الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-062-2
الصفحات: ٦٢٨

فلا أظن فقيهاً من المذاهب يرى مثل هذا التحيّل أمراً قبيحاً ، أو على خلاف المصلحة ، فانّ معنى ذلك هو رفض التشريع الإلهي ، بل يمكن أن يقال : انّ هذا القسم خارج عن محلّ الكلام ، لاختلاف موضوعي الحكمين ، فقد وجب الصوم على الحاضر ، والإفطار على المسافر ، ومثله المطلقة ثلاثاً. فالمحرّمة هي غير المنكوحة للغير ، والمحلّلة هي المنكوحة بعد الطلاق.

٢. إذا كان هناك أمر واحد له طريقان ، أحلّ الشارع أحدهما وحرّم الآخر ، فلو سلك الحلال لا يعدّ ذلك تمسكاً بالحيلة ، لأنّه اتّخذ سبيلاً حلالاً إلى أمر حلال.

مثاله : انّ مبادلة التمر الرديء بالجيّد تفاضلاً رباً محرّم ، ولكن بيعَ كلّ على حدة أمر جائز ، وإن كانت النتيجة في كلا الأمرين واحدة ، ولكن الحرام هو سلوك الطريق الثاني لا الأوّل.

وهذا القسم خارج عن محلّ النزاع أيضاً ، لأنّه فيما إذا احتال وتوصل بالحلال إلى الحرام ، وأمّا هنا فقد توصل بالحلال إلى الحلال.

٣. إذا كان السبب غير مؤثر في حصول النتيجة شرعاً ، فالتوصل في مثله محرّم غير ناتج ، وذلك كالمثال الذي نقله الإمام البخاري عن أبي حنيفة وانّه أفتى بأنّه إذا غصب جارية ، فزعم انّها ماتت فقضى بقيمة الجارية الميتة ، وانّ الجارية للغاصب وإن تبيّن بعدُ انّها حيّة ، وليس لصاحبها أخذها إذا وجدها حية.

وغير خفي انّ زعم الغاصب موت الجارية لا يخرجها عن ملك صاحبها ، ولا يوجب اشتغال ذمة الغاصب بقيمتها ، بل تبقى الجارية على ملكية المالك ، فلو ظهر حياتها انكشف انّ القضاء بردّ القيمة كان باطلاً من أصله.

٥٤١

ومن خلاله ظهر انّ السبب (زعم الغاصب موت الجارية) غير مؤثر في الانتقال فلا تقع ذريعة لتملّكها ، وهو الذي رتّب عليها البخاري رداً على أبي حنيفة وقال : إنّه يحتال من اشتهى جارية رجل لا يبيعها ، فغصبها واعتلّ بأنّها ماتت حتى يأخذ ربّها قيمتها ، فيطيب للغاصب جارية غيره.

لما عرفت من أنّ اعتقاد الغاصب بموت الجارية جازماً لا يكون سبباً لخروج الجارية عن ملك صاحبها وخروج قيمتها عن ملك الغاصب ، فكيف إذا كان عالماً بالخلاف وكاذباً في الإخبار؟ فعدم جواز التحيّل في هذه المسألة لأجل انّ السبب حلالاً كان أو حراماً غير مؤثر فيه.

٤. إذا كانت الوسيلة حلالاً ، ولكن الغاية هي الوصول إلى الحرام على نحو لا تتعلّق إرادته الجدّية إلاّ بالمحرم ولو تعلّق بالسبب فإنّما تعلق بها صورياً لا جدياً ، كما إذا باع ما يسوى عشرة بثمانية نقداً ، ثمّ اشتراه بعد بعشرة نسيئة إلى شهرين فمن المعلوم أنّ إرادته الجدية تعلّقت باقتراض ثمانية ودفع عشرة ، وحيث إنّ ظاهره ينطبق مع الربا ، فاحتال ببيعين مختلفين مع عدم تعلّق الإرادة الجدية بهما ، فيكون عندها التحيّل أمراً محرماً ، ولعلّ من هذا القسم قوله سبحانه في سورة الأعراف : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ). (١)

فإنّ الغرض من تحريم الاصطياد في السبت هو امتحانهم في أُمور الدنيا ، ولكنّهم توصلوا بحيلة مبطلة لغرضه سبحانه ، وهي حيازة الحيتان وحبسها عن الخروج إلى البحر يوم السبت ، لغاية الاصطياد يوم الأحد ، فكيف يمكن أن يكون

__________________

(١) الأعراف : ١٦٣.

٥٤٢

مثل هذا التحيّل أمراً جائزاً؟!

ومنه يعلم أنّ أكثر الحيل المطروحة للمرابين أمر محرّم ، لعدم تعلّق الإرادة الجدّية بصورة المعاملة وإنّما تعلّقت بالنتيجة وهو أخذ الفائض.

