الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

إنّ نفي هذه القدرة والاستطاعة ممّا يأباه العقل والحس ، وأمّا إثبات قدرة لا أثر لها بوجه ، فهو كنفي القدرة أصلاً. وأمّا إثبات تأثير في حالة لا يفعل ، فهو كنفي التأثير ، فلا بدّ إذاً من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة لا على وجه الإحداث والخلق ، فإنّ الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم ، والإنسان كما يحسُّ من نفسه الاقتدار ، يحسّ من نفسه أيضاً عدم الاستقلال. فالفعل يستند وجوده إلى القدرة ، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب ، كنسبة الفعل إلى القدرة ، وكذلك يستند سبب إلى سبب آخر حتّى ينتهي إلى مسبب الأسباب ، وهو الخالق للأسباب ، ومسبباتها ـ المستغني على الإطلاق ـ فإنّ كلّ سبب مهما استغنى من وجه ، محتاج من وجه ، والباري تعالى هو الغني المطلق الذي لا حاجة له ولا فقر. (١)

قال الشهرستاني بعد ما نقل كلامه هذا : وهذا الرأي إنّما أخذه من الحكماء الإلهيّين ، وأبرزه في معرض الكلام. وليس تختص نسبة السبب إلى المسبّب ـ على أصله ـ بالفعل والقدرة (قدرة الإنسان) بل كلّ ما يوجد من الحوادث فذلك حكمة ، وحينئذ يلزم القول بالطبع وتأثير الأجسام في الأجسام إيجاداً ، وتأثير الطبائع في الطبائع إحداثاً ، وليس ذلك مذهب الإسلاميّين ، كيف ، ورأي المحقّقين من العلماء أنّ الجسم لا يؤثر في الجسم. (٢)

هذا هو ما علّقه الشهرستاني على كلام إمام الحرمين وآخذه عليه ، وهو غير صحيح. فإنّ المراد من العلّية الطبيعية بين الأجسام والمظاهر المادية ، ليس هو الإيجاد والإحداث من كتم العدم ، بل المراد هو تفاعل الأجسام والطبائع ، بعضها

__________________

(١) الملل والنحل : ١ / ٩٩٩٨.

(٢) المصدر نفسه.

١٤١

مع بعض بإذنه سبحانه ، كانقلاب الماء إلى البخار ، والمواد الأرضية إلى الأزهار والأشجار ، وغير ذلك ممّا كشف عنه الحسّ والعلم.

وأمّا الصور الطارئة على الطبائع عند التفاعل والانقلاب كصور الزَّهْر والشجر ، فليست مستندة إلى نفس الطبائع ، بل الطبائع معدات وممهدات لنزول هذه الصور من علل عليا ، كشف عنها الذكر الحكيم عند ما صرح بأنّ لعالم الكون مدبرات يدبرونه بإذنه سبحانه ، قال : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً). (١)

إنّ كون العبد فاعلاً لفعله ، وعالم الطبائع مؤثراً في آثاره فإنّما هو بمعنى كونهما «ما به الوجود» لا «ما منه الوجود» ، وكم من فرق بين التعبيرين. فمن اعترف بالتأثير فقد اعترف بالمعنى الأوّل والسببية الناقصة ، لا بالمعنى الثاني ، أعني إفاضة الوجود ، والخلق بالمعنى القائم بالله سبحانه ، فإنّ الخلق فيض يُبتدئ منه سبحانه ، ويجري في القوابل والقوالب فيتجلّى في كلّ مورد بصورة وشكل ، والإنسان بما أنّه مجبول على الاختيار ، يصرف باختياره ما أُفيض عليه في مكان دون مكان وفي صورة دون صورة. نعم ليس لغيره من الطبائع إلاّ طريق واحد وتجلّ فارد.

وأظن أنّ الشهرستاني لو وقف على الفرق بين الفاعلين ، لما اعترض على كلام إمام الحرمين ـ بأنّه ليس من مذهب الإسلاميين ـ نعم هو ليس من مذاهب الحنابلة والأشاعرة ، وأمّا العدلية بعامة طوائفها فهم قائلون بذلك ، وقد عرفت قضاء القرآن والعقل في ذاك المجال.

__________________

(١) النازعات : ٥

١٤٢

٢. أحمد بن تيمية (٦٦٢ ـ ٧٢٨ ه‍) يعترف بتأثر قدرة العبد

إنّ أحمد بن تيمية من دعاة السلفية في القرن الثامن ، وهو الذي أحيا مذهب السلف ، بعد اندراسه ، ودعا إليه بحماس وخالف الرأي العام في مسائل عديدة في العقائد والفقه ، وأخذ برأي أهل الحديث في عامّة الموارد ، حتّى في إجلاسه سبحانه فوق عرشه ، ووصفه بأنّ له أطيطاً كأطيط الرحل ، إلاّ أنّه خالفهم في تأثير العلل الطبيعية وقدرة العبد واستطاعته ، وأنّما عدل عن آرائهم في هذا الموضوع وأخذ برأي العدلية من الإمامية والمعتزلة لأجل قوة البراهين التي أقامها العلاّمة الحلي رداً على قول الأشاعرة بأنّه لا دور للعبد في أفعاله ، وذلك لأنّ مقالة مثل هذه تستلزم أشياء شنيعة.

