الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-062-2
الصفحات: ٦٢٨

١٦

الطلاق ثلاثاً بصيغة أو ثلاث صيغ

في مجلس واحد

٦١
٦٢

الطلاق ثلاثاً بصيغة أو ثلاث صيغ

في مجلس واحد

من المسائل التي أوجبت انغلاقاً وعنفاً في الحياة ، وأدّت إلى تمزيق الأُسر وتقطيع صلات الأرحام في كثير من البلاد ، مسألة تصحيح الطلاق ثلاثاً دفعة واحدة ، بأن يقول : أنت طالق ثلاثاً ، أو يكرّره ثلاث دفعات ويقول في مجلس واحد : أنتِ طالق ، أنتِ طالق ، أنتِ طالق. حيث تحسب ثلاث تطليقات حقيقية وتحرم المطلّقة على زوجها حتى تنكح زوجاً غيره.

إنّ الطلاق عند أكثر أهل السنّة غير مشروط بشروط عائقة عن التسرّع إلى الطلاق ، ككونها غير حائض ، أو في غير طهر المواقعة ، أو لزوم حضور العدلين. فربّما يتغلّب الغيظ على الزوج ويمتلكه الغضب فيطلّقها ثلاثاً في مجلس واحد ، ثمّ يندم على عمله ندامة شديدة فتضيق عليه الأرض بما رحبت ويتطلّب المَخْلَص من أثره السيّئ ، ولا يجد عند أئمّة المذاهب الأربعة والدعاة إليها مخلصاً فيقعد ملوماً محسوراً ، ولا يزيده السؤال والفحص إلاّ نفوراً من الفقه والفتوى.

إنّ إغلاق باب الاجتهاد وإقفاله بوجه الأُمّة ، ومنع المفكرين من استنباط الأحكام من الكتاب والسنّة دون التزام برأي إمام خاص ، أثار مشاكل كثيرة في مسائل لها صلة بالأُسرة ، يقول الكاتب محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار

٦٣

السنة المحمدية : إنّ رابطة الأُسرة التي وثّقها الله برباط الزوجية وهَتْ وكادت أن تنفصم عروتها ، بلى قد انفصمت في كثير من الطبقات وكان منشأ ذلك ، ما استنّه الناس في الزواج من سنن سيئة وما شدّد الفقهاء قديماً وحديثاً في الطلاق حتّى جعلوه أشبه بالعبث واللعب (١) أو بالآصار والأغلال ، وكم لمست فيما عرض لي في حياتي الوعظية ، شقاء كثير من الأزواج الذين أوقعهم سوء حظهم في مشكل من مشاكل الطلاق فيطلبون حلها عند أحد أُولئك الجامدين فلا يزيدها إلاّ تعقيداً. (٢)

وليس الفقّي هو المشتكي الوحيد من إغلاق باب الاجتهاد ، والتعبّد بحرفية المذاهب الأربعة ، بل هو أحد مَن ضم صوته إلى صوت أحمد محمد شاكر عضو المحكمة العليا الشرعية حيث لمس خطورة الموقف ، التي سبّبت إحلال القوانين الوضعية مكان الأحكام الإسلامية.

قال : كان والدي : الشيخ محمد شاكر كاتب الفتوى لدى شيخه الشيخ محمد العباس المهدي مفتي الديار المصرية ـ رحمه‌الله ـ فجاءت امرأة شابة ، حُكم على زوجها بالسجن مدّة طويلة ، وهي تخشى الفتنة وتريد عرض أمرها على المفتي يرى لها رأياً في الطلاق من زوجها لتتزوج من غيره ، وليس في مذهب الإمام أبي حنيفة حلٌّ لمثل هذه المعضلة إلاّ الصبر والانتظار فصرفها الوالد معتذراً آسفاً متألِّماً.

ثمّ عرض الأمر على شيخه المفتي ، واقترح عليه اقتباس بعض الأحكام من

__________________

(١) يقف على صدق هذا ، من طالع مبحث الحلف بالطلاق في الكتب الفقهية التي تعبر عنه بالطلاق غير المعتبر ، حيث أصبح الطلاق أُلعوبة بيد الزوج.

(٢) مقدّمة «نظام الطلاق في الإسلام» : ٦.

