الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-062-2
الصفحات: ٦٢٨

حتى يشاور النبي فيها أصحابه ، أوليس من الوهن في أمر الدين أن تكون رؤيا وأحلام أشخاص عاديّين مصدراً لأمر عبادي في غاية الأهمية كالأذان والإقامة؟!

إنّ هذا يدفعنا إلى القول بأنّ الرؤيا كانت مصدراً للأذان أمر مكذوب ومجعول على الشريعة ، وانّ الكذّابين المنتمين إلى بيت عبد الله بن زيد هم الذين أشاعوا هذه الأُكذوبة طلباً لعلو المنزلة والجاه.

إنّ البحث عن اسناد الروايات الواردة في هذا الموضوع وما فيها من التناقضات لا يناسب وضع الكتاب. (١)

٢. روى الإمام أحمد أنّ الصحابة «كانوا يأتون الصلاة ، وقد سبقهم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ببعضها ، فكان الرجل يشير إلى الرجل إن جاءكم صلى ، فيقول : واحدة أو اثنتين ، فيصلّيها ، ثمّ يدخل مع القوم في صلاتهم.

قال : فجاء معاذ ، فقال : لا أجده على حال أبداً إلاّ كنت عليها ، ثمّ قضيت ما سبقني.

قال : فجاء وقد سبقه النبي ببعضها ، قال : فثبت معه ، فلمّا قضى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ صلاته قام فقضى.

فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : قد سنَّ لكم معاذ فهكذا فاصنعوا. (٢)

قد سبق انّ الصلاة عبادة إلهية وليس في الإسلام عبادة أعظم منها ، فكيف تخضع لسنّة صحابي مقطوع عن الوحي ، وقد سنَّ شيئاً اعتباطياً دون أن يستأذن

__________________

(١) انظر الجزء الأوّل : ١٣١ ـ ١٦٢.

(٢) مسند أحمد بن حنبل : ٥ / ٢٤٦.

٥٦١

من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فكان عمله أشبه بالبدعة وإدخال شيء في الدين ما لم يأذن به الله؟! ومعاذ أجلَّ من أن لا يعرف حد البدعة والسنّة ويدخل في الصلاة مع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وقد سبقه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ثمّ يقضي ما فاته.

وأنت إذا تصفّحت الصحاح والمسانيد تعثر على نماذج كثيرة لهذا النوع من التشريع.

عود إلى بدء

قد تقدّم في صدر البحث انّ مغزى القول بحجيّة مذهب الصحابي إلى حكاية قول الرسول بقرينة انّهم يشترطون في حجية قوله : «كونه مخالفاً للقياس» دون ما إذا كان موافقاً له.

ولكن الظاهر من الشاطبي في موافقاته انّ سنّة الصحابة سنّة يعمل بها ويرجع إليها ، واستدلّ على ذلك بوجوه أربعة لا يستدلّ بها إلاّ من أعوزه الدليل مع الرغبة الأكيدة إلى إثبات المدّعى ، قال :

أحدها : ثناء الله عليهم من غير مثنوية ، مدحهم بالعدالة وما يرجع إليها ، كقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (١) وقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). (٢) ففي الأُولى إثبات الأفضلية على سائر الأُمم ، وذلك يقضي باستقامتهم في كلّ حال ، وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة ؛ وفي الثانية إثبات العدالة مطلقاً ، وذلك يدلّ على ما دلّت عليه الأُولى.

يلاحظ على الآية الأُولى : أنّها بمعزل عن الدلالة على «استقامتهم على كلّ

__________________

(١) آل عمران : ١١٠.

(٢) البقرة : ١٤٣.

٥٦٢

حال» وإنّما هي بصدد بيان أحد أمرين :

١. انّ الآية تخاطب معاشر المسلمين عبر القرون بأنّهم خير أُمّة أظهرها الله للناس بهدايتها بحجّة انّهم يؤمنون بالله ويأتون بفريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والخطاب وإن كان للحاضرين في عصر الخطاب لكن خطابات القرآن كخطابات الكتب المصنّفة لا تختص بفرد دون فرد ، بل تشمل كلّ المسلمين من دون اختصاص بالصحابة ، كيف وقد قال سبحانه : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (١) ، وقال سبحانه : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (٢) فيكون الخطاب عاماً يشمل جميع المسلمين من عصر الرسالة إلى يوم البعث.

ومن المعلوم أنّ وصف الأُمّة بهذا الوصف ليس باعتبار اتصاف كلّ فرد منهم به بل لأجل اتصاف جمع منهم بحقيقة الإيمان والقيام بحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وليس ذلك بأمر بديع وقد وصف القرآن بني إسرائيل بكونهم ملوكاً وهو وصف لبعضهم وقال : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً). (٣)

ولو افترضنا تواجد هذه الصفات في عامة المسلمين ، لما كان دليلاً على حجّية آرائهم وتفكراتهم ، بل يكون دليلاً على فضيلتهم وكرامتهم وأين هي من حجّية آراءهم.

