الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

وحدّث سليمان بن جعفر الجعفري قال : قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر ـ عليه‌السلام ـ : يا ابن رسول الله ، ما تقول في القرآن؟ فقد اختلف فيه مَن قبْلَنا ، فقال قوم إنّه مخلوق ، وقال قوم إنّه غير مخلوق؟

فقال ـ عليه‌السلام ـ : «أما إنّي لا أقول في ذلك ما يقولون ، ولكنّي أقول : إنّه كلام الله». (١)

فإنّا نرى أنّ الإمام ـ عليه‌السلام ـ يبتعد عن الخوض في هذه المسألة لما رأى من أنّ الخوض فيها ليس لصالح الإسلام ، وأنّ الاكتفاء بأنّه كلام الله أحسم لمادة الخلاف. ولكنّهم ـ عليهم‌السلام ـ عند ما أحسوا بسلامة الموقف ، أدلوا برأيهم في الموضوع ، وصرّحوا بأنّ الخالق هو الله وغيره مخلوق والقرآن ليس نفسه سبحانه ، وإلاّ يلزم اتحاد المُنْزَل والمُنْزِل ، فهو غيره ، فيكون لا محالة مخلوقاً.

فقد روى محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني أنّه كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا ـ عليه‌السلام ـ إلى بعض شيعته ببغداد : «بسم الله الرّحمن الرّحيم ، عَصَمَنا اللهُ وإيّاك من الفِتْنَةِ ، فإنْ يَفْعَل فقد أعظَمَ بِها نِعمة ، وإن لا يَفْعَل فهي الهَلَكة. نحن نرى أنّ الجِدالَ في القرآن بِدْعَةٌ ، اشترك فيها السائل والمُجيب ، فيتعاطى السائل ما ليس له ، ويتكلّف المُجيب ما ليس عليه ، وليس الخالقُ إلاّ الله عزّ وجلّ ، وما سواهُ مخلوقٌ ، والقرآنُ كلامُ الله ، لا تَجْعَل لَه اسماً مِنْ عندِك فتكون من الضّالّين ، جعَلَنا الله ، وإياك من الّذين يَخْشَوْنَ ربّهم بالغيب وهم من السّاعة مُشفقون». (٢)

وفي الرواية المروية إشارة إلى المحنة التي نقلها المؤرخون ، حيث كتب المأمون

__________________

(١) المصدر السابق ، الحديث ٥ ، ص ٢٢٤.

(٢) المصدر السابق ، الحديث ٤.

٣٤١

إلى الولاة في العواصم الإسلامية أن يختبروا الفقهاء والمحدّثين في مسألة خلق القرآن ، وفرض عليهم أن يعاقبوا كلّ من لا يرى رأي حدوث القرآن في هذه المسألة. وجاء المعتصم والواثق فطبّقا سيرته وسياسته مع خصوم المعتزلة وبلغت المحنة أشدها على المحدّثين ، وبقى أحمد بن حنبل ثمانية وعشرين شهراً تحت العذاب فلم يتراجع عن رأيه. (١)

ولما جاء المتوكل العباسي ، نصر مذهب الحنابلة وأقصى خصومهم ، فعند ذلك أحسّ المحدثون بالفرج وأحاطت المحنة بأُولئك الذين كانوا بالأمس القريب يفرضون آراءهم بقوة السلطان.

فهل يمكن عدّ مثل هذا الجدال جدالاً إسلامياً ، وقرآنياً ، لمعرفة الحقيقة وتبيّنها ، أو أنّه كان وراءه شيء آخر؟ الله العالم بالحقائق وضمائر القلوب.

__________________

(١) لاحظ سير أعلام النبلاء للذهبي ، ج ١١ ، ص ٢٥٢.

٣٤٢

الصفات الخبرية

قسّم الباحثون صفاتهِ سبحانه إلى : صفات ذاتية وصفات خبرية. فالعِلْم والقدرة والحياة والسمع والبصر وكلّ ما تطلق عليه صفة الكمال يعدّ من الصفات الذاتية ، وأمّا ما دلّت عليه ظواهر الآيات والأحاديث كالعلوّ والوجه واليدين والاستواء والرجل إلى غير ذلك ممّا ورد في المصدرين فتعدّ من الصفات الخبريّة.

ثمّ إنّ لأهل الحديث والكلام آراءً في تفسير الصفات الخبرية قد أوضحنا حالها في بحوثنا الكلامية (١) ، ونحن نقتصر في المقام بنقل ما عليه سلف أهل السنّة وهم على طائفتين :

نعبر عنها ب :

مبتدعة السلفية.

ومعطِّلة السلفية.

والطائفة الأُولى مغترون بظواهر بعض الآيات والأحاديث من دون إمعان وفكر في مفاهيمها ومقاصدها وهم المجسِّمة والمشبِّهة.