هذا هو القول الحاسم في العمل بالحيل حسب ما طرحه علماء السنّة في المقام ، وبذلك خرجنا بالنتائج التالية :

١. إذا كان الشارع هو الذي أرشد إلى الخروج عن المضائق ، أو أنّه لم يُشِرْ إلى الخروج ، ولكن جعل لأمر واحد طريقين ، حرّم أحدهما وأحلّ الآخر ، فهاتان الصورتان خارجتان عن محطّا لبحث.

٢. إذا كان السبب غير مؤثر في حصول النتيجة ، والتوصل به للوصول إلى الحلال توصلاً باطلاً لافتراض أنّه غير مؤثر في نظر الشارع ، كالجارية المغصوبة التي يزعم الغاصب موتها كذباً ويكتم حياتها ، ففي مثله لا يكون الخروج عن الغرامة بدفع القيمة مؤثراً في تملّك الجارية.

٣. إذا كانت الغاية من التوصّل بالأمر الحلال صوريّاً وتعلّقت الإرادة الجدية بالأمر الحرام فالتوصّل بها حرام ، نظير توصل أصحاب السبت إلى اصطياد الحيتان بحفر جداول قرب البحر لحبسها يوم السبت واصطيادها يوم الأحد ، أو بيع الشيء نقداً بثمانية واشترائه نسيئة بعشرة.

ولذلك قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : قاتل الله اليهود انّ الله تعالى لما حرّم عليهم شحومها جملوه ثمّ باعوه فأكلوا ثمنه. (١)

ثمّ إنّ علماء الشيعة تطرّقوا لفتح الذرائع في آخر كتاب الطلاق ، وأطنبوا

__________________

(١) بلوغ المرام : برقم ٨٠١. وجملوه : أي جمعوه ثم أذابوه احتيالاً على الوقوع في المحرم.

٥٤٣

القول فيه كالمحقّق في «الشرائع» (١) والشهيد الثاني في «مسالك الأفهام» (٢) والمحدّث البحراني في «الحدائق» (٣) ولنذكر كلام شيخنا الشهيد الثاني ، قال عند شرح قول المحقّق : «يجوز التوصل بالحيل المباحة دون المحرمة في إسقاط ما لو لا الحيلة تثبت».

هذا باب واسع في جميع أبواب الفقه ، والفرق هو التوصّل إلى تحصيل أسباب يترتّب عليها أحكام شرعية ، وتلك الأسباب قد تكون محلّلة وقد تكون محرمة ، (وربما تكون محكومة بالأحكام الخمسة) والغرض من ذكرها تعليم الفقيه الأسباب المباحة ، وأمّا المحرمة فيذكرونها بالعرض ، ليعلم حكمها على تقدير وقوعها.

__________________

(١) الشرائع : ٣ / ٣٣٣١.

(٢) المسالك : ٩ / ٢٠٣ ـ ٢١٠.

(٣) الحدائق : ٢٥ / ٣٧٥.

٥٤٤

مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة

٦ ـ قول الصحابي

يعدُّ الأئمّة الثلاثة غير أبي حنيفة قولَ الصحابي من مصادر التشريع ، وربّما ينقل عنه أيضاً خلافه ، لكن المعروف انّه لا يعترف بحجية قول الصحابي. والمهم في المقام هو تحرير محل النزاع وتعيين موضوعه ، فإنّه غير منقّح في كلامهم.

إنّ ظاهر العنوان ـ مذهب الصحابي من مصادر التشريع ـ هو انّ مذهبه من مصادره ، في عرض الكتاب والسنّة والإجماع والعقل وغيرها وربما يعبّر عن مذهب الصحابي ، بسنّته ، الظاهرة في أنّ له سنّة ، عرض سنّة النبي ، فلو أُريد هذا فهو محجوج بما ذكره الغزالي حيث قال :

إنّ من يُجوَّز عليه الغلط والسهو ، ولم تثبت عصمته عنه فلا حجّة في قوله ، فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ؟ وكيف تدّعى عصمتهم من غير حجّة متواترة؟ وكيف يتصوّر قوم يجوز عليهم الاختلاف؟ وكيف يختلف المعصومان؟ كيف وقد اتّفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة؟ فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد ، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كلّ مجتهد أن يتبع

٥٤٥

اجتهاد نفسه. (١)

وعلى ظاهر العنوان (مصادر التشريع) اعترض عليه الشوكاني وقال : والحقّ أنّه ليس بحجّة ، فإنّ الله سبحانه لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلاّ نبيّنا محمّداً ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وليس لنا إلاّ رسول واحد وكتاب واحد ، وجميع الأُمّة مأمورة باتّباع كتابه وسنّة نبيّه ولا فرق بين الصحابة ومن بعدهم في ذلك ، فكلّهم مكلّفون بالتكاليف الشرعية ، وباتّباع الكتاب والسنّة ، فمن قال : إنّه تقوم الحجّة في دين الله عزّ وجلّ بعد كتاب الله تعالى وسنّة رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وما يرجع إليهما ، فقد قال في دين الله بما لا يثبت. (٢)

ويمكن أن يقال : انّ في عدّ مذهب الصحابي من مصادر التشريع مسامحة واضحة وغرض القائل ، ادّعاء حجّية مذهبه وقوله ، بشهادة انّهم يقولون بحجّيته شريطة أن لا يكون قوله موافقاً للقياس ، إذ في صورة الموافقة وبما يكون مصدر قوله ، هو القياس ، وعندئذ يكون الجميع أمامه سواء ، وعلى كلّ تقدير ، فنحن نذكر صور القاعدة.