٦٤

مذهب الإمام مالك في مثل هذه المشاكل ، فأبى الشيخ كلّ الإباء واستنكر هذا الرأي أشدّ استنكار ، وكان بين الأُستاذ وتلميذه جدال جادّ في هذا الشأن لم يؤثر على ما كان بينهما من مودة وعطف ، وما زال الأُستاذ الوالد ـ حفظه الله ـ ... برأيه ، معتقداً صحّته وفائدته للناس. (١)

ولو كان والد الشيخ أحمد (محمد شاكر) مطلعاً على فقه أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ وانّ لهم في هذه المشاكل المستعصية حلولاً واضحة مأخوذة من الكتاب والسنّة ، لاقترح على أُستاذه الرجوعَ إليه.

كيف والإمام جعفر الصادق ـ عليه‌السلام ـ أبو الفقهاء ، وقد تتلمذ على يده الأئمّة الأربعة إمّا مباشرة أو بالواسطة.

إنّ أغلب المشاكل التي واجهت الشيخ في المحاكم هي إعسار الزوج ، وإضراره بالزوجة ، وغيبته الطويلة وما ضاهاها ، ولم يكن في فقه الإمام أبي حنيفة حلولاً لها ، مع أنّ هذه المشاكل مطروحة في الفقه الإمامي بأوضح الوجوه.

وكان الأولى بوالد الشيخ أن يقترح كسر طوق التقليد والرجوع إلى الكتاب والسنّة لاستنباط الأحكام الشرعية من دون التزام برأي إمام دون إمام ، وهذا هو الحجر الأساس لحلّ هذه المعضلات ، ولم يزل الفقه الإمامي منادياً بهذا الأصل عبر القرون.

نحن نعلم علماً قاطعاً بأنّ الإسلام دين سهل وسمح ، وليس فيه حرج وهذا يدفع الدعاة المخلصين إلى دراسة المسألة من جديد دراسة حرّة بعيدة عن أبحاث الجامدين الذين أغلقوا باب الاجتهاد في الأحكام الشرعية أمام وجوههم ، وعن أبحاث أصحاب الهوى الهدّامين الذين يريدون تجريد الأُمم من الإسلام ، حتى

__________________

(١) نظام الطلاق في الإسلام : ١٠٩.

٦٥

ينظروا إلى المسألة ويتطلبوا حكمها من الكتاب والسنّة ، متجرّدين عن كلّ رأي مسبق فلعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً ، وربّما تفك العقدة ويجد المفتي مَخلصاً من هذا المضيق الذي أوجده تقليد المذاهب.

وإليك نقل الأقوال :

قال الشيخ الطوسي : إذا طلّقها ثلاثاً بلفظ واحد ، كان مبدعاً ووقعت واحدة عند تكامل الشروط عند أكثر أصحابنا ، وفيهم من قال : لا يقع شيء أصلاً وبه قال عليّ ـ عليه‌السلام ـ وأهل الظاهر ، وحكى الطحاوي عن محمد بن إسحاق أنّه تقع واحدة كما قلناه ، ورُوي أنّ ابن عباس وطاوساً كانا يذهبان إلى ما يقوله الإمامية.

وقال الشافعي : فإن طلّقها ثنتين أو ثلاثاً في طهر لم يجامعها فيه ، دفعة أو متفرّقة كان ذلك مباحاً غير محذور ووقع. وبه قال في الصحابة عبد الرحمن بن عوف ، ورووه عن الحسن بن علي ـ عليهما‌السلام ـ ، وفي التابعين ابن سيرين ، وفي الفقهاء أحمد وإسحاق وأبو ثور.

وقال قوم : إذا طلّقها في طهر واحد ثنتين أو ثلاثاً دفعة واحدة ، أو متفرقة ، فعل محرّماً وعصى وأثم ، ذهب إليه في الصحابة عليّ ـ عليه‌السلام ـ ، وعمر ، وابن عمر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وفي الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه ومالك ، قالوا : إلاّ أنّ ذلك واقع. (١)

قال ابن رشد : جمهور فقهاء الأمصار على أنّ الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثالثة ، وقال أهل الظاهر وجماعة : حكمه حكم الواحدة ولا تأثير للفظ في ذلك. (٢)

__________________

(١) الخلاف : ٢ كتاب الطلاق ، المسألة ٣. وعلى ما ذكره ، نقل عن الإمام عليّ رأيان متناقضان : عدم الوقوع والوقوع مع الإثم.

