الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

فالآية لا تدلّ على جواز الرؤية يوم القيامة بتاتاً ، وذلك لوجوه :

الأوّل : انّه سبحانه نسب النظر إلى الوجوه لا إلى العيون ، فلم يقل عيون يومئذ ناظرة إلى ربّها ناضرة ، بل قال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) ، فلو كان المراد الجدي هو الرؤية الحسّية لكان المتعيّن استخدام العيون بدل الوجوه ، وأنت لا تجد في الأدب العربي قديمه وحديثه مورداً نسب فيه النظر إلى الوجوه وأُريدت به الرؤية الحسية بالعيون والأبصار ، بل كلّما أُريد منه الرؤية نسب إلى العيون أو الأبصار.

يقول سبحانه : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ). (١)

وقال سبحانه : (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها). (٢)

وقال سبحانه : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ). (٣)

فأداة الرؤية في القرآن الكريم هي العين والبصر لا الوجه ، يقول سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ). (٤)

الثاني : نحن نوافق المستدلّ بأنّ النظر إذا استعمل مع إلى يكون بمعنى الرؤية ، لكن ربّما تكون الرؤية كناية عن معنى آخر ، فعندئذ يكون المقصود الحقيقي هو المكنّى عنه لا المكنّى به.

مثلاً إذا أردنا وصف زيد بالجود يقال : «زيد كثير الرماد» ، فالمعنى اللغوي ذم حيث يحكي عن كثرة النفايات في الدار ، ولكن المعنى المكنّى عنه الذي هو المتبادر العرفي هو مدح يحكي عن جوده وسخائه ، فالعبرة في تفسير الآية هو المراد الجدي لا المراد الاستعمالي.

__________________

(١) آل عمران : ١٣.

(٢) الأعراف : ١٧٩.

(٣) النور : ٣١.

(٤) المؤمنون : ٨٧.

٢٤١

والآية الكريمة ـ أعني قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ـ من هذا القبيل فهو حسب الإرادة الاستعمالية بمعنى وجوه ناظرة إلى الله سبحانه أي رائية له ، ولكنّه كناية عن انتظار الرحمة أو العذاب مثلاً : يقول الشاعر :

وجوه ناظرات يوم بدر

إلى الرحمن يأتي بالفلاح

فلا يشكّ الإنسان انّ قوله : «وجوه ناظرات» بمعنى رائيات ، ولكنّه كُنّي به عن انتظار النصر والفتح.

ومنه الشعر التالي :

أني إليك لما وعدت لناظر

نظر الفقير إلى الغني الموسر

لا شكّ انّ المراد من النظر في كلا الموردين هو الرؤية ، استعمالاً ، ولكنّه كناية عن انتظار إنجاز الوعد ووصول العطاء.

والحاصل : انّ النظر إذا أُسند إلى العيون يكون المعنى الاستعمالي والجدي هو الرؤية ، ولكن إذا أُسند إلى الشخص أو الوجه تكون بمعنى الرؤية استعمالاً ويكون كناية عن الانتظار جداً ، مثلاً يقال : أنا إلى فلان ناظر ما يصنع به ، يريد معنى التوقع والرجاء.

ينقل الزمخشري انّه سمع سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم ، تقول : «عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم» تقصد راجية ومتوقعة لإحسانهم إليها كما هو معنى قولهم : «أنا أنظر إلى الله ثمّ إليك» أتوقع فضل الله ثمّ فضلك. (١)

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ٢٩٤.

٢٤٢

الثالث : كان على من يستدلّ بالآية أن يرفع إبهامها بمقابلها ، فإنّ الآيات تتألف من ثلاث مقاطع متقابلة ، بالنحو التالي :

١. (كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) يقابلها (وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ).

٢. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) يقابلها (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ).

٣. (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) يقابلها (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ).

فقوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) كما ترى يقابلها قوله : (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) ، فبما انّ الجملة المقابلة صريحة في أنّ أصحاب الوجوه الباسرة ينتظرون العذاب الكاسر لظهرهم ويظنون نزوله ومثل هذا الظن لا ينفك عن الانتظار ، فتكون قرينة على أنّ أصحاب الوجوه المشرقة ينظرون إلى ربّهم ، أي يرجون رحمته ، حتّى تكون الجملة متقابلة لمقابلها.

وإلاّ فلو حمل قوله سبحانه : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) إلى رؤية الله خرجت الجملة عن التقابل ويعود كلاماً عارياً عن البلاغة ويكون مفاد المتقابلين كالشكل التالي :

أصحاب الوجوه الناضرة ...... ينظرون إلى الله ويرونه سبحانه.

أصحاب الوجوه الباسرة ...... ينتظرون نزول العذاب والنقمة.

وهو كما ترى لا يليق أن ينسب إلى الوحي.

على أنّك تجد هذا التقابل والانسجام في آيات أُخرى وكأنّ الجميع سبيكة واحدة.

١. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ).

٢. (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ). (١)

__________________

(١) عبس : ٤١٣٨.

٢٤٣

فإنّ قوله : (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) قائم مقام قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) فيرفع إبهام الثاني بالأوّل.

٣. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ * تَصْلى ناراً حامِيَةً). (١)

٤. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) (لِسَعْيِها راضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ). (٢)

انظر إلى الانسجام البديع ، والتقابل الواضح بينها ، والاستهداف الواحد ، والجميع بصدد تصنيف الوجوه يوم القيامة ، إلى ناضرة ومسفرة ، وناعمة وإلى باسرة ، وسوداء (غبرة) وخاشعة.

أفبعد هذا البيان يبقى الشكّ في أنّ المراد من (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) هو انتظار الرحمة ، والقائل بالرؤية يتمسّك بهذه الآية ويغض النظر عمّا حولها من الآيات ، ومن المعلوم أنّ هذا من قبيل محاولة إثبات المدّعى بالآية ، لا محاولة الوقوف على مفادها.

وفي الختام أرى من الجدير بالذكر أن أنقل الحوار القصير الذي دار بيني وبين أحد المثقّفين في تركيا ، وكان يُجيد اللغتين التركية والعربية والثانية كانت لغته الأُمّ ، لأنّه كان من الإسكندرونة المحتلّة ـ حسب زعم السوريين ـ ، وقد كان يرافقني عند ما حللت ضيفاً على تركيا لإلقاء محاضرة في المؤتمر الذي انعقد لبيان أحكام السفر ، وقد استرسلنا في الحوار إلى أن سألني عن رؤية الله تبارك وتعالى في الآخرة؟

فأجبته بالنفي.

قال : لما ذا؟

__________________

(١) الغاشية ٤٢.

(٢) الغاشية : ١٠٨.

٢٤٤

قلت له : هل يُرى سبحانه كلّه أو بعضه.

فعلى الأوّل يكون الرائي محيطاً والله سبحانه محاطاً مع أنّه تعالى محيط بكلّ شيء.

وعلى الثاني يكون مركباً ذا أجزاء تكون بعض أجزائه غائبة من البعض الآخر والحاجة آية الإمكان وهو آية الفقر والحاجة الذي هو على طرف النقيض من الله الغني.

فتحيّر السائل من جوابي هذا ولم يجب بشيء.

٢٤٥

٨

رؤيته تعالى في الأحاديث النبوية

قد تعرّفت على موقف الكتاب من رؤيته سبحانه وأنّه كلّما يذكر الرؤية وسؤالها وطلبها ، يستعظمه ويستفظعه إجمالاً ، وعند ما يطرحها تفصيلاً ، يعدّها أمراً محالاً ، كما عرفت أنّ ما تمسك به القائلون بجواز الرؤية من الآيات لا يدلّ على ما يدّعون.