فلم يجد ابن تيمية محيصاً إلاّ العدول عن رأي أهل الحديث والانسلاك في صفوف العدلية ، وممّا يقضى به العجب انّه نسب مختاره إلى جمهور أهل السنّة المثبتين للقدر ، وكأنّ الإمام أحمد أو الإمام الأشعري ليسا من أئمة أهل السنّة.

وعلى كلّ تقدير ، فهذا نصّ كلامه :

إنّ جمهور أهل السنّة المثبتين للقدر ، لا يقولون بما ذكره ، بل جمهورهم يقولون بأنّ العبد فاعل حقيقة ، وأنّ له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية ، وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرّون بما دلّ عليه العقل من أنّ الله تعالى يخلق السحاب بالرياح ، ويُنزّل الماء بالسحاب ويُنبِت النباتَ بالماء ، ولا يقولون بأنّ قوى الطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها ، بل يقرون أنّ لها تأثيراً لفظاً ومعنى.

ولكن هذا القول الذي حكاه هو (العلاّمة الحلّي) قول بعض المثبتة للقدر كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ، حيث لا

١٤٣

يثبتون في المخلوقات قوى الطبائع ويقولون : إنّ الله فعل عندها لا بها ، ويقولون : إنّ قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل ، وأبلغ من ذلك قول الأشعري بأنّ الله فاعل فعل العبد ، وأنّ عمل العبد ليس فعلاً للعبد ، بل كسب له ، وإنّما هو فعل الله ، وجمهور الناس من أهل السنّة من جميع الطوائف على خلاف ذلك ، وأنّ العبد فاعل لفعله حقيقة. (١)

أقول : إنّ الإمام في العقائد لدى أهل السنّة ، هو الإمام أحمد ، وبعده الإمام الأشعري ، والمفروض أنّهم لا يقولون بتأثير قدرة العبد في فعله ، ومعه : كيف يمكن أن ينسب إلى أهل السنّة غيره؟!

والحقّ أنّ ابن تيمية من رماة القول على عواهنه فيقضي ويبرم وينقض من دون أن يصدر من مصدر صحيح.

والعجب انّه ينسب إلى أهل السنّة بأنّهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية!!

كيف يقول ذلك والأزهر والأزهريون يردّدون في ألسنتهم قول القائل :

ومن يقل بالطبع أو بالعلة

فذاك كفر عند أهل الملة

٣. نظرية الشعراني (٩٧٣٩١١ ه‍) وتأثير قدرة العبد في فعله

إنّ الشيخ الشعراني مؤلف كتاب «اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر» من أقطاب الحديث والكلام والتصوف ، فقد أدرك بصفاء ذهنه انّ الاعتقاد بالكسب لا يتفارق الجبر قدر شعرة ، فحاول أن يعالج المسألة من طريق

__________________

(١) منهاج السنة : ١ / ٢٦٦.

١٤٤

الكشف فقال :

اعلم يا أخي أنّ هذه المسألة من أدقّ مسائل الأُصول وأغمضها ، ولا يُزيل إشكالها إلاّ الكشف الصوفي ، أمّا أرباب العقول من الفِرَق فهم تائهون في إدراكها ، وآراؤهم فيها مضطربة. إذ كان أبو الحسن الأشعري يقول : ليس للقدرة الحادثة (قدرة العبد) أثر ، وإنّما تعلّقها بالمقدور مثل تعلّق العلم بالمعلوم في عدم التأثير.

وقد اعترض عليه بأنّ القدرة الحادثة إذا لم يكن لها أثر فوجودها وعدمها سواء ، فإنّ قدرة لا يقع بها المقدور ، بمثابة العجز. ولقوة هذا الاعتراض لجأ أصحاب الأشعري إلى القول بالجبر. وقال آخرون إنّ لها تأثيراً ما ، وهو اختيار الباقلاني ، لكنّه لما سئل عن كيفية هذا التأثير في حين التزامه باستقلال القدرة القديمة في خلق الأفعال ، لم يجد جواباً. وقال : إنّا نلتزم بالكسب لأنّه ثابت بالدليل ، غير أنّي لا يمكنني الإفصاح عنه بعبارة. وتمثل الشيخ أبو طاهر بقول الشاعر :

إذا لم يكن إلاّ الأسنّة مركباً

فلا رأي للمضطر إلاّ ركوبها

ثمّ قال : ملخص الأمر : أنّ من زعم أنّه لا عمل للعبد ، فقد عاند ، ومن زعم أنّه مستبد بالعمل ، فقد أشرك ؛ فلا بدّ من القول بأنّه مضطر على الاختيار. (١)

هذا ، وقد أحسن الشيخ في نقد الكسب ولكن الإحالة إلى الكشف الصوفي إحالة إلى المجهول ، أو إحالة إلى إدراك شخصي لا يكون حجّة للغير.

