الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

يخطئه في موضعين من البيت قوله : والجهة وقوله : والانفصال.

والشيخ اللقاني في قوله :

ويستحيل ضدّ ذي الصفات

في حقّه كالكون في الجهات

وبالجملة هو مخطئ لكلّ من يقول بنفي الجهة مهما كان قدره.

ولا يخفى على فضيلتكم أنّ الكلام في مسألة الجهة شهير ، إلاّ أنّه من المعلوم أنّ قول فضيلتكم سيما في مثل هذا الأمر هو الفصل ، وأرجو أن يكون عليه إمضاؤكم بخطكم والختم ولا مؤاخذة ، لا زلتم محفوظين ولمذهب أهل السنّة والجماعة ناصرين آمين.

نصّ الجواب

وقد كتب إليه شيخ الأزهر جواباً لسؤاله وهذا نصّه :

إلى حضرة الفاضل العلاّمة الشيخ أحمد علي بدر خادم العلم الشريف ببلصفورة :

قد أرسلتم بتاريخ ٢٢ محرم سنة ١٣٢٥ ه‍ ـ مكتوباً مصحوباً بسؤال عن حكم من يعتقد ثبوت الجهة له تعالى ، فحررنا لكم الجواب الآتي وفيه الكفاية لمن اتّبع الحق وأنصف ، جزاكم الله عن المسلمين خيراً.

«اعلم أيدك الله بتوفيقه وسلك بنا وبك سواء طريقه ، أنّ مذهب الفرقة الناجية وما عليه أجمع السنّيون أنّ الله تعالى منزّه عن مشابهة الحوادث ، مخالف لها في جميع سمات الحدوث ، ومن ذلك تنزهه عن الجهة والمكان كما دلّت على ذلك البراهين القطعية ، فانّ كونه في جهة يستلزم قدم الجهة أو المكان وهما من العالم ،

٣٦١

وهو ما سوى الله تعالى ، وقد قام البرهان القاطع على حدوث كلّ ما سوى الله تعالى بإجماع من أثبت الجهة ومن نفاها ، ولأنّ المتمكن يستحيل وجود ذاته بدون المكان مع أنّ المكان يمكن وجوده بدون المتمكن لجواز الخلاء ، فيلزم إمكان الواجب ووجوب الممكن ، وكلاهما باطل ، ولأنّه لو تحيز لمكان جوهراً لاستحالة كونه عرضاً ، ولو كان جوهراً فامّا أن ينقسم وإمّا أن لا ينقسم ، وكلاهما باطل ، فانّ غير المنقسم هو الجزء الذي لا يتجزأ وهو أحقر الأشياء ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

والمنقسم جسم وهو مركّب والتركيب ينافي الوجوب الذاتي ، فيكون المركّب ممكناً يحتاج إلى علّة مؤثرة ، وقد ثبت بالبرهان القاطع أنّه تعالى واجب الوجود لذاته ، غنيّ عن كلّ ما سواه ، مفتقر إليه كلّ ما عداه ، سبحانه ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير ....

هذا وقد خذل الله أقواماً أغواهم الشيطان وأزلّهم ، اتّبعوا أهواءهم وتمسّكوا بما لا يجدي فاعتقدوا ثبوت الجهة تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

واتّفقوا على أنّها جهة فوق إلاّ أنّهم افترقوا ؛ فمنهم من اعتقد أنّه جسم مماس للسطح الأعلى من العرش ، وبه قال الكرامية واليهود ، وهؤلاء لا نزاع في كفرهم.

ومنهم من أثبت الجهة مع التنزيه ، وأنّ كونه فيها ليس ككون الأجسام ، وهؤلاء ضلاّل فسّاق في عقيدتهم ، وإطلاقهم على الله ما لم يأذن به الشارع ، ولا مرية أنّ فاسق العقيدة أقبح وأشنع من فاسق الجارحة بكثير سيما من كان داعية أو مقتدى به. وممّن نسب إليه القول بالجهة من المتأخّرين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي من علماء القرن الثامن ، في ضمن

٣٦٢

أُمور نسبت إليه خالف الإجماع فيها عملاً برأيه وشنع عليه معاصروه بل البعض منهم كفروه ، ولقى من الذل والهوان ما لقى ، وقد انتدب بعض تلامذته للذب عنه وتبرئته ممّا نسب إليه وساق له عبارات أوضح معناها ، وأبان غلط الناس في فهم مراده.