والطائفة الثانية يتبرّءون من التجسيم ولكنّهم لا يخوضون في فهم الآيات ولا يمعنون في معانيها ، وبذلك عدّوا من المُعطِّلة ، لأنّهم عطّلوا العقول في الإمعان في صفاته. فكلا الطائفتين حُرمتا من الاستضاءة بنور القرآن.

__________________

(١) لاحظ بحوث في الملل والنحل : ٢ / ٩٥ ـ ١١٤ ؛ مفاهيم القرآن : قسم المقدمة : ٣٢١٥.

٣٤٣

وإليك دراسة كلتا النظريتين :

١. مبتدعة السلفية

إنّ غالبية السلف اغترّوا بكل حديث وقعت أعينهم عليه ، فجمعوا في حقائبهم كلّ ما سمعوه ، وبالتالي أخذوا بالظواهر وتركوا الاستعانة بالقرائن ، ووصفوا كلّ بحث حول المعارف القرآنية تأويلاً للقرآن وخروجاً عن الدين ، وكبحوا جماح العقل بتهمة الزندقة ، فوصفوا الكمال المطلق بالحلول والنزول والصعود والاستواء على السرير ، ترى كثيراً من هذه الأحاديث في مرويات حمّاد بن سلمة ، ونعيم بن حماد ، ومقاتل بن سليمان ، ومن لفّ لفّهم ، ففي مرويّاتهم تلك الآثار المشينة ، وقد قلّدهم كثير من البسطاء في القرون المتأخرة فحسبوها حقائق راهنة وألفوا فيها الكتب.

وعلى هذا الأساس ألّف كتاب «التوحيد» لمحمد بن إسحاق بن خزيمة (المتوفّى ٣٢١ ه‍) وكتاب «السنّة» لعبد الله بن أحمد بن حنبل ، وكتاب «النقض» لعثمان بن سعيد الدارمي السجزي المجسّم فانّه أوّل من اجترأ من المجسمة بالقول بأنّ الله لو شاء لاستقرّ على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته فكيف على عرش بعيد؟!!

هذا هو الشهرستاني يحكي عقيدة مبتدعة السلف الذين يجرون الصفات الخبرية على الله بمعانيها الحرفية من دون تدبر فيما هو المراد الواقعي من خلال هذه الصفات ، ويقول

وأمّا ما ورد في التنزيل من الاستواء والوجه واليدين والجنب والمجيء والإتيان والفوقية وغير ذلك ، فأجروها على ظاهرها ، أعني : ما يفهم عند إطلاق

٣٤٤

هذه الألفاظ على الأجسام ، وكذلك ما ورد في الأخبار من الصورة وغيرها في قوله عليه الصلاة والسلام : «خُلق آدم على صورة الرحمن» ، وقوله : «حتّى يضع الجبار قدمه في النار» ، وقوله : «قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الرحمن» ، وقوله : «خمّر طينة آدم بيده أربعين صباحاً» ، وقوله : «وضع يده أو كفّه على كتفي» ، وقوله : «حتّى وجدت برد أنامله على كتفي» إلى غير ذلك ، أجروها على ما يتعارف في صفات الأجسام ، وزادوا في الأخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأكثرها مقتبسة من اليهود ، فانّ التشبيه فيهم طباع ، حتّى قالوا : اشتكت عيناه (الله) فعادته الملائكة ، وبكى على طوفان نوح حتّى رمدت عيناه ، وإنّ العرش لتئط من تحته أطيط الرحل الجديد ، وأنّه ليفضل من كلّ جانب أربع أصابع ، وروى المشبهة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «لقيني ربي فصافحني وكافحني ووضع يده بين كتفي حتّى وجدت برد أنامله». (١)

هذه عقيدة مبتدعة السلف ، وإليك شيئاً من نصوص هؤلاء :

١. قيل لعبد الله بن مبارك : كيف يعرف ربنا؟ قال : بأنّه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه. (٢)

٢. وقال الأوزاعي : إنّ الله على عرشه ، ونؤمن بما وردت به السنّة من صفاته. (٣)

٣. وقال الدارمي في مقدّمة كتابه «الرد على الجهمية» : استوى على عرشه ، فبان من خلقه ، لا تخفى عليه منهم خافية ، علمه بهم محيط ، وبصره فيهم نافذ. (٤)

__________________

(١) الملل والنحل : ١ / ١٠٥ ـ ١٠٧.

٢ ، ٣ ، ٤ راجع في الوقوف على مصادر هذه النصوص كتاب «علاقة الإثبات والتفويض» : ص ٤٨ ، ٤١ ، ٦٨.

