الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

غيري جنى وأنا المعاقَبُ فيكم

فكأنني سبّابة المتندم

إنّ هذه التوالي الفاسدة التي يدركها كلّ إنسان واع ووجدان حرّ دفعت الشيخ الأشعري ، ومن لفّ لفّه إلى الخروج عن هذا المأزق باختراع «نظرية الكسب» حتّى يتخلّصوا ممّا يترتب على خلق الأعمال من التوالي الفاسدة ، فإذا قيل لهم : كيف يُثاب المرء أو يُعاقب على عمل لم يوجده هو؟ وكيف يتفق هذا مع ما هو مقرّر في عدالة الله وحكمته في تكليف خلقه؟

أجابوا : انّ العباد وإن لم يكونوا خالقين لأعمالهم لكنّهم كاسبون لها ، وهذا الكسب هو مناط التكليف ومدار الثواب والعقاب وبه يتحقّق عدل الله وحكمته فيما شرّع للمكلّفين.

قالوا : إنّ هنا نصوصاً تثبت بأنّه لا خالق إلاّ هو ، كقوله (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (١) ، (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (٢) إلى غير ذلك.

وبجانب هذا توجد نصوص ، تَنسب أعمال العباد إليهم ، وتُعلّق رضوان الله للمحسنين منهم وتعلّق غضبه للمسيئين منهم ويقول : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) (٣) ، (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) (٤) إلى غير ذلك من الآيات.

فحملوا النصوص الأُولى على الخلق ، وحملوا الثانية على الكسب جمعاً بين الأدلّة ، فإذا قيل ما هذا الكسب؟ وما يراد به؟ وهل هو أيضاً موجود أو معدوم؟

__________________

(١) الرعد : ١٦.

(٢) فاطر : ٣.

(٣) الجاثية : ١٥.

(٤) الإسراء : ٧.

١٢١

فمالوا يميناً ويساراً حتّى يأتوا به تفسيراً معقولاً مع أنّه مضت على النظرية قرون عشرة لكنّها بقيت في محاق الإبهام ، بل دخلت أخيراً في مدحرة الإنكار ، وهذا هو الذي ندرسه في الفصول المقبلة بعد مقدّمة موجزة.

١٢٢

٤

 نظرية الكسب بين التفسير ، والتكامل ، والإبطال

قد تعرفت على أنّ القول بالتوحيد في الخالقية ـ الذي يعبّر عنه اليوم بعموم القدرة والإرادة ـ بالتفسير الذي قام به أهل الحديث والأشاعرة ، صار ذا مضاعفات عديدة ، أهمها : كون الإنسان مجبوراً لا مختاراً ، مسيّراً لا مخيّراً ، غير مسئول عن عمله وفعله ، لأنّ الفعل فعل الله لا فعله ، وهو خالقه وموجده وليس له دور ، سوى كونه وعاءً لفعل الله سبحانه.

كما تعرّفت على أنّ الشيخ الأشعري قد وقف على ما يترتب على تفسيره من النتائج الفاسدة ، حاول أن يتخلّص من ذلك المأزق بطرح نظرية الكسب حتّى يكون للإنسان دور في مجال أفعاله وأعماله فصار سهم الخالق هو الإيجاد والإنشاء وسهم الإنسان هو الكسب والاكتساب ، والثواب والعقاب على الكسب.

وقد مرّت على النظرية مراحل مختلفة عبر أجيال ، وذلك لأنّ باذر الفكرة وغارسها مرّ عليها بإجمال دون أن يفسّرها ويبيّنها ، فأخذ روّاد منهج الأشعري بتبيينها وتفسيرها تارة ، وتطويرها وإكمالها ثانياً ، إلى أن وصلت النوبة إلى العقول

١٢٣

الحرّة ، فأنكروها وأبطلوها وصرّحوا بأنّها نظرية لا تسمن ولا تغني من جوع وانّ المضاعفات والتوالي الفاسدة باقية بحالها ، فها نحن نشرح كلّ واحد من هذه المراحل في فصل خاص حتى تسهل الإحاطة بها.

١٢٤

المرحلة الأُولى

 في تبيين النظرية وتفسيرها

يظهر من غير واحد من كُتّاب تاريخ العقائد والمناهج الكلامية انّ الإمام الأشعري لم يكن مبتكراً لنظرية الكسب ، بل لها جذور في كلمات من سبق عليه كجهم بن صفوان (المتوفّى ١٢٨ ه‍) وضرار بن عمرو العيني الذي يعدّ من رجال منتصف القرن الثالث.