٢. انّ الآية تمدح حال المؤمنين في أوّل ظهور الإسلام من السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار ، وتخاطبهم بقوله كنتم خير أُمّة ظهرت للناس لأجل

__________________

(١) الفرقان : ١.

(٢) الأنعام : ١٩.

(٣) المائدة : ٢٠.

٥٦٣

الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثمّ يصف بأنّه لو كان أهل الكتاب مثلكم لكان خيراً لهم ، ولكنّهم اختلفوا ، منهم أُمّة مؤمنون وأكثرهم فاسقون. ويدلّ على ما ذكر ذيل الآية ، وإليك الآية بتمامها : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ). (١)

فاتّضح بذلك انّ الآية ليست بصدد إثبات الاستقامة للصحابة في عامّة الأحوال ولا بصدد إثبات العدالة لهم ، ولا لإفاضة الحجّية على أقوالهم وآرائهم ، وليست للآية أي صلة بهذا الموضوع ، بل يدور المعنى على أحد أمرين :

إذا قلنا بأنّ فعل «كنتم» منسلخ عن الزمان يكون الهدف مدح المسلمين عامة لأجل اتّصافهم بالأوصاف الواردة بالآية ١. الأمر بالمعروف ، ٢. النهي عن المنكر ، ٣. الإيمان بالله ، ٤. ووحدة الكلمة المفهومة من قوله «أُمّة».

ومن المعلوم أنّ عامّة المسلمين لا يشاركون في هذه الأوصاف ، بل عدّة منهم بوصف الجميع باعتبار وصف البعض. ولو افترضنا تواجدها في جميعهم ، لما كان أيضاً دليلاً على حجّية آرائهم.

وإذا قلنا : إنّ فعل «كنتم» غير منسلخ عن الزمان والآية تختص بالمهاجرين والأنصار ، فالآية بصدد تنبيه أهل الكتاب وتذكيرهم بأن يتّصفوا بأوصاف المسلمين ويكونوا مثلهم في الأوصاف الأربعة ، لكنّهم ـ للأسف ـ ليسوا على وتيرة واحدة ، فقليل منهم مؤمن بالله وأكثرهم فاسقون.

هذا كلّه حول الآية الأُولى.

وأمّا الآية الثانية ، أعني قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ

__________________

(١) آل عمران : ١١٠.

٥٦٤

عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). (١)

يلاحظ على الاستدلال : بأنّ ظاهر الآية انّه سبحانه جعل الأُمّة الإسلامية أُمّة وسطاً ، لأجل تخلّلهم بين الناس والرسول فجعلهم وسطاً.

١. ليكونوا شهداء على الناس من جانب.

٢. ويكون الرسول شهيداً عليهم من جانب آخر.

وعندئذ فمعنى كونهم وسطاً لأجل تخلّلهم بين الرسول والناس.

فالناس هم المشهود عليهم.

والأُمّة الإسلامية هم الشهداء عليهم.

والرسول هو الشهيد على الأُمّة.

هذا هو ظاهر الآية ، وبذلك يعلم معنى الوسطية التي هي تخلّلهم بين الناس والرسول.

وعلى ضوء هذا فيجب أن نقف على معنى كون الأُمّة شهداء على الناس ، فهل يصح وصف جميع الأُمّة بذلك ، وإنّما هو وصف لطائفة خاصة ، أعني : الذين وصلوا في طهارة القلب والروح إلى حدّ يشهدون يوم القيامة على الناس؟ ومن المعلوم أنّ مثل هذه الشهادة ليست في وسع الإنسان العادي إلاّ رجل يتولّى الله أمره وكشف الغطاء عن بصره وبصيرته ، وأمّا من هم الذين لهم تلك الميزة والمكانة فالآية ساكتة عنه ، ولكن الآيات الأُخرى تفصح عن ذلك ، يقول سبحانه : (مَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٢) ، والمراد من الشهداء هم شهداء

__________________

(١) البقرة : ١٤٣.

(٢) النساء : ٦٩

٥٦٥

الاعمال الذين شملتهم عنايته سبحانه فشهدوا على حقائق الأعمال والمعاني النفسية من الكفر والإيمان والفوز والخسران ، فلا صلة للآية بعدالة الصحابة.

إنّ للإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ في تفسير الآية بياناً بديعاً رواه أبو عمرو الزبيري عنه قال : قال الإمام بعد تلاوة الآية : «فإن ظننتَ انّ الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحّدين؟ أفترى أنّ من لا يجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمم الماضية؟!». (١)

ثمّ لو افترضنا دلالة الآية على عدالة كلّ صحابي ، ولكنّه لا يكون دليلاً على حجّية كلّ ما يصدر عنهم من السنّة ، وإلاّ لعمّمنا الحكم إلى كلّ عادل ، سواء كان صحابياً أم غير صحابي ، لكون الموضوع هو العدل والعدالة ، وغاية ما تقتضيه العدالة انّه لا يتعمّد الكذب ، امّا مطابقة كلامه وفعله للواقع نزيهاً عن الخطأ وا لاشتباه فالآيتان لا تدلاّن عليه.