٣٤٥

٤. وقال المقدسي في كتابه «أقاويل الثقات في الصفات» : ولم ينقل عن النبي أنّه كان يحذِّر الناس من الإيمان بما يظهر في كلامه في صفة ربّه من الفوقية واليدين ونحو ذلك ، ولا نقل لهذه الصفات معاني أُخر ، باطنها غير ما يظهر من مدلولها ، وكان يحضر في مجلسه العالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي الجافي ، ثمّ لا تجد شيئاً يعقب تلك النصوص بما يصرفها عن حقائقها ، لا نصاً ولا ظاهراً ، ولما قال للجارية : أين الله؟ فقالت : في السماء ، لم ينكر عليها بحضرة أصحابه كي لا يتوهموا أنّ الأمر على خلاف ما هي عليه ، بل أقرّها وقال : أعتقها فإنّها مؤمنة. (١)

٥. وقال القرطبي في تفسيره عند تفسير آية ٥٤ من سورة الأعراف (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ):

وقد كان السلف الأوّل ـ رضي الله عنهم ـ لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك ، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله ، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنّه استوى على عرشه حقيقة ، وخص العرش بذلك لأنّه أعظم مخلوقاته ، وإنّما جهلوا كيفية الاستواء فإنّها لا تعلم حقيقته. (٢)

إلى غير ذلك من الكلمات التي يتبادر منها أنّ القائل بها يريد إجلاسه سبحانه على العرش إجلاساً حقيقياً حسّياً ، وأنّ تلك هي العقيدة الإسلامية التي يشترك فيها العالم والأعرابي الجافي.

ولكن العجب انّ هذه البدع بعد إخمادها ، أخذت تنتعش في أوائل القرن الثامن بيد أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفّى عام ٧٢٨ ه‍) فجدد ما

__________________

(١) «علاقة الإثبات والتفويض» ، ص ١١٥.

(٢) الملل والنحل : ١ / ١٥.

٣٤٦

اندرس من آثار تلك الطائفة المشبّهة ، وقد وصفه السبكي في «السيف الصقيل» : «بأنّه رجل جسور يقول بقيام الحوادث بذات الرب» ، ولكنّه يقول بأنكر من ذلك ، وقد أتى بنفس ما ذكره الدارمي المجسم في كتابه «غوث العباد» المطبوع بمصر عام ١٣٥١ ه‍ ـ في مطبعة الحلبي.

وعلى ذلك فابن تيمية أذن إمام المدافعين عن بيضة أهل التشبيه وشيخ إسلام أهل التجسيم ممّن سبقه من الكرامية وجهلة المحدّثين ، الذين اهتموا بالحفظ المجرد ، وغفلوا عن الفهم والتفكير ، ولأجل ذلك نرى أنّ الشيخ الحراني يرمي المفكّرين من المسلمين كإمام الحرمين والغزالي في كتابيه (منهاج السنة والموافقة المطبوع على هامش الأوّل) ، بأنّهما أشدّ كفراً من اليهود والنصارى مع أنّه (أي ابن تيمية) يعتنق عقائد يخالف فيها جمهرة المسلمين وأئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ.

٢. معطلة السلفية

لمّا كانت هذه الفكرة تُخبر عن التجسيم والجهة وغير ذلك من المضاعفات حاول الإمام الأشعري (٣٢٤٢٦٠ ه‍) بإصلاح عقيدة أهل الحديث بشق طريق متوسط بين الأخذ بالصفات الخبرية بحرفيتها وبين تأويلها الذي كان عليه المعتزلة فصارت عقيدة الأشعري عقيدة معدّلة.

وحاصل تلك النظرية : انّ الصفات الخبرية تُحمل على الله تعالى بنفس معانيها ولكن مقيدة بعدم الكيف ، فله سبحانه يد بلا كيف ، وعين بلا كيف ، ورجل بلا كيف ، واستواء بلا كيف ، ومعنى كونه بلا كيف انّه لا يعرف كنه الصفة ولسنا مكلّفين بمعرفة تفسير هذه الآيات.

وهذه الطائفة وإن خرجت عن مغبّة التشبيه والتجسيم غير انّهم تورّطوا في أشراك التعطيل وحبائله ، فعطّلوا العقول عن التفكّر في المعارف والأُصول كما

٣٤٧

عطّلوها عن التدبر في الآيات والأحاديث ، فكأنّ القرآن ألغاز نزلت إلى البشر ، وليس كتاباً للتعليم والإرشاد ، قال تعالى (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (١) فإذا كان القرآن مبيناً لكلّ شيء فكيف لا يكون مبيناً لنفسه؟ وكيف يكون المطلوب منه نفس الاعتقاد من دون فهم معناه؟

ولكن التتبع في سير المسائل الكلامية يثبت بأنّ هذا النوع من العقيدة حول الصفات الخبرية كانت له جذور في كلام أئمّة أهل السنّة ، ولعلّ الإمام الأشعري أخذ النظرية عنهم. وإليك نصين أحدهما من أبي حنيفة والآخر من الشافعي.

