبرامجها ، وتعاليم في الوحدة الإسلامية التي تعتبر أقوى دعامة للحكومة الإسلامية ، وكذا غيرها من السور والآيات القرآنية فهي مشحونة بالتعاليم والبرامج اللازمة للحكومة والدولة.

وهذا يكشف عن أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كان أوّل مؤسس للحكومة الإسلامية في المدينة المنورة بعد أن مهّد لها في مكة.

إنّ من سبر الأحكام الإسلامية من العبادات إلى المعاملات إلى الإيقاعات والسياسات ، يقف على أنّها بطبعها تقتضي إقامة حكومة عادلة واعية لإجراء كلّ

٤٣١

ما جاء به النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وانّه لولاها لأصبحت تلك القوانين حبراً على ورق من دون أن تظهر في المجتمع آثارها ، فانّ الإسلام ليس مجرّد أدعية خاوية أو طقوس ومراسيم فردية يقوم بها كلّ فرد في بيئته ومعبده ، بل هو نظام سياسي ومالي وحقوقي واجتماعي واقتصادي واسع وشامل ، وما ورد في هذه المجالات من قوانين أو أحكام ، تدلّ بصميم ذاتها على أنّ مشرّعها افترضَ وجودَ حاكم يقوم بتنفيذها ورعايتها ، لأنّه ليس من المعقول سنّ مثل هذه القوانين دون وجود قوة مجرية وسلطة تنفيذية تتعهد بإجرائها وتتولّى تطبيقها مع العلم بأنّ سنّ القوانين وحده لا يكفي في تنظيم المجتمعات ، وإلى هذا الدليل يشير السيد المرتضى بقوله :

إنّه سبحانه وتعالى يأمرنا بالاستجابة لله وللرسول إذا دعا لما فيه حياتنا ، يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ). (١)

وفسّرت الآية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإذا كان الأمر والنهي كما تُوحي هذه الآيات مبدأ للحياة وجب أن يكون للناس إمام يقوم بأمرهم ونهيهم ويقيم فيهم الحدود ، ويجاهد فيهم العدو ، ويقسم الغنائم ، ويفرض الفرائض ويحذِّرهم عمّا فيه مضارهم ، ولهذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب بقاء الخلق فوجبا ، وإلاّ سقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع أحد ، ولفسد التدبير ، أو كان ذلك سبباً لهلاك العباد. (٢)

نظام الإمامة والخلافة في الإسلام

قد عرفت أنّ الحكومة ضرورة ملحة ولا تحتاج إلى إقامة برهان وقد وردت

__________________

(١) الأنفال : ٢٤.

(٢) المحكم والمتشابه ، للسيد المرتضى : ٥٠.

٤٣٢

على لسان الرسول وأئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ إلماعات إلى ذلك نذكر منها ما يلي :

١. قال النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «صنفان من أُمّتي إذا صلحا صلحت أُمّتي ، وإذا فسدا فسدت أُمّتي».

قيل : يا رسول الله ومن هم؟

قال : «الفقهاء والأُمراء». (١)

فالحديث يعرب عن ضرورة وجود الفقيه والأمير في المجتمع الإسلامي ، غير أنّ سعادته رهن كونهما مصلحين لا مفسدين.

٢. قال الإمام أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ لمّا سمع قول الخوارج : لا حكم إلاّ لله ، قال : «كلمة حقّ يراد بها باطل ؛ نعم انّه لا حكم إلاّ لله ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلاّ لله ، وإنّه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ، ويبلّغ الله فيه الآجل ، ويُجمع به الفيء ويُقاتل به العدو وتأمَنُ به السبل ، ويُؤخذ به للضعيف من القوي ، حتّى يستريح برّ ، ويُستراحَ من فاجر». (٢)