__________________

(١) اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر : ١٣٩ ـ ١٤١.

١٤٥

٤. الشيخ عبده (١٣٢٣١٢٦٦ ه‍) ، وتأثير قدرة العبد في فعله

لم نجد بين رحيل الشيخ الشعراني عام ٩٣٧ ه‍ ـ إلى عصر مفتي الديار المصرية من ينفض غبار التقليد عن تفكيره ، ولعلّ في هذه الفترة رجالاً أحراراً في التفكير ، وصلوا إلى ما وصل إليه إمام الحرمين ومن جاء بعده ، وعلى كلّ تقدير فقد خالف الشيخ محمد عبده ، الرأي السائد على الأزهر والأزهريين وقام بوجههم وصرح بتأثير قدرة العبد في فعله.

كانت العقيدة الإسلامية في مصر تتجلّى في المذهب الأشعري وكان إنكار العلّية والمعلولية والرابطة الطبيعية بين الطبائع وآثارها من أبرز سمات ذاك المذهب ، وكان التفوّه بخلافه ، آية الإلحاد والكفر ، وقد شنّ الماديون على هذه العقيدة أُموراً ملئوا بها صحفهم وكتبهم ، منها :

١. إنّ الإلهيّين لا يعترفون بناموس العلّية والمعلولية ، وينكرون الروابط الطبيعية بين الأشياء وآثارها ، مع أنّ العلم ـ بأساليبه التجريبية المختلفة ـ يثبت ذلك بوضوح.

٢. إنّ الإلهيّين يعترفون بعلّة واحدة وهي الله تعالى ، وهم يقيمونه مقام جميع العلل ، وينسبون كلّ ظاهرة مادية إليه سبحانه ، وأحياناً إلى العوالم العِلْوية التي يعبّر عنها بالملك والجن والروح.

٣. إنّ الإلهيّين ـ بسبب قولهم بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه ـ لا يعتقدون بدور للإنسان في حياته وعيشه ، فهو مجبور في السير على الخط الذي يرسمه له خالقه ، ومكتوف الأيدي أمام تلاطم أمواج الحوادث ، فلأجل ذلك لا يؤثّر في الإنسان شيء من الأساليب التربوية ولا يغيره إلى حال.

إلى غير ذلك من الإشكالات والمضاعفات والتوالي الفاسدة ، التي لا تقف

١٤٦

عند حدّ.

وقد وقف الشيخ عبده على خطورة الموقف ، وأنّه ممّا يستحقّ أن يشتري لنفسه اللومَ والذمَ ، بل الأمرَ الأشد من ذلك ، في سبيل إظهاره الحقيقة ، حتّى يدفع الهجمات الشعواء عن وجه الإسلام والمسلمين بقوة ورصانة.

نعم ، قد أثّر في تفكير الشيخ عبده وأوجد فيه هذا الحافز والاندفاع ، عاملان كبيران ، كان لهما الأثر البالغ في بناء شخصيته الفكرية والفلسفية والاجتماعية والسياسية ، وهما :

١. اطّلاعه على نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في منفاه (بيروت).

٢. اتّصاله بالسيد المجاهد جمال الدين الأسدآبادي (١٢٥٤ ـ ١٣١٦ ه‍).

ففي ضوء هذين العاملين ، خالف الرأي العام في كثير من الموارد ، ومنها أفعال العباد ، فقال في رسالة التوحيد التي كتبها عام ١٣٠٣ ه‍ ـ للتدريس في المدارس الإسلامية في بيروت سنة إقصائه من مصر إليها وقد وقف على نهج البلاغة في منفاه ـ :

يشهد سليم العقل والحواسّ من نفسه أنّه موجود ولا يحتاج في ذلك إلى دليل يهديه ، ولا معلم يرشده ، كذلك يشهد أنّه مدرك لأعماله الاختيارية ، يزن نتائجها بعقله ، ويقدّرها بإرادته ، ثمّ يصدرها بقدرة ما فيه ، ويعد إنكار شيء من ذلك مساوياً لإنكار وجوده في مجافاته لبداهة العقل.

كما يشهد بذلك في نفسه يشهده أيضاً في بني نوعه كافة ، متى كانوا مثله في سلامة العقل والحواس ... وعلى هذا قامت الشرائع ، وبه استقامت التكاليف ، ومن أنكر شيئاً منه فقد أنكر مكان الإيمان من نفسه ، وهو عقله الذي شرفه الله بالخطاب في أوامره ونواهيه.

١٤٧

إلى أن قال : ودعوى أنّ الاعتقاد بكسب العبد. (١) لأفعاله يؤدي إلى الإشراك بالله ـ وهو الظلم العظيم ـ دعوى من لم يلتفت إلى معنى الإشراك على ما جاء به الكتاب والسنّة ، فالإشراك اعتقاد أنّ لغير الله أثراً فوق ما وهبه الله من الأسباب الظاهرة ، وأنّ لشيء من الأشياء سلطاناً على ما خرج عن قدرة المخلوقين ، وهو اعتقاد من يعظِّم سوى الله مستعيناً به في ما لا يقدر العبد عليه ....