قال أبو حنيفة : وما ذكر الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس ، فهو له صفات بلا كيف ولا يقال انّ يده قدرته ونعمته ، لأنّ فيه إبطال الصفة ، وهذا قول أهل القدر والاعتزال ولكن يده صفته بلا كيف ، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف.

وقال الشافعي : لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردّها ، ومن خالف بعد ثبوت الحجّة عليه كفر ، وأمّا قبل قيام الحجّة ، فانّه يعذر بالجهل ، ونثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال ب (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٢). (٣)

إثبات الأشعري بين التشبيه والتعقيد

إنّ نظرية الإمام الأشعري ـ بل نظرية الإمامين : أبي حنيفة والشافعي ـ وان تميّزت عن سابقتها بنفي التجسيم والتشبيه لكنّها انتهت إلى سقوطها في ورطة

__________________

(١) النحل : ٨٩.

(٢) الشورى : ١١.

(٣) فتح الباري : ١٣ / ٣٤٣.

٣٤٨

الألغاز والتعقيد ، وذلك من خلال البيان التالي :

إنّ العقيدة الإسلامية المستقاة من الكتاب والسنّة والعقل الحصيف تتسم بسمتين :

١. تنزيهها عن التشبيه والتجسيم المأثورين عن اليهود والنصارى.

٢. ابتعادها عن التعقيد والالغاز التي لا تجتمع مع موقف الاسلام والقرآن في عرض العقائد بأسلوب واضح على المجتمع الإسلامي.

فكما أنّه يجب على الباحث التحرز عن سمة التجسيم والتشبيه ، يجب التحرز عن جعل صفاته سبحانه ألفاظاً جوفاء أو معاني معقدة لا يفهم منها شيء.

وللأسف انّ أكثر السلف ابتلوا بأحد هاتين الوصمتين : إمّا التشبيه والتجسيم كما مرّ ، وإمّا التعقيد واللغز. وذلك لأنّ إثبات الصفات الخبرية لله سبحانه وإمرارها عليه عند السلف «مبتدعة ومعطّلة» لا يخرج عن أحد هذين الإطارين ، فالكلّ إمّا يتكلّمون عنها في إطار التشبيه والتكييف ، ويسترسلون في هذا المضمار ، كما عليه مبتدعة السلف ، أو يفسرونها في إطار من التعقيد والغموض ، والكلّ مردود ، مرفوض.

وها نحن نأتي ببعض نصوص القوم في هذا المجال ، حتى نرى كيف أنّ العناية بالإثبات في مقابل «نفاة الصفات» أفضى بالقوم إلى حدّ التعقيد ومهزلة الغموض ، وكأنّ الصفات الواردة في الذكر الحكيم لم ترد للتدبر فيها ، فإليك نزراً من كلماتهم :

١. قال سفيان بن عيينة : كلّ شيء وصف الله به نفسه في القرآن فقراءته

٣٤٩

تفسيره ، لا كيف ولا مثيل. (١)

٢. قال ابن خزيمة : إنّما نثبت لله ما أثبته لنفسه ، نقر بذلك بألسنتنا ونصدق بذلك في قلوبنا من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين. (٢)

٣. قال الخطيب : إنّما وجب إثباتها ، لأنّ التوقيف ورد بها ، ووجب نفي التشبيه عنها بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). (٣)

٤. قال ابن قدامة المقدسي : وعلى هذا درج السلف والخلف متفقون على الإمرار والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنّة رسوله من غير تعرض لتأويله. (٤)

إنّ أصحاب هذه العقيدة وإن كانوا يتظاهرون بإثبات معاني الصفات الخبرية عليه سبحانه ولكنّهم يصفون الصفات بلفظة «بلا كيف» وهذا يجعلهم بين مفترق طريقين :

إمّا التشبيه وإمّا التعقيد.

وهذا ما نوضحه بالبيان التالي :

إنّ اليد والوجه والرجل موضوعة للأعضاء الخاصة في الإنسان ، ولا يتبادر منها إلاّ ما يتبادر عند أهل اللغة ، وحينئذ فإن أُريد منها المعنى الحقيقي يلزم التشبيه ، وإن أُريد غيره فذلك الغير إمّا معنى مجازي أُريد منه بحسب القرينة فيلزم التأويل ، وهم يفرّون منه فرار المزكوم من المسك.

وإمّا شيء لا هذا ولا ذاك ، فما هو ذلك الغير؟ بيّنوه لنا حتّى تتسم العقيدة

__________________

(١) علاقة الإثبات والتفويض : ٤٤.

