الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

قبيح عقلاً لا يصدر منه سبحانه ، فلو لم يثبت هذا الأصل بحكم العقل لا يمكن الإذعان بصدق دعواه لاحتمال انّ المزوَّد بالمعاجز ، مدّع كاذب ، إذ لم يثبت بعدُ قبح تسلط الكاذب على المعاجز والبيّنات.

ولو صدع الشارع بأنّه لا يسلط الكاذب على القوة الخارقة ، لا يمكن الإيمان بصدق قوله ، لعدم ثبوت قبح الكذب على الشارع كما مرّ في الدليل الأوّل.

يقول العلاّمة الحلّي حول هذا الدليل : لو كان الحسن والقبح سمعيّاً لا عقلياً ، لما قبح من الله شيء ، ولو كان كذلك لما قبح منه تعالى إظهار المعجزات على يد الكاذبين ، وتجويز ذلك يسدّ باب معرفة النبوة إذ إظهار المعجزة بعد ادّعاء النبوة لا يكون دليلاً لصدق ادّعائه إذا كان باب احتمال إظهار المعجزة على يد الكاذب مفتوحاً. (١)

الرابع : الحسن والقبح العقليان في الذكر الحكيم

من سبر القرآن الكريم وأمعن في دعوته إلى الصلاح والفلاح يقف على أنّ القرآن يتّخذ وجدان الإنسان قاضياً ليحكم في قضايا كثيرة بشيء يرجع إلى الحسن والقبح ، فالآيات التي نتلوها عليك تُسلّم انّ الإنسان الحرّ المجرّد عن سائر النزعات ، قادر على درك حسن الفعل أو قبحه ، ولذلك يترك القضاء فيها إليه ويقول :

١. (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ). (٢)

__________________

(١) نهج الحقّ وكشف الصدق ، ٨٤ بتصرف.

(٢) ص : ٢٨.

٢١

٢. (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ). (١)

٣. (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ). (٢)

ففي هذه الطائفة من الآيات يوكِّل الذكر الحكيم القضاءَ إلى وجدان الإنسان ، وانّه هل يصحّ التسوية بين المفسدين والمتّقين ، والمسلمين والمجرمين ، كما يتّخذ من الوجدان قاضياً ، في قوله : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ).

وهناك آيات أُخرى تأمر بالمعروف كالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي على نحو تسلِّم انّ المخاطب بها ، يعرفها معرفة ذاتية ولا يحتاج إلى الشرع ليعرّفه الموضوع ، وكأنّ الشرع يؤكد ما يجده الإنسان بفطرته ، يقول سبحانه :

١. (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). (٣)

٢. (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ). (٤)

٣. (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ). (٥)

وكيفية دلالة هذه الآيات على قابلية العقل على درك الحسن والقبح علمت ممّا سبق.

__________________

(١) القلم : ٣٥.

(٢) الرحمن : ٦٠.

(٣) النحل : ٩٠.

(٤) الأعراف : ٣٣.

(٥) الأعراف : ١٥٧.

٢٢

وثمة آية أُخرى تندِّد بعمل المشركين حينما ينسبون بعض أعمالهم المنكرة إلى أمره سبحانه ، وهو يردُّ عليهم بأنّ عملهم فحشاء والله لا يأمر بها ، والآية صريحة في انّ الإنسان بفضل الوجدان يعرف الفحشاء عن غيرها بلا حاجة إلى تعريف الشارع ، كما هي صريحة في انّ الله سبحانه منزّه عن ارتكاب القبائح والمنكرات التي يعرفها الإنسان بوجدانه ويقول :

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ). (١)

فأخبر سبحانه أنّ فعلهم فاحشة قبل نهيه ، وأخبر أنّه لا يأمر بما هو فاحشة في العقول والفطرة ، ولو كان إنّما علم كونه فاحشة بالنهي ، وأنّه لا معنى لكونه فاحشة إلاّ تعلق النهي ، لصار معنى الكلام إنّ الله لا يأمر بما ينهى عنه ، ولصار معنى قوله : (أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) أي : أمر ربي بما أمر به ، ولكان معنى قوله : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ...) الآية ، أي : قل إنّما حرّم ربّي ما حرّم وهذا ما يصان عن التكلم به آحاد العقلاء ، فضلاً عن كلام العزيز الحكيم ، ويلزم ألا تكون الفاحشة فاحشة ، ولا الشرك شركاً إلاّ بعد النهي.