جاءت الشريعة لتقرير أمرين عظيمين ، هما ركنا السعادة وقوام الأعمال البشرية :

الأوّل : إنّ العبد يكسب بإرادته وقدرته ما هو وسيلة لسعادته.

والثاني : إنّ قدرة الله هي مرجع لجميع الكائنات ، وإنّ من آثارها ما يحول بين العبد وبين إنفاذ ما يريده ، وإنّ لا شيء سوى الله يمكن له أن يمدّ العبد بالمعونة فيما لم يبلغه كسبه.

وقد كلّفه سبحانه أن يرفع همّته إلى استمداد العون منه وحده ، بعد أن يكون قد أفرغ ما عنده من الجهد في تصحيح الفكر وإجادة العمل. وهذا الذي قرّرناه قد اهتدى إليه سلف الأُمّة ، فقاموا من الأعمال بما عجبت له الأُمم ، وعوّل عليه من متأخّري أهل النظر إمام الحرمين الجويني ، وإن أنكر عليه بعض من لم يفهمه. (٢)

__________________

(١) ولعلّه استخدم لفظ الكسب ليكون واجهة لبيان مقصده بتعبير مقبول عند أهل السنّة وإلاّ فما ذكره لا صلة له بالكسب المصطلح ، إلاّ أن يريد الكسب القرآني ، أعني قوله سبحانه : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) البقرة : ٢٨٦.

(٢) رسالة التوحيد : ٥٩ ـ ٦٢ بتلخيص.

١٤٨

٥. الزرقاني والجمع بين النصوص

إنّ الشيخ محمد بن عبد العظيم الزرقاني مؤلّف كتاب «مناهل العرفان في علوم القرآن» أحد المحقّقين في العلوم القرآنية ، وكتابه هذا ، يدلّ على سعة باعه واطّلاعه ونزاهة قلمه ودماثة خلقه مع المخالفين ، فقد طرح في كتابه مسألة خلق الأفعال وقال : ولنعلم أنّ المتخالفين في ذلك ما زالوا مع خلافهم ، إخواناً مسلمين ، تظلّهم راية القرآن ويضمّهم لواء الإسلام.

في القرآن الكريم والسنّة النبوية نصوص كثيرة على أنّ الله تعالى خالق كلّ شيء ، وانّ مرجع كلّ شيء إليه وحده ، وانّ هداية الخلق وضلالهم بيده سبحانه ، ثمّ ذكر شيئاً من الآيات والروايات الواردة في هذا الصدد.

ثمّ قال : بجانب هذا توجد نصوص كثيرة أيضاً من الكتاب والسنّة ، تنسب أعمال العباد إليهم وتعلن رضوان الله وحبّه للمحسنين فيها ، كما تعلن غضبه وبغضه للمسيئين ، ثمّ ذكر قسماً من الآيات والروايات الدالّة على ذلك ، ثمّ خرج بالنتيجة التالية :

إنّ أهل السنّة بهرتهم النصوص الأُولى فقالوا : إنّ العبد لا يخلق أفعالَ نفسه الاختيارية وإنّما هي خلق الله وحده. وإذا قيل لهم : كيف يثاب المرء أو يعاقب على عمل لم يوجده هو؟ وكيف يتّفق هذا وما هو مقرر من عدالة الله وحكمته في تكليف خلقه؟ قالوا : إنّ العباد ـ وإن لم يكونوا خالقين لأعمالهم ـ كاسبون لها. وهذا الكسب هو مناط التكليف ومدار الثواب والعقاب ، وبه يتحقّق عدل الله وحكمته فيما شرع للمكلّفين.

وهكذا حملوا النصوص الأُولى على الخلق وحملوا الثانية على

١٤٩

الكسب جمعاً بين الأدلّة.

أمّا المعتزلة فقد بهرتهم النصوصُ الثانية وما يظاهرها من برهان العقل فرجّحوها وقالوا : إنّ العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية. وإذا قيل لهم : أليس الله خالق كلّ شيء ومنها أعمال العبد؟ قالوا : بلى إنّه خالق كلّ شيء حتّى أعمال عباده الاختيارية ، بيد أنّه خلق بعض الأشياء بلا واسطة وخلق بعضها الآخر بواسطة ، وأعمال المكلّفين من القبيل الثاني ، خلقها الله بوساطة خلق آلاتها فيه ، وآلاتها هي القدرة الكلية والإرادة الكلية الصالحتان للتعلق بكلّ من الطرفين. وليس لنا من حول ولا قوة سوى أنّنا استعملناها على أحد وجهيها ، إمّا بحسن الاختيار وإمّا بسوء الاختيار. ثمّ لا مانع عندنا من القول بأنّه سبحانه خالق لأفعال عباده ، ولكن على سبيل المجاز ، باعتبار أنّه خالق أسبابها ووسائلها.