واستشهد بعبارات له أُخرى صريحة في دفع التهمة عنه ، وأنّه لم يخرج عمّا عليه الإجماع ، وذلك هو المظنون بالرجل لجلالة قدره ورسوخ قدمه ، وما تمسّك به المخالفون القائلون بالجهة أُمور واهية وهمية ، لا تصلح أدلّة عقلية ولا نقلية ، قد أبطلها العلماء بما لا مزيد عليه ، وما تمسكوا به ظواهر آيات وأحاديث موهمة :

كقوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) وقوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) وقوله : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) وقوله : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) وقوله : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ).

وكحديث : «إنّه تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كلّ ليلة».

وفي رواية «في كلّ ليلة جمعة فيقول هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟».

وكقوله للجارية الخرساء : «أين الله فأشارت إلى السماء» حيث سأل بأين التي للمكان ولم ينكر عليها الإشارة إلى السماء ، بل قال إنّها مؤمنة.

ومثل هذه يجاب عنها بأنّها ظواهر ظنيّة لا تعارض الأدلّة القطعية اليقينيّة الدالّة على انتفاء المكان والجهة ، فيجب تأويلها وحملها على محامل صحيحة لا تأباها الدلائل والنصوص الشرعية ، إمّا تأويلاً إجمالياً بلا تعيين للمراد منها كما هو مذهب السلف ، وإمّا تأويلاً تفصيلياً بتعيين محاملها وما يراد منها كما هو رأي الخلف ، كقولهم : إنّ الاستواء بمعنى الاستيلاء كما في قول القائل :

٣٦٣

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مُهراق

وصعود الكلم الطيب إليه قبوله إياه ورضاه به ، لأنّ الكلم عرض يستحيل صعوده ، وقوله : من في السماء : أي أمره وسلطانه أو ملك من ملائكته موكّل بالعذاب.

وعروج الملائكة والروح إليه صعودهم إلى مكان يتقرب إليه فيه. وقوله : فوق عباده أي بالقدرة والغلبة ، فإنّ كلّ من قهر غيره وغلبه فهو فوقه أي عال عليه بالقهر والغلبة ، كما يقال : أمر فلان فوق أمر فلان ، أي أنّه أقدر منه وأغلب.

ونزوله إلى السماء محمول على لطفه ورحمته وعدم المعاملة بما يستدعيه علوّ رتبته وعظم شأنه على سبيل التمثيل ، وخصّ الليل لأنّه مظنّة الخلوة والخضوع وحضور القلب.

وسؤاله للجارية ب «أين» استكشاف لما يظن بها اعتقاده من أينية المعبود كما يعتقده الوثنيون ، فلمّا أشارت إلى السماء فهم أنّها أرادت خالق السماء ، فاستبان أنّها ليست وثنية ، وحكم بإيمانها. وقد بسط العلماء في مطولاتهم تأويل كلّ ما ورد من أمثال ذلك ، عملاً بالقطعي وحملاً للظني عليه ، فجزاهم الله عن الدين وأهله خير الجزاء.

ومن العجيب أن يدع مسلم قول جماعة المسلمين وأئمّتهم ويتمشدق بتُرهات المبتدعين وضلالتهم. أما سمعوا قول الله تعالى : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) فليتب إلى الله تعالى من تلطخ بشيء من هذه القاذورات ولا يتبع خطوات الشيطان فانّه يأمر بالفحشاء والمنكر ، ولا يحملنه العناد على التمادي والإصرار عليه فانّ الرجوع إلى الصواب

٣٦٤

عين الصواب والتمادي على الباطل يفضي إلى أشدّ العذاب (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) نسأل الله تعالى أن يهدينا جميعاً سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وصلّى الله تعالى وسلّم على سيّدنا محمّد وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أملاه الفقير إليه سبحانه (سليم البشري) خادم العلم والسادة المالكية بالأزهر عفى عنه آمين آمين. (١)

اقتراح

وفي الختام نوصي رؤساء الطوائف الإسلامية بالابتعاد عن العصبية وعن الآراء التي ورثوها عن أُناس غير معصومين ، وإجراء الحوار الهادئ فيم اختلف فيه كلمة المحقّقين من العلماء حتّى يرتفع كثير من الخلافات النابعة من تقديم الهوى على الحقّ.