(٢) بداية المجتهد : ٢ / ٦١ ، ط بيروت.

٦٦

وقال عبد الرحمن الجزيري : يملك الرجل الحرُّ ثلاث طلقات ، فإذا طلّق الرجل زوجته ثلاثاً دفعة واحدة ، بأن قال لها : أنت طالق ثلاثاً ، لزمه ما نطق به من العدد في المذاهب الأربعة وهو رأي الجمهور ، وخالفهم في ذلك بعض المجتهدين : كطاوس وعكرمة وابن إسحاق وعلى رأسهم ابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ. (١)

وقد بين فتاوى الجمهور ، الفقيه المعاصر «وهبة الزحيلي» وقال : اتّفق فقهاء المذاهب الأربعة والظاهرية على أنّه إذا قال الرجل لغير المدخول بها : «أنت طالق ثلاثاً» وقع الثلاث ، لأنّ الجميع صادف الزوجية ، فوقع الجميع ، كما لو قال ذلك للمدخول بها.

واتّفقوا أيضاً على أنّه إن قال الزوج لامرأته : «أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق» وتخلل فصل بينها ، وقعت الثلاث سواء أقصد التأكيد أم لا ، لأنّه خلاف الظاهر ، وإن قال : قصدت التأكيد صدق ديانة ، لا قضاء.

وإن لم يتخلل فصل ، فإن قصد تأكيد الطلقة الأُولى بالأخيرتين ، فتقع واحدة ، لأنّ التأكيد في الكلام معهود لغة وشرعاً ، وإن قصد استئنافاً أو أطلق (بأن لم يقصد تأكيداً ولا استئنافاً) تقع الثلاث عملاً بظاهر اللفظ.

وكذا تُطلَّق ثلاثاً إن قال : أنت طالق ، ثمّ طالق ، ثم طالق ، أو عطف بالواو أو بالفاء. (٢)

هذه هي آراء جمهور فقهاء السنّة ، وقد خالفهم جماعة من الصحابة والتابعين ذكر أسماء غير واحد منهم الشوكاني في «نيل الأوطار» وقال :

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة : ٤ / ٣٤١.

(٢) الفقه الإسلامي وأدلّته : ٧ / ٣٩١ ـ ٣٩٢.

٦٧

ذهبت طائفة من أهل العلم إلى أنّ الطلاق لا يتبع الطلاق بل يقع واحدة فقط. وقد حكى ذلك صاحب البحر عن أبي موسى ورواية عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ وابن عباس وطاوس وعطاء وجابر بن زيد والهادي والقاسم والباقر والناصر وأحمد بن عيسى ، وعبد الله بن موسى بن عبد الله.

ورواية عن زيد بن علي وإليه ذهب جماعة من المتأخرين منهم ابن تيمية وابن القيم وجماعة من المحقّقين ، وقد نقله ابن مغيث في كتاب الوثائق عن محمد بن وضاح ، ونُقل الفتوى بذلك عن جماعة من مشايخ قرطبة كمحمد بن بقي ومحمد بن عبد السلام وغيرهما ، ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس كعطاء وطاوس وعمر بن دينار وحكاه ابن مغيث أيضاً في ذلك الكتاب عن علي رضي‌الله‌عنه وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير. (١)

إلى غير ذلك من نظائر تلك الكلمات التي تعرب عن اتّفاق جمهور الفقهاء بعد عصر التابعين على نفوذ ذلك الطلاق محتجّين بما تسمع ، ورائدهم في ذلك تنفيذ عمر بن الخطاب ، الطلاق الثلاث بمرأى ومسمع من الصحابة ، ولكن لو دلّ الكتاب والسنّة على خلافه فالأخذ بما دلّ متعيّن.

وتبيين الحق يتم ضمن أُمور :

__________________

(١) نيل الأوطار : ٦ / ٢٣١.