ثمّ قال هو : ولقد كان سلفنا الصالح يؤمنون بوحدانية الله وعدله ، ويؤمنون بقدره وأمره ، ويؤمنون بهذه النصوص وتلك النصوص ، ويؤمنون بأنّ العبد يعمل ما يعمل وأنّ الله خالق كلّ شيء ، ويؤمنون بأنّه تعالى تنزّه في قدره عن أن يكون مغلوباً أو عاجزاً ، وتنزّه في أمره وتكليفه عن أن يكون ظالماً أو عابثاً. ثمّ بعد ذلك يصمتون ، فلا يخوضون في تحديد نصيب عمل الإنسان الاختياري من قدرة الله ، ونصيبه من قدرة العبد. ولا يتعرّضون لبيان مدى ما يبلغ فعل الله في قدره ، ولا لبيان مدى ما يبلغ فعل العبد في امتثال أمره ، ذلك ما لم يعلموه ولم يحاولوه ، لأنّهم لم يكلّفوه ، وكان سبحانه أرحم بعباده من أن يكلّفهم إيّاه ، لأنّه من أسرار القدر أو يكاد ، والعقل البشري محدود التفكير ضعيف الاستعداد. ومن شره العقول طلب ما لا سبيل لها إليه (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً).

١٥٠

لم يمتحنّا بما تعيا العقولُ به

حرصاً علينا فلم نرتب ولم نهمِ(١)

٦. الشيخ شلتوت (١٣٨٣١٣١٠ ه‍) العبد فاعل بإرادته وقدرته

إنّ الشيخ شلتوت أحد المجتهدين الأحرار في القرن الماضي لا تأخذه في الله لومة لائم ، فإذا شاهد الحق أجهر به ، ولا يطلب رضى أحد ، ولا يخاف غضب آخر ، فهو ممّن اعترف بحرية الإنسان في مجال العمل ، قال :

وقد تناول علماء الكلام في القديم والحديث هذه المسألة ، وعُرِفت عندهم بمسألة الهدى والضلال ، أو بمسألة الجبر والاختيار ، أو بمسألة خلق الأفعال ، وكان لهم فيها آراء فرّقوا بها كلمة المسلمين ، وزلزلوا بها عقائد الموحدين العاملين ، وصرفوا الناس بنقاشهم في المذاهب والآراء عن العمل الذي طلبه الله من عباده ، وأخذوا يتقاذفون فيما بينهم بالإلحاد والزندقة ، والتكفير والتفسيق ، وما كان الله ـ وآياته بينات واضحات ـ ليقيم لهم وزناً فيما وقفوا عنده ، وداروا حوله ، ودفعوا الناس إليه.

ثمّ إنّ ذلك العيلم بعد ما ذكر آراء السلف المختلفة قال :

والذي نراه كما قلنا أنّ للعبد قدرة وإرادة ولم يخلقهما الله فيه عبثاً ، بل خلقهما ليكونا مناط التكليف ومناط الجزاء وأساس نسبة الأفعال إلى العبد نسبة حقيقية ، والله يترك عبده وما يختار لنفسه ، فإن اختار الخير تركه فيه

__________________

(١) مناهل العرفان في علوم القرآن : ١ / ٥٠٦ ـ ٥١١ ، والشعر جزء من قصيدة البوصيري في مدح النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

١٥١

يدعوه سابقه إلى لاحقه ، ولا يمنعه بقدرته الإلهية عن استمراره فيه ؛ وإن اختار الشر ، تركه فيه يدعوه سابقه إلى لاحقه ، ولا يمنعه بقدرته الإلهية عن استمراره فيه ، والعبد وقدرته واختياره كل ذلك بمشيئة الله وقدرته وتحت قهره ، ولو شاء لسلب قوة الخير فكان العبد شرّاً بطبعه لا خير فيه ، ولو شاء لسلبه قوة الشر فكان خيراً بطبعه لا شر فيه ، ولكن حكمته الإلهية في التكليف والابتلاء ، قضت بما رسم ، وكان فضل الله على الناس عظيماً.

ومن هنا يتبين أنّ العبد ليس مجبوراً ، لا ظاهراً ولا باطناً ، ولا مجزياً على ضلاله بإضلال الله إياه ، فإنّ هذا أمر تأباه حكمة الحكيم وعدل العادل ، وتمنع تصوّرَه.