ولا شكّ أنّ الشرع كساها بنهيه عنه قبحاً إلى قبحها ، فكان قبحها في ذاتها وازدادت قبحاً عند العقل بنهي الربّ تعالى عنها ، وذمّه لها ، كما أنّ العدل والصدق والتوحيد حسن في نفسه وازداد حسناً إلى حسنه يأمر الرب به وثنائه على فاعله. (٢)

__________________

(١) الأعراف : ٢٨.

(٢) انظر ابن القيم ، مدارج السالكين ، ١ / ٢٣٣ ـ ٢٣٥ ؛ وانظر : مجموع الفتاوى : ١١ / ٦٧٨ ـ ٨ ؛ ٦٨٣ / ٤٣٣.

٢٣

وممّا يؤيّد هذا الوجه قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً). (١)

فأخبر تعالى أنّه حرمه عليهم مع كونه طيباً في نفسه ، فلولا أن طيبه أمر ثابت له بدون الأمر لم يكن ليجمع الطيب والتحريم. (٢)

__________________

(١) النساء : ١٦٠.

(٢) انظر ابن القيم ، مفتاح دار السعادة : ٢ / ١٠.

٢٤

٥

أدلّة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليّين

ذهبت الأشاعرة تبعاً لأهل الحديث إلى أنّ الفعل عاجز عن إدراك حسن الأفعال وقبحها وانّ الحسن ما أمر به الشارع والقبيح ما نهى عنه ، ولو جُرّد الموضوع عن الأمر والنهي لما تمكّن العقل من إدراكهما (١) وإنكارهم هذا أشبه بإنكار السوفسطائيين في إنكار الحقائق الخارجية ، حتّى وجودهم وأنفسهم لأجل شبهات واهية ، وذلك لأنّه لا يوجد على أديم الأرض إنسان ينكر جداً حسن الإحسان وقبح الظلم ، حسن العمل بالميثاق وقبح نقضه ، حسن جزاء الإحسان بالإحسان وقبح جزائه بالسوء ، إلى غير ذلك من القضايا الواضحة التي تعد أُسساً للحياة الفردية والاجتماعية.

وقد وقفت على كلام ، لبعض السلفين ردّ فيه على الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح العقليين فقال : أنّ الأشاعرة أجازوا على الله أن يأمر بأيّ شيء ، وينهى عن أيّ شيء ، بناء على نفيهم التحسين والتقبيح العقليين ، ونفيهم الحكم والغايات ، وعلى ذلك فالشرك عندهم ليس قبيحاً في ذاته ، وسائر المحرمات كذلك ، وإنّما اكتسبت صفة القبح بنهي الله عنها ، ولو أمر الله تعالى بالشرك وبسائر المحرمات لكانت حسنة ، وجوزوا على الله ذلك ، كما أنّهم يرون أنّ التوحيد وسائر الطاعات ليست حسنة في ذاتها ، وإنّما اكتسبت صفة الحسن بأمر الله بها ،

__________________

(١) الإرشاد للجويني : ٢٥٨ وغيره.

٢٥

ولو نهى الله تعالى عن التوحيد وسائر الطاعات لكانت قبيحة ، وأجازوا عليه ذلك.

كما أجازوا على الله فعل كلّ شيء ممكن لذاته ، فله أن يعذب أنبياءه وأولياء ويجعلهم في سجين ، وينعم شياطين الإنس والجن ويجعلهم في عليّين ، ويكون ذلك عدلاً وحسناً ، وذلك بناء على نفيهم الحكم والغايات. (١)

وهؤلاء المنكرون وإن رفعوا راية الإنكار ولكنّهم تراجعوا عنها باختراع معاني متعددة للحسن والقبح فسلّموا حكم العقل بالتحسين والتقبيح في بعضها دون البعض الآخر وليس التعرّف عليها بمهم.