٦٨

دراسة الآيات الواردة في المقام

قال سبحانه :

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). (١)

قوله سبحانه : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) كلمة جامعة لا يُؤدَّى حقّها إلاّ بمقال ، وهي صريحة في أنّ الحقوق بينهما متبادلة ، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلاّ وعلى الرجل عمل يقابله ، فهما ـ في حقل المعاشرة ـ متماثلان في الحقوق والأعمال ، فلا تسعد الحياة إلاّ باحترام كل من الزوجين للآخر ، وقيام كلّ منهما بواجباته ، فعلى المرأة القيام بتدبير المنزل وإنجاز الأعمال فيه ، وعلى الرجل السعي والكسب خارجه ، هذا هو الأصل الثابت في حياة الزوجين والذي تؤيدها الفطرة ، وقد قسّم النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الأُمور بين ابنته فاطمة وزوجها عليّ ـ عليه‌السلام ـ على النحو الذي ذكرناه.

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

٦٩

حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (١)

كان للعرب في الجاهلية طلاق وعدّة مقدرة للمطلقة ، ورجعة للمطلِّق أثناء العدة ، ولكن لم يكن للطلاق عدد معيّن ، فربما طلّق الرجل امرأته مائة مرة وراجعها ، وتكون المرأة بذلك أُلعوبة بيد الرجل يضارّها بالطلاق والرجوع متى شاء.

وجاء في بعض الروايات : انّ رجلاً قال لامرأته : لا أقربك أبداً ، ومع ذلك تبقين في عصمتي ، ولا تستطيعين الزواج من غيري ، قالت له : كيف ذلك؟ قال : أُطلّقك ، حتى إذا قرب انقضاء العدة راجعتُكِ ، ثمّ طلقتُكِ ، وهكذا أبداً ، فشكته إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، فأنزل سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ). (٢) أي أنّ الطلاق الذي شرع الله فيه الرجوع هو الطلاق الأوّل والثاني فقط وأمّا الطلاق الثالث فلا يحلّ الرجوع بعده حتّى تنكح زوجاً غير المطلق ، فعندئذ لو طلّقها فيحلّ للأوّل نكاحها ، هذا هو مفهوم الآية :

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). (٣)

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَ

__________________

(١) البقرة : ٢٢٩.

(٢) مجمع البيان : ١ / ٣٢٨ ؛ تفسير البغوي : ١ / ٣٢٨ ؛ تفسير البغوي : ١ / ٣٠٤ ؛ روح المعاني : ٢ / ١٣٥ ؛ الكاشف : ١ / ٣٤٦.

(٣) البقرة : ٢٣٠.

٧٠

بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ...). (١)

جئنا بمجموع الآيات الأربع ـ مع أنّ موضع الاستدلال هو الآية الثانية ـ للاستشهاد بها في ثنايا البحث وقبل الخوض في الاستدلال نشير إلى نكات في الآيات :

«المرّة» بمعنى الدفعة للدلالة على الواحد في الفعل ، و «الإمساك» خلاف الإطلاق.

و «التسريح» في قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) مأخوذ من السرح وهو الإطلاق ، يقال : سرّح الماشية في المرعى : إذا أطلقها لترعى. والمراد من الإمساك هو إرجاعها إلى عصمة الزوجية.

تفسير قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ)

أنّ المقصود من «التسريح» عدم التعرّض لها لتنقضي عدتها في كل طلاق أو الطلاق الثالث الذي هو أيضاً نوع من التسريح. على اختلاف في معنى الجملة.

وذلك لانّ التسريح الذي هو خلاف الإمساك قابل للانطباق على الأمرين :

١. عدم التعرض لها حتّى تنقضي عدّتها.

٢. أن يرجع إليها ثمّ يطلقها طلقة ثالثة.

وفي ضوء ذلك للمفسّرين في تفسير قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) رأيان :

الأوّل : انّه ناظر إلى عدم التعرض لها حتّى تنقضي عدّتها ، ويمكن تقريب

__________________

(١) البقرة : ٢٣١.

٧١

هذا القول بالوجوه التالية :

أ. إنّ التسريح بالمعروف في الآية ٢٣١ أُريد به ترك الرجعة ، قال سبحانه : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).