(٢) علاقة الإثبات والتفويض : ٥٨ ، ٥٩ ، ٥٩.

(٣) علاقة الإثبات والتفويض : ٥٨ ، ٥٩ ، ٥٩.

(٤) علاقة الإثبات والتفويض : ٥٩. وهذا الكتاب مشحون بهذا النوع من الأقوال.

٣٥٠

بالوضوح والسهولة ، ونبتعد عن التعقيد والإبهام ، وإلاّ فالقول بأنّ له وجهاً لا كالوجوه ، ويداً لا كالأيدي ألفاظ جوفاء وشعارات خدّاعة لا يستفاد منها شيء سوى تخدير الأفكار وتضليلها عن جادة الصواب.

وباختصار : انّ المعنى الصحيح لا يخرج عن المعنى الحقيقي والمجازي ، وإرادة أمر ثالث خارج عن إطار هذين المعنيين يعد غلطاً وباطلاً ، وعلى هذا الأساس لو أُريد المعنى الحقيقي لزم التشبيه بلا إشكال ، ولو أُريد المعنى المجازي لزم التأويل ، والكلّ ممنوع عندهم ، فما هو المراد من هذه الصفات الواردة في الكتاب والسنّة؟

إنّ ما يلهجون به ويكررونه من أنّ هذه الصفات تجري على الله سبحانه بنفس معانيها الحقيقية ولكن الكيفية مجهولة ، أشبه بالمهزلة ، إذ لو كان إمرارها على الله بنفس معانيها الحقيقية لوجب أن تكون الكيفية محفوظة حتّى يكون الاستعمال حقيقياً ، لأنّ الواضع إنّما وضع هذه الألفاظ على تلك المعاني التي يكون قوامها بنفس كيفيتها ، ويكون عمادها وسنادها بنفس هويتها الخارجية ، فاستعمالها في المعاني حقيقة بلا كيفية أشبه بالأسد بلا ذنب ولا مخلب ولا ولا ... فقولهم : «المراد هو أنّ لله يداً حقيقة لكن لا كالأيدي» أشبه بالكلام الذي يناقض ذيله صدره.

أضف إلى ذلك : انّه ليس في النصوص من الكتاب والسنّة من هذه «البلكفة» أثر ولا عين وإنّما هو شيء اخترعه الفكر ، للتدرع به في مقام الرد على الخصم والنقض عليه ، بأنّ لازم إمرارها على الله بنفس معانيها ، هو التجسيم والتشبيه.

وأمّا ما هو الصحيح في تفسير الصفات الخبرية ، على نحو لا يلزم منه

٣٥١

تعطيل العقول عن الإمعان في مفاهيمها ، ولا التأويل أي حمل ظاهر الآية على خلافها؟ فهذا ما سنبيّنه تالياً.

بين التعطيل والتأويل

إنّ تفسير الصفات الخبرية على النحو الصحيح يقوم على دعامتين :

الأُولى : أن لا ينتهي التفسير إلى التجسيم والتشبيه والجهة وما لا يصحّ وصفه سبحانه به على ما دلّت عليه الآيات القرآنية والأدلة العقلية.

الثانية : أن يكون نزيهاً عن التأويل بمعنى صرف الآية عن ظاهرها إلى غير ظاهرها ، وذلك لأنّ الآيات القرآنية حجّة بظاهرها ولا يصحّ لنا ترك ظاهر الآية إلى غيرها ، لأنّ ذلك عمل اليهود والنصارى حيث يؤوّلون ظواهر التوراة والإنجيل لكونها مخالفة للأحكام العقلية الواضحة والعلوم القطعية التي أثبتتها التجارب العلمية.

والمحقّقون من الإسلاميّين عن بكرة أبيهم يأخذون بظواهر الآيات ولا يؤوّلونها قيد شعرة ، غير أنّ الذي يجب التركيز عليه هو تشخيص ظاهر الآية ، فبعد ثبوته لا يمكن رفع اليد عنه إلاّ بدليل قرآني خاص يكون ناسخاً أو مخصصاً أو مقيّداً. ومن المعلوم أنّ مجاري النسخ والتخصيص والتقييد هو آيات الأحكام ، لا العقائد والمعارف. وأمّا ما وراء ذلك فيجب علينا الأخذ بالظواهر دون التنازل عنه قيد شعرة.

الظاهر الإفرادي غير الظاهر الجملي أو التصديقي

إنّ الظاهر الإفرادي لا يؤخذ به في منهج العقلاء وإنّما يؤخذ بالظاهر

٣٥٢

الجمْلي والتصديقي.