٣. وقال الإمام علي بن موسى الرضا ـ عليه‌السلام ـ في حديث طويل حول ضرورة وجود الحكومة في الحياة البشرية : «إنّا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملّة من الملل بقُوا وعاشوا إلاّ بقيّم ورئيس لما لا بدّ لهم منه في أمر الدين والدنيا ، فلم يجز في حكمه الحكيم أن يترك الخلقَ لما يعلم أنّه لا بدّ لهم منه ، ولا قوام لهم إلاّ به ، فيقاتِلونَ به عدوّهم ، ويقسّمون به فيئهم ، ويقيمون به جمعتهم وجماعتهم ، ويمنعُ ظالمهم من مظلومهم». (٣)

__________________

(١) تحف العقول : ٤٢.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٤٠.

(٣) علل الشرائع : ٢٥٣.

٤٣٣

ولأجل هذه الأهمية التي تحظى بها الحكومة الإسلامية يتعيّن على علماء الإسلام أن يبذلوا غاية الجهد في توضيح معالمها ومناهجها وخطوطها وخصائصها في جميع العصور والعهود.

٤٣٤

الأمر الثاني

 ملامح الحكومة الإسلامية في الكتاب والسنّة

إنّ الحاكم الإسلامي ـ في منطق القرآن وحسب تشريعه ـ ليس مجرّد من يأخذ بزمام الجماعة كيفما كان ، ويأمر وينهى بما تشتهيه نفسه ، ويحكم على الناس لمجرّد السلطة وشهوة الحكم ، بل هو ذو مسئولية كبيرة وثقيلة.

وبما انّ هذه الرسالة لا تتسع لبيان أكثر ملامح الحكومة الإسلامية نقتصر على بعض ما ورد في الذكر الحكيم من ملامح مقروناً ببعض الروايات ، ونحيل التفصيل إلى محاضراتنا. (١)

قال سبحانه : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ). (٢)

فالمسئوليات الملقاة على عاتق الحاكم في الإسلام عبارة عن :

١. إقامة الصلاة وتوثيق عرى المجتمع الإسلامي بربّه الذي فيه كلّ الخير.

__________________

(١) انظر كتاب معالم الحكومة الإسلامية : ٣٤ ـ ٤٧.

(٢) الحج : ٤١.

٤٣٥

٢. إيتاء الزكاة الذي فيه تنظيم اقتصاده ومعاشه.

٣. الأمر بالمعروف وإشاعة الخير والصلاح في المجتمع.

٤. النهي عن المنكر ومكافحة كلّ ألوان الفساد والانحراف والظلم والزور.

ومن المعلوم أنّ حكومة كهذه توفر للائقين والصالحين وذوي القابليات والمواهب فرصاً مناسبة لإبراز مواهبهم ، وتهيّئ الظروف المساعدة لتنمية استعداداتهم العلمية والفكرية في جميع المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، وتدفعها في طريق التقدّم والازدهار.

وقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فيه ثلاث خصال :

وَرَع يحجزه عن معاصي الله

وحِلْم يملك به غضبه

وحسن الولاية على من يلي حتّى يكون لهم كالوالد الرحيم». (١)

وقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ـ في ردّ من قال : بئس الشيء الأمارة ـ : «نعم الشيء الأمارة لمن أخذها بحلها وحقّها ، وبئس الشيء الأمارة لمن أخذها بغير حقّها وحلها تكون عليه يوم القيامة حسرة وندامة». (٢)

مسئولية الحاكم في النصوص الشرعية

١. إنّ الرسول الأعظم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يتحدث عن مسئوليته تجاه الأُمّة الإسلامية الّتي يأخذ بزمام حكمها ، فيقول : «كلّكم راع وكلّكم مسئول عن رعيته».

فالأمير الذي على الناس ، راع عليهم ، وهو مسئول عنهم.

__________________

(١) الكافي : ١ / ٤٠٧.

(٢) كتاب الأموال : ١٠.

٤٣٦

والرجل راع على أهل بيته ، وهو مسئول عنهم.

وامرأة الرجل ، راعية على بيت زوجها وولدها ، وهي مسئولة عنهم.