قال القاضي عبد الجبار : إنّ جهم بن صفوان ذهب إلى أنّ أفعال العباد لا تتعلّق بنا وقال : إنّما نحن كالظروف لها ، حتى أنّ ما خلق فينا كان وإن لم يخلق لم يكن.

وقال ضرار بن عمرو : إنّها متعلّقة بنا ومحتاجة إلينا ، ولكن جهة الحاجة إنّما هي الكسب ، فقد شارك جهماً في المذهب وزاد عليه في الإحالة. (١)

إنّ الشيخ الأشعري نقل في كتاب «مقالات الإسلاميّين واختلاف المصلّين» انّ ضرار بن عمرو ممّن كان يذهب إلى أنّ العبد كاسب ، قال : والذي فارق ضرار بن عمرو به المعتزلة ، قوله : إنّ أعمال العباد مخلوقة وانّ فعلاً واحداً لفاعلين أحدهما خَلَقَه وهو الله ، والآخر اكتسبه وهو العبد ، وانّ الله عزّ وجلّ فاعل لأفعال العباد في

__________________

(١) شرح الأُصول الخمسة : ٣٦٣.

١٢٥

الحقيقة ، وهم فاعلون لها في الحقيقة. (١)

وقد نقل العلاّمة الحلّي نظرية الكسب عمّن تقدّم على الشيخ الأشعري كالنجّار وحفص الفرد. (٢)

فسواء أكانت النظرية للإمام الأشعري أم لغيره ، فقد مرّت عليها مراحل أُولاها ، مرحلة التبيين والتفسير حتى تخرج عن الإبهام والغموض.

مرحلة التبيين

قد حاول غير واحد من أعيان الأشاعرة ، أن يرفع النقاب عن وجه النظرية منهم الغزالي (٥٠٥٤٥٠ ه‍) من مشاهير الأشاعرة في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس فقام بإيضاحها بكلام مبسوط يتلخّص في العنوان التالي :

١. الكسب صدور الفعل من الله ، عند حدوث القدرة في العبد

قال : ذهبت المجبرة إلى إنكار قدرة العبد فلزمها إنكار ضرورة التفرقة بين حركة الرعدة ، والحركة الاختيارية ، ولزمها أيضاً استحالة تكاليف الشرع. وذهبت المعتزلة إلى إنكار تعلّق قدرة الله تعالى بأفعال العباد من الحيوانات والملائكة والجن والإنس والشياطين ، وزعمت أنّ جميع ما يصدر منها ، من خلق العباد واختراعهم ، لا قدرة الله تعالى عليها بنفي ولا إيجاب ، فلزمتها شناعتان عظيمتان :

إحداهما : إنكار ما أطبق عليه السلف من أنّه لا خالق إلاّ الله ، ولا مخترع سواه.

__________________

(١) مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين : ٢٨١.

(٢) كشف المراد ، الفصل الثالث من الإلهيات : ١٨٩ ، ط صيدا.

١٢٦

والثانية : نسبة الاختراع والخلق إلى قدرة من لا يعلم ما خلقه ، كأعمال النحل والعنكبوت وغيرهما من الحيوانات التي تقوم بأعاجيب الأعمال وغرائبها ، ثمّ قال : وإنّما الحقّ إثبات القدرتين على فعل واحد ، والقول بمقدور منسوب إلى قادرين ، فلا يبقى إلاّ استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد. وهذا إنّما يبعد إذا كان تعلّق القدرتين على وجه واحد ، فإن اختلفت القدرتان ، واختلف وجه تعلّقهما فتوارد التعلّقين على شيء واحد غير محال ، كما نبيّنه.

ثمّ إنّه حاول بيان تغاير الجهتين ، وحاصل ما أفاد هو : إنّ الجهة الموجودة في تعلّق قدرته سبحانه على الفعل غير الجهة الموجودة في تعلّق قدرة العبد. والجهة في الأُولى جهة إيجادية تكون نتيجتُها وقوعَ الفعل في الخارج ، وحصوله في العين. والجهة في القدرة الثانية جهة أُخرى ، وهي صدور الفعل من الله سبحانه عند حدوث القدرة في العبد.

فلأجل ذلك تُسمّى الأُولى خالقاً ومخترعاً ، دون الثانية ، فاستعير لهذا النمط من النسبة اسم الكسب تيمّناً بكتاب الله تعالى.

