الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

رابطة بين الذات المريدة وفعلها القائم بها ، وأمّا النفس وفعل غيرها فلا رابطة بينهما حتّى يتوسط بينهما حيثية الإرادة ، فالإرادة المتعلّقة بفعل المأمور توهّماً متعلّقة بالحقيقة بأمره بالفعل فتنسب إلى نفس الفعل مجازاً ، أو انّ إرادة الأمر لتعلّقها بفعل ما (البعث) له ارتباط بفعل المأمور تعد متعلّقة بنفس فعل المأمور تجوّزاً ، كما يقال : أردت الخبز وإنّما أراد أكله ، وهذا النحو من الاسناد أو النسبة كثير الدوران في الاستعمال. (١)

وحاصل تلك النظرية : انّ تقسيم الإرادة إلى التكوينية والتشريعية صرف اصطلاح نشأ من غرض خاص ، وإلاّ فالإرادة في كلا القسمين تتعلّق بفعل المريد ، إذ يمتنع أن تتعلّق الإرادة بفعل الغير ، لأنّها لا تتعلّق إلاّ بما كان تحت اختيار المريد وفعل الغير خارج عن اختياره فكيف تتعلّق إرادته به؟! هذا ما بعث السيد العلاّمة الطباطبائي إلى القول بأنّ كلا القسمين من نسيج واحد ، وإنّما الاختلاف في المراد ، فتارة يكون المراد أمراً تكوينياً ، وأُخرى أمراً اعتبارياً كإنشاء البعث المنتزع من الأمر.

وبعبارة أُخرى : إنّ الإنسان بما انّه طالب للكمال ربّما يقوم بالفعل بنفسه الذي يرى فيه الكمال وربّما يستخدم الغير لأجل تبسيط قدرته ونيل الكمال المطلوب عن طريقه ، فتكون الغاية من الإرادة التشريعية هو الوصول إلى الكمال المطلوب عن طريق استخدام الغير وبعثه نحو المراد.

هذه هي الإرادة التشريعية الإنسانية ، وأمّا الإرادة التشريعية الإلهية فهي أجل من أن تكون لتلك الغاية ، لأنّه كمال مطلق لا يتطرّق إليه النقص ولا

__________________

(١) حاشية الكفاية ، للعلاّمة الطباطبائي : ٧٨.

٢٠١

يتصوّر فوقه كمال ، إنّما الغاية لأمره ونهيه هو إيصال المأمور إلى الكمال ، وعلى هذا فالإرادة التشريعية في عامّة المراتب بمعنى واحد غير أنّ الغاية تختلف في الإنسان وغيره ، فالغرض منها في الإنسان هو طلب الكمال لنفسه وفي حقّه سبحانه هو إيصال الغير إلى الكمال.

٢٠٢

الفصل الخامس

رؤية الله سبحانه

٢٠٣
٢٠٤

تمهيد

إنّ رؤية الله سبحانه في الدارين التي أثارت ضجة كبيرة في الأوساط الإسلامية ، فالمفكِّرون الواعون على تنزيهه سبحانه عن التجسيم والتشبيه والجهة والرؤية ، ومقلِّدة أخبار الآحاد والمخدوعون بالإسرائيليات على جواز الرؤية في الآخرة. ورائدنا في الرسالة ، الكتاب ، والسنّة الصحيحة ، والعقل الصريح الذي به عرفنا الله سبحانه وصفاته وأنبياءه ويأتي كلامنا فيها ضمن فصول :

٢٠٥

١

 الرؤية فكرة يهودية مستوردة

لما انتشر الإسلام في الجزيرة العربية وضرب بجرانه أراضيها ، ودخل الناس في الإسلام زرافات ووحداناً ، لم تجد اليهود والنصارى محيصاً إلاّ الاستسلام للأمر الواقع ، فدخلوا في الإسلام متظاهرين به غير معتقدين غالباً ، إلاّ من شملتهم العناية الإلهية منهم وكانوا قليلين ، ولكن الأغلبية الساحقة منهم خصوصاً الأحبار والرهبان بقوا على ما كانوا عليه من العقائد.

