الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-062-2
الصفحات: ٦٢٨

وعلى هذا الأساس ، فَتح الفقه الإمامي باباً باسم «التزاحم» ـ وهو غير باب التعارض ـ وانّه إذا كان هناك تزاحم بين الواجبين أو الحرامين ، أو الواجب وارتكاب الحرام ، يقدّم الأهم منها على المهم ، وقد أعان ذلك على حل كثير من المشاكل الاجتماعية التي ربما يتوهم الجاهل انّها تعرقل خطا التشريع الإسلامي ، عن التحرك نحو الأمام ومسايرة الحياة ، ونأتي بمثال.

أصبح تشريح بدن الإنسان في المختبرات من الضروريات الحيويّة التي يتوقف عليه نظام الطب الحديث فلا يتسنّى تعلم الطب إلاّ بالتشريح والاطّلاع على خفايا الأمراض والأدوية ، غير أنّ هذه المصلحة ، تصادمها مصلحة احترام المؤمن حيّه وميته إلى حد أوجب الشارع التسريعَ بتغسيله وتكفينه وتجهيزه للدفن ، كما حرّم نبش قبره إذا دفن وحرّم التمثيل به وتقطيع أعضائه ، لانّه من المحرمات التي لم يجوزها الشارع حتّى بالنسبة إلى الكلب العقور.

لكن عناية الشارع بالصحة العامة صارت سبباً لتسويغ هذا العمل لتلك الغاية الكبرى مقدِّماً بدن الكافر على المسلم ، والمسلم غير المعروف على المعروف وهكذا.

ولمعرفة التزاحم ومعرفة مرجحاته دور كبير في استنباط كثير من الأحكام التي لم ترد في الكتاب والسنّة بشرط تميز الأهم من المهم ، تمييزاً قطعياً ، مستند إلى الدليل ، ولأجل ذلك نذكر شيئاً من مرجحات ذلك الباب :

١. تقديم ما لا بدل له على ما له بدل

إذا كان واجبان لأحدهما بدل شرعاً دون الآخر ، فالعقل يحكم بتقديم الثاني على الأوّل جمعاً بين الامتثالين ، كالتزاحم الموجود بين رعاية الوقت وتحصيل

٤٢١

الطهارة الحدثية بالماء ، فبما أنّ الوقت فاقد للبدل بخلاف الطهارة الحدثية فانّ له البدل كالتراب ، فتقدّم مصلحة الوقت على تحصيل مصلحة الطهارة الحدثية بالماء فيتيمّم.

٢. تقديم المضيّق على الموسّع

إذا كان هناك تزاحم بين المضيّق الذي لا يرضى المولى بتأخيره والموسّع الذي لا يفوت بالاشتغال بالواجب المضيّق إلاّ فضيلة الوقت ، يحكم العقل بتقديم الأوّل ولذلك تجب إزالة النجاسة أوّلاً ، ثمّ القيام إلى الصلاة ثانياً.

فإن قلت : إنّ مرجع المرجّح الثاني إلى المرجّح الأوّل فانّه من باب تقديم ما لا بدل له كالمضيّق على ما له بدل ، كالموسّع ، إذ له إبدال طول الوقت.

قلت : لا مشاحة في الاصطلاح فيطلق الأوّل على ما يكون البدل في عرض ما لا بدل له كاجتماع الطهارة الحدثية الترابية مع الطهارة الخبثية بالماء في صلاة واحدة بخلاف الثاني ، فانّما يطلق على ما إذا كان ماله البدل في طول ما ليس له البدل كإزالة النجاسة في الوقت الأوّل والصلاة في الوقت الثاني.

٣. تقديم الواجب التعييني على التخييري

إذا كان هناك تزاحم بين امتثال الواجب التعييني كأداء الدين وامتثال الواجب التخييري ببعض أعداله كإطعام ستّين مسكيناً بحيث لا يتمكّن من أداء الدين إذا صرفه في كفّارة شهر رمضان عن طريق الطعام ، وهكذا العكس ، فالعقل يحكم بأداء الدين ، إذ ليس له بدل ، وامتثال وجوب الكفّارة عن طريق الصوم.

٤٢٢

٤. تقديم أحد المتزاحمين على الآخر لأهميّته

هذا هو المرجّح الواضح في باب المتزاحمين ، فإذا دار الأمر بين ترك الأهمّ والمهمّ فالعقل يحكم بترك المهمّ وامتثال الأهم ، وهذا من القضايا التي قياساتها معها.

٥. سبق امتثال أحد الحكمين زماناً

إذا كان أحد الواجبين سابقاً في مقام الامتثال على الآخر زماناً كما إذا وجب صوم يوم الخميس والجمعة ولا يقدر إلاّ على صيام يوم واحد ، ومثله إذا وجبت عليه صلاتان ولا يتمكّن إلاّ من الإتيان بواحدة منهما قائماً ، أو وجبت صلاة واحدة ولا يتمكّن إلاّ من القيام في ركعة واحدة ؛ ففي جميع هذه الصور يستقل العقل بتقديم ما يجب امتثاله سابقاً على الآخر حتّى يكون في ترك الواجب في الزمان الثاني معذوراً إلاّ إذا كان الواجب المتأخّر أهمّ في نظر المولى فيجب صرف القدرة في الثاني ، وهو خارج عن الفرض. وبعبارة أُخرى : لو صام يوم الخميس أو صلّى الظهر قائماً فقد ترك صوم الجمعة والقيام في صلاة العصر عن عذر وحجّة ، بخلاف ما إذا أفطر يوم الخميس وصلّى الظهر قاعداً فقد ترك الواجب بلا عذر.