هذا توضيح مرامه وإليك نصّ عبارته : لما كانت القدرة (قدرة العبد) والمقدور جميعاً بقدرة الله تعالى : سُمّي خالقاً ومخترعاً ، ولمّا لم يكن المقدور بقدرة العبد وإن كان معه ، فلم يسمّ خالقاً ولا مخترعاً. (١)

ثمّ اعترض على نفسه بما هذا حاصله : كيف تصحّ تسمية القدرة المخلوقة في العبد قدرة ، إذا لم يكن لها تعلّق بالمقدور ، فإنّ تعلق القدرة بالمقدور ليس إلاّ من جهة التأثير والإيجاد ـ وحصول المقدور بها ـ وأجاب عنه : بأنّ التعلّق ليس مقصوراً على الوقوع بها ، بل هناك تعلّق آخر غير الوقوع ، نظير تعلّق الإرادة بالمراد ،

__________________

(١) الاقتصاد في الاعتقاد : ٩٢.

١٢٧

والعلم بالمعلوم ، فإنّهما يتعلّقان بمتعلّقهما بتعلّق ، غير الوقوع ضرورة أنّ العلم ليس علّة للمعلوم ، فإذا لا بدّ من إثبات أمر آخر من التعلّق سوى الوقوع. (١)

وقد قام التفتازاني بتفسير الجهتين في شرح مقاصده وقال : لمّا بطل الجبر المحض بالضرورة ، وكون العبد خالقاً لأفعاله بالدليل ، وجب الاقتصاد في الاعتقاد ، وهو انّها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعاً وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلّق يعبّر عنه بالاكتساب وليس من ضرورة ، تعلّق القدرة بالمقدور أن يكون على وجه الاختراع. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ الغزالي لم يأت في تفسير نظرية الكسب بأمر جديد ولم يزد التفتازاني شيئاً على بيانه ، وحاصله يتلخّص في كلمتين :

١. إنّ دور قدرة العبد ليس إلاّ دور المقارنة ، فعند حدوث القدرة في العبد يقوم سبحانه بخلق الفعل.

٢. إنّ للتعلّق أنواعاً ولا تنحصر في الإيجاد والوجود ، والإيقاع والوقوع ، بل هناك جهة أُخرى يُعبّر عنها بالكسب ـ فالعبد مصدر لهذه الجهة ، وبذلك يسمّى كاسباً ـ.

ومع هذا التطويل فالإشكال باق بحاله ، فإنّ وقوع الفعل مقارناً لقدرة العبد ، لا يُصحّح نسبة الفعل إلى العبد ، ولا تحمّل مسئوليته ، فإنّ نسبة المقارن إلى المقارن كنسبة تكلم الإنسان إلى نزول المطر في الصحراء ، فإذا لم يكن لقدرة العبد تأثير في وقوع الفعل ، كيف يصحّ في منطق العقل التفكيك بين الحركة الاختيارية ، والحركة الاضطرارية؟ والغزالي بكلامه هذا نقض ما ذكره في صدر البحث حيث

__________________

(١) الاقتصاد : ٩٢ ـ ٩٣.

(٢) شرح المقاصد : ١٢٧.

١٢٨

ردّ على المجبّرة بوجدان الفرق بين الحركتين ، وهذا الفرق لا يتعقّل إلاّ في ظل تأثير قدرة العبد على الوقوع والوجود.

وأضعف من ذلك تنزيل تعلّق قدرة العبد بتعلّق العلم على المعلوم ، مع أنّ واقعية العلم وماهيته هي الكشف التابع للمكشوف ، فلا يصحّ أن يكون مؤثّراً في المعلوم وموجداً له ، ولكن واقعية القدرة والسلطة ، واقعية الإفاضة والإيجاد ، فلا يتصوّر خلعها عن التأثير مع فرضه قدرة كاملة وبصورة علّة تامّة.

٢. الكسب : توجه قدرة العبد صوب الفعل عند صدوره من الله

قام التفتازاني (٧٩٢٧١٢ ه‍) في «شرح العقائد النسفية» بتفسير الكسب بالوجه التالي وهو : انّ صرف العبد قدرته وإرادته إلى الفعل كسب ، وإيجاد الله تعالى الفعلَ عقيب ذلك خلق. والمقدور الواحد داخل تحت قدرتين ، لكن بجهتين مختلفتين. فالفعل مقدور الله تعالى بجهة الإيجاد ، ومقدور العبد بجهة الكسب ، وهذا القدر من المعنى ضروري وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة عن تحقيق كون فعل العبد بخلق الله تعالى وإيجاده ، مع ما فيه للعبد من القدرة والاختيار. (١)

ويقرب من ذلك ما في متن المواقف للعضدي وشرحه للشريف الجرجاني قالا : وأمّا التكليف والتأديب والبعثة والدعوة فانّها قد تكون دواعي للعبد ، إلى الفعل واختياره ، فيخلق الله الفعل عقيبها عادة وباعتبار ذلك الاختيار المترتب على الدواعي يصير الفعل طاعة إذا وافق ما دعاه الشرع إليه ومعصية إذا خالفه ويصير علامة للثواب والعقاب. (٢)

__________________

(١) شرح العقائد النسفية : ١١٧.