«ألا فكلّكم راع وكلّكم مسئول عن رعيّته». (١)

٢. ويمكن لنا أن نستجلي ملامح الحكومة الإسلامية وصفات الحاكم الإسلامي من كلام الإمام علي ـ عليه‌السلام ـ الذي يرسم لنا ما على الحاكم الإسلامي الأعلى تجاه الشعب وما على الشعب تجاه الحاكم ، إذ يقول في وضوح كامل :

«وأعظم ما افترض الله من تلك الحقوق ؛ حقُّ الوالي على الرّعيّة وحقُّ الرّعيّة على الوالي ، فريضةً فرض الله سبحانه ، لكلّ على كلّ ، فجعلها نظاماً لأُلفتهم ، وعزّا لدينهم ، فليست تصلح الرّعيّة إلا بصلاح الولاة ، ولا يصلح الولاة إلا باستقامة الرّعيّة.

فإذا أدّت الرّعيّة إلى الوالي حقّه وأدّى الوالي إليها حقّها ، عزّ الحقُّ بينهم ، وقامت مناهج الدّين ، واعتدلت معالم العدل وجرت على أذلالها السُّنن ، فصلح بذلك الزّمان ، وطمع في بقاء الدّولة ويئست مطامع الأعداء ، وإذا غلبت الرّعيّة واليها أو أجحف الوالي برعيّته ، اختلفت هنالك الكلمة ، وظهرت معالم الجور ، وكثر الإدغال في الدّين ، وتركت محاجُّ السُّنن ، فعمل بالهوى ، وعطّلت الأحكام ، وكثرت علل النفوس ، فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل ، ولا لعظيم باطل فعل ، فهنالك تذلُّ الأبرار ، وتعزُّ الأشرار ، وتعظّم تبعات الله عند العباد». (٢)

ثمّ إنّ الإمام عليّاً ـ عليه‌السلام ـ يصرّح في هذه الخطبة ذاتها بالحقوق المشتركة والمسئوليات المتقابلة ، إذ يقول : «أمّا بعد ، فقد جعل الله لي عليكم حقّاً بولاية

__________________

(١) كتاب الأموال للحافظ أبي عبيد سلاّم بن القاسم المتوفى ٢٢٥ ه‍ ، ص ١٠.

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ٢١٦ ، طبعة عبده.

٤٣٧

أمركم ، ولكم عليّ من الحقّ مثل الذي لي عليكم».

ثم يشير الإمام ـ عليه‌السلام ـ في هذه الخطبة إلى واحدة من أنصع القوانين الإسلاميّة ؛ وهو قانون التسوية بين جميع أفراد الأُمّة الإسلاميّة حكّاماً ومحكومين ، رؤساء ومرءوسين ، وزراء ومستوزرين ، وبذلك ينسف فكرة : أنا القانون ، أو أنا فوق القانون ، فيقول ـ عليه‌السلام ـ : «... الحقُّ لا يجري لأحد إلاّ جرى عليه ، ولا يجري عليه إلاّ جرى له»

وعلى هذا ؛ فلا تمييز ولا تفرقة بين الحاكم والمحكوم بل الجميع أمام القوانين الإسلاميّة المدنيّة والجزائيّة وغيرها سواء ، وعلى الحاكم والرئيس أن يؤدّي حقوق الناس كأيّ فرد من أفراد الأُمّة العاديّين ، وبذلك يدعم الإمام ما روي عن الرسول الأكرم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إذ يقول : «النّاس أمام الحقّ سواء».