ثمّ إنّ الإمام الشاطبي استدلّ بوجه ثان وهو التمسّك في مدح الصحابة وقال :

الدليل الثاني : ما جاء في الحديث من الأمر باتّباعهم ، وانّ سنّتهم في طلب الاتّباع كسنّة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، كقوله : «فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسّكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» ، وقوله : «وتفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلاّ واحدة».

قالوا : ومن هم يا رسول الله؟ قال : «ما أنا عليه وأصحابي».

وعنه أنّه قال : «أصحابي مثل الملح ، لا يصلح الطعام إلاّ به».

وعنه أيضاً : انّ الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيّين

__________________

(١) البرهان في تفسير القرآن : ١ / ١٦٠.

٥٦٦

والمرسلين ، واختار لي منهم أربعة : أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً ، فجعلهم خير أصحابي كلّهم خير» ويروى في بعض الأخبار : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» إلى غير ذلك ممّا في معناه. (١)

يلاحظ على الاستدلال : أنّ الشاطبي أرسل هذه الروايات إرسالَ المسلّمات من دون أن يبحث عن أسانيدها وما جاء فيها من الطعون ، ونحن أيضاً نتغافل عمّا حول الأسانيد من الضعف والنكارة ونركّز الأمر على المضامين.

أمّا الحديث الأوّل ، أعني قوله : «فعليكم سنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهتدين ...» فقد ذكر محقّق كتاب الموافقات انّه قطعة من الحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي ولم يصف السند بشيء ، فهو قاصر عن إثبات عدالة عامّة الصحابة وبالتالي حجّية أقوالهم ومذاهبهم ، فانّه يختص بالخلفاء الأربعة لا غير.

أضف إلى ذلك انّ العمل بمضمونه مستحيل لاختلاف سيرة الخلفاء وكيف يمكن أن يتعبّدنا الشارع بالمتناقضات من سيرتهم.

وهذا هو أبو بكر ساوى في توزيع الأموال الخراجية وخالفه عمر حيث فاوت فيها ، وكان أبو بكر يرى طلاق الثلاث واحداً ، ورآه عمر ثلاثاً.

وأمّا الاختلاف بين سيرة الشيخين وعثمان فواضح جدّاً حتّى أنّ اختلافه معهما أودى بحياة الخليفة وأثار حفيظة المسلمين على خلافته فقتل في عقر داره.

كما أنّ اختلاف سيرة علي مع عثمان بل مع الجميع واضح لمن استقرأ التاريخ ، فكيف يمكن للنبي أن يتعبّدنا بالعمل بالمتناقضات؟!

وأمّا الحديث الثاني ، أعني قوله : «تفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلاّ واحدة» فيكفي في نكارة الحديث.

أوّلاً : انّ هذه الزيادة غير موجودة في بعض نصوص الرواية ، ولا يصحّ أن

__________________

(١) الموافقات للشاطبي : ٤ / ٥٦.

٥٦٧

يقال انّ الراوي ترك نقلها مع عدم الأهمية.

وثانياً : انّ المعيار الوحيد للهلاك والنجاة هو شخص النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأمّا أصحابه فلا يمكن أن يكونوا معياراً للهداية والنجاة إلاّ بقدر اهتدائهم واقتدائهم برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وإلاّ فلو تخلّفوا عنه قليلاً أو كثيراً فلا يكون الاقتداء بهم موجباً للنجاة.

وعلى ذلك فعطف «وأصحابي» على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لا يخلو من غرابة!!

وثالثاً : انّ المراد إمّا صحابته كلّهم ، أو الأكثرية الساحقة.

فالأوّل : مفروض العدم ، لاختلاف الصحابة في مسالكهم ومشاربهم السياسية والدينية بعد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وأدلّ دليل على ذلك ما وقع من الخلاف في السقيفة وبعدها في كثير من الأحكام والموضوعات.

والثاني : ممّا لا يلتزم به أهل السنّة ، فانّ الأكثرية الساحقة من الصحابة خالفوا الخليفة الثالث ، وقد قتله المصريون والكوفيون في مرأى ومسمع من بقية الصحابة ، الذين كانوا بين مؤلِّب ، أو مهاجم ، أو ساكت.

وأمّا الحديث الثالث ، أعني قوله : «أصحابي مثل الملح لا يصلح الطعام إلاّ به».