وإنّما المهم في المقام دراسة أدلّتهم على الإنكار ، وإليك البيان :

الأوّل : لو كانا بديهيين لما اختلف فيه اثنان

لو كان العلم بحسن بعض الأفعال وقبحها ضرورياً لما وقع التفاوت بينه وبين العلم بزيادة الكل على الجزء ، والثاني باطل بالوجدان ، لوقوع الاختلاف بين العلمين ، فانّ العلم بزيادة الكلّ على الجزء أوضح وأبين من التحسين والتقبيح.

على هامش الاستدلال

الاستدلال كأنّه مبني على ردّ الدليل الأوّل للمثبتين حيث قالوا : إنّ حسن الأفعال وقبحها من الأُمور البديهية ، فردّ عليه النفاة بأنّه لو كان بديهياً ، لما تفاوت العلمان : العلم بزيادة الكلّ على الجزء وحسن العدل وقبح الظلم ، والعلوم الضرورية لا تتفاوت.

__________________

(١) موقف المتكلّمين : ١ / ٣٣١.

٢٦

والاستدلال مبني على أصل غير أصيل وهو عدم وجود التفاوت في العلوم الضرورية ، وذلك لأنّ القضايا اليقينية التي تتمتع بالبداهة على أقسام ستة وكلّها قضايا ضرورية مع وجود التفاوت بينهما.

١. الأوّليات : الكلّ أعظم من الجزء.

٢. المشاهدات : وهي إمّا مشاهدة ظاهرية كقولنا : الشمس مشرقة ، أو باطنية ، كقولنا انّ لنا جوعاً وعطشاً.

٣. التجربيات : انبساط الفلز في الحرارة.

٤. الحدسيات : نور القمر مستفاد من الشمس.

٥. المتواترات : مكّة المكرمة موجودة.

٦. الفطريات : الأربعة زوج.

فأين قولنا : «الكلّ أعظم من الجزء» الذي يعد من الأوّليات في البداهة من قولنا : «نور القمر مستفاد من الشمس» الذي هو من الحدسيات ، فوجود التفاوت بين هذه العلوم واضح جدّاً.

وأمّا سبب التفاوت فيرجع غالباً إلى وجود الاختلاف بين تصوّر مفرداتها. مثلاً قوله : «كلّ ممكن يحتاج إلى علّة» ، حكم بديهي كما أنّ قولنا : «الكلّ أعظم من الجزء» أيضاً بديهي ، وسبب الاختلاف يرجع إلى أظهريّة مفردات الثاني من مفردات الأوّل ، فأين الإمكان والحاجة والعلة في الظهور من «الكل» و «الجزء» و «العِظَم» ، فاختلاف المفردات من حيث الظهور والخفاء ، يورث ظهوراً وخفاءً في المركب أيضاً.

٢٧

الثاني : الكذب النافع ليس بقبيح

«لو كان الكذب قبيحاً ، لكان الكذب المفضي إلى تخليص النبي من يد الظالم قبيحاً أيضاً ، والتالي باطل لأنّه يحسن تخليص النبي من يد الظالم ، فالمقدّم مثله ، فيصبح الكذب النافع غير قبيح ، فلو كان قبح الكذب ذاتيّاً ، لما تغيّر قبحه ، بل يبقى عليه وإن ما بلغ.

على هامش الاستدلال

إنّ في المقام أمرين قبيحين :

١. الكذب والإغراء بالجهل.

٢. ترك نصرة النبي وتعريضه للهلاك.

وقد دار الأمر بين ارتكاب أحد القبيحين.

١. أن يكذب وفيه نجاة النبي.

٢. أن يترك نصرة النبي ويعرّضه للهلاك وفيه ترك الكذب القبيح.

والعقل عندئذ يحكم بتقديم أخف القبيحين على الآخر ، تخلصاً عن ارتكاب الأقبح. فالكذب باق على قبحه ، لكنّه يقدّم ارتكابه على الأقبح ويكون معذوراً في ارتكابه.

ويمكن أن يقال : إنّ إنقاذ النبي لا يتوقّف على الكذب مطلقاً إذا كان باب التعريض والتورية مفتوحاً ، ولهذا قيل : «إنّ في التعاريض لمندوحة».