لا شكّ انّه لو نقل الصحابي سنّة الرسول يؤخذ به بالإجماع عندهم ، وعندنا إذا اجتمعت فيه شرائط الحجّية. وهذا خارج عن محل البحث.

كما إذا اتّفق سائر الصحابة على رأي الصحابي ؛ فمن قال بحجّية الإجماع بما هو هو ، أو لكشفه عن وجود الحجّة في البين ، يكون قوله حجّة ، لأجل انعقاد الإجماع عليه. وهذا أيضاً خارج عن محل البحث.

فينحصر النزاع في الموارد الثلاثة التالية :

__________________

(١) المستصفى : ١ / ١٣٥.

(٢) إرشاد الفحول : ٢١٤.

٥٤٦

١. قول الصحابي

إذا نقل الصحابي قولاً ، ولم يُسْنده إلى الرسول ، ودلّت القرائن على أنّه نقلُ قول لا نقلُ رأي فهل هو حجّة أو لا؟ لاحتمال كونه ناقلاً قول الرسول ، أو قول غيره ، وهذا ما يطلق عليه «الموقوف» لوقف النقل على الصحابي دون أن يتجاوز عنه إلى غيره.

٢. رأي الصحابي

إذا نقل رأيه واستنباطه من الكتاب والسنّة وما فهمه منهما ، فهو حجّة له ولمقلِّديه ، ولا يكون حجّة لسائر المجتهدين.

٣. قوله المردّد بين النقل والرأي

إذا تردّد بين كونه نقلَ قول أو نقلَ رأي ؛ فلو قلنا بحجّية قوله ورأيه على سائر المجتهدين ، يكون حجّةً في المقام بخلاف ما لو خصّصنا الحجّية بنقل القول دون الرأي ـ كما هو الحقّ ـ فلا يكون النقل المردّد بين القول والرأي حجّة.

هذه هي الصور الثلاث التي تصلح لأن تقع محلاً لورود النفي والإثبات.

وأمّا الأقوال ، فمن قائل بحجّية ما روي عن الصحابي ، إلى آخر ناف لها ، إلى ثالث يفصّل بين كون المنقول موافقاً للقياس فليس بحجّة وكونه مخالفاً له فهو حجّة.

إذا وقفت على الصور المتصوّرة لمحلّ النزاع والأقوال ، فلنتناول كلّ واحدة منها بالدراسة :

٥٤٧

١. الحجّة هو قول الصحابي لا رأيه

يظهر من السرخسي انّ محلّ النزاع هو الصورة الأُولى ، فقد حاول في كلام مبسوط أن يثبت انّ قول الصحابي ظاهر في أنّ مستنده هو قول النبي وإن لم يسنده إليه ظاهراً ، يقول :

لا خلاف بين أصحابنا المتقدّمين والمتأخرين انّ قول الواحد من الصحابة حجّة فيما لا مدخل للقياس في معرفة الحكم فيه ، وذلك لأنّ أحداً لا يظن بهم المجازفة في القول ، ولا يجوز أن يحمل قولهم في حكم الشرع على الكذب ؛ فإنّ طريق الدين من النصوص إنّما انتقل إلينا بروايتهم ، وفي حمل قولهم على الكذب والباطل قولٌ بفسقهم ، وذلك يبطل روايتهم.

فلم يبق إلاّ الرأي أو السماع ممّن ينزل عليه الوحي ، ولا مدخل للرأي (القياس) في هذا الباب ، فتعيّن السماع وصار فتواه مطلقاً كروايته عن رسول الله ، ولا شكّ انّه لو ذكر سماعه من رسول الله لكان ذلك حجّة لإثبات الحكم به ، فكذلك إذا أفتى به ولا طريق لفتواه إلاّ السماع ، ولهذا قلنا : إنّ قول الواحد منهم فيما لا يوافقه القياس يكون حجّة في العمل به كالنص يترك القياس به. (١)

وخلاصة كلامه : أنّ قول الصحابي إن كان موافقاً للقياس نحدس بأنّه رأيه ونظره استند إلى القياس فلا يكون حجّة للمجتهد الآخر ، وأمّا إذا كان مخالفاً للقياس ، فلا يكون لقوله مبدأ سوى السماع عن الرسول ويكون حجّة.