قال معلق كتاب «الموافقات» : رواه ابن قيّم الجوزية في «اعلام الموقعين» عن ابن بطة باسنادين إلى عبد الرزاق ، ثمّ بطرق أُخرى عن الحسن عنه ، منها رواية البغوي فلو افترضنا صحّة الحديث ، فالحديث مجمل للغاية ، لا يثبت شيئاً.

وأمّا الحديث الرابع ، أعني «انّ الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيّين والمرسلين ، واختار لي منهم أربعة : أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً ، فجعلهم

٥٦٨

خير أصحابي كلّهم خير» فمع غض النظر عن سنده فهو يناقض ما تضافر عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من ارتداد كثيراً من أصحابه فكيف يمكن أن يكونوا كلّهم خيراً؟!

روى البخاري عن أبي هريرة ، عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : «بينا أن قائم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلم ، فقلت : أين؟ قال : إلى النار والله ، قلت : وما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، ثمّ إذا زمرة حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلم ، قلت : أين؟ قال : إلى النار والله ، قلت : وما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم». (١)

وفي روايته الأُخرى عن سهل بن سعد قال : قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «إنّي فرطكم على الحوض من مرّ عليّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثمّ يحال بيني وبينهم» ، قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش ، فقال : هكذا سمعت من سهل؟ فقلت : نعم ، فقال : اشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها : «فأقول : إنّهم منّي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول سحقاً سحقاً لمن غير بعدي». (٢)

وكأنّ هذه الأحاديث تفسر قوله سبحانه : (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (٣)

ولا يصحّ حملها على الأعراب المرتدّة لمكان قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «أعرفهم ويعرفوني».

وأمّا الحديث الخامس ، أعني : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم»

__________________

(١) صحيح البخاري : ٨ / ١٢١ ، باب في الحوض ، الحديث ٦٠٩٩.

(٢) المصدر السابق.

(٣) آل عمران : ١٤٤.

٥٦٩

فيكفي في ضعفه ما قاله ابن حزم في حقّه حيث قال : حديث موضوع مكذوب باطل ، وقال أحمد : حديث لا يصحّ وقال البزاز : لا يصحّ هذا الكلام عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ. (١)

وقد نقل الشارح الحديدي عن النقيب أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي البصري انّه قال : إنّ هذا الحديث «أصحابي كالنجوم» من موضوعات متعصبة الأموية فانّ لهم من ينصرهم بلسانه وبوضعه الأحاديث إذا عجز عن نصرهم بالسيف.

الدليل الثالث : أنّ جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل.

فقد جعل طائفة قول أبي بكر وعمر حجّة ودليلاً.

وبعضهم عدّ قول الخلفاء الأربعة دليلاً.

وبعضهم يعدّ قول الصحابة على الإطلاق حجّة ودليلاً. ولكلّ قول من هذه الأقوال متعلّق من السنّة.

وهذه الآراء ـ وإن ترجّح عند العلماء خلافها ـ ففيها تقوية تضاف إلى أمر كلّي هو المعتمد في المسألة ، وذلك أنّ السلف والخلف من التابعين ومن بعدهم يهابون مخالفة الصحابة ، ويتكثرون بموافقتهم ، وأكثر ما تجد هذا المعنى في علوم الخلاف الدائر بين الأئمّة المعتبرين ، فتجدهم إذا عينوا مذاهبهم قوّوها بذكر من ذهب إليها من الصحابة. وما ذاك إلاّ لما اعتقدوا في أنفسهم وفي مخالفيهم من تعظيمهم ، وقوة مآخذهم دون غيرهم ، وكبر شأنهم في الشريعة ، وأنّهم ممّا يجب متابعتهم وتقليدهم فضلاً عن النظر معهم فيما نظروا فيه.

وقد نقل عن الشافعي أنّ المجتهد قبل أن يجتهد لا يُمنع من تقليد

__________________

(١) لاحظ تعليقة الموافقات : ٤ / ٥٦.

٥٧٠

الصحابة ، ويمنع من غيره. وهو المنقول عنه في الصحابي : «كيف أتركُ الحديثَ لقول من لو عاصرتُه لحَجَجْتُه؟» ولكنّه مع ذلك يعرف لهم قدرهم. (١)

يلاحظ عليه : أنّ المدّعى في هذا الدليل بطوله هو قوله : «إنّهم ممّا يجب متابعتهم وتقليدهم» ، ولكن الدليل غير واف بإثباته ولا يلازمه إذ غاية ما يثبته : انّ جمهور العلماء عند تعارض الأقاويل يرجّحون قول الشيخين أو الخلفاء الأربعة أو عامّة الصحابة ، وأين الترجيح عند التعارض من القول بحجّية آرائهم ومذاهبهم وسننهم مطلقاً ، كان هناك تعارض أوّلاً ، وانّه يجب على الخلف متابعة الصحابة وتقليدهم ثانياً.