الثالث : التحسين والتقبيح فرض تكليف على الله

هذا الدليل هو أكثر تداولاً على ألسنة السُذَّج من الناس الذين يغترون

٢٨

بأدلّة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليّين قالوا بأنّ القائلين بهما يوجبون على الله ما يوجبون على العبد ، ويحرِّمون عليه من جنس ما يحرِّمون على العبد ، ويسمّون ذلك العدل ، والحكمة مع قصور عقلهم عن معرفة حكمتهم. (١)

على هامش الاستدلال

إنّ المستدل خلط بين فرض التكليف على الله ، وكشف ما عنده من الحُكْم من خلال صفاته وكماله ، فالقائل بالملازمة لا يفرض التكليف على الله ، ويقول : أين التراب ورب الأرباب ، بل يستكشف ما عنده من الأحكام من خلال دراسة صفاته الكمالية ، فهو بما انّه عادل ، لا يجور ، وحكيم لا يعبث ، وعالم لا يجهل ، نستكشف بها الأحكام اللائقة به حسب صفاته فالتكاليف التي يستنبطها العقل من قبيل التكاليف التي فرضتها على الله حكمتُه وعدله وعلمه. فلو قلنا لا يجوز على الله سبحانه تعذيبُ البريء أو أخذُه بذنب المجرم ، لا نعني انّا نفرض هذا التكليف عليه ، وانّه يجب أن يقوم به ، وإنّما نريد أنّ لازم صفاته الكمالية هو أن لا يفعل ذلك.

وهذا نظير ما يقوم به العلماء من كشف أسرار الطبيعة وقوانينها ، فلو قال القائل : بأنّ زوايا المثلث تساوي قائمتين ، فهذا لا يعني إلاّ أنّه في الواقع كذلك ، لا انّه يجب أن يكون كذلك لأجل حكمه به.

فإذا كان النظام السائد على الكون نظاماً مبنياً على العلم والعدل والحكمة فلازم ذلك أن لا يؤخذ البريء بذنب المجرم ، فكشف هذا الحكم نظير كشف القوانين السائدة على الكون في العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية.

__________________

(١) التبصير في الدين : ١٥٣ ؛ شرح المقاصد : ٢ / ١٥٠ طبعة اسطنبول.

٢٩

وفي كلام بعض الأشاعرة إلماع لما ذكرنا ، يقول النسفي (المتوفّى ٥٣٧ ه‍) : وفي إرسال الرسل ، حكمة.

ويقول التفتازاني (المتوفّى ٧٩١ ه‍) في شرحه على ذلك الموضع من كلام النسفي : أي مصلحة وعاقبة حميدة. وفي هذا إشارة إلى أنّ الإرسال واجب لا بمعنى الوجوب على الله تعالى ، بل بمعنى أنّ قضية الحكمة تقتضيه لما فيه من الحِكَم والمصالح وليس بممتنع. (١)

وكلامه هذا نفس ما ذكرناه ، وهذا دليل على أنّ الأشاعرة قد أظهروا نوعاً من المرونة للعدلية عبْر الزمان.

الدوافع من وراء إنكار التحسين والتقبيح العقليّين

إنّ التحسين والتقبيح العقليّين من المسائل الواضحة لدى العقل والعقلاء والتي لا تحتاج إلى مزيد بيان ، ومن أنكرهما فإنّما ينكرهما بلسانه دون قلبه ، وعلى الرغم من ذلك نرى وجود فئة كبيرة من المتكلّمين ـ كالأشاعرة ـ غلب عليهم إنكار هذا الأصل ، فما هو الدافع الذي جرّهم إلى إنكاره؟

أقول : إنّ الدافع من وراء إنكار الحسن والقبح في أفعاله سبحانه غير الدافع الذي جرّهم إلى إنكارهما في أفعال الإنسان.

فالدافع في الأوّل هو زعمهم المنافاة بين القول بهما وبين وصفه سبحانه بالمالك المطلق والسلطان بلا منازع الذي له أن يتصرف في ملكه كيف ما شاء حتى لو جازى الإحسان بالسوء.

__________________

(١) شرح العقائد النسفية : ١٦٤.

٣٠

كما أنّ الدافع في الثاني (إنكارهما في أفعال الإنسان) هو قولهم بالجبر في أفعاله وانّ الإنسان مضطر في فعله لا محيص له عن ارتكابه ، ومع ذلك كيف يمكن أن يوصف فعله بالحسن والقبح؟!