بقي الكلام في الروايات الواردة حول الرؤية في الصحاح والمسانيد ، ودلالتها على المطلوب واضحة كما ستوافيك ، لكن الكلام في حجية الروايات التي تضاد الذكر الحكيم ، وتباينه ، فإذا كان الكتاب العزيز مهيمناً على سائر الكتب فلما ذا لا يكون مهيمناً على السنن المروية عن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ التي دوّنت بعد مضي ١٤٣ سنة من رحيله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ولم تَصُن عن دسّ الأحبار والرهبان؟! قال سبحانه : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) (١) وقال تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٢) ولا يعني ذلك ، حذف السنّة من الشريعة ورفع شعار : حسبنا كتاب الله ، بل يعني التأكد من

__________________

(١) المائدة : ٤٨.

(٢) النمل : ٧٦.

٢٤٦

الصحّة ثم تطبيق العمل عليها.

وإليك ما ورد في الصحاح حول الرؤية :

روى البخاري في باب «الصراط جسر جهنم» بسنده عن أبي هريرة قال : قال أُناس : يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال : «هل تضارّون في الشمس ليس دونها سحاب؟» قالوا : لا يا رسول الله ، قال : «هل تضارّون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟» قالوا : لا يا رسول الله ، قال : «فإنّكم ترونه يوم القيامة ، كذلك يجمع الله الناس فيقول : من كان يعبد شيئاً فليتبعه ، فيتبع من كان يعبد الشمسَ ، ويتبع من كان يعبد القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت ، وتبقى هذه الأُمّة فيها منافقوها ، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربّنا فإذا أتانا ربّنا عرفناه فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : أنت ربّنا فيتبعونه ويضرب جسر جهنم ... ـ إلى أن يقول : ـ ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار فيقول : يا ربّ قد قشبني ريحها ، وأحرقني ذكاؤها ، فاصرف وجهي عن النار ، فلا يزال يدعو الله فيقول : لعلّك إن أعطيتك أن تسألني غيره.

فيقول : لا وعزتك لا أسألك غيره ، فيصرف وجهه عن النار ، ثم يقول بعد ذلك : يا رب قرّبني إلى باب الجنة ، فيقول : أليس قد زعمت أن لا تسألني غيره؟ ويلك ابن آدم ما أغدرك ، فلا يزال يدعو فيقول : لعلّي إن أعطيتك ذلك تسألني غيره ، فيقول : لا وعزتك لا أسألك غيره ، فيعطي الله من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره ، فيقرّبه إلى باب الجنّة فإذا رأى ما فيها ، سكت ما شاء الله أن يسكت ، ثم يقول : ربي أدخلني الجنّة ، ثم يقول : أو ليس قد زعمت أن لا تسألني غيره ، ويلك يا ابن آدم ما أغدرك ، فيقول : يا رب لا تجعلني أشقى خلقك ، فلا يزال يدعو حتى

٢٤٧

يضحك (الله) فإذا ضحك منه أذن له بالدخول فيها ... الحديث. (١)

ورواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة مع اختلاف يسير (٢).

ورواه أيضاً عن أبي سعيد الخدري باختلاف غير يسير في المتن وفيه : حتى إذا لم يبق إلاّ من كان يعبد الله تعالى من برّ وفاجر أتاهم ربّ العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها ، قال : فما تنتظر تتبع كل أُمّة ما كانت تعبد ، قالوا : يا ربّنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنّا إليهم ولم نصاحبهم ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، لا نشرك بالله شيئاً ، مرتين أو ثلاثاً حتى أنّ بعضهم ليكاد أن ينقلب ، فيقول : هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون : نعم ، فيكشف عن ساق ، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه ، إلاّ أذن الله له بالسجود ، ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلاّ جعل الله ظهره طبقة واحدة ، كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه ... الحديث. (٣)

وقد نقل الحديث في مواضع من الصحيحين بتلخيص ، ورواه أحمد في مسنده (٤)

تحليل الحديث

إنّ هذا الحديث مهما كثرت رواته ، وتعددت نقلته لا يصح الركون إليه في منطق الشرع والعقل بوجوه :

١. إنّه خبر واحد لا يفيد شيئاً في باب الأُصول والعقائد ، وإن كان مفيداً في

__________________

(١) البخاري : الصحيح : ٨ / ١١٧ باب الصراط جسر جهنم.