٣. كما يمكن أن نعرف طبيعة الحكومة الإسلامية من خطبة الإمام الحسين الشهيد ـ عليه‌السلام ـ بعد نزوله بأرض كربلاء ، فقال :

«اللهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان ، ولا التماساً من فضول الحطام ، ولكن لنري المعالم من دينك ، ونظهر الإصلاح في بلادك ، ويأمن المظلومون من عبادك ، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك». (١)

إنّ من أهمّ الوثائق التي ترسم لنا بوضوح معالم الحكومة الإسلامية ؛ الوثيقة التي كتبها النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ليهود يثرب بعد ما نزل المدينة المنوّرة ، وقد رواه : ابن هشام في سيرته (٢) ، وأبو عبيد في كتاب «الأموال» (٣) ، وابن كثير في البداية والنهاية. (٤) وهي

__________________

(١) بحار الأنوار : ١٠٠ / ٨٠ ـ ٨١ ، الحديث ٣٧.

(٢) سيرة ابن هشام : ١ / ٥٠١.

(٣) الأموال ، ص ٥١٧ ، ط مصر.

(٤) البداية والنهاية : ٢ / ٢٢٤.

٤٣٨

وثيقة تاريخية مفصّلة ، فمن أراد فليرجع إلى محالّه.

فالحاكم الإسلامي في الحقيقة هو الحافظ لمصالح الشعب ، وهو كالأب الحنون لعامّة المواطنين حتّى اليهود والنصارى إذا عملوا بشرائط الذمّة ، فهو يسمح للمسلمين بأن يعاملوا غيرهم من الطوائف غير المسلمة بالعدل والرفق والشفقة ما داموا لا يتآمرون على المسلمين ولا يسيئون إلى أمنهم ، ولا يقاتلونهم ، فالإسلام لا يمنع عن البرّ والقسط إليهم ، وإنّما يمنع عن الذين ظاهروا على المسلمين وتآمروا ضدهم ، ترى كلّ ذلك في الآيتين التاليتين :

يقول سبحانه : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (١)

ويقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ). (٢)

ولعلّ النظرة الواحدة إلى تاريخ الحكومات الإسلامية يكشف لنا عفوهم وسماحتهم لكثير من الذمّيين من النصارى واليهود ، وقد كانت الأقلّيات بين المسلمين يرجّحون الحياة تحت ظلّ الإسلام على العيش مع الدول الكافرة ، نذكر هاهنا وثيقة تاريخية ذكرها البلاذري في هذا المجال. قال :

لمّا جمع هرقل للمسلمين الجموع ، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة

__________________

(١) الممتحنة : ٨ ـ ٩.

(٢) آل عمران : ١١٨.

٤٣٩

اليرموك ، ردّوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج ، وقالوا : قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم ، فقال أهل حمص [وكانوا مسيحيّين] : لولايتكم وعدلكم أحبّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم والغشم ، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم ، ونهض اليهود فقالوا : والتوراة [أي قسماً بالتوراة] لا يدخل هرقل مدينة حمص إلاّ أن نغلب ونجهد ، فأغلقوا الأبواب وحرسوها ، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود وقالوا : إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنّا عليه [من الظلم والحرمان] ، وإلاّ فانّا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد.

فلمّا هزم الله الكفرة وأظهر المسلمين ، فتحوا مدنهم ، وأخرجوا المقلّسين (١) فلعبوا وأدّوا الخراج». (٢)

إنّ الحاكم الإسلامي ، من يشارك شعبه في إفراحه وإتراحه ، وفي آلامه وآماله لا أن يعيش في بروج عاجيّة ، متنعماً في أحضان اللذة رافلاً في أنواع الشهوات ، غير عارف بأحوال من يسوسهم.

يقول الإمام وهو يرسم ملامح الحاكم الإسلامي.

«أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر ، أو أكون أُسوة لهم في جشوبة العيش ، فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها ، أو المرسلة ، شغلها تقممها». (٣)

__________________

(١) التقليس : استقبال الولاة عند قدومهم بضرب الدّف والغناء وأصناف اللهو ، راجع المنجد في اللغة.

(٢) البلاذري (م ٢٧٩ ه‍) ، فتوح البلدان ، ص ١٤٣.

(٣) نهج البلاغة ، الرسالة رقم ٤٥.

٤٤٠