يقول المحقّق الخراساني (المتوفّى ١٣٢٩ ه‍) في هذا الصدد :

وإنّما أنكر الأشاعرة الحسن والقبح العقليّين مطلقاً ، أو في أفعاله تعالى فلبنائهم انّه تعالى كلّما فعل ، صدر منه في محله ، لأنّه مالك الخلق كلّه ، فلو أثاب العاصي وعاقب المطيع لم يأت بقبيح ، لأنّه تصرّف في ملكه ، وهو لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون.

وأمّا في أفعال العباد ، فلبنائهم على عدم صدور الأفعال منهم بالاختيار ، بل بالجبر والاضطرار ، ولا شيء من أفعال المجبور بحسن ولا قبيح. (١)

الرابع : جواز التكليف بما لا يطاق

اعتمد الفخر الرازي في إنكاره للحسن والقبح العقليّين على أنّ التكليف بما لا يطاق قبيح عقلاً عند العدلية ، مع أنّ الشرع أمر به ، وإليك نصّه :

١. لو كان قبيحاً لما فعله الله تعالى ، وقد فعله بدليل أنّه كلّف الكافر بالإيمان ، مع علمه بأنّه لا يؤمن ، وعلمه بأنّه متى كان كذلك كان الإيمان منه محالاً.

٢. لأنّه كلّف أبا لهب بالإيمان ، ومن الإيمان تصديق الله تعالى في كلّ ما أخبر عنه ، وممّا أخبر عنه أنّه لا يؤمن ، فقد كلّفه بأن يؤمن بأنّه لا يؤمن ، وهو تكليف الجمع بين الضدين. (٢)

__________________

(١) درر الفوائد في شرح الفرائد : ٣٣٩.

(٢) المحصل : ١٥٣ ، ط دار الفكر ؛ نقد المحصل : ٣٣٩ ، ط طهران.

٣١

يلاحظ عليه : أنّ الرازي تصور انّه قد وقف على دليل حاسم في المقام ، فاستدلّ بما ذكرته المجبرة قبله بقرون وأجابت عنه العدلية بوجوه ، وقال الرازي في بعض كلماته : لو اجتمعت جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا الوجه حرفاً إلاّ بالتزام مذهب هشام وهو انّه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها. (١)

أقول : إنّ ما نسبه إلى هشام بن الحكم فرية عليه كما أوضحناه في محله (٢) ، وإليك الإجابة عن الدليلين الأوّلين ، أمّا الدليل الأوّل فلأنّ علمه الأزلي لم يتعلّق بصدور كلّ فعل من فاعله على وجه الإطلاق ، بل تعلّق علمه بصدور كل فعل عن فاعله حسب الخصوصيات المتوفرة فيه.

وعلى ضوء ذلك فقد تعلّق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر ، بلا شعور ، كما تعلّق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش ، عالماً بلا اختيار ، ولكن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان عن اختيار منه ، فتعلّق علمه بوجود الإنسان وصدور فعله منه اختياراً ، يؤكِّد الاختيار ويدفع الجبر عن ساحة الإنسان.

وإن شئت قلت : إنّ العلّة إذا كانت عالمة شاعرة ، ومريدة ومختارة كالإنسان ، فقد تعلّق علمه بصدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرية ، فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية لكان علمه مطابقاً للواقع غير متخلّف عنه ، وأمّا لو صدر فعله منه عن جبر واضطرار بلا علم وشعور ، أو بلا اختيار وإرادة ، فعند ذلك يتخلّف علمه عن الواقع.

وأمّا الجواب عن الدليل الثاني فحاصله : انّ أبا لهب مكلّف بالإيمان لكونه

__________________

(١) شرح المواقف : ٨ / ١٥٥.

(٢) لب الأثر في الجبر والقدر : ١٥٠.

٣٢

أمراً اختيارياً له ، وأمّا الإخبار بعدم إيمانه فقد نزل به الوحي بعد ما ختم الله على قلبه ، وعندئذ فليس مكلّفاً بما جاء في القرآن من أنّه لا يؤمن بل هو من إخبارات القرآن كسائر أخباره.