(٢) شرح المواقف : ٨ / ١٥٥.

١٢٩

ويرد على ما ذكروه انّ العزم والإرادة والاختيار من الأُمور الوجودية الممكنة فمن خالقها أهو الله سبحانه ، أم العبد؟ وعلى الأوّل يلزم الجبر وعلى الثاني ينتقص القاعدة ، أعني : التوحيد في الخالقية.

ثمّ إنّ نظرية الكسب بلغت من الإبهام إلى حد أنّ القمة من مشايخ الأشاعرة كالتفتازاني يعترف بعجزه عن تفسيرها حيث قال : «وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة ...».

إلى هنا تمت المرحلة الأُولى من المراحل (١) التي مرّت على نظرية الكسب ، وهنا من سلك مسلك العلمين : الغزالي والتفتازاني في تفسير النظرية ، أعرضنا عن نقله روماً للاختصار ، وحان وقت الانتقال إلى المرحلة الثانية ، أعني : مرحلة التطوير والتكامل.

__________________

(١) ولا يفوتنّك انّ هذه المراحل الثلاث لم تتكون حسب التسلسل الزمني بل تكوّنت عبر قرون لا تأبى أن تكون بعضها في عرض الآخر.

١٣٠

المرحلة الثانية

مرحلة التطوير والتكامل

قد يرى الباحث في كلمات الأشاعرة في هذه المرحلة معاني ومفاهيم جديدة حول نظرية الكسب على وجه يخرجها عن الإبهام الذي كان يصحب النظرية في المرحلة الأُولى ، حتى كانت النظرية موصوفة باللغز كما في قول القائل :

ممّا يقال ولا حقيقة عنده

معقولة تدنو إلى الأفهام

الكسب عند الأشعري والحال

عند البهشمي وطفرة النظام (١)

فعدّ الشاعرُ نظريةَ الكسب في إحاطة الإبهام بها في عداد نظرية «الحال» عند أبي هاشم و «الطفرة» عند النظام. وهذا دليل على قصور النظرية وعدم كفايتها لحلّ العقدة ، وهناك كلام متين للقاضي عبد الجبار نأتي بنصه :

قال : إنّ فساد المذهب قد يكون بأحد طريقين :

أحدهما : بأن يُبيّن فساده بالدلالة.

والثاني : بأن يُبيّن أنّه غير معقول في نفسه ، وإذا ثبت أنّه غير معقول في

__________________

(١) القضاء والقدر لعبد الكريم الخطيب : ١٨٥.

١٣١

 نفسه ، كفيت نفسَك مئونة الكلام عليه ، لأنّ الكلام على ما لا يعقل لا يمكن ... والذي يبيّن لك صحّة ما نقوله أنّه لو كان معقولاً لكان يجب أن يعقله مخالفو المجبّرة في ذلك ، من الزيدية والمعتزلة والخوارج والإمامية. فإنّ دواعيهم متوافرة ، وحرصهم شديد في البحث عن هذا المعنى ، فلمّا لم يوجد في واحد من هذه الطوائف ـ على اختلاف مذاهبهم ، وتنائي ديارهم ، وتباعد أوطانهم ، وطول مجادلتهم في هذه المسألة ـ من ادّعى أنّه عقل هذا المعنى أو ظنّه أو توهّمه ، دلّ على أنّ ذلك ممّا لا يمكن اعتقاده والإخبار عنه البتة.

وأحد ما يدلّ على أنّ الكسب غير معقول ، هو أنّه لو كان معقولاً لوجب ـ كما عقله أهل اللغة وعبروا عنه ـ أن يعقله غيرهم من أرباب اللغات ، وأن يضعوا له عبارة تُنبئ عن معناه. فلمّا لم يوجد شيء من اللغات ما يفيد هذه الفائدة ، دلّ على أنّه غير معقول. (١)

قال الشيخ المفيد :

ثلاثة أشياء لا تُعقل ، وقد اجتهد المتكلّمون في تحصيل معانيها من معتقديها بكلّ حيلة فلم يظفروا منهم إلاّ بعبارات يتناقض المعنى فيها على مفهوم الكلام :

١. اتحاد النصرانية.