القضاء والقدر لا يستلزمان الجبر

وبهذا يكون المؤمنون عمليّين ، لا يعتذر الواحد منهم عن تقصير في واجب بالقضاء والقدر ، فليس في القضاء والقدر إلاّ العدل المطلق ، والحكمة الشاملة العامة ، ليس فيهما إلاّ الحكم والترتيب ، وربط الأسباب بالمسببات على سنّة دائمة مطّردة ، هي أصل الخلق كلّه ، وهي أساس الشرائع كلّها ، وهي أساس الحساب والجزاء عند الله ، وليس فيهما شيء من معاني الإكراه والإلزام. وإنّما معناهما الحكم والترتيب ، فقضى : حكم وأمر ، وقدر : رتب ونظم ، وعلم الله بما سيكون من العبد باختياره وطوعه ـ شأن المحيط علمُه بكلّ شيء ـ ليس فيه معنى إلزام العبد بما علم الله أنّه سيكون منه ، وإنّما هو العلم الكامل الذي لا يقصر عن شيء في الأرض ولا في السماء ، ولا فيما كان وما يكون. (١)

وبذلك تمت المراحل التي مرّت على نظرية الكسب التي شغلت بالَ

__________________

(١) تفسير القرآن الكريم ، للشيخ شلتوت : ٢٤٠ ـ ٢٤٢.

١٥٢

المفكّرين عدة قرون وتركتْ بصماتِها على ثقافة المسلمين وعلى حياتهم بحجة انّ الإنسان مكتوف اليد ، ليس له ولا لقدرته وإرادته أيُّ أثر في حياته.

قال أحمد أمين : غالت المعتزلة ، بحرية الإرادة ، وغلوا فيها أمام قوم ، سلَبُوا الانسانَ إرادتَه ، حتّى جعلوه كالريشة في مهب الريح ، أو كالخشبة في اليمّ. وعندي انّ الخطأ في القول بسلطان العقل ، وحرية الإرادة ، والغلوّ فيهما ، خير من الغلوّ في أضدادهما ، وفي رأيي انّه لو سادت تعاليم المعتزلة إلى اليوم كان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي ، وقد أعجزهم التسليمُ وشلّهم الجبرُ ، وقعد بهم التواكل. (١)

ولو كان الكاتب واقفاً على منهج أئمّة أهل البيت في حرية الإنسان ، وحدود سلطان العقل لأذعن بأنّ المنهج في تحديد الحرية ، خال عن الغلوّ ، وانّه أعطى لكلّ حقّه ، فما عاقه القول بالتوحيد في الخالقية ، عن القول بحرية الإنسان ، وانّ مصيره من حيث السعادة والشقاء بيده ، كما لم يمنعه القول بتأثير قدرة العبد في انتخابه واختياره عن القول بالتوحيد في الأفعال ، وانّ كلّ ما في الكون من دقيق وجليل قائم به سبحانه ، ومفاض منه عبر العلل والأسباب.

لم يزل النقاش والجدال قائماً بين الأشاعرة والمعتزلة على قدم وساق ، وكلّ يتهم الآخر بأشنع التهم ، فالأشعري يتّهم المعتزلي بالشرك وانّ القول باستقلال الإنسان في فعله يستلزم أن يكون لله شركاء بعدد الإنسان وهم عباده المكلّفون ، وهذا يناقض عقيدة التوحيد ، وبرهان الوحدانية ؛ كما أنّ المعتزلة تتّهم الأشاعرة بأنّ قولهم بخلق الأعمال لا يتّفق مع القول بعدله وحكمته سبحانه ، إذ كيف يثاب المرء أو يعاقب على عمل لم يوجده.

__________________

(١) ضحى الإسلام : ٣ / ٧.

١٥٣

ولو رجع روّاد المنهجين ، إلى منهج أئمّة أهل البيت لوقفوا على الحقّ الصراح ، وانّ القول بالتوحيد في الخالقية لا يزاحم القول بالعدل والحكمة ، (بشرط أن يفسر على النهج الصحيح) وانّ بين الأصلين كمال التلاؤم.

رُوي انّ القاضي عبد الجبار المعتزلي (المتوفّى ٤١٥) دخل دارَ الصاحب بن عباد فرأى فيه أبا إسحاق الأسفرائيني الأشعري (المتوفّى ٤١٣ ه‍) فقال القاضي : سبحان من تنزّه عن الفحشاء (يريد بذلك انّ القول بخلق الاعمال يستلزم انّه سبحانه خلق الفحشاء) ، فأجابه أبو إسحاق : سبحان من لا يجري في ملكه إلاّ ما شاء ، ويريد انّ القول بوقوع أفعال العباد بلا مشيئة منه سبحانه يستلزم القول بتحقّق أُمور خارجة عن سلطانه. (١)

ولو تتلمذ عميدا المعتزلة والأشاعرة على خريجي منهج أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ لوقفا على أنّ الشعارين غير متزاحمين ، فالله سبحانه في الوقت الذي تنزّه عن الفحشاء لا يجري في ملكه إلاّ ما شاء ، فَجعْلُ كلّ من الشعارين مقابلاً للآخر رهن الجمود على القول بعموم الخلقة على التفسير الذي سار عليه الأشعري ، وعلى انقطاع فعل العبد عن قدرته سبحانه على النحو الذي سار عليه المعتزلة.

هذا تمام الكلام حول نظرية الكسب ، ومراحلها التي مرّت بها وما لها من التوالي والمضاعفات.

بقيت هنا عدّة أُمور نذكرها تباعاً في خاتمة المطاف.

__________________

(١) شرح المقاصد : ٢ / ١٤٥ ؛ شرح المواقف : ٨ / ١٥٦.