(٢) مسلم : الصحيح : ١ / ١١٣ ، باب معرفة طريق الرؤية.

(٣) مسلم : الصحيح : ١ / ١١٥ ، باب معرفة طريق الرؤية.

(٤) أحمد بن حنبل : المسند : ٢ / ٣٦٨.

٢٤٨

باب الفروع والأحكام ، إذ المطلوب في الفروع هو الفعل والعمل ، وهو أمر ميسور سواء أذعن العامل بكونه مطابقاً للواقع أو لا ، بل يكفي قيام الحجّة على لزوم تطبيق العمل عليه ، ولكن المطلوب في العقائد هو الإذعان وعقد القلب ونفي الريب والشك عن وجه الشيء ، وهو لا يحصل من خبر الواحد ولا من خبر الاثنين ، إلاّ إذا بلغ إلى حدّ يُورِث العلم والإذعان ، وهو غير حاصل بنقل شخص أو شخصين.

٢. إنّ الحديث مخالف للقرآن ، حيث يثبت لله صفات الجسم ولوازم الجسمانية كما سيوافيك بيانه عن السيد الجليل شرف الدين ـ رحمه‌الله ـ.

٣. ما ذا يريد الراوي في قوله : «فيأتي الله في غير الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم»؟! فكأنَّ لله سبحانه صوراً متعددة يعرفون بعضها ، وينكرون البعض الآخر ، وما ندري متى عرفوا التي عرفوها ، فهل كان ذلك منهم في الدنيا ، أو كان في البرزخ أم في الآخرة؟!

٤. ما ذا يريد الراوي من قوله : «فيقولون : نعم ، فيكشف عن ساق ، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه ...»؟ فإنّ معناه أنّ المؤمنين والمنافقين يعرفونه سبحانه بساقه ، فكانت هي الآية الدالّة عليه.

٥. كفى في ضعف الحديث ما علّق عليه العلاّمة السيد شرف الدين ـ رحمه‌الله ـ حيث قال : إنّ الحديث ظاهر في أنّ لله تعالى جسماً ذا صورة مركّبة تعرض عليها الحوادث من التحوّل والتغيّر ، وأنّه سبحانه ذو حركة وانتقال ، يأتي هذه الأُمّة يوم حشرها ، وفيها مؤمنوها ومنافقوها ، فيرونه بأجمعهم ماثلاً لهم في صورة غير الصورة التي كانوا يعرفونها من ذي قبل. فيقول لهم : أنا ربكم ، فينكرونه متعوذين بالله منه ، ثم يأتيهم مرّة ثانية في الصورة التي يعرفون. فيقول لهم : أنا ربكم ، فيقول

٢٤٩

المؤمنون والمنافقون جميعاً : نعم ، أنت ربّنا. وإنّما عرفوه بالساق ، إذ كشف لهم عنها ، فكانت هي آيته الدالة عليه ، فيتسنّى حينئذ السجود للمؤمنين منهم ، دون المنافقين ، وحين يرفعون رءوسهم يرون الله ماثلاً فوقهم بصورته التي يعرفون لا يمارونَ فيه ، كما كانوا في الدنيا لا يُمارون في الشمس والقمر ، ماثلين فوقهم بجرميهما النيرين ليس دونهما سحاب ، وإذا به ، بعد هذا يضحك ويعجب من غير معجب ، كما هو يأتي ويذهب إلى آخر ما اشتمل عليه الحديثان ممّا لا يجوز على الله تعالى ، ولا على رسوله ، بإجماع أهل التنزيه من أشاعرة وغيرهم ، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم. (١)

٢. روى البخاري في كتاب الصلاة ، باب مواقيت الصلاة ، وفضيلتها عن قيس (بن أبي حازم) عن جرير قال : كنّا عند النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فنظر إلى القمر ليلة ـ يعني البدر ـ فقال : إنّكم ترون ربّكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثمّ قرأ : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) (٢).