قال أمير المؤمنين علي ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان : اتّباع الهوى وطول الأمل ؛ فأمّا اتباع الهوى فيصدّ عن الحقّ ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة». (٢)

__________________

(١) فرقان القرآن : ٧٤ ـ ٧٦.

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ٤٢ ، طبعة عبده.

٣٦٥
٣٦٦

الفصل الثامن

 البداء في الكتاب والسنّة

٣٦٧
٣٦٨

البداء في حديث الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

تمهيد

البداء في اللغة هو ظهورُ ما خفي. يقول سبحانه : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (١) ، أي ظهر لهم آثار ما عملوا من السيّئات وأحاط بهم ما كانوا به يستهزءون.

وقال عزّ من قائل : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (٢) ، أي ظهر لهم بعد ما رأوا الآيات الدالّة على براءة يوسف أن يسجنوه إلى حين ينقطع فيه كلام النّاس ، وإلى غيرهما من الآيات التي تدلّ على أنّ البداء عبارة عن ظهور ما خفي.

وعلى ذلك فالبداء بهذا المعنى من خصائص من كان جاهلاً بعواقب الأُمور ثمّ يبدو له ما خفي عليه ، ولأجل ذلك نسب البداء في القرآن إلى غيره سبحانه.

كما نرى أنّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يستعمل كلمة البداء وينسبها إلى الله سبحانه ، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة :

__________________

(١) الجاثية : ٣٣.

(٢) يوسف : ٣٥.

٣٦٩

إنّه سمع من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّ ثلاثة في بني إسرائيل : أبرص وأقرع وأعمى «بدا لله» أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرصَ ، فقال : أي شيء أحب إليك؟ قال : لون حسن ، وجلد حسن ، قد قذّرني الناس ، قال فمسحه فذهب عنه فأُعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً ، فقال : أي المال أحب إليك؟ قال : الإبل أو قال : البقر ـ هو شك في ذلك أنّ الأبرص والأقرع ، قال أحدهما : الإبل ، وقال الآخر : البقر ـ فأُعطي ناقة عشراء ، فقال : يبارك الله لك فيها.

وأتى الأقرع ، فقال : أي شيء أحبّ إليك؟ قال : شعر حسن ويذهب عنّي هذا قد قذرني الناس قال : فمسحه ، فذهب ، وأُعطي شعراً حسناً ، قال : فأي المال أحب إليك؟ قال : البقر. قال : فأعطاه بقرة حاملاً ، وقال : يبارك لك فيها.

وأتى الأعمى فقال : أي شيء أحب إليك؟ قال : يرد الله إليّ بصري ، فأبصر به الناس ، قال : فمسحه فردّ الله إليه بصره. قال : فأي المال أحب إليك؟ قال : الغنم ، فأعطاه شاة والداً. فأُنتج هذان وولّد هذا ، فكان لهذا واد من إبل ، ولهذا واد من بقر ، ولهذا واد من الغنم.

ثمّ إنّه أتى الأبرص في صورته وهيئته ، فقال : رجل مسكين تقطّعت بي الحبال في سفري ، فلابلاغ اليوم إلاّ بالله ثمّ بك ، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال ، بعيراً أتبلّغ عليه في سفري ؛ فقال له : إنّ الحقوق كثيرة. فقال له : كأنّي أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس ، فقيراً فأعطاك الله؟ فقال : لقد ورثت لكابر عن كابر؟ فقال : إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت.

وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا فرد عليه مثلما رد عليه هذا ، فقال : إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت.

وأتى الأعمى في صورته فقال : رجل مسكين وابن سبيل وتقطّعت بي

٣٧٠

الحبال في سفري ، فلابلاغ اليوم إلاّ بالله ، ثمّ بك ، أسألك بالذي رد عليك بصرك ، شاة أتبلّغ بها في سفري ؛ فقال : قد كنت أعمى فرد الله بصري ، وفقيراً فقد أغناني ، فخذ ما شئت ، فو الله لا أجحدك اليوم بشيء أخذته لله ، فقال : أمسك مالك فإنّما ابتليتم فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك. (١)

هذا هو كلام الرسول الأعظم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وقد استعمل لفظ البداء في حقّه سبحانه ، ومن الطبيعي انّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لم يستعمل هذا اللفظ في معناه اللغوي لاستلزامه ـ والعياذ بالله ـ الجهل على الله سبحانه ، بل استعمله في معنى آخر لمناسبة بينه وبين المعنى اللغوي.