إلى هنا تمّ بيان أدلّة المثبتين والمنكرين ، وأظن انّ الحقّ تجلّى بأجلى مظاهره ، وهو أحقّ أن يتبع ، وما جاء به المنكرون تسويلات سحروا أعين المغترين بها واسترهبوهم ولكن نور الحقيقة لا يفتأ متبلِّجا.

بقي الكلام في الآثار والثمرات المترتبة على القاعدة وهو موضوعنا في الفصل الآتي.

٣٣

٦

النتائج المترتّبة على التحسين والتقبيح العقليّين

إنّ قيمة كلّ بحث رهن الآثار التي تترتّب عليه ، والثمار التي يقتطفها الباحث ، ومن حسن الحظ انّ للمسألة دوراً عظيماً في العلوم الإنسانية لا سيما في الكلام والأخلاق ، وقد مضى الالماع إليه في صدر الرسالة وإليك شيئاً من هذه الثمرات.

١. وجوب المعرفة عقلاً

اتّفق المتكلمون على لزوم معرفة المنعم ، لكن اختلفوا في وجه لزومه.

ذهبت الأشاعرة المنكرون للحسن والقبح العقليّين إلى أنّ معرفة المنعم (الله سبحانه) واجبة شرعاً مع أنّه أمر غير معقول ، إذ كيف تجب معرفته شرعاً مع أنّ الشريعة لم تثبت بعدُ حتّى يثبت وجود معرفة الله في ضمن سائر أحكامه.

وذهبت الإمامية والمعتزلة إلى أنّ معرفته واجبة عقلاً ، واستدلّوا على ذلك بوجهين

٣٤

الف : لزوم شكر المنعم

لا شكّ انّ حياة الإنسان رهن النعم التي يعيش فيها ، فليس مصدر النعم هو نفسه بل شخص آخر هذا من جانب.

ومن جانب آخر انّ العقل يدفع الإنسان إلى شكر من أحسن إليه ولا يصح الشكر إلا بمعرفته ، فينتج وجوب معرفته عقلاً.

ب : دفع العقاب المحتمل بالمعرفة

إنّ معرفة الله دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف ، ودفع الخوف حسن بالضرورة. (١)

توضيحه : انّه ذهب الإلهيون إلى أنّ العالم وما فيه مخلوق لله سبحانه ـ وهم جماهير الناس ، وإن خالفهم شرذمة قليلة من المادّيين ـ ويدّعون أنّ لله سبحانه سفراء وأنبياء حوّل إليهم بيان وظائف العباد في أبعاد مختلفة وإنّ في مخالفتهم مضاعفات وعقوبات.

وحيث إنّ الإنسان يحتمل جداً صدق مقولتهم فيبعثه عقله إلى وجوب معرفته ومعرفة سفرائه ويحسنه كما يزجره عن ترك المعرفة ويقبحه ، ولو لا القول بالحسن والقبح العقليّين لما كان هناك أي باعث إلى معرفته سبحانه.

٢. وصفه بالعدل والحكمة

إنّ وصفه سبحانه بالعدل والحكمة فرع ثبوت التحسين والتقبيح العقليّين ، ولو لا استقلال العقل بحسن العدل وقبح الظلم لما صحّ وصفه سبحانه بالعدل أو

__________________

(١) نهج الحق وكشف الصدق : ٥١.

٣٥

تنزيهه عن الظلم ، ونظير ذلك وصفه بكونه حكيماً لا يعبث ، لأنّ الفعل العبث قبيح عقلاً ، ومن عزل العقل عن درك التحسين والتقبيح العقليين لما تسنّى له إثبات هذين الوصفين له والاعتماد في إثباتهما على اخبار الشرع قد علمت عدم صحّته. (١)

الدليل على نفي صدور القبيح عن الله سبحانه

اعتمد المتكلّمون على نفي صدور القبيح منه سبحانه على وصفين :

أ. علمه بالحسن والقبح.

ب. غناه وعدم حاجته إلى شيء.