١. رأيت أسداً في الحمام ، فلفظة «أسد» ظاهرة في الحيوان المفترس ، ولكنّه ظاهر أفرادي لا يؤخذ به ولا تدور عليه رحى المحاورة ، وإنّما يؤخذ بالظاهر الجمْلي أو التصديقي وهو الرجل الشجاع بقرينة قوله : في الحمام.

٢. يتكرر في مصطلحاتنا ومحاضراتنا وصف الرجل ببسط اليد وقبضه ، فله ظهور أفرادي وهو انّ يده مبسوطة لا تقبض أو مقبوضة لا تبسط ، ولكنّه لا يحتج به وله ظهور جملي وتصديقي ، وإنّما يحتج بالظهور الثاني وهو كونه كريماً وسخياً ، أو لئيماً وبخيلاً.

٣. إذا قلنا زيد كثير الرماد فالظهور البدوي انّ بيت زيد غير نظيف ، ولكنّه ظهور بدوي ، فإذا لوحظ انّ الكلام ورد في مقام المدح يكون قرينة على أنّ المراد لازم المعنى وهو الجود ، والذي يجب الأخذ به هو الظهور الجملي لا الحرفي والظهور المستقر لا البدوي.

تفسير نماذج من الصفات الخبرية

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الآيات الحاكية عن الصفات الخبرية إذا لوحظت مع القرائن المحتفة بالكلام يتبيّن الظهور التصوري عن التصديقي ، والظهور الابتدائي عن الاستقراري ويتبيّن انّ هذه الآيات غنية عن التأويل بمعنى حمل ظاهر الآية على خلافه.

ولأجل توضيح تلك الفكرة التي عليها العدلية نفسر بعض الآيات على هذا الأساس ليكون مقياساً لسائر الآيات التي ربما يكون ظاهرها البدوي على خلاف التنزيه.

٣٥٣

١. يقول سبحانه (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ). (١)

فنقول : إنّ «اليد» في الآية استعمل في العضو المخصوص ولكن كُنِّي بها عن الاهتمام بخلقة آدم حتى يتسنّى بذلك ذم إبليس على ترك السجود لآدم ، فقوله سبحانه : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) كناية عن أنّ آدم لم يكن مخلوقاً لغيري حتى يصحّ لك يا شيطان التجنّب عن السجود له ، بحجة أنّه لا صلة له بي ، مع أنّه موجود خلقتُه بنفسي ، ونفخت فيه من روحي ، فهو مخلوقي الذي قمت بخلقه ، فمع ذلك تمرّدت عن السجود له.

فأُطلقت الخلقةُ باليد وكُنّي بها عن قيامه سبحانه بخلقه ، وعنايته بإيجاده ، وتعليمه إيّاه أسماءه ، لأنّ الغالب في عمل الإنسان هو القيام به باستعمال اليد ، يقول : هذا ما بنيته بيدي ، أو ما صنعته بيدي ، أو ربّيته بيدي ، ويراد من الكل هو القيام المباشري بالعمل بكلّ الوجود ، لا خصوص اليد ، وكأنّه سبحانه يندد بالشيطان بأنّك تركتَ السجود لموجود اهتممت بخلقه وصنعه.

٢. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) (٢) فالمجسّمة المتعبّدة بظواهر النصوص البدوية تستدلّ بالآية على أنّ لله سبحانه أيدي يقوم بها بالأعمال الكبيرة ، ولكن المساكين اغترّوا بالظهور التصوريّ ولم يتدبّروا في الظهور التصديقي ، أخذوا بالظهور الجزئي دون الجملي ، فلو كانوا ممعنين في مضمون الآية وما احتفّ بها من القرائن ، لميّزوا الظهور التصديقي الذي هو الملاك عن غيره ، فإنّ الأيدي في الآية كناية عن تفرّده تعالى

__________________

(١) ص : ٧٥.

(٢) يس : ٧١.

٣٥٤

بخلق الأنعام وانّه لم يشاركه أحد فيها ، فهي مصنوعة لله تعالى والناس ينتفعون بها ، فبدل أن يشكروا ، يكفرون بنعمته ، وأنت إذا قارنت بين الآيتين تقف على أنّ المقصود هو المعنى الكنائي ، والمدار في الموافقة والمخالفة هو الظهور التصديقي لا التصوري.