يلاحظ على كلامه بوجوه :

الأوّل : أنّ كلامه مبنيّ على أنّ للاجتهاد دعامتين : إحداها : القياس ،

__________________

(١) أُصول السرخسي : ٢ / ١١٠ بتلخيص.

٥٤٨

والأُخرى : النص. فإذا كان قول الصحابي مخالفاً للقياس ، فيكون دليلاً على أنّه اعتمد على النص ونقله ، ولكنّك خبير بأنّ للاجتهاد دعامات أُخرى ، فمن الممكن أن يستند في قوله إلى إطلاق الآية وليس لها إطلاق ، أو عموم دليل وليس بعام ، وعلى كلّ تقدير استنتج الحكم من دليل لو وصل إلينا لم نعتبره دليلاً ، فمع هذا الاحتمال لم يبق وثوق بأنّه سبحانه أذن في الإفتاء وفق قوله.

الثاني : أنّ أقصى ما يمكن أن يقال هو الظنّ بأنّه استند إلى النّص ، لا القطع ، ومن المعلوم أنّ الظنّ لا يغني عن الحقّ شيئاً ، بل يجب أن يحرز أنّه استند إلى النص ، فيكون ممّا أذن الله أن يفتى به ، فما لم يحرز اعتماده على النصّ إحرازاً علمياً ، يدخل الإفتاء به تحت قوله سبحانه : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ). (١)

الثالث : لو كان قول الصحابي مستنداً إلى سماعه عن النبي ، أو عمّن سمعه من النبي ، لم يكن يترك ذكره ، لما فيه من الشرف والمفخرة له ، بشهادة أنا نجد اهتمام الصحابة بنقل كلّ ما يمتّ إلى النبي بصلة من دقيق وجليل وقول وفعل وتقرير وتصديق.

فالإفتاء بلا ذكر السماع يُشرف الفقيه على القطع بأنّ ما نقله الصحابي هو في الواقع اجتهاد منه ، وبذلك لا يبقى أيّ اطمئنان ووثوق بمثل هذا القول.

وهناك حقيقة مرّة ، وهي انّ التأكيد على حجية قول الصحابي لأجل انّ حذفه من الفقه السنّي يوجب انهيار صرح البناء الفقهي الذي أشادوه ، وتغيّر القسم الأعظم من فتاواهم ، وحلول فتاوى أُخر محلّها ربما استتبع فقهاً جديداً لا

__________________

(١) يونس : ٥٩.

٥٤٩

أُنس لهم به.

ومنه يظهر ضعف ما جاء به بعض المعاصرين حيث يقول في جملة كلامه :

إنّ الصحابة هم الذين عاصروا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ونقلوا أقواله وأفعاله ، فكانوا أعرف الناس بأسرار التشريع الإسلامي ومصادره وموارده ، فمن اتّبعهم فهو من الذين قال الله فيهم : (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) ثمّ نقل عن الإمام أبي حنيفة ، أنّه كان يقول : إذا لم أجد في كتاب الله ولا سنّة رسول الله ، أخذت بقول من شئت من أصحابه ، وتركت من شئت ، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم. (١)

يلاحظ عليه بأمرين :

١. كونهم أعرف بآراء التشريع لا يلازم كون المنقول ممّا سمعه ، إذ من المحتمل انّه استنبطه من الأدلّة بحجّة أنّهم أعرف بأسرار التشريع.

٢. انّ ما نقله من أبي حنيفة يدلّ على حرمة الخروج عن أقوال الصحابة إذا علم إجمالاً أنّ الحقّ غير خارج عن أقوالهم المتعارضة ، وأين هذا من الأخذ بقول كلّ صحابي وإن لم ينحصر الحقّ في قوله؟!

وهناك نكتة أُخرى وهي انّ الصحابة لو كانوا مقتصرين في مقام الأخذ ، على سنّة الرسول فقط كان لما ذكره وجه ، ولكنّهم ـ مع الأسف ـ لم يقتصروا عليها ، بل أخذوا من مستسلمة أهل الكتاب ، فقد أخذ أبو هريرة وابن عباس من كعب الأحبار ـ الذي عدّوه من أوعية العلم ـ كثيراً ، كما أخذ عنه وعن أضرابه كتميم

__________________

(١) مصادر التشريع الإسلامي : ٢٦٩ ـ ٢٧٧ ؛ ولاحظ كتاب الأُمّ : ٧ / ٢٤.

٥٥٠

الداري غيرهما من الصحابة.

والحاصل : انّ الحجّة هو العلم بأنّه بصدد نقل سنة الرسول ، وأمّا إذا ظنّ بأنّه كذلك فليس بحجّة وما دلّ من الأدلّة على حجّية قول الصحابي ، منحصر بما إذا علم أنّه بصدد بيان كلام الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وقوله ، أو عمله وفعله ، أو تقريره وتصديقه.