ونحن في حياتنا اليومية نشاهد ذلك بالعيان ، فانّ من يرتكب القبيح فإنّما يرتكب لإحدى جهتين : إمّا لجهله بقبح الفعل ، أو لإحساس الحاجة إليه (وإن كان ربّما لا يكون محتاجاً إليه في الواقع) ومن فقد هذين الأمرين فلا يصدر منه القبيح.

فإذا كان هذا هو السبب الأساسي لصدور القبيح من الإنسان ، فهذا هو السبب أيضاً في صدوره عن الله سبحانه ، فإذا كان سبحانه نفس العلم والغنى يمتنع صدور فعل القبيح منه.

٣. لزوم اللطف على الله

اللطف عبارة عمّا يكون المكلّف معه أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد عن فعل المعصية ، وقد قسموا اللطف إلى : المقرِّب نحو الطاعة ، وإلى المحصِّل لها ؛ فلو

__________________

(١) لاحظ ص ٢٠ من هذا الكتاب.

٣٦

كان موجباً لقرب المكلّف إلى فعل الطاعة والبعد عن فعل المعصية ، فهو لطف مقرّب ، ولو ترتّبت عليه الطاعة فهو لطف محصّل.

وحاصل اللطف عبارة عن فسح المجال أمام المكلّف بُغية حصول الطاعة والابتعاد عن المعصية ، وهو أمر غير إعطاء القابلية للمكلّف بل فوقه ، فانّ القدرة شرط عقلي ولولاها لقبح التكليف ، والمراد انّه سبحانه يتلطّف على العبد ـ وراء إعطائه القابلية والقدرة ـ بفعل أُمور يرغب معها إلى الطاعة وترك المعصية ، فلو توقّف تحصيل الغرض (طاعة العبد) وراء إعطاء القدرة ، على فعل المرغِّبات إلى الطاعة وترك المعصية كوعده وإيعاده كان على المكلّف القيام به لكيلا ينتفي الغرض ، وإلى هذا الدليل يشير المحقّق الطوسي ، ويقول : «واللطف واجب لتحصيل الغرض به».

٤. بعثة الأنبياء

إنّ العقل يحكم بلزوم بعث الأنبياء ، وذلك لأمرين رئيسيّين :

الأوّل : انّ للعقل أحكاماً كلية كلزوم شكر المنعم وعبادته ، إلاّ أنّه عاجز عن الخوض في تفاصيلها ، فوجب من باب اللطف بعث الأنبياء ، لغاية إيضاح كيفية أداء الواجب وبيان المزيد من التفاصيل.

الثاني : انّ ادراك العقل حسن فعل أو قبحه ربما لا يكون باعثاً أو زاجراً إلاّ إذا افترض بوعد ووعيد من قبل المولى سبحانه وهو لا يتحقّق إلاّ ببعث الأنبياء الناطقين عنه سبحانه ، وبذلك يعلم أنّ دور الأنبياء بالنسبة إلى ما يدركه العقل أحد أمرين ، إمّا دور الإرشاد إلى التفاصيل التي لا يدركها العقل ، وإمّا دور الدعم لحكمه.

٣٧

٥. حسن التكليف

إذا كان فعله سبحانه منزّهاً عن العبث ، يستقلّ العقل بالحكم بلزوم إيصال كلّ مكلّف إلى الغايات التي خلق لها ، وذلك بتكليفهم بما يوصلهم إلى الكمال ، وزجرهم عمّا يمنعهم عنه ، حتى لا يُتركوا سدىً وتنفتح في ضوء التكليف طاقاتهم الروحية ، وعلم الإنسان بالحسن والقبح لا يكفي في استكماله ، إذ هناك أُمور يقصر عن إدراك حكمه ، علم الإنسان ، ولا تعلم إلاّ عن طريق الوحي والشرع.

مضافاً إلى أنّ حفظ النظام أمر حسن واختلاله وزعزعته أمر قبيح ، ولا يسود النظام في المجتمع الإنساني إلاّ بتقنين قوانين سماويّة (١) تكفل تحقيق العدل والمساواة بين كافة الشعوب.

إلى غير ذلك من الثمرات المذكورة لحسن التكليف.