أضف إلى ذلك انّ أصل الدليل غير ثابت ، إذ طالما خالف الخَلفُ ، السلفَ ، نعم لو اتّفقت الصحابة على أمر من الأُمور يكون حكمه ، حكم سائر الإجماعات ، وعندئذ لا تظهر خصوصية ، لإجماعهم.

هذا وقد علّق على الدليل محقّق الكتاب وقال : فإن كان غرض المسألة وجوب الأخذ بسنّتهم التي اتّفقوا عليها فذلك ما لا نزاع فيه ، لأنّه أهمّ أنواع الإجماع فليس من باب السنّة ، وإن كان الغرض ما جرى العمل عليه في عهدهم ، وإن لم يتّفقوا عليه ، فهذا ليس بدليل شرعي يتقيّد به المجتهد. (٢)

ويظهر من الآمدي وجه آخر لحجّية سنّتهم ، وهي أنّها عند الاختلاف لا تخرج عن كونها حجّة في نفسها كأخبار الآحاد والنصوص الظاهرة ، وعلى هذا يكون سنّة قولاً وفعلاً في غير موضع الإجماع منهم ، تعدّ سنّة كخبر الواحد فيعوّل عليها ويرجع إليها كحجّة ظنية.

يلاحظ عليه : أنّ قياس رأي الصحابة وسنّتهم ، على خبر الواحد ، قياس مع

__________________

(١) الموافقات : ٤ / ٥٧.

(٢) الموفقات : ٤ / ٥٧ ، قسم التعليقة.

٥٧١

الفارق ، فانّ الثاني يروي عن المعصوم ويسنده إليه ، فيدخل في باب السنّة المحكية بواسطة الثقة ، بخلاف سنّة الصحابي ، فهي مرددة بين النقل عن المعصوم ، والاستنباط عن الكتاب والسنّة ، ومع هذا التردد كيف يجوز للمجتهد أن يأخذ بها ، إذ لو كانت رأي الصحابي لا يكون حجّة عليه.

على أنّك قد عرفت أنّ الأصل في الظن هو عدم الحجّية ، والشكّ فيها يساوق القطع بعدمها ، فكيف يُؤخذ بهذا الظن مع عدم قياس دالّ عليه.

الدليل الرابع : ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبّتهم وذم من أبغضهم ، وانّ من أحبّهم فقد أحبّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، ومن أبغضهم فقد أبغض النبي عليه الصلاة والسلام ، وما ذاك من جهة كونهم رأوه أو جاوروه أو حاوروه فقط ، إذ لا مزية في ذلك ، وإنّما هو لشدة متابعتهم له وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنّته ، مع حمايته ونصرته ، ومن كان بهذه المثابة حقيق أن يتّخذ قدوة ، وتجعل سيرته قبلة ، ولما بالغ مالك في هذا المعنى بالنسبة إلى الصحابة أو من اهتدى بهديهم واستنّ بسنّتهم جعله الله تعالى قدوة لغيره في ذلك ، فقد كان المعاصرون لمالك يتبعون آثاره ويقتدون بأفعاله ، ببركة اتّباعه لمن أثنى الله ورسوله عليهم وجعلهم قدوة أو من اتّبعهم ، (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). (١)

يلاحظ عليه : أنّ هذا الدليل ، كسابقه ضعيف غايته : إذ مع غض النظر عمّا في أسانيد هذه الروايات انّ أقصى ما يدلّ عليه ، هو تكريمهم وحرمة بغضهم ، لأنّهم رأوا نور الوحي ، وعاشوا معه في السراء والضرّاء ، في الحرب والسلم ، والشدة والرخاء ، وأين هذا من حجّية آرائهم ومذاهبهم واجتهاداتهم ، كمشرِّع يؤخذ بتشريعاته؟!

__________________

(١) المجادلة : ٢٢.

٥٧٢

والعجب انّ الشاطبي يجعل الأمر بحب الصحابة دليلاً على حجّية آرائهم ومذاهبهم ـ مضافاً إلى حجّية أقوالهم عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ـ فلما ذا لم يأخذ شيئاً من أقوال أئمّة أهل البيت وآرائهم ومذاهبهم؟! مع تضافر النصوص على لزوم حبهم ، قال سبحانه : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). (١)

وأمّا النصوص فنقتصر من الكثير بالقليل :

١. «لا يؤمن عبد حتّى أكون أحب إليه من نفسه ، وتكون عترتي أحبّ إليه من عترته ، ويكون أهلي أحبّ إليه من أهله».

٢. «إنّ لكلّ نبيّ عصبة ينتمون إليها إلاّ ولد فاطمة فأنا وليّهم وأنا عصبتهم وهم عترتي خلقوا من طينتي ، ويل للمكذبين بفضلهم ، من أحبهم أحبه الله ، ومن أبغضهم أبغضه الله».