كانت الأحبار والرهبان عارفين بما في العهدين من القصص والحكايات والأُصول والعقائد ، فعمدوا إلى نشرها بين المسلمين بخداع خاص وبطريقة علمية ، وكانت السذاجة سائدة على أكثر المسلمين فزعموهم علماء ربانيّين يحملون العلم ، فأخذوا منهم ما يلقون ، بقلب واع ونيّة صادقة ، فأوجد ذلك أرضية صالحة لنشر القصص الخرافية والعقائد الباطلة خصوصاً فيما يرجع إلى التجسيم والتشبيه وتحقير الأنبياء في أنظار المسلمين بإسناد المعاصي الموبقة إليهم ، ولم تكن رؤية الله بأقلّ ممّا سبق في تركيزهم عليها ، فما ترى في كتب الحديث قديماً وحديثاً من الأخبار الكثيرة حول التجسيم والتشبيه والرؤية ونسبة المعاصي إلى الأنبياء والتركيز على القدر والقضاء السالبين للاختيار ، فكلّها من آفات المستسلمة من

٢٠٦

اليهود والنصارى ، فحسبها بعض السلف حقائق راهنة وقصصاً صادقة ، فتلقّوها بقبول حسن ونشروها بين الخلف ، ودام الأمر على ذلك حتّى يومنا هذا. ويكفيك الحديث التالي :

قصد الحنابلة الإمام العلاّمة محمد بن جرير الطبري يوم الجمعة في الجامع وسألوه عن حديث جلوسه سبحانه على العرش ، فقال أبو جعفر : أمّا أحمد بن حنبل فلا يعدّ خلافه ، فقالوا له : فقد ذكره العلماء في الاختلاف ؛ فقال : ما رأيته روي عنه ، ولا رأيت له أصحاباً يعوّل عليهم ، وأمّا حديث الجلوس على العرش فمحال ، ثمّ أنشد :

سبحان من ليس له أنيس

ولا له في عرشه جليس

فلما سمعوا ذلك وثبوا فرموه بمحابرهم ، وقد كانت أُلوفاً ، فقام بنفسه ودخل داره فردموا داره بالحجارة حتّى صار على بابه كالتل العظيم ، وركب «نازوك» صاحب الشرطة في عشرات أُلوف من الجند يمنع عنه العامّة ، ووقف على بابه إلى الليل ، وأمر برفع الحجارة عنه ، وكان قد كتب على بابه البيت المتقدّم فأمر «نازوك» بمحو ذلك ، وكتب مكانه بعض أصحاب الحديث :

لأحمدَ منزلٌ لا شكَّ عَال

إذا وَافى إلى الرحمن وافِدْ

فيُدْنيه ويقعده كريماً

على رغم لهم في أنفِ حاسِدْ

عَلى عرشِ يُغَلِّفُهُ بطيب

على الأكبادِ من بَاغ وعَانِدْ

٢٠٧

له هذا المُقامُ يكونُ حقا

كَذاكَ رواه ليثٌ عن مُجَاهِد(١)

أهكذا يتعامل مع إمام كبير وفقيه عظيم ، ومحدّث بصير مثل الطبري ولا ذنب له إلاّ أنّه إمام مفكّر ، لا يؤمن بأساطير اليهود ، وإن تلقّاها «مجاهد» ونظراؤه حقيقة راهنة؟!

ومن العوامل التي فسحت المجال للأحبار والرهبان لنشر ما في العهدين بين المسلمين ، حظر تدوين حديث الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ونشره ونقله والتحدّث به أكثر من مائة سنة ، فأوجد الفراغ الذي خلفه هذا العمل ، أرضية مناسبة لظهور بدع يهودية ونصرانية وسخافات مسيحية وأساطير يهودية خصوصاً من قبل كهنة اليهود ورهبان النصارى.

يقول الشهرستاني : وضع كثير من اليهود الذين اعتنقوا الإسلام أحاديث متعدّدة في مسائل التجسيم والتشبيه ، وكلّها مستمدة من التوراة. (٢)

قال ابن خلدون : إنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنّما غلبت عليهم البداوة والأُمّية ، وإذا تشوّقوا إلى معرفة شيء ممّا تتوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكوّنات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ، ويستفيدونه منهم وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم

__________________

(١) قال الطبري في التفسير : حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي قال : حدثنا ابن فضيل عن ليث عن مجاهد في قوله : عسى الخ قال : يجلسه معه على عرشه. لاحظ مقدمة اختلاف الفقهاء للطبري : ١١.