وكم له من نظير في الكتاب والسنّة ، وقد اشتهر انّ كلام البلغاء مشحون بالمجاز.

إنّ البراهين العقلية الرصينة والآيات الباهرة القرآنية قد أسفرت عن إحاطة علمه سبحانه بكلّ شيء في الأرض والسماء وما مضى وما يأتي على نحو لا يتصوّر في مثله الظهور بعد الخفاء ، ولنتبرك بذكر بعض الآيات وترك ذكر البراهين العقلية إلى محلها. قال عزّ من قائل :

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ). (٢)

(وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ). (٣)

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). (٤)

__________________

(١) البخاري : الصحيح ٤ / ١٧٢ ، كتاب الأنبياء ، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل.

(٢) آل عمران : ٥.

(٣) إبراهيم : ٣٨.

(٤) الحديد : ٢٢.

٣٧١

كيف يمكن طروء الخفاء عليه سبحانه مع أنّه محيط بالعالم صغيره وكبيره ، مادّيه ومجرّده ، والأشياء كلّها قائمة به قياماً قيّومياً كقيام المعنى الحرفي بالاسمي؟! وغيبوبة المعنى الحرفي عن المعنى الاسمي تساوي فناءه.

كلّ ذلك يقودنا إلى التفتيش عن تفسير آخر للبداء ينسجم مع ما جاء في الحديث المنقول عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وإلاّ فالرسول وخلفاؤه وقاطبة علماء المسلمين أجل من أن ينسبوا إلى الله سبحانه البداء بالمعنى اللغوي الآنف الذكر.

وهذه الرسالة الماثلة بين يديك عزيزي القارئ الكريم أخذت على عاتقها بيان التفسير الصحيح للبداء والمنسجم مع حديث الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

ويأتي كلّ ذلك ضمن أُمور :

٣٧٢

١

 تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة

ذهبت اليهود إلى استحالة تعلّق مشيئة الله بغير ما جرى عليه قلم القضاء والقدر ، فيمتنع تغيير ما قُدِّر إلى خلافه ، وقد تبلورت تلك العقيدة في كلامهم بأنّ يد الله مغلولة ، قال سبحانه حاكياً عنهم : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً). (١)

وعلى هذا الأساس قالوا يد الله مغلولة عن القبض والبسط والأخذ والعطاء ، وانّه إذا جرى قلمه وتقديره على شيء لا يبدّل ولا يغيّر فيخرج عن إطار قدرته.

واستنتجوا من هذا الأصل ، امتناع نسخ الأحكام الشرعية أيضاً.

ثمّ إنّه سبحانه يردّ على تلك العقيدة في غير واحدة من الآيات ويقول :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (٢)

__________________

(١) المائدة : ٦٤.

(٢) فاطر : ١.

٣٧٣

(وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). (١)

فالله سبحانه كما هو المقدِّر للمصير الأوّل ، هو المقدّر أيضاً للمصير الثاني ، فهو في كلّ يوم في شأن ، وانّه جلّ وعلى يبدئ ويعيد ، ويحيي ويميت ، يزيد في الرزق والعمر ويُنقص ، كلّ ذلك حسب مشيئته الحكمية والمصالح الكامنة. فكما هو عالم بالتقدير الأوّل ، عالم ـ في نفس ذلك الوقت ـ بأنّه سوف يزول ويخلفه تقدير آخر ، لكن لا بمعنى وجود الفوضى في التقدير ، بل بتبعية كلّ تقدير لملاكه وسببه.

إذا كان في هذه الآيات إلماع إلى إخلاف تقدير مكان تقدير ، ففي الآيات التالية تصريحات بأنّ الإنسان هو الذي يستطيع أن يغيّر مصيره بصالح أعماله وطالحها ، وأنّ التقدير الأوّل الذي نجم عن سبب في حياة العبد ليس تقديراً قطعياً لا يغيّر ، بل هو تقدير معلّق سيتغيّر إذا تغيّر سببه.