٢. الحجّة هو الأعم من القول والرأي

يظهر من كلام ابن القيم ، انّ موضوع النزاع أعمّ من القول والرأي فقد أقام على حجّيته ٤٦ دليلاً لا يسعنا ذكر معشارها ، لأنّ غالبها لا يخرج عن نطاق الحدس وليس لها أصالة ، وإنّما نقتصر على دليلين :

الدليل الأوّل

إنّ قول الصحابي يحتمل أوجهاً لا تخرج عن ستة :

١. أن يكون قد سمعها من النبي.

٢. أن يكون سمعها ممّن سمعها منه.

٣. أن يكون فهمها من آيات كتاب الله فهماً خفي علينا.

٤. أن يكون قد اتّفق عليها ملؤُهم ولم ينقل إلينا إلاّ قول المفتي بها وحده.

٥. أن يكون لمكان علمه باللغة ودلالة اللفظ على الوجه الذي انفرد به عنّا ، أو لقرائن حالية اقترنت بالخطاب ، أو لمجموع أُمور فهموها على طول الزمان لأجل معاشرة النبي.

٥٥١

٦. أن يكون فهم ما لم يرده الرسول واخطأ في فهمه ، والمراد غير ما فهمه ، وعلى هذا التقدير لا يكون قوله حجّة ، ومعلوم قطعاً أنّ وقوع احتمال من خمسة أغلب على الظن من وقوع احتمال واحد معين ، وذلك يفيد ظناً غالباً قوياً على أنّ الصواب في قوله دون ما خالفه من أقوال مَن بعده وليس المطلوب إلاّ الظنّ الغالب والعمل به متعيّن ، ويكفي العارف هذا الوجه. (١)

أقول : يلاحظ عليه بوجوه :

أوّلاً : أنّ أقصى ما يمكن أن يقال هو الظن الغالب بأنّه استند إلى الوجوه الخمسة الأُولى لا القطع به ، وقد دللنا في صدر الفصل على أنّ الأصل في الظن عدم الحجّية ، إلاّ إذا دلّ دليل قطعي على حجّيته.

ثانياً : من أين نعلم أنّ فهمه من الكتاب كان فهماً صحيحاً؟ أو انّ استفادته من اللغة كانت استفادة رصينة مع أنّ التابعين من العرب الأقحاح مثله؟ فما هو الفرق بين أن يكون قوله حجّة دون التابعين؟

ثالثاً : على أنّه يحتمل أن يكون لفتواه مصادر ظنّية اعتمد عليها ، كالقياس بشيء لا يخطر في أذهاننا ، أو الاعتماد على وجوه واعتبارات تبلورت في ذهنه ، أو الاستناد إلى الإطلاق والعموم مع أنّه ليس من مواردها ، لكون المورد شبهة مصداقية لهما.

الدليل الثاني

قد ذكر ابن القيم في الوجه الرابع والأربعين ما هذا لفظه : انّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ

__________________

(١) أعلام الموقعين : ٤ / ١٤٨ في ضمن الدليل الثالث والأربعين.

٥٥٢

قال : «لا تزال طائفة من أُمّتي ظاهرين بالحق».

وقال علي ـ كرم الله وجهه ـ : «لا تخلو الأرضُ من قائم لله بحجّة ، لئلاّ تبطل حججُ الله وبيّناته» فلو جاز أن يخطئ الصحابي في حكم ولا يكون في ذلك العصر ناطق بالصواب في ذلك الحكم لم يكن في الأُمّة قائم بالحقّ في ذلك الحكم ، لأنّهم بين ساكت ومخطئ ، ولم يكن في الأرض قائم لله بحجّة في ذلك الأمر ، ولا من يأمر فيه بمعروف أو ينهى فيه عن منكر. (١)

أقول : أمّا الحديث الأوّل فيدلّ على وجود طائفة ظاهرين بالحقّ من أُمّته ، ولكن من أين نعلم أنّهم هم الصحابة؟ فانّ الأخبار عن الكبرى لا تثبت الصغرى ، أي كون القائمين بالحقّ هم الصحابة ، فليكن التابعين لهم بإحسان.

وأمّا الحديث الثاني فيدلّ على وجود القائم بالحقّ بين الأُمّة في كلّ الأزمنة والأعصار لا الناطق بالحقّ ، وشتان ما بين القائم بالحقّ والناطق بالحقّ ، والقائم بالحقّ بطبيعة الحال يكون ناطقاً ، ولكن ربما يكون مضطراً للسكوت خوفاً من حكّام الجور ، فلا يكون سكوت الأُمّة دليلاً على إصابة الصحابي الناطق وكونه القائم بالحقّ.