٣. انّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أخذ بيد حسن وحسين ، وقال : «من أحبّني وأحبّ هذين وأباهما وأُمهما كان معي في درجتي يوم القيامة». (٢)

أيّ الفريقين أحقّ بالأمن؟

قد عرفت منزلة مذهب الصحابي ورأيه تحليلاً ونقداً ، وتبيّن انّ قول الصحابي إنّما يكون حجّة إذا أسنده إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وأمّا لو وقف ولم يسنده ، أو تبيّن انّه رأيه ومذهبه وسنّته فلا قيمة له في عالم الاعتبار ، ومع ذلك عرفت إصرار الشاطبي ومن لفّ لفّه على لزوم الأخذ بآرائهم ومذاهبهم وإن كان نتيجة اجتهادهم واستنباطهم.

وهناك من يوافقه من قدماء القوم.

__________________

(١) الشورى : ٢٣.

(٢) لاحظ للوقوف على هذه الأحاديث ونظائرها الكثيرة ، كتاب كنز العمال : ج ١٠ و ١٢ و ١٣.

٥٧٣

١. أخرج السيوطي وقال : قال حاجب بن خليفة شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو خليفة ، فقال في خطبته : ألا إنّ ما سنَّ رسولُ الله وصاحباه فهو دين نأخذ به وتنتهي إليه وما سنّ سواهما فإنّا نرجئه. (١)

٢. أخرج ابن سعد في طبقاته عن ثعلبة بن أبي مالك القرطبي انّه قال في محاضرته مع عبد الملك بن مروان : وليست سنّة أحبّ إليّ من سنّة عمر. (٢)

٣. يقول الشيخ أبو زهرة : لقد وجدناهم يأخذون (أي الفقهاء من أهل السنّة) جميعاً بفتوى الصحابي ولكن يختلفون في طريق الأخذ ، فالشافعي كما يصرح في «الرسالة» يأخذ بفتواهم على أنّها اجتهاد منهم واجتهادهم أولى من اجتهاده ، ووجدنا مالكاً يأخذ بفتواهم على أنّها من السنّة ويوازن بينها وبين الأخبار المروية ان تعارض الخبر مع فتوى صحابي ، ثمّ يقول ما حاصله : انّه اختلف في نظر أبي حنيفة وأبو الحسن الكرخي اعتبر أبو حنيفة الأخذ بفتوى الصحابي من قبيل الأخذ بالحديث والسنّة وأبو سعيد البراذعي يجعل أبا حنيفة مثل الشافعي ، وأمّا أحمد بن حنبل فنراه يقدم الحديث الصحيح على فتوى الصحابي ويأخذ بكلّ فتاوى الصحابة كما نجده يقدّم فتوى الصحابي على الحديث المرسل. ويلخّص أبو زهرة رأي أحمد : انّ فتاوى الصحابة سنّة ولكنّها سنّة بعد الحديث الصحيح وحيث لا تصح سنّة غير أقوالهم. (٣)

فإذا دار الأمر بين الأخذ بهذه السنن والآراء التي هي نتاج الاجتهاد والاستنباط دون الاستناد إلى قول الرسول وفعله وتقريره ، وبين الأخذ بأقوال أئمّة أهل البيت الذين يروون عن آبائهم فأجدادهم عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، فأيّهما أولى وأحق بالأخذ؟

__________________

(١) تاريخ الخلفاء : ١٦٠.

(٢) طبقات ابن سعد : ٥ / ١٧٢.

(٣) بحوث مع أهل السنة والسلفية : ٢٣٤.

٥٧٤

١. فهذا هشام بن سالم وحمّاد بن عثمان وغيرهما قالا : سمعنا أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ يقول : «حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي حديث الحسين ، وحديث الحسين حديث الحسن ، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ ، وحديث أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ حديث رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وحديث رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قول الله عزّ وجلّ». (١)

٢. روى جابر قال : قلت لأبي جعفر (الباقر ـ عليه‌السلام ـ) إذا حدثتني بحديث فأسنده لي.

فقال : «حدّثني أبي ، عن جدّي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، عن جبرئيل ـ عليه‌السلام ـ ، عن الله عزّ وجلّ ، وكلّما أحدّثك بهذا الاسناد».

فقال : يا جابر لحديث واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها. (٢)

٣. وهذا عنبسة قال : سأل رجل أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن مسألة فأجابه فيها ، إلى أن قال : «مهما أجبتك بشيء فهو عن رسول الله لسنا نقول برأينا من شيء».

٤. وفي رواية لجابر عن أبي جعفر قال : «يا جابر انّا لو كنّا نحدّثكم برأينا وهو انا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله». إلى غير ذلك من الروايات. (٣)

وعلى ضوء هذا

(فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). (٤)

__________________

(١) الكافي : ١ / ٣ / ٥٣.

(٢) أمالي المفيد : ٤٢.