قال الشريف المرتضى : قوله تعالى : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) جار مجرى قوله : «لما خلقت أنا» وذلك مشهور في لغة العرب. يقول أحدهم : هذا ما كسبتْ يداك ، وما جرت عليك يداك. وإذا أرادوا نفي الفعل عن الفاعل استعملوا فيه هذا الضرب من الكلام فيقولون : فلان لا تمشي قدمه ، ولا ينطق لسانه ، ولا تكتب يده ، وكذلك في الإثبات ، ولا يكون للفعل رجوع إلى الجوارح في الحقيقة بل الفائدة فيه النفي عن الفاعل. (١)

٣. قال سبحانه : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (٢) فاليد وإن كانت ظاهرة في العضو الخاص لكنّها في الآية كناية عن القوة والإحكام ، وذلك لأنّ «اليد» من مظاهر القدرة والقوة بقرينة قوله : (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) ، وكأنّه سبحانه يقول : والسماء بنيناها بقدرة لا يوصف قدرها وإنّا لذو سعة في القدرة لا يعجزها شيء ، أو بنيناها بقدرة عظيمة ونوسعها في الخلقة. (٣)

٤. قال سبحانه : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٤) انّ العرش في اللغة هو السرير والاستواء عليه هو الجلوس ، غير أنّ هذا حكم مفرداتها ، وأمّا معنى الجملة فيتفرع الاستظهار منها ، على القرائن الحافة بها ، فالعرب الأقحاح لا يفهمون منها سوى السلطة والاستيلاء ، وحملها على غير ذلك يعدّ تصرّفاً في الظاهر ، وتأويلاً لها ،

__________________

(١) أمالي المرتضى : ١ / ٥٦٥.

(٢) الذاريات : ٤٧.

(٣) الكشاف : ٣ / ٢١.

(٤) طه : ٥.

٣٥٥

فإذا سمع العرب قول القائل :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

أو سمع قول الشاعر :

ولما علونا واستوينا عليهم

تركناهم مرعى لنسر وكاسر

فلا يتبادر إلى أذهانهم سوى الاستيلاء والسيطرة والسلطة ، لا العلو المكاني الذي لا يعد ـ حتّى ـ كمالاً للجسم ، وأين هو من العلو المعنوي الذي هو كمال الذات.

وقد جاء استعمال لفظ الاستواء على العرش في سبع آيات مقترناً بذكر فعل من أفعاله ، وهو رفع السماوات بغير عمد ، أو خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، فكان ذاك قرينة على أنّ المراد منه ليس هو الاستواء المكاني بل الاستيلاء والسيطرة على العالم كله ، فكما لا شريك له في الخلق والإيجاد لا شريك له أيضاً في الملك والسلطة ، ولأجل ذلك يقول في بعض هذه الآيات ـ بعد الإخبار عن استوائه على العرش ـ : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ). (١)

فالتأويل بلا قيد وشرط ، إذا كان ضلالاً ـ كما سيوافيك بيانه ـ فكذلك الجمود على ظهور المفردات ، وترك التفكّر والتعمّق أيضاً ابتداع مفض إلى صريح الكفر ، فلو حمل القارئ قوله سبحانه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٢) على أنّ لله مثلاً ، وليس لهذا المثل مثل ... إذن يقع في مغبّة الشرك وحبائله ، وقد نقل الرازي في تفسيره لهذه الآية كلاماً عن ابن خزيمة نأتي بنصّه حيث قال : «واعلم أنّ محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سمّاه

__________________

(١) الأعراف : ٥٤.

(٢) الشورى : ١١

٣٥٦

بالتوحيد ، وهو في الحقيقة كتاب الشرك ، واعترض عليها ، وأنّا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات ، لأنّه كان رجلاً مضطرب الكلام ، قليل الفهم ، ناقص العقل». (١)

هذه نماذج قدمناها إلى القارئ الكريم لكي تسلط ضوءاً على تفسير ما لم نذكره.

فخرجنا بالنتيجة التالية :

إنّ الصفات الخبرية كالوجه واليد ، والعين وغيرها ، لها حكم عند الافراد ولها حكم آخر إذا جاءت في ضمن الجمل فعند الافراد يؤخذ بمعانيها اللغوية ، وعند ما تأتي في ضمن الجمل ، تتبع القرائن الموجودة في الكلام من غير فرق بين ما وقع وصفاً لله سبحانه ، أو جاء وصفاً لغيره.

فإذا قال سبحانه (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (٢) تحمل اليد والعنق على ما هو المتبادر من هذه الجمل ، وهو الإسراف والتقتير ، فبسط اليد أُريد به الإنفاق بلا شرط ؛ كما أنّ جعل اليد مغلولة ، أُريد به التقتير.

هذا ـ مع العلم ـ بأنّ بسط اليد عند الإفراد بمعنى مدها وغلّ اليد إلى العنق بمعنى شدّها.

وممّا ذكرنا يظهر لك مقاصد الآيات التي وردت فيها الصفات الخبرية ، نظير :

١. العين ، كقوله سبحانه : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي). (٣)

__________________

(١) التفسير الكبير : ١٤ / ١٥٠.

(٢) الإسراء : ٢٩

(٣) طه : ٣٩.