٢. كسب النجارية.

٣. أحوال البهشمية.

إلى أن قال : ومن ارتاب فيما ذكرناه في هذا الباب فليتوصل إلى إيراد معنى ـ في واحد منها ـ معقول ، والفرق [كذا] بينها في التناقض والفساد ، ليعلم أنّ

__________________

(١) شرح الأُصول الخمسة للقاضي عبد الجبار : ٣٦٤ ـ ٣٦٦.

١٣٢

خلاف ما حكمنا به هو الصواب! وهيهات. (١)

ولأجل وجود هذا النقص الواضح حول النظرية حاول بعض روّاد الأشاعرة الذين قامت بهم خيمة هذا المنهج وأشادوا بنيانه ، ورفعوا قوائمه ، ان يُفسّر النظرية مزيجة بشيء من التطوير والإكمال حتّى يخرج عن عداد الأحوال لأبي هاشم أو الطفرة للنظام ، واذكر منهم الأقطاب الثلاثة :

١. أبو بكر محمد الطيب القاضي المعروف بابن الباقلاني (المتوفّى ٤٠٣ ه‍)

إنّ القاضي الباقلاني من أئمّة الأشاعرة ، فقد بذل وسعه في دعم المنهج الأشعري والذب عنه بحماس ولو لا القاضي وبعض أترابه ، كابن فورك الاصفهاني (المتوفّى ٤٠٦ ه‍) لما كان للمنهج الأشعري نصيب من السعة والشمول ، وقد اعتنقه ـ إلى يومنا هذا ـ عامّة أهل السنّة ـ غير أهل الحديث ـ.

وقد أضفى القاضي على نظرية الكسب مفهوماً جديداً ، صحّ أن يعبر عنه بالتطوير ، وقال ما هذا حاصله :

الدليل قد قام على أنّ القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد ، لكن ليست الأفعال أو وجوهها واعتباراتها تقتصر على وجهة الحدوث فقط ، بل هاهنا وجوه أُخرى هي وراء الحدوث.

ثمّ ذكر عدّة من الجهات والاعتبارات وقال : إنّ الإنسان يفرّق فرقاً ضرورياً بين قولنا : أوجد ، وبين قولنا : صلى وصام وقعد وقام. وكما لا يجوز أن تضاف إلى الباري تعالى جهة ما يضاف إلى العبد ، فكذلك لا يجوز أن تضاف إلى العبد ، جهة

__________________

(١) حكايات الشيخ المفيد برواية الشريف المرتضى لاحظ مجلة «تراثنا» العدد ٣ ، من السنة الرابعة ، ١١٨.

١٣٣

ما يضاف إلى الباري تعالى.

فأثبت القاضي تأثيراً للقدرة الحادثة ، وأثرها هو الحالة الخاصة ، وهو جهة من جهات الفعل ، حصلت نتيجة تعلّق القدرة الحادثة بالفعل ، وتلك الجهة هي المتعيّنة لأن تكون مقابلة بالثواب والعقاب ، فإنّ الوجود من حيث هو وجود لا يُستحق عليه ثواب وعقاب ، خصوصاً على أصل المعتزلة ، فإنّ جهة الحسن والقبح هي التي تقابل بالجزاء ، والحسن والقبح صفتان ذاتيتان وراء الوجود ، فالوجود من حيث هو وجود ليس بحسن ولا قبيح.

قال : فإذا جاز لكم إثبات صفتين هما حالتان ، جاز لي إثبات حالة هي متعلّق القدرة الحادثة ، ومن قال هي حالة مجهولة ، فبيّنا بقدر الإمكان جهتها ، وعرفنا أي شيء هي ، ومثلناها كيف هي. (١)

وحاصل كلامه ـ مع ما قمنا بتلخيصه ـ : هو أنّ للقدرة الحادثة تأثيراً في حدوث العناوين والخصوصيات التي هي ملاك الثواب والعقاب ، وهذه العناوين وليدة قدرة العبد ، حادثة بها ، وإن كان وجود الفعل حادثاً بقدرته سبحانه.

فوجود الفعل مخلوق لله سبحانه ، لكن تعنونه بعنوان الصوم والصلاة والأكل والشرب راجع إلى العبد والقدرة الحادثة فيه.