(٣) لاحظ كتاب جامع أحاديث الشيعة : ١ ، الباب الرابع من أبواب المقدّمات وما هو الحجّة في الفقه : ١٨١ ـ ١٨٣ وقد أخذنا بالقليل عن الكثير.

(٤) الأنعام : ٨١.

٥٧٥

مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة

٧ ـ إجماع أهل المدينة

قد نقل انّ مالك بن أنس اعتمد في فقهه على أحد عشر دليلاً :

١. القرآن ، ٢. السنّة ، ٣. الإجماع ، ٤. إجماع أهل المدينة ، ٥. القياس ، ٦. قول الصحابي ، ٧. المصلحة المرسلة ، ٨. العرف والعادة ، ٩. سدّ الذرائع ، ١٠. الاستصحاب ، ١١. الاستحسان.

غير أنّ الشاطبي في «الموافقات» أرجع هذه الأدلّة إلى أربعة ، وهي : الكتاب والسنّة والإجماع والرأي ، فإنّ إجماع أهل المدينة وقول الصحابي كاشفان عن السنّة فهما من شعبها ، والخمسة الباقية من شعب الرأي ومن وجوهه.

وعلى كلّ تقدير فقد ذهب مالك إلى حجّية اتّفاق أهل المدينة قائلاً : بأنّ المدينة دار الهجرة ، وبها نزل القرآن وأقام رسول الله وأقام صحابته ، وأهل المدينة أعرف الناس بالتنزيل وبما كان من بيان رسول الله للوحي ، وهذه ميزات ليست لغيرهم ، وعلى هذا فالحقّ لا يخرج عمّا يذهبون إليه ، فيكون عملهم حجّة يقدّم على القياس وخبر الواحد.

وقد أوجد مشربه هذا ضجة كبيرة بين معاصريه ، فردّ عليه فقيه عصره

٥٧٦

اللّيث بن سعد في رسالة مفصّلة نقد فيها قسماً من آراء مالك التي أفتى بها نظراً لاتّفاق أهل المدينة عليها وإن كان موضع خلاف بينهم وبين من خرجوا من دار الهجرة إلى غيرها من أمصار الإسلام ، وهذه المسائل عبارة عن :

١. الجمع بين الصلاتين ليلة المطر.

٢. القضاء بشهادة واحد ويمين صاحب الحق.

٣. طلب المرأة مؤخّر صداقها حال قيام الزوجية.

٤. الإيلاء ووقوع الطلاق به.

٥. الحكم إذا ملّك الزوج امرأته أمرها.

٦. ترتيب أعمال صلاة الاستسقاء.

٧. زكاة أموال الخليطين.

٨. المفلس وقد باعه رجل سلعة.

٩. الإسهام في الجهاد لفرس واحد أو لفرسين.

وقد نقل ابن قيّم الجوزية رسالة الليث بن سعد إلى مالك بن أنس في كتاب «أعلام الموقعين عن رب العالمين». (١)

وقد سبقه في النقل أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي (المتوفّى ٢٧٧ ه‍) في كتابه «المعرفة والتاريخ» (٢) وبسط الدكتور محمد يوسف موسى الكلام حول هذه المسائل من وجهة نظر الفقه السنّي ، فمن أراد التفصيل فليرجع إليه. (٣)

__________________

(١) أعلام الموقعين : ٣ / ١٠٠٩٤.

(٢) المعرفة والتاريخ : ١ / ٦٩٧٦٨٧.

(٣) تاريخ الفقه الإسلامي : ٢ / ٩٠ ـ ١٠١.

٥٧٧

ولمّا وصلت رسالة الليث إلى مالك ردّ عليها وكتب رسالة نقلها القاضي عياض (المتوفّى ٥٤٤ ه‍) في كتابه «ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة اعلام مذهب مالك» وحيث إنّ هذه الرسالة موجزة ننقلها بنصها ، وكان الأحرى أن ننقل رسالة الليث أيضاً ، لكن إسهابها عاقنا عن إثباتها بنصّها :

رسالة مالك إلى الليث بن سعد

من مالك بن أنس إلى الليث بن سعد.

سلام عليكم!

فإنّي أحمد الله إليك الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد عصمنا الله وإيّاك بطاعته في السر والعلانية ، وعافانا وإيّاك من كلّ مكروه. اعلم رحمك الله أنّه بلغني أنّك تفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا وببلدنا الذي نحن فيه وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك ، وحاجة من قبلك إليك ، واعتمادهم على ما جاءهم منك ، حقيق بأن تخاف على نفسك وتتبع ما ترجو النجاة باتّباعه ، فإنّ الله تعالى يقول في كتابه : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) (١) الآية. وقال تعالى : (فَبَشِّرْ عِبادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (٢) الآية. فإنّما الناس تبع لأهل المدينة ، إليها كانت الهجرة ، وبها نزل القرآن ، وأحلّ الحلال وحرّم الحرام ، إذ رسول الله بين أظهرهم يحضرون الوحي والتنزيل ، ويأمرهم فيطيعونه ، ويسنّ لهم فيتّبعونه ، حتى توفّاه الله ، واختار له ما عنده صلوات الله عليه ورحمته وبركاته. ثمّ قام من بعده أتبع الناس له من أُمّته ممّن ولي الأمر من بعده ، فما نزل بهم ممّا علموا أنفذوه ، وما لم يكن

__________________

(١) التوبة : ١٠٠.