فالأولى حمل الثانية أيضاً على ترك الرجعة وإن اختلفا في التعبير حيث إنّ التعبير في المقام هو (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) وفي الآية الأُخرى : (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، ولعلّ المعروف والإحسان بمعنى واحد ، كما عبّر عن ترك الرجعة بلفظة (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (١) فالأولى تفسير الجميع بترك الرجعة.

ب. انّ التطليقة الثالثة مذكورة بعد هذه الجملة (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ، حيث قال سبحانه : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، وعندئذ فلا محيص من تفسير الجملة بترك الرجعة ، حتّى لا يلزم التكرار.

ج. لا يجوز أن يفسّر قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) بالطلاق الثالث وإلاّ يلزم أن يكون قوله : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ) طلاقاً رابعاً ولا طلاق رابع في الإسلام. (٢)

الثاني : إنّ المراد بقوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ، هو الطلاق الثالث ، لا ترك الرجعة بعد الطلاق الثاني ومعنى الآية انّ الزوج بعد ما طلّق زوجته مرّتين يجب أن يفكر في أمر زوجته أكثر ممّا مضى حتّى يقف على أنّه ليس له بعد الطلقتين إلاّ أحد أمرين :

أمّا الإمساك بمعروف والاستمرار معها ، أو التسريح بإحسان بالتطليقة الثالثة التي لا رجوع بعدها أبداً إلاّ في ظرف خاص أشار إليها في الآية التالية

__________________

(١) الطلاق : ٢.

(٢) هذه الوجوه ذكرها الجصّاص في تفسيره : ١ / ٣٨٩.

٧٢

بقوله : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ).

وعندئذ يكون قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) إشارة إلى التطليق الثالث الذي لا رجوع فيه ويكون التسريح بالمقام متحقّقاً في الطلاق الثالث على هذا القول لا بترك الرجعة كما على القول الآخر.

هذا ما ذكرناه هو عصارة القولين ولكلّ قائل.

وأمّا الوجوه التي ذُكرت تأييداً للقول الأوّل فالثاني والثالث قابلان للدفع ، أمّا الثاني فلأنّه لا مانع من ذكر الشيء أوّلاً بالإجمال (أو تسريح بإحسان) ثمّ التفصيل ثانياً بقوله : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، فهو بيان تفصيلي للتسريح بعد البيان الإجمالي ، والتفصيل مشتمل على ما لم يشتمل عليه الإجمال من تحريمها عليه حتّى تنكح زوجاً غيره ، فلو طلّقها الزوج الثاني باختياره فلا جناح عليهما بالعقد الجديد ان ظنّا أن يقيما حدود الله ، فأين هذه التفاصيل من قوله (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ)؟!

وبذلك يعلم دفع الوجه الثالث ، لأنّ حمل قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) على الطلقة الثالثة لا يلزم أن يكون قوله : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ ...) طلاقاً رابعاً ، بل يكون تفسيراً له.

أضف إلى ذلك انّ روايات الفريقين تؤيد المعنى الثاني.

روى أبو رزين قال : جاء رجل إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقال : يا رسول الله ، أرأيت قول الله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) فأين الثالثة؟ فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

ورواه الثوري وغيره عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين مثله. (١)

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٣ / ١٢٨.

٧٣

وقد عزا الطبرسي القول الأوّل إلى أبي جعفر وأبي عبد الله ـ عليهما‌السلام ـ مع أنّه روى السيد البحراني في تفسير البرهان روايات ست عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ تؤيّد القول الثاني.

وعلى كلّ تقدير فالوجه الثاني والثالث قابل للإجابة ، وأمّا الوجه الأوّل ، فالإجابة عنه واضحة ، وذلك لأنّ التسريح في الموارد الثلاثة بمعنى الإطلاق وإنّما الاختلاف في المصداق فلا مانع من أن يكون المحقّق له في المقام هو الطلاق وفي الآيتين هو ترك الرجعة والاختلاف في المصداق لا يوجب اختلافاً في المفهوم.