يقول سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٢) وليست هذه الآية ، آية فريدة ، بل هناك آيات كثيرة تُبيّن بأنّ للإنسان مقدرة واسعة على إخلاف تقدير مكان تقدير وقضاء مكان قضاء ، كلّ ذلك بمشيئته سبحانه وإرادته حيث زوّد العبدَ بحرية ومشيئة على أن يُخلف تقديراً مكان تقدير آخر ، وها نحن نقتصر على نزر قليل منها حتّى يتّضح الحال.

١. (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَ

__________________

(١) فاطر : ١١.

(٢) الأعراف : ٩٦.

٣٧٤

 يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً). (١)

٢. (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ). (٢)

٣. (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ). (٣)

٤. (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ). (٤)

٥. (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ). (٥)

٦. (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ). (٦)

٧. (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ). (٧)

٨. (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ* وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ). (٨)

إنّ هذه الآيات تعرب عن أنّ الأعمال الصالحة مؤثّرة في مصير الإنسان وانّه يقدر بعمله الصالح على تغيير التقدير وتبديل القضاء ـ غير المبرم ـ ، لأنّه ليس في أفعال الإنسان الاختيارية مقدَّر محتوم حتّى يكون العبد في مقابله مكتوف الأيدي والأرجل.

__________________

(١) نوح : ١٢١٠.

(٢) الرعد : ١١.

(٣) الأنفال : ٥٣.

(٤) الطلاق : ٣٢.

(٥) إبراهيم : ٧.

(٦) الأنبياء : ٧٦.

(٧) الأنبياء : ٨٤٨٣.

(٨) الصافات : ١٤٣ ـ ١٤٦.

٣٧٥

تغيير المصير بالأعمال في الروايات

دلّ غير واحد من الروايات على أنّ الأعمال الصالحة أو غيرها تُغيّر التقدير ، كما ورد عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ انّ الصدقة والاستغفار والدعاء وصلة الرحم وما أشبه ذلك يغير التقدير.

وما هذا إلاّ لأنّ التقدير لم يكن تقديراً قطعياً ، بل تقديراً معلّقاً على عدم الإتيان بصالح الأعمال أو بطالحها ، فإذا وجد المعلّق عليه يتبدّل التقدير بتقدير آخر ، كلّ ذلك بعلم ومشيئة منه سبحانه ، فهو عند ما يقدر عالم ببقاء التقدير أو بتبدّله ـ في المستقبل ـ إلى تقدير آخر ، فلو كان هناك جهل فإنّما هو في جانب العباد لا في ساحة المقدِّر ، فانّه عالم بعامة الأشياء والتقديرات ثابتها ومتغيّرها.

سنّة الله الحكيمة في عباده

إنّه سبحانه حسب حكمته الحكيمة جعل تقدير العباد على قسمين نذكرهما بالتفصيل التالي :

١. تقدير قطعي لا يقبل المحو والتغيير ، وذلك كسنّته سبحانه في موت الإنسان وفنائه ، فقوله سبحانه : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (١) من السنن القطعية التي لا تتغيّر ولا تتبدّل ، وكم له من نظير كقوله سبحانه : (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ). (٢)

٢. تقدير معلق غير قطعي مشروط بشرط خاص ، فلو قدّر الصلاح فهو مشروط بعدم ارتكاب ما يخرجه من الصلاح ، وإذا قدّر الضلال فهو أيضاً

__________________

(١) الزمر : ٣٠.

(٢) الأنبياء : ١٠٥.

٣٧٦

مشروط بعدم تعاطيه ما يدخله مدخل الهدى ، كلّ ذلك لحكمة.

إنّ تلك السنّة ـ الّتي تُمكّن الإنسان من تغيير مصيره ـ بصيص أمل للمذنبين ، لئلاّ يقنطوا ، ولئلاّ ينقطع رجاؤهم من رحمته سبحانه ، بل تبقى اضبارة أعمالهم مفتوحة حتّى السنين الأخيرة من أعمارهم ، كما هي إنذار للصالحين بأن لا يغتروا بأعمالهم الصالحة ، وذلك لأنّ العبرة بخواتيم الأعمال ، فلو صدر منهم في فترة أُخرى من حياتهم ما يغضب الرب فسوف يتغيّر تقديره سبحانه من صلاح إلى طلاح.

وبما انّ لهذه السنة أثراً تربوياً في الأُمّة ، نرى أنّ الروايات كالآيات تركّز على تمكّن الإنسان من تغيير مصيره من خير إلى شر ومن شر إلى خير ، وقد تضافرت الروايات عن النبيّ الأعظم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ في هذا المقام نذكر فيما يلي نماذج منها.