١٥٤

٥

خاتمة المطاف

وفيها أُمور :

الأمر الأوّل

نسبة فعل العبد إلى الله فوق التسبيب

ربما يقال : انّ نسبة فعل العبد إلى الله سبحانه نسبةُ المسبَّب إلى السبب ، والله سبحانه خلق الإنسان وزوّده بالقدرة فهو يفعل بقدرته سبحانه ، وبما انّ العبد والقدرة من أفعاله سبحانه ، يكون الصادر عن قدرة العبد فعلاً له سبحانه تسبيباً.

أقول : إنّ حديث التسبيب هو متلقّى النظر الساذج وكفى في النجاة الاعتقاد بذلك.

وأمّا في النظرة الدقيقة فانّ نسبة فعل العبد إلى الله سبحانه فوق ذلك ، لأنّ العالم الإمكاني بجواهره وأعراضه وطبائعه ومجرداته فقير بالذات لا يملك لنفسه شيئاً من الوجود ، فالجميع قائم بالله سبحانه قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، فلا يُمكن الفصل بين الوجود الإمكاني ووجود الواجب ، فانّ الفصل آية الغناء ، وهو يلازم الوجوب والمفروض انّه فقير بالذات حدوثاً وبقاء.

١٥٥

وأفضل جملة تعبر عن هذه العلقة الوثيقة قوله سبحانه : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (١) وقوله سبحانه : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) (٢) ومفاد هاتين الآيتين هو كونه سبحانه مع كلّ موجود إمكاني من دون فرق بين الإنسان وفعله.

وليس المراد من المعية هو حلوله سبحانه في ذوات الأشياء وآثارها ، بل المراد هو المعية القيومية.

وقد ذكر صدر المتألّهين تمثيلاً في المقام ، وإليك بيانه :

إذا أردت التمثيل لتبيين كون الفعل الواحد فعلاً لشخصين على الحقيقة ، فلاحظ النفس الإنسانية ، وقواها ، فالله سبحانه خلقها مثالاً ، ذاتاً وصفة وفعلاً ، لذاته وصفاته وأفعاله ، قال سبحانه : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ). (٣) وقد أُثر عن النبي والوصي القول بأنّه «من عرف نفسه ، عرف ربّه». (٤)

إنّ فعل كلّ حاسّة وقوة من حيث هو فعل تلك القوة ، فعل النفس أيضاً ، فالباصرة ليس لها شأن إلاّ إحضار الصورة المبصرة ، أو انفعال البصر منها ، وكذلك السامعة ، فشأنها إحضار الهيئة المسموعة أو انفعالها بها ، ومع ذلك فكلّ من الفعلين ، كما هو فعل القوة ، فعل النفس أيضاً ، لأنّها السميعة البصيرة في

__________________

(١) الحديد : ٤.

(٢) المجادلة : ٧.

(٣) الذاريات : ٢٠ ـ ٢١.

(٤) غرر الحكم : ٢٦٨ ، طبعة النجف. وروي عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ قوله : «أعلمكم بنفسه أعلمكم بربه» أمالي المرتضى : ٢ / ٣٢٩.

١٥٦

الحقيقة ، وليس شأن النفس استخدام القوى بل هو فوق ذلك. لأنّا إذا راجعنا إلى وجداننا نجد انّ نفوسنا بعينها الشاعرة في كلّ إدراك جزئي ، وشعور حسّي ، كما أنّها المتحركة بكلّ حركة طبيعية أو حيوانية منسوبة إلى قواها. وبهذا يتّضح انّ النفس بنفسها في العين قوّة باصرة ، وفي الأُذن قوة سامعة ، وفي اليد قوة باطشة ، وفي الرِّجل قوّة ماشية ، وهكذا الأمر في سائر القوى التي في الأعضاء ، فبها تبصر العين وتسمع الأُذن وتمشي الرجل. فالنفس مع وحدتها وتجرّدها عن البدن وقواه وأعضائه ، لا يخلو منها عضو من الأعضاء عالياً كان أو سافلاً ، ولا تبائنها قوة من القوى مدركة كانت أو محركة ، حيوانية كانت أو طبيعية.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه كما ليس في الوجود شأن إلاّ وهو شأنه ، كذلك ليس في الوجود فعل إلاّ فعله ، لا بمعنى أنّ فعل زيد مثلاً ليس صادراً عنه ، بل بمعنى انّ فعل زيد مع أنّه فعله بالحقيقة دون المجاز فهو فعل الله بالحقيقة. فكما أنّ وجود زيد بعينه أمر متحقّق في الواقع ، منسوب إلى زيد بالحقيقة لا بالمجاز ، وهو مع ذلك شأن من شئون الحقّ الأوّل ، فكذلك علمه وإرادته وحركته وسكونه وجميع ما يصدر عنه منسوب إليه بالحقيقة لا بالمجاز والكذب. فالإنسان فاعل لما يصدر عنه ومع ذلك ففعله أحد أفاعيل الحقّ الأوّل على الوجه اللائق بذاته سبحانه. (١)

وفي الحديث القدسي إلماع إلى هذا النوع من النسبة بين الخالق والمخلوق ، قال : «يا ابن آدم بمشيئتي كنتَ أنتَ الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبقوتي أدّيتَ إليّ فرائضي ، وبنعمتي قويتَ على معصيتي ، جعلتك سميعاً بصيراً قوياً». (٢)

__________________

(١) الأسفار : ٦ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨ ، وص ٣٧٤.