إلى هنا تمّ تفسير قوله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

وإليك تفسير ما بقي من الآية ، أعني قوله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (١)

وهذه الفقرة من الآية ناظرة إلى بيان أمرين :

الأوّل : انّه لا يحلّ للزوج أن يأخذ من الزوجة شيئاً ممّا آتاها إذا أراد طلاقها قال سبحانه : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) ، وفي آية أُخرى (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً). (٢)

الثاني : انّه سبحانه استثنى من عدم جواز الأخذ صورة خاصة ، وهي أنّ

__________________

(١) البقرة : ٢٢٩.

(٢) النساء : ٢٠.

٧٤

تكون الزوجة كارهة للزوج ولا تُطيق عشرته بحيث يؤدي نفورها منه إلى معصية الله في التقصير بحقوق الزوج وقد يخاف الزوج أيضاً أن يقابلها بالإساءة أكثر ممّا تستحقّ ، ففي هذه الحال يجوز لها أن تطلب الطلاق من الزوج وتعوضه عنه بما يرضيه ، كما يجوز له أن يأخذ ما افتدت به نفسها ، وإليه يشير قوله سبحانه : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ...) إلى هنا تمّ تفسير الآية ٢٢٩ ، وإليك تفسير الآية ٢٣٠.

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). (١)

ومحصل الآية انّ من طلّق زوجته ثلاث مرات فلا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره نكاحاً صحيحاً ، ثمّ إذا فارقها بموت أو طلاق وانقضت عدّتها جاز للأوّل أن يعقد عليها ثانياً.

ثمّ إنّ للمحلل شروطاً مذكورة في كتب الفقه.

وأمّا الآية الرابعة ، أعني قوله : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) ، فإنّها واضحة المفهوم.

هذا ما ارتأينا ذكره بشأن تفسير الآيات ، ونرجع الآن إلى صلب البحث وهو حكم الطلاق ثلاثاً ، فنقول :

إذا تعرّفت على مفاد الآية ، فاعلم أنّ الكتاب والسنّة يدلاّن على بطلان الطلاق ثلاثاً ، وأنّه يجب أن يكون الطلاق واحدة بعد الأُخرى ، يتخلّل بينهما رجوع

__________________

(١) البقرة : ٢٣٠.

٧٥

أو نكاح ، فلو طلّق ثلاثاً مرّة واحدة ، أو كرّر الصيغة فلا يقع الثلاث. وأمّا احتسابها طلاقاً واحداً ، فهو وإن كان حقّاً ، لكنّه خارج عن موضوع بحثنا ، وإليك الاستدلال عن طريق الكتاب أوّلاً والسنّة ثانياً :

أوّلاً : الاستدلال عن طريق الكتاب بوجوه :

١. قوله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ)

إنّ قوله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) : ظاهر في :

١. إنّ هذا الحكم يشمل كافّة أقسام الطلاق وانّ التفريق بين الطلقات ليس من خصيصة طلاق دون طلاق ، بل طبيعة الطلاق تلازم ذلك الطلاق ، لأنّ الألف واللام إذا لم يكونا للمعهود أفاد الاستغراق ، فصار تقدير الآية : كلّ الطلاق مرّتان ، ومرّة ثالثة ، ولو قال هكذا لأفاد انّ الطلاق المشروع متفرّق ، لأنّ المرّات لا تكون إلاّ بعد تفرّق بالإجماع. (١)

٢. انّ قوله : مرّتان ظاهر في لزوم وقوعه مرّة بعد أُخرى لا دفعة واحدة وإلاّ يصير مرّة ودفعة ، ولأجل ذلك عبّر سبحانه بلفظ «المرّة» ليدلّ على كيفية الفعل وانّه الواحد منه ، كما أنّ الدفعة والكرّة والنزلة ، مثل المرّة ، وزناً ومعنىً واعتباراً.

وعلى ما ذكرنا فلو قال المطلِّق : أنت طالق ثلاثاً ، لم يطلِّق زوجته مرة بعد أُخرى ، ولم يطلّق مرّتين ، بل هو طلاق واحد ، وأمّا قوله «ثلاثاً» فلا يصير سبباً لتكرّره ، وتشهد بذلك فروع فقهية لم يقل أحد من الفقهاء فيها بالتكرار بضم عدد فوق الواحد. مثلاً اعتبر في اللعان شهادات أربع ، فلا تجزي عنها شهادة واحدة

__________________

(١) التفسير الكبير : ٦ / ١٠٣.