٦. لزوم تزويد الأنبياء بالبيّنات والمعاجز

إنّ بداهة العقل قاضية بعدم جواز الخنوع والخضوع لأي ادّعاء ما لم يعضده الدليل والبرهان ، فمقتضى الحكمة الإلهية تزويد الأنبياء بالمعاجز والبيّنات حتى تتحقّق الغاية المتوخّاة من بعثهم ، ولولاها لأصبح بعثهم سدىً وعملاً بلا غاية وهو قبيح.

٧. لزوم النظر في برهان مدّعي النبوة

إذا كان مقتضى الحكمة الإلهية دعم الأنبياء بالبراهين ، فيلزم على العباد عقلاً النظر في برهان مدّعي النبوة ، لاستقلال العقل بذلك ، ولدفع الضرر

__________________

(١) خرجت الوضعية فانّها لا تسعد بها الإنسان ، العيان يكفيك عن البيان.

٣٨

المحتمل.

وأمّا من عزل العقل عن الحكم في ذلك المجال ، فليس له أن يثبت لزوم النظر إلاّ عن طريق الشرع ، وهو بعد غير ثابت ، فتطرح مشكلة الدور.

٨. العلم بصدق دعوى الأنبياء

إذا اقترنت دعوة المتنبّئ بالمعاجز والبيّنات الواضحة ـ فبناء على استقلال العقل بالحسن والقبح العقليّين ـ لحكمنا بصدقه ، لقبح إعطاء البيّنات للمدّعي الكذّاب لما فيه من إضلال الناس ، وأمّا إذا عزلنا العقل عن الحكم المذكور ، فلا دليل على صدق نبوّته.

٩. الخاتمية واستمرار أحكام الإسلام

إنّ استقلال العقل بالتحسين والتقبيح ـ بالمعنى الذي عرفت ـ أساس الخاتمية وبقاء أحكام الإسلام وخلودها إلى يوم القيامة ، لأنّ الفطرة ـ التي هي العماد لإدراك الحسن والقبح ـ مشتركة بين جميع أفراد البشر ولا تتبدّل بتبدّل الحضارات وتطور الثقافات ، فإنّ تبدّلها لا يمسّ فطرة الإنسان ولا يُغير جبلته ، فيصبح ما تستحسنه الفطرة أو تستقبحه خالداً إلى يوم القيامة ، دون أن يتطرّق إليه التبدّل والتغيّر.

١٠. الله عادل لا يجور

من أبرز مصاديق حكمته ـ تعالى ـ هو عدله ، بمعنى قيامه بالقسط ، وأنّه لا يجور ولا يظلم ، ويترتب عليه بعض النتائج التي منها :

٣٩

أ. قبح العقاب بلا بيان

إذا كان الله تعالى عادلاً ، فانّه لا يعاقب عباده دون أن يبيّن لهم تكاليفهم ، لحكم العقل بقبح العقاب بلا صدور بيان ، أو مع صدور دون أن يقع في متناول العباد ، ولزوم تنزّه الواجب عنه.

ب. قبح التكليف بما لا يطاق

من نتائج حكم العقل بعدله تعالى ، حكمه بلزوم تكليفه بما يطيقه العبد ، وأنّ تكليفه وإلزامه بما هو فوق طاقته ظلم وقبيح لا يصدر عن الحكيم.

ج. مدَى تأثير القضاء والقدر في مصير الإنسان

هذه المسألة على الرغم من أهميتها البالغة في العقيدة الإسلامية ، فقد احتدم الجدل حولها إلى درجه التكفير وإراقة الدماء خاصة في العصور الأُولى ، فهل تأثيرهما إلى حدّ يسلب الاختيار عن الإنسان ، أو لا. والأوّل قبيح عند العقل فيتعين الثاني.

د. اختيار الإنسان.

من جملة المسائل المترتبة على عدله تعالى ، اختيار الإنسان في أفعاله دون أن يكون مجبوراً مسيَّراً فيما يقوم به من ظلم وجور.

١١. ثبات الأخلاق والقيم

إنّ مسألة ثبات الأخلاق في جميع العصور والحضارات أو تبدّلها تبعاً لاختلافها ، ممّا طرح مؤخراً عند الغربيّين ودارت حوله نقاشات حادة ، فمن قائل بثبات أُصولها ، ومن قائل بتبدّلها وتغيّرها حسب تغير الأنظمة والحضارات ، ولكن

٤٠