وحديث قيس بن أبي حازم مع كونه مضاداً للكتاب ضعيف من جانب السند وإن رواه الشيخان ، ويكفي فيه وقوع قيس بن أبي حازم في سنده ، ترجمه ابن عبد البر وقال : قيس بن أبي حازم الأحمسي جاهلي إسلامي لم ير النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في عهده وصدق إلى مصدِّقه ، وهو من كبار التابعين ، مات سنة ثمان أو سبع وتسعين وكان

__________________

(١) كلمة حول الرؤية : ٦٥ ، وهي رسالة قيّمة في تلك المسألة وقد مشينا على ضوئها ـ رحم الله مؤلفها رحمة واسعة ـ.

(٢) البخاري : الصحيح : ١ / ١١١ ـ ١١٥ ، الباب ٢٦ و ٣٥ من أبواب المواقيت الصلاة ، طبع مصر ، ورواه مسلم في صحيحه لاحظ : صحيح مسلم بشرح النووي : ٥ / ١٣٦ وغيرهما.

٢٥٠

عثمانياً. (١)

وقال الذهبي : قيس بن أبي حازم عن أبي بكر وعمر ، ثقة حجة كاد أن يكون صحابياً ، وثّقه ابن معين والناس ، وقال علي بن عبد الله عن يحيى بن سعيد : منكر الحديث ، ثم سمّى له أحاديث استنكرها ، وقال يعقوب الدوسي : تكلّم فيه أصحابنا ، فمنهم من حمل عليه ، وقال : له مناكير ، فالذين أطروه عدّوها غرائب وقيل : كان يحمل على عليّ ـ رضي‌الله‌عنه ـ إلى أن قال : والمشهور أنّه كان يقدم عثمان ، وقال إسماعيل : كان ثبتاً قال : وقد كبر حتى جاوز المائة وخرف. (٢)

وقد تقدم أنّ العدل والتنزيه علويان ، كما أنّ الجبر والتشبيه أمويان ، وهل يصح في ميزان النصفة الأخذ برواية رجل عثماني الهوى ، معرضاً عن الإمام علي ـ عليه‌السلام ـ ، وعاش حتى خرف؟! أو أنّ الواجب ضربها عرض الحائط؟

نرجو من الله سبحانه أن تكون هذه البحوث مصباحاً منيراً للشباب المتطلّعين إلى الحقيقة الذين استهدفوا من قبل أعداء الإسلام بغية سلب هويتهم وأصالتهم الإسلامية.

__________________

(١) الاستيعاب : ٣ برقم ٢١٢٦.

(٢) ميزان الاعتدال : ٣ برقم ٦٩٠٨.

٢٥١
٢٥٢

الفصل السادس

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

٢٥٣
٢٥٤

١

 العصمة في اللغة والاصطلاح

العصمة في اللغة بمعنى الإمساك والمنع ، قال ابن فارس : عصم له أصل واحد يدلّ على إمساك ومنع ، من ذلك العصمة ، أن يعصم الله تعالى عبده من سوء يقع فيه.

وأمّا اصطلاحاً ، فالعصمة هي المصونية عن الخطأ والعصيان وبهذا المعنى وصف سبحانه الملائكة الموكلين على الحجيم بقوله (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (١) ولا يجد الإنسان كلمة أوضح من قوله سبحانه : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) في تحديد حقيقة العصمة وواقعها في مجال الامتثال فالآية تنص على عصمة الملائكة في مجال التكليف ، وأمّا العصمة في مجال غير التكليف فالله سبحانه يصف الذكر الحكيم بقوله : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٢) فالآية تنص على مصونية القرآن من طروء الباطل عليه والخطأ من أقسام الباطل.

__________________

(١) التحريم : ٦.