وجود المخالفة بين الصحابة

إنّ تاريخ التشريع حافل بنماذج كثيرة من مخالفة صحابي لصحابي آخر حتى بعد سماع كلامه وقوله ، فلو كان قول الصحابي نتاجاً للسماع لما جاز لآخر أن يخالفه ويقدّم رأيه على قوله ، فإنّه يكون من قبيل تقديم الرأي على النصّ ، وهذا يعرب على أنّ قول الصحابي لا يساوق سماعه عن النبي ، بل أعمّ منه بكثير ، وهذا

__________________

(١) أعلام الموقعين : ٤ / ١٥٠ ، فصل جواز الأخذ بفتاوى الصحابة.

٥٥٣

هو الذي يسوغ وجود المخالفة بينهم ، فمثلاً :

كان أبو بكر وعمر وعبد الله بن عباس يرون قول الرجل لامرأته : أنت عليّ حرام ، إيلاء ويميناً ، وفي الوقت نفسه كان ابن مسعود يراه طلقة واحدة ، وكان زيد ابن ثابت يراه طلاق ثلاث ، فلم يقل أحد انّ قول الخليفتين حجّة على الآخرين.

وذلك لأنّ كلّ واحد كان مجتهداً ومستنبطاً ، وليس رأي المستنبط حجّة على الآخرين ، فإذا كان هذا هو الحال بين الصحابة ، فليكن كذلك بعدهم ، فإنّ التكليف واحد ، والتشريع فارد ، فلا معنى أن يكون تكليف الصحابة مغايراً لتكليف التابعين لهم بإحسان ، أي لا يكون رأي الصحابي حجّة على مثله ، ولكنّه حجّة على التابعين.

اجتهاد الصحابي بين الردّ والقبول

كان اجتهاد الصحابة عند غيبتهم عن الرسول حجّة لهم لعدم تمكّنهم من الرجوع إليه ، فإذا ما رجعوا إليه ، إمّا يقرّهم على ما رأوا ، وإمّا أن يبيّن لهم خطّ الصواب ، فلم يكن اجتهاد الصحابي بما هو اجتهاد من مصادر التشريع ، وهو ظاهر لمن رجع إلى اجتهادات الصحابة وطرحها على الرسول ، وهو ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بين مصوّب لهم ومخطِّئ ، ولنذكر نموذجين :

١. كان علي ـ عليه‌السلام ـ باليمن أتاه ثلاثة نفر يختصمون في غلام ، فقال كلّ واحد منهم هو ابني ، فجعل علي ـ عليه‌السلام ـ يخبرهم واحداً واحداً أترضى أن يكون الولد لهذا؟ فأبوا ، فقال : «أنتم شركاء متشاكسون» فأقرع بينهم ، فجعل الولد للذي خرجت له القرعة ، وجعل عليه للرجلين الآخرين ثلثي الدية ، فبلغ ذلك

٥٥٤

النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فضحك حتى بدت نواجذه ، من قضاء علي ـ عليه‌السلام ـ. روى ذلك الخطيب البغدادي في كتاب «الفقيه والمتفقّه». (١)

وقد اعتبر علي ـ عليه‌السلام ـ في هذا الحكم أنّه بالنسبة للقارع بمنزلة الإتلاف للآخرين ، كمن أتلف رقيقاً بينه وبين شريكين له ، فإنّه يجب عليه ثلثا القيمة لشريكيه ، فإتلاف الولد الحر بحكم القرعة ، كإتلاف الرقيق الذي بينهم.

٢. روى مسلم ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه انّ رجلاً أتى عمر ، فقال : إنّي أجنبت فلم أجد ماء؟ قال : لا تصلّ ، فقال عمار : ما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية ، فأجنبنا فلم نجد ماء ، فأمّا أنت فلم تصلّ ، وأمّا أنا فتمعكت في التراب وصليت.

فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : إنّما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ، ثمّ تنفخ ، ثمّ تمسح بهما وجهك وكفيك.

فقال عمر : اتّق الله يا عمار ، قال : إن شئت لم أُحدّث به. (٢)

أحاديث الاقتداء بالصحابة

قد ذكرنا انّ ابن قيم الجوزية استدلّ على أنّ رأي الصحابة والتابعين حجّة بأنفسهما ، واستدل على ذلك بوجوه كثيرة لا دلالة فيها لما يروم إليه. وإليك بعض ما استدلّ به من الروايات :

١. ما رواه الترمذي من حديث الثوري ، عن عبد الملك بن عمير ، عن هلال مولى رِبْعي بن حِرَاش ، عن رِبْعي ، عن حذيفة ، قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «اقتدوا

__________________

(١) أعلام الموقعين : ١ / ٢٠٣.

(٢) صحيح مسلم : ١ / ١٩٣ ، باب التيمّم.

٥٥٥

باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر». (١)

يلاحظ عليه : أنّ الحديث مخدوش سنداً ودلالةً.

أمّا سنداً فبعبد الملك بن عمير ، حيث روى إسحاق الكوسج ، عن يحيى بن معين قال : مخلِّط.

وقال علي بن الحسن الهسنجاني : سمعت أحمد بن حنبل يقول : عبد الملك ابن عمير مضطرب الحديث جداً مع قلّة روايته.