(٢) الملل والنحل : ١ / ١١٧.

٢٠٨

فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم ، وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات ، وأصلها كلّها كما قلنا من التوراة أو ممّا كانوا يفترون. (١)

ومن أكابر أحبار اليهود الذين تظاهروا بالإسلام هو كعب الأحبار ، فقد خدع عقول المسلمين وحتى الخلفاء والمترجمين له من علماء الرجال ، وقد أسلم في زمن أبي بكر ، وقدم من اليمن في خلافة عمر فأخذ عنه الصحابة وغيرهم.

قال الذهبي : العلاّمة الحبر الذي كان يهودياً فأسلم بعد وفاة النبيّ ، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر ، وجالس أصحاب محمد ، فكان يحدّثهم عن الكتب الإسرائيلية ويحفظ عجائب ـ إلى أن قال : ـ حدّث عنه أبو هريرة ومعاوية وابن عباس وذلك من قبيل رواية الصحابي عن تابعي وهو نادر عزيز ، وحدّث عنه أيضاً أسلم «مولى عمر» وتبيع الحميري ابن امرأة كعب ، وروى عنه عدّة من التابعين كعطاء بن يسار وغيره مرسلاً ، وقع له رواية في سنن أبي داود والترمذي والنسائي. (٢)

وعرّفه الذهبي أيضاً في بعض كتبه بأنّه من أوعية العلم. (٣)

فقد وجد الحبر الماكر جوّاً ملائماً لنشر الأساطير والقصص الوهمية ، وبذلك بثّ سمومه القتّالة بين الصحابة والتابعين ، وقد تبعوه وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً.

وقد تنبّه إلى جسامة الخسارة التي أحدثها ذلك الحبر ، لفيف من السابقين ،

__________________

(١) مقدّمة ابن خلدون : ٤٣٩.

(٢) سير أعلام النبلاء : ٣ / ٤٨٩.

(٣) تذكرة الحفّاظ : ١ / ٥٢.

٢٠٩

منهم ابن كثير في تفسيره حيث إنّه بعد ما أورد طائفة من الأخبار في قصة ملكة سبأ مع سليمان ـ عليه‌السلام ـ قال : والأقرب في مثل هذه السياقات أنّها متلقّاة عن أهل الكتاب ، ممّا وجد في صحفهم كروايات كعب ووهب ـ سامحهما الله تعالى ـ في ما نقلاه إلى هذه الأُمّة من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب ممّا كان وما لم يكن ، وممّا حُرِّف وبُدِّل ونُسِخَ ، وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ. (١)

والذي يدلّ على عمق مكره وخداعه لعقول المسلمين أنّه ربّما ينقل شيئاً من العهدين ، وفي الوقت ذاته نرى أنّ بعض الصحابة الذين تتلمذوا على يديه وأخذوا منه ، ينسب نفس ما نقله «كعب» إلى الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، والذي يبرّر ذلك العمل حسن ظنّهم وثقتهم به ، فحسبوا المنقول شيئاً صحيحاً ، فنسبوه إلى النبيّ ، زاعمين أنّه إذا كان كعب الأحبار عالماً به ، فالنبيّ أولى بالعلم منه.

فإن كنت في شكّ من ذلك فاقرأ نصّين في موضوع واحد أحدهما للإمام الطبري في تاريخه ينقله عن كعب الأحبار في حشر الشمس والقمر يوم القيامة ، والآخر للإمام ابن كثير صاحب التفسير ينقله عن أبي هريرة عن النبيّ الأكرم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، ومضمون الحديث ينادي بأعلى صوته بأنّه موضوع مجعول على لسان الوحي نشره الحبر الخادع وقَبِلَه الساذج من المسلمين ونسبه إلى نبي الإسلام ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

١. قال الطبري : عن عكرمة قال : بينا ابن عباس ذات يوم جالس إذ جاءه رجل فقال : يا ابن عباس سمعت العجب من كعب الحبر يذكر في الشمس والقمر قال : وكان متّكئاً فاحتفر ثم قال : وما ذاك؟ قال : زعم يُجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنّهما ثوران عقيران فيُقذفان في جهنم ، قال عكرمة : فطارت

__________________

(١) ابن كثير : التفسير ، قسم سورة النمل : ٣ / ٣٣٩.