٣٥٧

٢. اليمين ، كقوله سبحانه : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ). (١)

٣. الاستواء ، كقوله سبحانه : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى). (٢)

٤. النفس ، كقوله سبحانه : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ). (٣)

٥. الوجه ، كقوله سبحانه : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ). (٤)

٦. الساق ، كقوله سبحانه : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ). (٥)

٧. الجنب ، كقوله سبحانه : (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ). (٦)

٨. القرب ، كقوله سبحانه : (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ). (٧)

٩. المجيء ، كقوله سبحانه : (وَجاءَ رَبُّكَ). (٨)

١٠. الإتيان ، كما قال سبحانه : (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ). (٩)

١١. الغضب ، كما في قوله : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ). (١٠)

١٢. الرضا ، كما في قوله : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ). (١١)

إلى غير ذلك من الصفات الخبرية التي وردت في القرآن الكريم وأخبر عنها الوحي ، فللجميع ظواهر غير مستقرة لا تلائم الأُصول الواردة في محكمات الآيات ، ولكن بالإمعان والدقة يصل الإنسان إلى مآلها ومرجعها وواقعها ، وهذا

__________________

(١) الزمر : ٦٧.

(٢) طه : ٥.

(٣) المائدة : ١١٦.

(٤) البقرة : ١١٥.

(٥) القلم : ٤٢.

(٦) الزمر : ٥٦.

(٧) البقرة : ١٨٦.

(٨) الفجر : ٢٢.

(٩) الأنعام : ١٥٨.

(١٠). الفتح : ٦.

(١١). المائدة : ١١٩.

٣٥٨

لا يعني حمل الظاهر على خلافه ، بل التتبع في القرائن الموجودة في نفس الآية لغاية العثور على الظاهر ، إذ ليس للمتشابه ظاهر ظهور مستقرّ في بدء الأمر حتّى نتبعه.

بقي هنا سؤال وهو انّ تفسير الصفات الخبرية في ضوء القرائن الموجودة في الآية ينتهي بنا إلى القول بالتأويل ، فأيّ فرق بين هذا والقول بالتأويل؟

والإجابة عنه واضحة ، وذلك لأنّه إن أُريد من التأويل هو حمل الكلام على ظهوره التصديقي ، سواء أكان المعنى حقيقياً أم مجازياً فهذا أمر مقبول ، سواء أسمي بالأخذ بالظاهر أو سمي بالتأويل.

وإن أُريد من التأويل هو صرف ظاهر الآية إلى خلافه فهو أمر مرفوض فانّ ظاهر القرآن حجّة قطعية لا يعدل عنها ، إنّما اللازم هو تشخيص الظاهر فانّ من يسمّي هذا النوع من التفسير تأويلاً فإنّما يأخذ بحرفية ظاهر الكلمة وظهورها الافرادي ، وقد عرفت أنّ الميزان هو الظهور التصديقي والظهور الجملي.

نعم هناك بحثان آخران ربما نفردهما بالتعريف :

١. تأويل المتشابه الذي ورد في قوله سبحانه : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ). (١)

٢. تأويل كلّ القرآن الذي ورد في قوله سبحانه : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ). (٢)

وبما انّ البحث في هذين الموضوعين طويل الذيل نحيل القارئ الكريم في هذا الصدد إلى كتاب «المناهج التفسيرية في علوم القرآن». (٣)

__________________

(١) آل عمران : ٧.

(٢) الأعراف : ٥٣.

(٣) المناهج التفسيرية : ١٥٩ ـ ١٨١.

٣٥٩

كلمة شيخ الأزهر الشيخ سليم البشري (١)

حول الصفات الخبريّة

ونحن نختم هذا البحث بذكر كلمة شيخ الأزهر الشيخ سليم البشري كتبه حول سؤال رفعه إليه الشيخ أحمد علي بدر شيخ معهد «بلصفورة» وإليك خلاصة السؤال :

ما قولكم ـ دام فضلكم ـ في رجل من أهل العلم يتظاهر باعتقاد ثبوت جهة الفوقية لله سبحانه وتعالى ويدّعي انّ ذلك مذهب السلف ، وتبعه على ذلك بعض الناس وجمهور أهل العلم ينكرون ذلك ، والسبب في تظاهره بهذا المعتقد عثوره على كتاب لبعض علماء الهند نقل فيه صاحبه كلاماً كثيراً عن ابن تيمية في إثبات الجهة للباري سبحانه وتعالى ويخطئ أبا البركات ـ رضي‌الله‌عنه ـ في قوله : في خريدته :

منزه عن الحلول والجهة

والاتصال الانفصال والسفه

__________________

(١) تولّى مشيخة الأزهر مرّة بعد أُخرى ، توفّي عام ١٣٣٥ ه‍. ق.

٣٦٠