٧٦

مشفوعة بقوله «أربعا». وفصول الأذان المأخوذة فيها التثنية ، لا يتأتّى التكرار فيها بقراءة واحدة وإردافها بقوله «مرتين» ، ولو حلف في القسامة وقال : «أُقسم بالله خمسين يميناً أنّ هذا قاتله» كان هذا يميناً واحداً ، ولو قال المقرّ بالزنا : «أنا أُقرّ أربع مرّات أنّي زنيت» كان إقراراً واحداً ، ويحتاج إلى إقرارات ثلاث ، إلى غير ذلك من الموارد التي لا يكفي فيها العدد عن التكرار.

هذا هو المقياس الكلي في كلّ مورد اعتبر فيه العدد كرمي الجمرات السبع فلا يجزي عنه رمي الحصيات مرة واحدة ، وكتكبيرات صلاة العيدين الخمس أو السبع المتوالية ـ عند القوم ـ قبل القراءة لا تتأتى بتكبيرة واحدة بعدها قول المصلي خمساً أو سبعاً ، وكصلاة التسبيح (١) وقد أخذ في تسبيحاتها العدد عشراً وخمسة عشر فلا تجزي عنها تسبيحة واحدة مردوفة بقوله عشراً أو خمسة عشر ، وهذه كلّها ممّا لا خلاف فيها.

ولم أر من تردّد في ذلك غير ابن حزم ، فزعم انّه ربما يستعمل في غير ذلك المعنى حيث قال : وأمّا قولهم : معنى قوله (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) انّ معناه مرّة بعد مرّة فخطأ ، بل هذه الآية كقوله تعالى : (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) أي مضاعفاً معاً ، وهذه الآية أيضاً تعليم لما دون الثلاث من الطلاق. (٢)

يلاحظ على ما ذكره ، أنّ استعمال «مرّتين» في هذه الآية بمعنى مضاعفاً ، لأجل وجود القرينة ولولاها لحمل على المعنى الحقيقي ، وذلك لأنّه سبحانه يخاطب نساء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بخطابين :

الأوّل : قوله : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا

__________________

(١) المراد صلاة جعفر الطيّار.

(٢) المحلى : ١٠ / ١٦٨.

٧٧

الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً).

الثاني : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً). (١)

فقوله في الآية الأُولى : (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) قرينة على أنّ المراد من قوله : (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) إيتاء الأجر المضاعف لا الأجر بعد الأجر ، فلا يكون استعماله مرّتين في المضاعف فيها دليلاً على سائر المقامات.

قال الجصاص : والدليل على أنّ المقصد في قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) الأمر بتفريق الطلاق وبيان حكم ما يتعلّق بإيقاع ما دون الثلاث من الرجعة انّه قال : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ، وذلك يقتضي التفريق لا محالة ، لأنّه لو طلّق اثنتين معاً لما جاز أن يقال : طلّقها مرّتين ، وكذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال : أعطاه مرتين ، حتى يفرق الدفع ، فحينئذ يطلق عليه ، وإذا كان هذا هكذا ، فلو كان الحكم المقصود باللفظ هو ما تعلّق بالتطليقتين من بقاء الرجعة لأدّى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المرّتين ، إذ كان هذا الحكم ثابتاً في المرة الواحدة إذا طلّق اثنتين ، فثبت بذلك أنّ ذكر المرتين إنّما هو أمر بإيقاعه مرتين ، ونهي عن الجمع بينهما في مرّة واحدة. (٢)

وقد قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «لا طلاق إلاّ بعد نكاح» ، وقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «لا طلاق قبل نكاح» ، وقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «لا طلاق لمن لا يملك». (٣)

فلا نكاح بعد الصيغة الأُولى حتّى يطلق.

__________________

(١) الأحزاب : ٣١٣٠.

(٢) أحكام القرآن : ١ / ٣٧٩٣٧٨.

(٣) السنن الكبرى : ٧ / ٣١٨ ـ ٣٢١ ؛ المستدرك للحاكم : ٢ / ٢٤ ، وغيرهما من المصادر المتوفرة.