٢١٠

من ابن عباس شفة ووقعت أُخرى غضباً ، ثم قال : كذب كعب ، كذب كعب ، كذب كعب ، ثلاث مرّات ، بل هذه يهودية يريد إدخالها في الإسلام ، الله أجلّ وأكرم من أن يعذّب على طاعته ، ألم تسمع قول الله تبارك وتعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) إنّما يعني دءوبهما في الطاعة ، فكيف يعذِّب عبدين يُثني عليهما أنّهما دائبان في طاعته. قاتلَ الله هذا الحبر وقبّح حبريته ، ما أجرأه على الله وأعظم فريته على هذين العبدين المطيعين لله ، قال : ثم استرجع مراراً. (١)

٢. قال ابن كثير : روى البزار عن عبد العزيز بن المختار قال : سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن في هذا المسجد مسجد الكوفة ، وجاء الحسن فجلس إليه فحدث قال : حدثنا أبو هريرة أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : «إنّ الشمس والقمر ثوران في النار عقيران يوم القيامة» فقال الحسن : وما ذنبهما؟ فقال : أُحدثك عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وتقول أحسبه قال : وما ذنبهما؟! ثم قال : لا يروى عن أبي هريرة إلاّ من هذا الوجه. (٢)

إنّ كعب الأحبار لمّا أسلم بعد رحيل الرسول لم يتمكّن من إسناد ما رواه من الأسطورة إلى النبيّ الأكرم ، ولو كان مدركاً لحياته وإن كان قليلاً لنسبها إليه ولكن حالت المشيئة الإلهية دون أمانيّه الباطلة.

ولكنّ أبا هريرة لمّا صحب النبي واستحسن الظن بكعب الأحبار ـ أُستاذه في الأساطير ـ نسب الرواية إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

هذا نموذج قدّمته إلى القارئ لكي يقف على دور الأحبار والرهبان في نشر البدع اليهودية والنصرانية بين المسلمين ، ولا يُحسن الظن بمجرّد النقل بلا تأكيد

__________________

(١) الطبري : التاريخ : ١ / ٤٤ ، ط بيروت.

(٢) ابن كثير : التفسير : ٤ / ٤٧٥ ، ط دار الاحياء.

٢١١

من صحته.

هذا غيض من فيض وقليل من كثير ممّا لعب به مستسلمة اليهود والنصارى في أحاديثنا وأُصولنا ، ولو لا أنّ الله سبحانه قيّض في كل آونة رجالاً مصلحين كافحوا هذه الخرافات وأيقظوا المسلمين من السبات ، لذهبت هذه الأساطير بروعة الإسلام وصفائه وجلاله.

٢١٢

٢

 الرؤية في العهد القديم

قد سبق انّ الرؤية فكرة مستوردة أدخلها مستسلمة أهل الكتاب بين المسلمين ونشروها بينهم حتّى صارت عقيدة إسلامية ربما يُكفّر من ينكرها ، وقد استمد الأحبار والرهبان في نشر تلك الفكرة من العهدين المتوافرين بين أيديهم ، وها نحن نذكر نصوصاً من العهد القديم حول الرؤية ليتّضح صدق ما قلناه.

١. وقال (الرب) لا تقدر أن ترى وجهي لأنّ الإنسان لا يراني ويعيش. قال الرب هو ذا عندي مكان ، فتقف على الصخرة ، ويكون من اجتاز مجدي أني أضعك في نقرة من الصخرة وأترك بيدي حتّى أجتاز ، ثمّ أرفع يدي فتنظر ورائي وأمّا وجهي فلا يُرى.

سفر الخروج آخر الاصحاح الثالث والثلاثين.

وعلى هذا فالرب يُرى قفاه ولا يرى وجهه.

٢. رأيت السيد جالساً على كرسي عال ... فقلت ويل لي لأنّ عيني قد رأتا الملك رب الجنود.