(٢) الزمر : ١٧ ـ ١٨.

٥٧٨

عندهم فيه علم سألوا عنه ، ثمّ أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم وحداثة عهدهم ، وإن خالفهم مخالف أو قال امرؤ غيره أقوى منه أو أولى ، ترك قوله وعمل بغيره ، ثمّ كان التابعون من بعدهم يسلكون تلك السبل ويتبعون تلك السنن ، فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهراً معمولاً به لم أر لأحد خلافه للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادّعاؤها ، ولو ذهب أهل الأمصار يقولون هذا العمل ببلدنا ، وهذا الذي مضى عليه من مضى منّا ، لم يكونوا من ذلك على ثقة ، ولم يكن لهم من ذلك الذي جاز لهم.

فانظر رحمك الله فيما كتبت إليك فيه لنفسك ، واعلم أنّي أرجو أن لا يكون دعاني إلى ما كتبت به إليك إلاّ النصيحة لله تعالى وحده ، والنظر لك والضن بك ، فانزل كتابي منك منزلته ، فإنّك إن فعلت تعلم أنّي لم آلك نصحاً. وفقنا الله وإيّاك لطاعته وطاعة رسوله في كلّ أمر وعلى كلّ حال. والسلام عليك ورحمة الله ، وكتب يوم الأحد لتسع مضين من صفر. (١)

ولم تكن رسالة مالك إلى الليث مقنعة لمن أتى بعده ، فقد رد عليه ابن حزم الظاهري قائلاً في إبطال قول من قال : الإجماع هو إجماع أهل المدينة ، فإنّ هذا قول لهج به المالكيون قديماً وحديثاً ، وهو في غاية الفساد ، لأنّ قولهم : إنّ أهل المدينة أعلم بأحكام رسول الله من سواهم كذب وباطل ، وإنّما الحقّ انّ أصحاب رسول الله وهم العالمون بأحكامه ، سواء بقى منهم من بقى بالمدينة ، أو خرج منهم من خرج لم يزد (٢) الباقي بالمدينة بقاءه فيها درجة في علمه وفضله ولا حطّ (٣) الخارج

__________________

(١) ترتيب المدارك : ١ / ٦٥٦٤.

(٢) في المطبوع : لم يرد ، وهو تصحيف.

(٣) في المطبوع : لاحظ ، وهو تصحيف.

٥٧٩

منهم عن المدينة خروجه عنها درجة من علمه وفضله.

وأمّا قولهم : شهدوا آخر حكمه وعلموا ما نسخ ممّا لم ينسخ ، فتمويه فاحش وكذب ظاهر ، بل الخارجون من الصحابة عن المدينة شهدوا من ذلك كالذي شهده المقيم لها منهم سواء ، كعلي وابن مسعود وأنس وغيرهم ، والكذب عار في الدنيا ونار في الآخرة.

فظهر فساد كلّ ما موّهوا به ، وبنوه على هذا الأصل الفاسد ، وأسموه بهذا الأساس المنهار. (١)

كما ردّ عليه الإمام الآمدي أيضاً بقوله : اتّفق الأكثرون على أنّ إجماع أهل المدينة وحدهم لا يكون حجّة على من خالفهم في حالة انعقاد إجماعهم ، خلافاً لمالك ، فإنّه قال : يكون حجّة.

ومن أصحابه من قال : إنّما أراد بذلك ترجيح روايتهم على رواية غيرهم.

ومنهم من قال : أراد به أن يكون إجماعهم أولى ، ولا تمتنع مخالفته.

ومنهم من قال : أراد بذلك أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

والمختار مذهب الأكثرين ، وذلك انّ الأدلّة الدالّة على أنّ الإجماع حجّة ، ليست ناظرة إلى أهل المدينة دون سواهم لا سيما وانّهم لا يشكلون كلّ الأُمة ، فلا يكون إجماعهم حجة.

ثمّ ذكر من نصر مذهب مالك بالنص والعقل ، وذكر من الثاني ثلاثة أوجه ، ثمّ أخذ بالرد على جميع الوجوه ، وخرج بالنتيجة التالية :

لا يكون إجماع أهل الحرمين : مكة والمدينة ، والمصرين : الكوفة والبصرة ،

__________________

(١) الإحكام : ٤ / ٥٨٧٥٨٦. ولكلامه صلة ، فراجع.

٥٨٠