(٢) فصلت : ٤٢

٢٥٥

مبدأ ظهور فكرة العصمة بين المسلمين

وبالامعان في هذه الآيات يظهر انّ العصمة بمفهومها البسيط (العصمة من العصيان والخطأ) مع قطع النظر عن موصوفها ، قد طرحها القرآن وألفتَ نظر المسلمين إليها من دون أن يحتاج علماؤهم إلى أخذ هذه الفكرة من الأحبار والرهبان.

وبذلك يعلم انّ مبدأ ظهور فكرة العصمة في الأُمة الإسلامية هي القرآن الكريم لا غير.

نعم انّ الموصوف في هذه الآيات وإن كانت هي الملائكة أو القرآن الكريم والمطروح عند علماء الكلام هو عصمة الأنبياء والأئمة ، لكن الاختلاف في الموصوف لا يضرّ بكون القرآن مبدأً لهذه الفكرة ، لانّ المطلوب هو الوقوف على منشأ تكوّن هذه الفكرة ، ثمّ تطورها عند المتكلّمين ويكفي في ذلك كون القرآن قد طرح هذه المسألة في حقّ الملائكة والقرآن.

على أنّ القرآن الكريم طرح عصمة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في غير واحد من آياته كما سيوافيك ، ويكفيك في المقام قوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى). (١)

فنرى الآيتين تشيران بوضوح إلى انّ النبي لا ينطق عن ميول نفسانية وان ما ينطق به ، وحي ألْقى في روعه وأُوحِي إلى قلبه ، ومن لا يتكلّم عن الميول النفسانية ويعتمد في منطقه على الوحي يكون مصوناً من الزلل في المرحلتين : مرحلة الأخذ والتبليع ، إذ قال سبحانه : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) ... (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى). (٢)

__________________

(١) النمل : ٤٣.

(٢) النجم : ١١١. ١٧

٢٥٦

وقد نرى جذور عصمة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في كلام الإمام علي حيث يصف النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في الخطبة القاصعة بقوله :

«ولقد قَرَن الله به مِنْ لدن أن كانَ فطيماً أعظمَ ملك من ملائكته ، يسلك به طريقَ المكارم ، ومحاسنَ أخلاق العالم ليله ونهاره». (١)

ودلالة هذه الجمل من هذه الخطبة على عصمة النبي في القول والعمل عن الخطأ والزلل واضحة فانّ من ربّاه أعظم ملك من ملائكة الله سبحانه من لدن أن كان فطيماً ، إلى أُخريات حياته الشريفة ، لا تنفك عن المصونية من العصيان والخطأ ، كيف وهذا الملك يسلك به طريق المكارم ، ويربّيه على محاسن أخلاق العالم ، ليلَه ونهارَه ، لا يعصي ولا ينحرف عن الجادة الوسطى وليست المعصية إلاّ سلوك طريق المآثم ومساوى الأخلاق ومن يسلك الطريق الأوّل يكون متجنباً عن سلوك الطريق الثاني.

هذه جذور المسألة في الكتاب العزيز وفي كلمات الإمام أمير المؤمنين ، ثمّ إنّ المتكلّمين هم الذين اهتموا بمسألة العصمة خصوصاً الإمامية والمعتزلة.

نعم لا يمكن أن ينكر انّ المناظرات التي دارت بين الإمام علي بن موسى الرضا وأهل المقالات من الفرق الإسلامية قد اعطت للمسألة مكانة خاصة ، فقد أبطل الإمام الرضا ـ عليه‌السلام ـ كثيراً من حجج المخالفين في مجال نفي العصمة عن الأنبياء عامة والنبي الأعظم خاصة ، ولو لا خوف الإطالة لأتينا ببعض هذه المناظرات التي دارت بين الإمام ـ عليه‌السلام ـ وأهل المقالات من الفرق الإسلامية.

هذا هو مفهوم العصمة لغة واصطلاحاً ومبدأ ظهوره وسيره في التاريخ.

نعم نجد المستشرق «رونالدوسن» ينسب فكرة ظهور العصمة في الإسلام

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٧.