سفر أشعيا الاصحاح ٦ الفقرة ٦١.

والمقصود من السيد هو الله جلّ ذكره.

٢١٣

٣. كنت أرى انّه وضعت عروش وجلس القديم الأيام ، لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي وعرشه لهيب نار.

سفر دانيال الاصحاح ٧ الفقرة ٩١.

٤. أمّا أنا فبالبرّ أنظر وجهك.

مزامير داود الاصحاح ١٧ الفقرة ١٥.

٥. فغضب الرب على سليمان لأنّ قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين.

سفر الملوك الأوّل الاصحاح ١١ الفقرة ٩.

وقد رأيت الرب جالساً على كرسيه وكلّ جند البحار وقوف لديه.

سفر الملوك الأول الاصحاح ٢٢ الفقرة ١٩.

٦. كان في سنة الثلاثين في الشهر الرابع في الخامس من الشهر وأنا بين المسبيين عند نهر خابور ، انّ السماوات انفتحت فرأيت رؤى الله ـ إلى أن قال ـ هذا منظر شبه مجد الرب ، ولمّا رأيته خررت على وجهي وسمعت صوت متكلّم.

سفر حزقيال الاصحاح ١ ، الفقرة ٢٨١.

هذه نماذج ممّا في العهد القديم حول الرؤية ، وعليه اعتمد الحبر الماكر في نشر أفكاره ، وقد كان يركّز على فكرتين يهوديتين.

الأُولى : فكرة التجسيم.

الثانية : رؤية الله.

يقول في الفكرة الأُولى : إنّ الله تعالى نظر إلى الأرض فقال : إنّي واطئ على بعضك. فاستعلت إليه الجبال ، وتضعضعت له الصخرة ، فشكر لها ذلك فوضع

٢١٤

عليها قدمه فقال : هذا مقامي ، ومحشر خلقي وهذه جنتي وهذه ناري ، وهذا موضع ميزاني ، وأنا ديان الدين. (١)

ففي هذه الكلمة من هذا الحبر تصريح على تجسيمه تعالى أوّلاً ، وتركيز على أنّ الجنة والنار والميزان ستكون على هذه الأرض ، ومركز سلطانها سيكون على الصخرة ، وهذا من صميم الدين اليهودي المحرّف. هذا حول التجسيم.

وأمّا تركيزه على الرؤية فقد أشاع فكرة التقسيم ، فقال : إنّ الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد ، ومنه انتشرت هذه الفكرة ، أي فكرة التقسيم بين المسلمين. (٢)

ومن أعظم الدواهي انّ الرجل تزلّف إلى الخلفاء في خلافة عمر وعثمان وحدّث عن الكثير من القصص الخرافية ، وبعد ما توفّي عثمان تزلّف إلى معاوية ونشر في عهده ما يؤيد به ملكه ودولته ، ومن كلماته في حقّ الدولة الأموية ، يقول : مولد النبي بمكة ، وهجرته بطيبة ، وملكه بالشام. (٣)

وبذلك أضفى على الدولة الأموية صبغة شرعية ، وجعل ملكهم وسلطتهم امتداداً لملك النبي وسلطته.

إنّ فكرة الرؤية تسرّبت إلى المسلمين من المتظاهرين بالإسلام كالأحبار والرهبان ، وصار ذلك سبباً لجرأة طوائف من المسلمين على جعلها في ضمن العقيدة الإسلامية (٤) ، بحيث يكفر منكرها أحياناً ويفسق ، ولمّا صارت تلك

__________________

(١) حلية الأولياء لابن نعيم الاصفهاني : ٦ / ٢٠.

(٢) شرح نهج البلاغة : ٣ / ٢٣٧.

(٣) الدارمي في السنن : ١ / ٥.

(٤) مقالات الإسلاميين رسالة الأشعري في عقيدة أهل الحديث ، الفقرة ٢١.

٢١٥

العقيدة راسخة في القرنين الثاني والثالث بين المسلمين ، عاد المتكلّمون المحقّقون للبرهنة والاستدلال على بطلان الفكرة من الكتاب أوّلاً والسنّة ثانياً ، ولو لا رسوخها بينهم لما تحمّلوا عبء الاستدلال وجهد البرهنة ، وسوف يوافيك انّ الكتاب العزيز يرد فكرة الرؤية ويستعظم أمرها وينكرها ويستفظعها بشدة وحماس ، وما استدلّ به على جواز الرؤية من الكتاب فلا مساس له بالموضوع ، فانتظر حتّى يأتيك البيان.