٧٨

هذا كلّه إذا عبّر عن التطليق ثلاثاً بصيغة واحدة ، أمّا إذا كرّر الصيغة كما عرفت ، فربّما يغتر به البسطاء ويزعمون أنّ تكرار الصيغة ينطبق على الآية ، لكنّه مردود من جهة أُخرى وهي :

أنّ الصيغة الثانية والثالثة تقعان باطلتين لعدم الموضوع للطلاق ، فإنّ الطلاق إنّما هو لقطع علقة الزوجية ، فلا زوجية بعد الصيغة الأُولى حتى تقطع ، ولا رابطة قانونية حتى تصرم.

وربّما يقال : إنّ المطلقة ما زالت في حبالة الرجل وحكمها حكم الزوجة ، فعندئذ يكون للصيغة الثانية والثالثة تأثير بحكم هذه الضابطة.

يلاحظ عليه : أنّه ما ذا يريد من قوله : «انّها بحكم الزوجة»؟

فإن أراد به انّ للزوج حقّ الرجوع إليها ، فهو صحيح ولذلك يقال : الرجعية بحكم الزوجة ، أو هي زوجة باعتبار انّ للزوج إعادة البناء الذي هدمه بالطلاق ، فلا حاجة إلى النكاح الجديد ، وهذا غير المدّعى.

وإن أراد انّها زوجة بمعنى انّ صيغة الطلاق لم تؤثر شيئاً ولم تهدم بناء الزوجية وانّ حالها قبل الطلاق وبعده سيان ، فهو على خلاف الأُصول الصحيحة ، إذ كيف تكون حالها قبله وبعده سيّان ، مع أنّها لو تركت حتّى تنقضي عدّتها ، تصير أجنبية وبائنة بالتمام.

وكونها قابلة للطلاق الثاني ـ قبل الرجوع ـ مبنيّ على الوجه الثاني الذي عرفت مخالفته للأُصول ، لا على الوجه الأوّل.

وبعبارة واضحة : إنّ الطلاق هو أن يقطع الزوج علقة الزوجيّة بينه وبين امرأته ويطلق سراحها من قيدها ، وهو لا يتحقّق بدون وجود تلك العلقة الاعتبارية الاجتماعية ، ومن المعلوم أنّ المطلّقة لا تطلق ، والمسرَّحة لا تسرح.

٧٩

على أنّ هناك إشكالاً يختص بهذه الصورة(إنشاء الطلاق الثلاث بلا تكريرللصيغة)

وتقريره : انّ الطلاق أمر اعتباري يتحقّق بإنشاء المطلّق ، وليس له واقع وراء الاعتبار ، مقابل الأمر التكويني الذي له واقع وراء الذهن والاعتبار.

فإذا كان الانشاء واحداً فيكون المنشأ أيضاً كذلك ، فتعدّد الطلاق رهن تعدّد الإنشاء والمفروض وحدته.

نعم لا يتطرّق هذا الإشكال إلى ما إذا تعدّدت الصيغة كأن يقول : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق.

والحاصل : أنّه لا يحصل بهذا النحو من التطليقات الثلاث ، العدد الخاص الذي هو الموضوع للآية التالية ، أعني قوله سبحانه : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، لأنّ تعدد الطلاق رهن تخلّل عقدة الزواج بين الطلاقين ، ولو بالرجوع ، وإذا لم تتخلّل يكون التكلّم أشبه بالتكلّم بكلام لغو.

قال سماك ـ من عنده ـ : إنّما النكاح عقدة تعقد ، والطلاق يحلّها ، وكيف تُحل عقدة قبل أن تعقد؟! (١)

والحاصل انّه إذا قال : أنت طالق ، فكأنّه قال لها : حللت العقدة بيني وبينك ، فسخت هذا العقد ، قطعت هذا الرباط الذي يربط كلاً منّا بصاحبه ؛ فإذا فسخ العقد الذي كان بينهما ، أو حلّت العقدة أو قطع الرباط فمن أين يملك الرجل فسخ العقد أو حل العقدة أو قطع الرباط مرة أُخرى أو ثالثة؟ وفي أي عقد من العقود في هذه الشريعة المطهرة أو في غيرها من الشرائع والقوانين ،

__________________

(١) السنن الكبرى : ٧ / ٣٢١.

٨٠