أثر الدعاء في تغيير المصير

أخرج الحاكم عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه قال : لا ينفع الحذر عن القدر ولكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر. (١)

وأخرج ابن أبي شيبة في «المصنّف» وابن أبي الدنيا في الدعاء عن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه : قال : ما دعا عبد بهذه الدعوات إلاّ وسّع الله له في معيشته :

«يا ذا المن ولا يُمنّ عليه ، يا ذا الجلال والإكرام يا ذا الطول ، لا إله إلاّ أنت ظهر اللاجين وجار المستجيرين ، ومأمن الخائفين إن كنت كتبتني

__________________

(١) الدر المنثور : ٤ / ٦٦١.

٣٧٧

عندك في أُمّ الكتاب شقياً فامح عني اسم الشقاء واثبتني عندك سعيداً ، وإن كنت كتبتني عندك في أُمّ الكتاب محروماً مقتراً على رزقي ، فامح حرماني ويسّر رزقي وأثبتني عندك سعيداً موفقاً للخير ، فإنّك تقول في كتابك الذي أنزلت (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). (١)

روى الكليني بسنده عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : سمعته يقول : «إنّ الدعاء يرد القضاء ينقضه كما يُنقض السلك وقد أُبرم إبراماً». (٢)

وروى الكليني بسند عن أبي الحسن موسى ـ عليه‌السلام ـ : «عليكم بالدعاء ، فانّ الدعاء لله والطلب إلى الله يردّ البلاء وقد قدّر وقضى ولم يبق إلاّ إمضاؤه ، فإذا دعي الله عز وجلّ وسئل صرف البلاء صرفة». (٣)

أثر الصدقة في تغيير المصير

روى السيوطي في «الدر المنثور» عن علي ـ عليه‌السلام ـ : انّه سأل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عن هذه الآية (يَمْحُوا اللهُ)؟ فقال له : «لأقرّنّ عينيك بتفسيرها ولأقرّنّ عين أُمّتي بعدي بتفسيرها : الصدقة على وجهها ، وبرّ الوالدين ، واصطناع المعروف يحوّل الشقاء سعادة ، ويزيد في العمر ، ويقي مصارع السوء». (٤)

وكما أنّ للأعمال الصالحة أثراً في المصير وحسن العاقبة ، وشمول الرحمة وزيادة العمر وسعة الرزق ، كذلك الأعمال الطالحة والسيئات في الأفعال فانّ لها تأثيراً ضد أثر الأعمال الحسنة.

ويدلّ على ذلك من الآيات قوله سبحانه :

__________________

(١) الدر المنثور : ٤ / ٦٦١.

(٢) الكافي : ٢ / ١٦٩ ، باب انّ الدعاء يردّ البلاء والقضاء ، الحديث ١.

(٣) الكافي : ٢ / ٤٧٠ ، باب انّ الدعاء يرد البلاء ، الحديث ٨.

(٤) الدر المنثور : ٤ / ٦٦١.

٣٧٨

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ). (١)

وقال سبحانه : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ). (٢)

__________________

(١) النحل : ١١٢.

(٢) الأعراف : ١٣٠.

٣٧٩

٢

 البداء في الكتاب العزيز

لقد عرفت أنّه ليس للإنسان مصير واحد لا يُردّ ولا يبدّل ، بل ما كتب وقدّر يتغيّر بصالح الأعمال وطالحها ، فليس الإنسان في مقابل التقدير مسيّراً ، ولكنّه بعدُ مخيّر في أن يغيّر التقدير بصالح أفعاله أو بسيّئاتها.

ومن حسن الحظ انّ الكتاب يركّز على ذلك ويعرب عن أنّ لله سبحانه لوحين :

١. لوح المحو والإثبات.

٢. أُمّ الكتاب.

فما في اللوح الأوّل خاضع للتغيير والتبديل ، فليس ما كتب فيه أمراً قطعياً لا يغيّر ولا يتبدّل ، قال سبحانه : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ* يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). (١)

وهذه الآية هي الأصل في البداء في الشريعة الإسلامية ، وها نحن ننقل

__________________

(١) الرعد : ٣٨ ـ ٣٩.

٣٨٠