٢١٦

٣

 الرؤية في منطق العلم والعقل

إنّ الرؤية في منطق العلم والعقل لا تتحقّق إلاّ إذا كان الشيء مقابلاً أو حالاً في المقابل ، من غير فرق بين تفسيرها حسب رأي القدماء أو حسب العلم الحديث ، فإنّ القدماء كانوا يفسرون الرؤية على النحو التالي :

خروج الشعاع من العين وسقوطه على الأشياء ثمّ انعكاسه عن الأشياء فرجوعه إلى العين لكي تتحقق الرؤية ، ولكن العلم الحديث كشف بطلان هذا التفسير ، وقال :

إنّها عبارة عن صدور الأشعة من الأشياء ودخولها إلى العين عن طريق عدستها وسقوطها على شبكية العين فتتحقّق الرؤية.

وعلى كلّ تقدير فالضرورة قاضية على أنّ الإبصار بالعين متوقّف على حصول المقابلة بين العين والمرئي ، أو حكم المقابلة كما في رؤية الصور في المرآة ، وهذا أمر تحكم به الضرورة وإنكاره مكابرة واضحة ، فإذا كانت ماهية الرؤية هي ما ذكرناه فلا يمكن تحقّقها فيما إذا تنزّه الشيء عن المقابلة أو الحلول في المقابل.

وبعبارة واضحة : انّ العقل والنقل اتّفقا على كونه سبحانه ليس بجسم ولا

٢١٧

جسماني ولا في جهة ، والرؤية فرع كون الشيء في جهة خاصة ، وما شأنه هذا لا يتعلّق إلاّ بالمحسوس لا المجرد.

المحاولة اليائسة في تجويز الرؤية

إنّ مفكّري الأشاعرة الذين لهم قدم راسخة في المسائل العقلية لمّا وقفوا أمام هذا الدليل ذهبوا يميناً ويساراً للجمع بين الرؤية والتنزيه ، وإليك بيان ذلك :

١. الرؤية بلا كيف

هذا العنوان هو الذي يجده القارئ في كتب الأشاعرة وربّما يعبر عنه خصومهم ب «البلكفة» ومعناه انّ الله تعالى يُرى بلا كيف وانّ المؤمنين في الجنة يرونه بلا كيف ، أي منزّهاً عن المقابلة والجهة والمكان.

يلاحظ عليه : أنّ تمنّي الرؤية بلا مقابلة ولا جهة ولا مكان ، أشبه برسم أسد بلا رأس ولا ذنب على جسم بطل ، فالرؤية التي لا يكون المرئي فيها مقابلاً للرائي ولا متحقّقاً في مكان ولا متحيزاً في جهة كيف تكون رؤية بالعيون والأبصار؟!

والحقّ انّ قول الأشاعرة كأهل الحديث «بلا كيف» مهزلة لا يعتمد عليها ، فانّ الكيفية ربما تكون من مقوّمات الشيء ولولاها لما كان له أثر ، فمثلاً يقولون : إنّ لله يداً ورجلاً وعيناً وسمعاً بلا كيف ، ويصرحون بثبوت واقعيات هذه الصفات حسب معانيها اللغوية لله سبحانه لكن بلا كيفية.

وهذا كما ترى فأنّ اليد في اللغة العربية وضعت للجارحة حسب ما لها من الكيفية ، فإثبات اليد لله بالمعنى اللغوي مع حذف الكيفية ، يكون مساوياً لنفي معناها اللغوي ويكون راجعاً إلى تفسيرها بالمعاني المجازية التي يفرون منها فرار المزكوم من المسك ، ومثله القدم والوجه.