وذكر إسحاق الكوسج عن أحمد ، أنّه ضعفه جداً. (٢)

وقد نُقل هذا الحديث بسند ثان عن أحمد بن محمد بن الجسور ، حدّثنا أحمد ابن الفضل الدينوري ، حدّثنا محمد بن جبير ، حدّثنا عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي ، حدّثنا محمد بن كثير الملائي ، حدّثنا المفضل الضبي ، عن ضرارة بن مرة ، عن عبد الله بن أبي الهذيل العتري ، عن جدته.

وهو مخدوش أيضاً ، لأنّه مروي عن مولى لربعي مجهول ، كما أنّ المفضل بن محمد الضبي متروك الحديث ، متروك القراءة. (٣)

كما نقل هذا الحديث بسند ثالث عن القاضي أبي الوليد بن الفرضي ، عن ابن الدخيل ، عن العقيلي ، عن محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا وكيع ، حدثنا سالم المرادي ، عن عمرو بن هرم ، عن ربعي بن حرث وأبي عبد الله ، عن رجل من أصحاب حذيفة ، عن حذيفة.

__________________

(١) أعلام الموقعين : ٤ / ١٤٠.

(٢) سير أعلام النبلاء : ٥ / ٤٣٩.

(٣) الجرح والتعديل : ٨ / ٣١٨ برقم ١٤٦٦ ؛ لسان الميزان : ٦ / ٨١ برقم ٢٩٣.

٥٥٦

وفيه أنّ هلال مولى ربعي مجهول ، كما أنّ سالم المرادي قد ضعَّفه ابن معين والنسائي. (١)

وأمّا دلالةً ، فقد قال ابن حزم : وأمّا رواية : «اقتدوا باللّذين من بعدي» فحديث لا يصح. ولو صحّ لكان عليهم لا لهم ، لأنّهم ـ أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي ـ أترك الناس لأبي بكر وعمر ، وقد بيّنا انّ أصحاب مالك خالفوا أبا بكر ممّا رووا في «الموطّأ» خاصة في خمسة مواضع ، وخالفوا عمر في نحو ثلاثين قضية ممّا رووا في «الموطأ» خاصة ، وقد ذكرنا انّ عمر وأبا بكر اختلفا ، وإن اتّباعهما فيما اختلفا فيه ، متعذر ممتنع لا يقدر عليه أحد. (٢)

٢. ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن رباح عن أبي قتادة انّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : إن يطع القوم أبا بكر وعمر يُرشَدُوا. (٣)

أقول : لو صحّت الرواية ، وقلنا بأنّ المراد من القوم هم المسلمون بأجمعهم إلى يوم القيامة ، لدلّت على وجوب طاعتهما فيما لهما فيه أمر ونهي ، وأين هما من لزوم الأخذ بآرائهما وفتاواهما في الأحكام الشرعية التي ليس لهما فيه أي أمر ونهي؟!

٣. ما روي عن طريق عبد الله بن روح ، عن سلام بن سلم ، قال : حدثنا الحارث بن غصين ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر مرفوعاً انّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم. (٤)

وهذا الحديث مخدوش سنداً ودلالة.

__________________

(١) كتاب الضعفاء الكبير : ٢ / ١٥٠ برقم ٦٥١ ؛ لسان الميزان : ٣ / ٧ برقم ٢١.

(٢) الاحكام : ٥ / ٢٤٣.

(٣) أعلام الموقعين : ٤ / ١٤٠.

(٤) جامع العلم : ٢ / ٩١ ؛ جامع الأُصول : ٨ / ٥٥٦ ، الحديث ٦٣٦٩.

٥٥٧

أمّا سنداً فبالحارث بن غصين ، قال عنه ابن عبد البر في كتاب العلم : مجهول. (١)

كما أنّ في السند المذكور سلام بن سلم المدائني ، وقيل : سلام بن سليمان المدائني ، قال عنه يحيى : كان ضعيفاً.

وقال الأعين : سمعت أبا نعيم ضعّف سلام بن سلم. (٢)

وقال عنه البخاري : سلام بن سلم المدائني : متروك.

وذكره ابن حبان في المجروحين. (٣)

كما روي هذا الحديث أيضاً عن طريق عبد الرحيم بن زيد العمي ، عن أبيه ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر. وعن طريق حمزة الجزري ، عن نافع ، عن ابن عمر.

وفيه أنّ عبد الرحيم بن زيد وأباه متروكان (٤) ، وحمزة الجزري مجهول.