يلاحظ عليه : أنّ هذه العناوين والجهات التي صارت ملاكاً للطاعة والعصيان لا تخلو من صورتين : إمّا أن تكون من الأُمور الوجودية وعندئذ تكون مخلوقة لله سبحانه حسب الأصل المسلم.

وإمّا أن تكون من الأُمور العدمية فعندئذ لا تكون للكسب واقعية خارجية ، بل يكون أمراً ذهنياً غنياً عن الإيجاد والقدرة. ومثل ذلك كيف يكون ملاكاً للثواب

__________________

(١) الملل والنحل : ١ / ٩٨٩٧.

١٣٤

والعقاب؟

وباختصار : إنّ واقعية الكسب إمّا واقعية خارجية موصوفة بالوجود فحينئذ يكون مخلوقاً لله سبحانه ، ولا يكون للعبد نصيب في الفعل ، أو لا تكون له تلك الواقعية بل يكون أمراً وهمياً ذهنياً ، فحينئذ لا يكون العبد مصدراً لشيء حتّى يثاب عليه أو يعاقب.

٢. كمال الدين بن همام (٨٦١٧٨٩ ه‍)

إنّ كمال الدين محمد بن همام الدين مؤلّف كتاب «المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة» (١) تخلّص من المأزق بالقول بتخصيص ما دلّ على حصر الخالقية بالله ، بعزم العبد وقصده ، فكلّ شيء مخلوق لله سبحانه وهو خالقه إلاّ عزم العبد على الطاعة والعصيان فالخالق هو العبد ، وإليك نصّه في ذلك المجال :

فإن قيل : لا شكّ انّه تعالى خلق للعبد قدرة على الأفعال ، ولذا يدرك تفرقة ضرورية بين الحركة المقدورة وغيرها.

قلنا : إنّ براهين وجوب استناد كلّ الحوادث ، إلى القدرة القديمة بالإيجاد ، إنّما تلجئ إلى القول بتعلّق القدرة بالفعل بلا تأثير ، لو لم تكن عمومات تحتمل التخصيص. فأمّا إذا وجد ما يوجب التخصيص فلا. لكن الأمر كذلك. وذلك المخصّص أمر عقلي ، هو أنّ إرادة العموم فيها يستلزم الجبر المحض ، المستلزم لضياع التكليف وبطلان الأمر والنهي.

ثمّ أوضح ذلك بقوله : لو عرّف الله تعالى العبد العاقل أفعالَ الخير والشر ، ثمّ خلق له قدرة أمكنه بها من الفعل والترك ، ثمّ كلّفه بالإتيان بالخير ووعده عليه.

__________________

(١) طبع في القاهرة مع شرح كمال الدين الشريف.

١٣٥

وترك الشر وأوعده عليه ، بناء على ذلك الإقدار لم يوجب ذلك نقصاً في الألوهية. إذ غاية ما فيه أنّه أقدره على بعض مقدوراته لحكمة صحّة التكليف واتجاه الأمر والنهي. غير أنّ السمع ورد بما يقتضي نسبة الكلّ إليه تعالى بالإيجاد وقطعها عن العباد. فلنفي الجبر المحض وصحّة التكليف وجب التخصيص ، وهو لا يتوقّف على نسبة جميع أفعال العباد إليهم بالإيجاد ، بل يكفي لنفيه أن يقال :

جميع ما يتوقف عليه أفعال الجوارح من الحركات ، وكذا التروك التي هي أفعال النفس من الميل والداعية التي تدعو والاختيار ، بخلق الله تعالى ، لا تأثير لقدرة العبد فيه. وإنّما محلّ قدرته ، عزمه عقيب خلق الله تعالى هذه الأُمور في باطنه عزماً مصمّماً بلا تردّد ، فإذا أوجد العبد ذلك العزم ، خلق الله تعالى له الفعل. فيكون منسوباً إليه تعالى من حيث هو حرّكه ، وإلى العبد من حيث هو زنى ونحوه. فعن ذلك العزم الكائن بقدرة العبد المخلوقة لله تعالى ، صحّ تكليفه وثوابه وعقابه. وكفى في التخصيص تصحيح التكليف هذا الأمر الواحد. أعني : العزم المصمّم. وما سواه ممّا لا يحصى من الأفعال الجزئية والتروك كلّها مخلوقة لله تعالى ومتأثّرة عن قدرته ابتداءً بلا واسطة القدرة الحادثة. (١)

يلاحظ عليه : أنّ المجيب تصوّر أنّ القول بانحصار الخلق بالله سبحانه يستند إلى دليل سمعي قابل للتخصيص كسائر عمومات الكتاب والسنّة في الأحكام الشرعية والسنن. ولكن القول به يستند إلى برهان عقلي غير قابل للتخصيص ، وهو أنّ الممكن في ذاته وفعله قائم بالله سبحانه ، متدلّ به ، وليس يملك لنفسه ذاتاً ولا فعلاً. ولا فرق في ذلك بين الأفعال الخارجية والأفعال القلبية ، أعني : العزم والجزم فالكلّ ممكن ، والممكن يحتاج إلى واجب في وجوده

__________________

(١) شرح العقائد الطحاوية : ١٢٢ ـ ١٢٦ ، نقلاً عن المسايرة.