٢١٨

وبعبارة أُخرى : انّ الحنابلة والأشاعرة يصرّون على أنّ الصفات الخبرية كاليد والرجل والقدم والوجه في الكتاب والسنّة يجب ان تفسر بنفس معانيها اللغوية ، ولا يجوز لنا حملها على معانيها المجازية كالقدرة في اليد مثلاً ، ولمّا رأوا انّ ذلك يلازم التجسيم التجئوا إلى قولهم : يد بلا كيف أو وجه بلا كيف ، ولكنّهم ما دروا انّ الكيفية في اليد والوجه وغيرهما مقوّمة لمفاهيمها ، فنفي الكيفية يساوق نفي المعنى اللغوي ، فكيف يمكن الجمع بين المعنى اللغوي والحمل عليه بلا كيف؟! ومنه يعلم حال الرؤية بالبصر والعين فإنّ التقابل مقوّم لمفهومها ، فإثباتها بلا كيف يلازم نفي أصل الرؤية ، والكلام في المقام إنّما هو النظر بالبصر والرؤية بالعين ، لا الرؤية بالقلب أو في النوم فانّها خارجة عن محط البحث.

٢. اختلاف الأحكام باختلاف الظروف

إنّ بعض المتّفقين من الجدد لمّا وجدوا انّ الرؤية لا تنفك عن الجهة التجئوا إلى القول بأنّ كلّ شيء في الآخرة غيره في الدنيا ، ولعلّ الرؤية تتحقّق في الآخرة بلا هذا اللازم السلبي. وهذا ما سمعته عن بعض المشايخ في دمشق.

يلاحظ عليه : بأنّه رجم بالغيب ، فإن أرادوا من المغايرة بأنّ الآخرة ظرف للتكامل وانّ الأشياء توجد في الآخرة بأكمل وجودها وأمثلها ، فهذا لا مناقشة فيه ، يقول سبحانه : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً). (١) وإن أرادوا انّ القضايا العقلية البديهية تتبدّل في الآخرة إلى نقيضها ، فهذا يوجب انهيار النّظم الكلامية والأساليب العلمية التي يعتمد عليها المفكّرون من أتباع الشرائع وغيرهم ، إذ معنى ذلك انّ النتائج المثبتة في جدول

__________________

(١) البقرة : ٢٥.

٢١٩

الضرب سوف تتبدّل في الآخرة إلى ما يباينها ، فتكون النتيجة ضرب ٢* ٥ / ٢ أو ١٠ أو ... وانّ قولنا : «كلّ ممكن يحتاج إلى علّة» يتبدّل في الآخرة إلى أنّ الممكن غني عن العلّة ، فعند ذلك لا يستقر حجر على حجر وتنهار جميع المناهج الفكرية ، ويصير الإنسان سوفسطائيا.

٣. عدم المبالاة بإثبات الجهة

إنّ أساتذة الجامعات الإسلامية في الرياض ومكة المكرمة والمدينة المنورة بدل أن يجهدوا أنفسهم في فهم المعارف ويتجردوا في مقام التحليل عن الآراء المسبقة ، نرى أنّهم يدعمون شباب الجامعات وخرّيجيها بدعم مالي وفكري ليجمعوا من هنا وهناك أُموراً حول الرؤية ، فخرجوا بنتيجة هي إثبات الجهة لله حتّى يتسنّى لهم إثبات الرؤية ، وهذا العمل أشبه بدفع الفاسد بالأفسد ، وإن كنت في شك من ذلك فاستمع لما يلي :

يقول الدكتور أحمد بن محمد آل حمد خريج جامعة أُم القرى : إنّ إثبات رؤية حقيقية بالعيان من غير مقابلة أو جهة ، مكابرة عقلية لأنّ الجهة من لوازم الرؤية ، وإثبات اللزوم ونفي اللازم مغالطة ظاهرة.

ومع هذا الاعتراف تخلّص عن الالتزام بإثبات الجهة لله بقوله : إنّ إثبات صفة العلو لله تبارك وتعالى ورد في الكتاب والسنّة في مواضع كثيرة جدّاً ، فلا حرج في إثبات رؤية الله تعالى في هذا العلو الثابت له تبارك وتعالى ، ولا يقدح هذا في التنزيه ، لأنّ من أثبت هذا أعلم البشر بما يستحقّ الله تعالى من صفات الكمال.

أمّا لفظة الجهة فهي من الألفاظ المجملة التي لم يرد نفيها ولا إثباتها بالنص

٢٢٠