(٢) البحار : ٥ / ٥٧.

١٥٧

فالأشاعرة خلعوا الأسباب والعلل وهي جنود الله سبحانه ، عن مقام التأثير والإيجاد. كما أنّ المفوّضة عزلتْ سلطانَه عن ملكه وجعلت بعضاً منه في سلطان غيره. والحقّ الذي أيّده البرهان ويصدّقه الكتاب كون الفعل موجوداً بقدرتين ، لكن لا بقدرتين متساويتين ولا بمعنى علّتين تامّتين بل بمعنى كون الثانية من مظاهر القدرة الأُولى وشئونها وجنودها ، (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ). (١)

__________________

(١) المدثر : ٣١.

١٥٨

الأمر الثاني

تنمية العلم في ظلّ القول بنظام الأسباب والمسبّبات

قد أوضحنا في محاضراتنا في «الإلهيات» انّ القول بأنّ المادة لم تزل أزلية ، ولو صارت ذات سنن وقوانين فإنّما هي وليدة الصدفة ، لا يدفع بالإنسان إلى التحقيق وسبر أغوار الطبيعة ، وذلك إذ لا علم له بوجود سنن وأنظمة في داخل العالم حتّى يبحث عنه الإنسان ، فلا محيص للباحث في سنن العالم والمستطلع للحقائق السائدة فيه ـ قبل الفحص عن السنن ـ عن اعتناق نظرية الخلقة وهي انّ العالَم مصنوع علم وقدرة واسعة ، أخرجه من العدم إلى الوجود وأجرى فيه سنناً وأنظمة.

والحاصل : انّ الذي يبعث الإنسان إلى الفحص عن النظم والسنن هو نظرية الإلهيّين وهو انّ العالم مخلوق موجود واجب عالم قد مر ، وأمّا النظرية الأُخرى أي عدم تدخّل علم وقدرة في النظم والسنن فيعرقل خُطى الباحث عن الغور في العالم.

هذا هو الذي أوضحنا حاله في «الإلهيات».

فنقول : إنّ إنكار العلل والمعاليل والأسباب والمسبّبات والاعتقاد بعلّة واحدة مكان العلل نظير القول بأنّ النظام مخلوق صدفة ، وذلك لأنّ الذي يبعث الباحث عن الوجود وأسراره هو اعتقاده بأنّ كلّ ذرة في ذات هذا العالم مشتملة

١٥٩

على قانون يريد أن يستكشفه ويفرغه في قالب العلم ، وأمّا إذا اعتقد خلاف ذلك وانّه ليس للعالم إلاّ علّة واحدة وأنكر الأنظمة والسنن فلا يجد في نفسه باعثاً نحو الفحص والتحقيق ، إذ لا علم له بوجود السنن والأنظمة حتّى يبحث عنها ، فدعامة العلم لا تقوم إلاّ بالقول بأنّه سبحانه تبارك وتعالى خلق العالم على نظام خاص وأجرى فيه شيئاً هو مظاهر علمه وقدرته.

وقد جرت سنّة الله تعالى على خلق الأشياء بأسبابها ، فجعل لكلّ شيء سبباً وللسبب سبباً إلى أن ينتهي إلى الله سبحانه ، والمجموع من الأسباب الطولية علّة واحدة تامّة كافية لايجاد الفعل ، ونكتفي في المقام بكلمة عن الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ حيث قال : «أبى الله أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب ، فجعل لكلّ شيء سبباً وجعل لكلّ سبب شرحاً». (١)

الأمر الثالث نظرية «مالبرانس»

إنّ المنقول عن الفيلسوف الفرنسي «مالبرانس» (١٦٣١ ـ ١٧١٥ م) يتّحد مع نظرية الأشعري حرفاً بحرف ، ومن المظنون أنّه وقف على بعض الكتب الكلامية للأشاعرة ، فأفرغ نظرية الكسب حسب ما تلقّاه من تلك الكتب في كتابه ، وحاصل ما قال :

إنّ كلّ فعل إنّما هو في الحقيقة لله ، ولكن يظهر على نحو ما يظهر ، إذا تحقّقت ظروف خاصة إنسانية أو غير إنسانية حتّى لكأنّها يخيّل للإنسان أنّ الظروف هي التي أوجدته.

فهذه النظرية أولى بأن تسمّى بنظرية الاتّفاقية ، أو نظرية الظروف

__________________

(١) الكافي : ١ / ١٨٣ ، باب معرفة الإمام ، الحديث ٧.

١٦٠