١٣٦

وتحقّقه ، فينتج أنّ العزم والجزم في وجوده وتحقّقه محتاج إلى الواجب ومعلول لوجوده.

نعم ، لو كان صاحب المسايرة وأساتذته وتلامذته ممّن يفرقون بين الخلقين : خلق على وجه الاستقلال وخلق على النحو التبعي لما صعب عليهم المقام.

٣. ابن الخطيب «قدرة الله مانعة عن قدرة العبد»

إنّ لسان الدين ابن الخطيب يرى أنّ الكسب فعل يخلقه الله في العبد ، كما يخلق القدرة والإرادة والعلم فيضاف الفعل إلى الله خلقاً لأنّه خالقه ، وإلى العبد كسباً لأنّه محله الذي قام به ـ إلى أن قال : ـ إنّ الطاعة والمعصية للعبد من حيث الكسب ، ولا طاعة ولا معصية من حيث الخلق ، والخلق لا يصحّ أن يضاف إلى العبد ، لأنّه إيجاد من عدم والفعل موجود بالقدرة القديمة لعموم تعلّق القدرة الحادثة بها.

فالقدرة الحادثة تتعلق ولا تؤثّر وهي ـ القدرة الحادثة ـ تصلح للتأثير لو لا المانع وهو وجود القدرة القديمة ، لأنّهما إذا تواردتا لم يكن للقدرة الحادثة تأثير. (١)

وحاصل هذه النظرية : أنّ لقدرة العبد شأناً في التأثير لو لا المانع ، ولكن وجود القدرة القديمة مانع عن تأثير قدرة العبد الحادثة ، ولو لا سبق القدرة القديمة لكان المجال للقدرة الحادثة مفتوحاً.

يلاحظ عليه :

أوّلا : إذا كان دور الإنسان في مجال أفعاله دور الظرف والمحل ، فلا معنى

__________________

(١) القضاء والقدر : ١٨٧ نقلاً عن كتاب الفلسفة والأخلاق ، للسان الدين ابن الخطيب : ٥٥. ولا يخفى ما في كلامه من أنّ الكسب فعل يخلقه الله في العبد ، إذ على هذا لم يبق أي دور للعبد.

١٣٧

لإلقاء المسئولية في الشرائع السماوية والأنظمة البشرية على عاتقه ، لأنّ مكان الفعل لا يكون مسئولاً عن الفعل المحقّق فيه ، وقد صرح صاحب النظرية بكون الإنسان محلاً لإعمال قدرته سبحانه.

ثانياً : أنّ ما جاء في هذا البيان يغاير ما عليه الأشعري وأتباعه ، فإنّهم لا يقيمون لقدرة الإنسان وزناً ولا قيمة ، ولكن ابن الخطيب يعتقد بكونها قابلة للتأثير لو لا سبق المانع وهو القدرة القديمة ، ومع ذلك ليس بتام.

وذلك لأنّ فرض المانعية لإحدى القدرتين بالنسبة إلى الأُخرى إنّما يتم لو قلنا بأنّه سبحانه هو الفاعل المباشر لكلّ ما ظهر على صفحة الوجود الإمكاني ، فعند ذاك يصحّ جميع ما تصوّر من أنّ قدرة الإنسان مغلوبة لقدرة الخالق ، ولكنّه لم يثبت ، بل الثابت خلافه ، وأنّ النظام الإمكاني نظام مؤلف من أسباب ومسببات ، وكلّ مسبب يستمد ـ بإذنه سبحانه ـ عمّا تقدّمه من السبب تقدّماً زمانياً أو تقدّماً رتبياً وكمالياً.