وأمّا دلالة : فلما قاله ابن حزم : قد ظهر أنّ هذه الرواية لا تثبت أصلاً ، إذ من المحال أن يأمر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ باتّباع كلّ قائل من الصحابة ، وفيهم من يحلل الشيء ، وغيره منهم يحرّمه. (٥)

ولقد أجاد الشوكاني حينما قال : وأمّا ما تمسّك به بعض القائلين بحجيّة قول الصحابي ممّا روي عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّه قال : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ، فهذا ممّا لم يثبت قط ، والكلام فيه معروف عند أهل هذا الشأن بحيث لا يصحّ العمل بمثله

__________________

(١) لسان الميزان : ٢ / ١٥٦.

(٢) الضعفاء الكبير : ٢ / ١٥٨.

(٣) المجروحين : ٢ / ٣٣٩.

(٤) سير أعلام النبلاء : ٨ / ٣٥٨ ؛ التاريخ الكبير : ٦ / ١٣٧ ؛ ميزان الاعتدال : ٢ / ٦٠٥.

(٥) الاحكام : ٥ / ٢٤٤.

٥٥٨

في أدنى حكم من أحكام الشرع ، فكيف مثل هذا الأمر العظيم والخطب الجليل؟! (١)

وحاصل الكلام : أنّ الفقيه يجب أن يعتمد على كتاب الله وسنّة رسوله ، وان يحتج بما جعله الله حجّة بينه وبين الله تبارك وتعالى ، كخبر العدل المتصل إلى المعصوم ، أو العقل فيما له فيه قضاء وحكم ، وأمّا في غير هذه الموارد كآراء الصحابة أو سنّتهم وسيرتهم أو التابعين فكلّها أُمور ظنية لا دليل على الاحتجاج بها إلاّ إذا ثبت أنّها أقوال الرسول وسننه ، وأنّى لنا إثبات ذلك.

وبذلك يعلم أنّ الفقه ليس هو نقل آراء الصحابة والتابعين ، أو الفقهاء الذين جاءوا بعدهم ، فإنّ مرد ذلك إلى سرد آراء أُناس غير مصونين عن الخطأ والزلل.

رؤيا الصحابي والتشريع

قد وقفت على أنّ التشريع الإلهي أعلى وأجلّ من أن تناله يد الاجتهاد ، فالتشريع فيض إلهي جار من ينبوع فياض لا يشوبه خطأ ولا وهم ولا ظن ولا خرص ولا تخمين ، والنبي هو المبيّن للتشريع ، وليس بمجتهد فيه يضرب الآراء بعضها ببعض كي يصل إلى حكم الله سبحانه.

وأسوأ من ذلك أن تكون رؤيا الصحابة أو تصويبهم مصدراً للتشريع ، ومع الأسف نرى نماذج كثيرة منها مروية في الصحاح والمسانيد ، فلنقتصر على ذكر نموذجين على سبيل المثال :

١. اهتم النبي للصلاة كيف يجمع الناس لها؟ فقيل له : انصب راية عند

__________________

(١) إرشاد الفحول : ٢١٤.

٥٥٩

حضور الصلاة ، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً ، فلم يعجبه ذلك ، قال : فذكر له القبع ـ يعني الشبور ـ قال زياد : شبور اليهود ، فلم يُعجبه ذلك ، وقال : هو من أمر اليهود.

قال : فذكر له الناقوس ، فقال : هو من أمر النصارى.

فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربّه وهو مهتم لهمِّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فأُري الأذان في منامه ، قال : فغدا على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فأخبره ، فقال له : يا رسول الله ، إنّي لبين نائم ويقظان ، إذ أتاني آت فأراني الأذان.

قال : وكان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك ، فكتمه عشرين يوماً ، ثمّ أخبر النبي به ، قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : ما منعك أن تخبرني؟ فقال : سبقني عبد الله بن زيد ، فاستحييت.

فقال رسول الله : يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله ، قال : فأذّن بلال ، قال أبو بشر : فأخبرني أبو عمير انّ الأنصار تزعم أنّ عبد الله بن زيد لو لا انّه كان يومئذ مريضاً لجعله رسول الله مؤذناً. (١)

إنّ هذه الرواية وما شاكلها لا تتفق مع مقام النبوة ، لأنّه سبحانه بعث رسوله لإقامة الصلاة مع المؤمنين في أوقات مختلفة ، وطبيعة الحال تستدعي أن يعلّمه سبحانه كيفية تحقّق هذه الأُمنية ، فلا معنى لتحيّر النبي أياماً طويلة ، وهو لا يدري كيف يحقّق المسئولية الملقاة على عاتقه!!

إنّ الصلاة والصيام من الأُمور العبادية وليست من الأُمور الطبيعية العادية

__________________

(١) سنن أبي داود : ١ / ١٣٥١٣٤ برقم ٤٩٨ ـ ٤٩٩ ، تحقيق محمد محي الدين. لاحظ سنن ابن ماجة : ١ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣ ، باب بدء الأذان برقم ٧٠٦ ـ ٧٠٧ ؛ سنن الترمذي : ١ / ٣٥٨ باب ما جاء في بدء الأذان برقم ١٨٩.

٥٦٠