٢٥٧

إلى تطور علم الكلام عند الشيعة وانّهم أوّل من تطرق إلى بحث هذه العقيدة ووصف بها أئمّتهم. (١)

انّ هذا التحليل لا يبتني على أساس رصين وإنّما هو من الأوهام والأساطير التي اخترعتها نفسية الرجل وعداؤه للإسلام والمسلمين أوّلاً ، والشيعةُ أئمّتهم ثانياً.

وكم لهذا الرجل عثرات وأوهام في كتابه الذي أسماه «عقيدة الشيعة» وليس فيه من عقيدة الشيعة إلاّ شيئاً لا يذكر.

__________________

(١) عقيدة الشيعة : ٣٢٨.

٢٥٨

٢

 تعريف العصمة وحقيقتها

لا شكّ انّ الإنسان بالذات غير مصون عن الخطأ والنسيان ، والانحراف والعصيان ولذلك يصفه سبحانه بقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (١) فلو بلغ الإنسان إلى مرحلة لا يعصي ولا يُخطِئ ولا يَنْسى فهو لأجل عامل خارجي عن ذاته يبلغ به إلى تلك الدرجة التي يعبّر عنها بالعصمة ، ولذلك عاد المحقّقون إلى تعريف العصمة بتعاريف يؤيد بعضها بعضاً.

فالعصمة عبارة عن لطف يفعله الله في المكلّف بحيث لا يكون له مع ذلك داع إلى ترك الطاعة ولا إلى فعل المعصية مع قدرته على ذلك ، ويحصل انتظام ذلك اللطف بأن يحصل له ملكة مانعة من الفجور والاقدام على المعاصي مضافاً إلى العلم بما في الطاعة من الثواب ، والعصمة من العقاب ، مع خوف المؤاخذة على ترك الأُولى ، وفعل المنهيّ. (٢)

وربما تعرف بانّها قوّة تمنع الإنسان عن اقتراف المعصية والوقوع في الخطأ. (٣)

__________________

(١) العصر : ١.

(٢) إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين : ٣٠١ ـ ٣٠٢.

(٣) الميزان : ٢ / ١٤٢.

٢٥٩

ثمّ إنّ العامل الذي يصدّ الإنسان عن اقتراف المعاصي بل عن ارتكاب الخطأ والنسيان أحد الأُمور الثلاثة التالية على وجه منع الخلو وليست بمانعة عن الجمع.

١. العصمة ، الدرجة القصوى من التقوى

العصمة ترجع إلى التقوى بل هي درجة عليا منها فما تُعرَّف به التقوى تُعرَّف به العصمة.

لا شك أنّ التقوى حالة نفسانية تعصم الإنسان عن اقتراف كثير من القبائح والمعاصي ، فإذا بلغت تلك الحالة إلى نهايتها تعصم الإنسان عن اقتراف جميع قبائح الأعمال ، وذميم الفعال على وجه الإطلاق ، بل تعصم الإنسان حتى عن التفكير في المعصية ، فالمعصوم ليس خصوص من لا يرتكب المعاصي ويقترفها بل هو من لا يحوم حولها بفكره.

إنّ العصمة ملكة نفسانية راسخة في النفس لها آثار خاصة كسائر الملكات النفسانية من الشجاعة والعفة والسخاء ، فإذا كان الإنسان شجاعاً وجسوراً ، سخياً وباذلاً ، وعفيفاً ونزيهاً ، يطلب في حياته معالي الأُمور ، ويتجنب عن سفاسفها فيطرد ما يخالفه من الآثار ، كالخوف والجبن والبخل والإمساك ، والقبح والسوء ، ولا يرى في حياته أثراً منها.

ومثله العصمة ، فإذا بلغ الإنسان درجة قصوى من التقوى ، وصارت تلك الحالة راسخة في نفسه ، يصل الإنسان إلى حد لا يُرى في حياته أثر من العصيان والطغيان ، والتمرّد والتجرّي ، وتصير ساحته نقية عن المعصية.

وأمّا أنّ الإنسان كيف يصل إلى هذا المقام؟ وما هو العامل الذي يُمكِّنُه من

٢٦٠