وعلى ذاك الأصل يسقط حديث مانعية إحدى القدرتين ، بل تُصبح قدرة العبد بالنسبة إلى قدرته تعالى ، مجلى لإرادته ومظهراً لمشيئته ، كيف وقد تعلّقت مشيئته بصدور فعل كلّ فاعل عن مباديه التي أفاضها عليه ، حتّى تكون النار مبدأً للحرارة عن إجبار واضطرار ، والإنسان مصدراً لأفعاله عن قدرة واختيار ، فلو قام كلّ بفعله فقد قام في الجهة الموافقة لإرادة الله لا المضادّة والمخالفة ، فقيام هؤلاء أشبه بقيام الجنود بأمر آمرهم : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١) ، (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ). (٢)

ثالثاً : أنّ هذه المحاولات والتمحّلات ناشئة عن تصوير القدرتين في عرض

__________________

(١) الفتح : ٤.

(٢) المدثر : ٣١.

١٣٨

واحد ، فلأجل ذلك يتصوّر تارة كون قدرته سبحانه مانعاً عن تأثير قدرة العبد ، وأُخرى بأنّه لو تعلّقت قدرة العبد على ما تعلّقت به قدرته ، يلزم توارد القدرتين على مقدور واحد.

ولكن الحقّ كون فعل العبد مقدوراً ومتعلّقاً بهما ، ولا يلزم من ذلك أيّ واحد من المحذورين ، لا محذور التزاحم والتمانع ، ولا محذور اجتماع القدرتين التامتين على مقدور واحد ، وذلك لأنّ قدرة العبد في طول قدرة الله سبحانه ، فالله سبحانه بقدرته الواسعة أوجد العبد وأودع في كيانه القدرة ، وأعطاه الإرادة والحرية والاختيار ، فلو اختار أحد الجانبين فقد أوجده بقدرة مكتسبة من الله سبحانه ، واختيار نابع عن ذاته ، وحريّة هي نفس واقعيته وشخصيته ، فالفعل منتسب إلى الله لكون العبد مع قدرته وإرادته ، وما يحفّ به من الخصوصيات ، قائم بذاته سبحانه ، متدلّية بها ، كما أنّه منتسب إلى الإنسان لكونه باختياره الذاتي وحريته النابعة من نفسه ، اختار أحد الجانبين وصرف قدرته المكتسبة في تحقّقه ، كما قال سبحانه : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (١) ، (وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ). (٢)

فنفى عنه الرمي بعد إثباته له ، وأثبت له المشيئة في ظل المشيئة الإلهية.

وما جاء في هذه الآيات من المعارف الإلهية لا يصل إليها إلاّ المتأمّل في آي الذكر الحكيم ، وما نشر عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ حولها ، وعليه «فالفعل فعل الله وهو فعلنا». (٣)

__________________

(١) الأنفال : ١٧.

(٢) الإنسان : ٣٠.

(٣) شرح المنظومة للسبزواري : ص ١٧٥ اقتباس من قوله فيها :

نفسه ، وإذا ثبت أنّه غير معقول في

لنا والفعل فعل الله وهو فعلنا

١٣٩

المرحلة الثالثة

مرحلة الإنكار والإبطال

قد تعرّفت على المرحلتين المتقدّمتين اللتين مرّتا على نظرية الكسب وهي فيهما بين التبيين والتطوير ـ ولكن مشايخ الأشاعرة ـ عفا الله عنّا وعنهم ـ وإن بذلوا جهودهم الحثيثة لإيضاحها وتطويرها ، ولكنّهم لم يأتوا بشيء يسمن ويغني من جوع ، أو يروي الغليل ـ وكان الأمر على هذه الحالة إلى أن بعث الله رجالاً أبطالاً أدركوا خطورة الموقف ، وجفاف النظرية ومضاعفاتها السيّئة ، فنفضوا غبار التقليد عن عقولهم ، وتفكّراتهم ، ونظروا إلى الموضوع نظر متحرّر عن كلّ رأي مسبق ، فجعلوا لقدرة الإنسان نصيباً في أفعاله وأعماله ، منهم :

١. إمام الحرمين الجويني (المتوفّى ٤٧٨ ه‍) نسبة الفعل إلى قدرة العبد حقيقة

إنّ أبا المعالي المعروف بإمام الحرمين ، ذهب إلى أنّ لقدرة العباد تأثيراً في أفعالهم ، وأنّ قدرتهم ستنتهي إلى قدرة الله سبحانه وإقداره ، وأنّ عالم الكون مجموعة من الأسباب والمسبّبات ، وكلّ مسبّب يستمد من سببه المقدّم عليه ، وفي الوقت نفسه ، ذاك السبب يستمد من آخر ، إلى أن يصل إلى الله سبحانه. وإليك نص عبارته :

١٤٠