٦. تقديم الواجب المطلق على المشروط

إذا كان هناك واجب مطلق ، وآخر مشروط لم يحصل شرطه ، يقدّم المطلق على المشروط كما إذا احتلم المعتكف ، فانّ مكثَ الجنب في المسجد حرام ، وخروجَ المعتكف في اليوم الثالث حرام ، لكنّه مشروط بعدم الحاجة ، ولكن الشرط العدمي غير حاصل فيقدّم الخروج على البقاء.

٤٢٣

ونظيره إذا حصل في يده مال ، يدور أمره بين صرفه في نفقة من يجب عليه الإنفاق عليه بلا شرط كالزوجة غير الناشزة ، والوالدين والأولاد ، وصرفه في الحجّ ، فيقدّم الأوّل ، لأنّ الثاني مشروط بالاستطاعة ، وهي من ملك زاد نفسه وزاد من تجب نفقته عليه والراحلة والعود إلى الكفاية ، وشرط الثاني غير موجود ، لأنّه يجب عليه صرفه في نفقة هؤلاء بلا شرط ، ومعه ينتفي شرط وجوب الحجّ وهو الاستطاعة.

٤٢٤

الفصل الخامس

ما هو المرجع فيما لا نصّ فيه

في الفقه الشيعي؟

إنّ المرجع عند الشيعة الإمامية في ما لا نصّ فيه في الكتاب والسنّة وليس فيه إجماع بين الأُمّة ولا يمكن استنباطه من العقل هو الأُصول العملية ، أعني بها :

١. أصالة البراءة.

٢. أصالة الاشتغال.

٣. أصالة التخيير.

٤. الاستصحاب.

٥. الأُصول الخاصة بمورد دون مورد.

وإليك تفصيل مجاري تلك الأُصول.

الأدلّة الشرعية التي يتمسّك بها المستنبط على قسمين :

ألف : أدلّة اجتهادية.

ب. أُصول عملية.

وهذا التقسيم من خصائص الفقه الشيعي ، وأمّا الفرق بينهما فهو :

٤٢٥

إنّ الدليل قد يكون طريقاً إلى الحكم الشرعي إمّا طريقاً قطعياً ، كالكتاب والسنّة المتواترة والإجماع المحصّل وحكم العقل ، أو طريقاً مورثاً للاطمئنان ، كالخبر المستفيض ، وخبر الثقة ، وهذا ما يسمّى بالدليل الاجتهادي أو الأمارات الشرعية.

وأمّا إذا قصرت يد المجتهد عن الدليل الشرعي الموصل إلى الواقع ، وصار شاكاً متحيراً في حكم الواقعة ، فعند ذلك عالج الشارع تحيّر المجتهد بوضع قواعد لها جذور بين العقلاء ، وهذا ما يسمّى بالأُصول العملية ، أو الدليل الفقاهي ، وهي بين أُصول خاصة بباب ، أو عامة شاملة لجميع أبواب الفقه ، فمن القسم الأوّل القواعد التالية :

١. قاعدة الطهارة : كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر.

٢. أصالة الحلية : كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام.

٣. أصالة الصحّة في فعل الغير.

٤. قاعدة التجاوز والفراغ عند الشك في صحّة عمل النفس بعد التجاوز عن محله.

٥. القرعة لكلّ أمر مشكل.

ومن القسم الثاني الأُصول التالية :

١. أصالة البراءة

إذا شكّ في وجوب شيء أو حرمته بعد الفحص عن مظانّه ولم يقف على ما دلّ على وجوبه أو على حرمته ، فالعقل والشرع يحكمان بعدم صحّة العقاب على مخالفته ، وهذا ما يعبر عنه بالبراءة العقلية أو الشرعية.

٤٢٦

أمّا العقلية فلاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان كما عرفت.

وأمّا الشرعية فلقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «رفع عن أُمّتي تسعة : الخطأ والنسيان وما أُكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه ...». (١)

٢. أصالة الاشتغال

إذا علم بوجوب شيء مردّد بين أمرين أو حرمته كذلك ، فالعقل يستقل بالاشتغال والاحتياط بمعنى الإتيان بهما أو ترك كليهما ، لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة القطعية ، فقد تضافر العقل والنقل على الاحتياط.

أمّا العقل ، فلاستقلاله على لزوم تحصيل البراءة بعد الاشتغال اليقيني.

وأمّا الشرع ، فلما ورد في غير واحد من الروايات في أنّ المبتلى بإناءين مشتبهين إذا علم بنجاسة أحدهما يهريقهما ويتيمّم. (٢)

٣. أصالة التخيير

إذا دار حكم الشيء بين الوجوب والحرمة ؛ فبما أنّ التحصيل اليقيني أمر محال ، فهو يتخير بين الأخذ بأحد الحكمين إذا لم يكن أحدهما أهم من الآخر ، وهذا ما يعبر عنه بأصالة التخيير.

٤. الاستصحاب

إذا تيقّن بوجوب شيء ، أو حرمته ، أو طهارته ، أو نجاسته ، ثمّ عرض له الشك في بقاء المتيقّن السابق فيحكم بالبقاء ، وهو أصل عقلائي إجمالاً أمضاه

__________________

(١) الخصال : ٤١٧ ، باب التسعة ، الحديث ٩.

(٢) الوسائل : الجزء ١ ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٨٢.

٤٢٧

الشارع وتضافرت روايات عن أئمّة أهل البيت على حرمة نقض اليقين بالشك.

فهذه هي الأُصول العملية الأربعة المستمدة حكمها من العقل والشرع.

فظهر انّ الأُصول على قسمين ، إمّا خاصة ببعض الأبواب ، أو عامة شاملة لجميع أبواب الفقه.

وبما ذكرنا من أنّ الأُصول العملية الخاصة أو العامة تستمد حكمها من الكتاب أو السنّة أو العقل ، فهي ليست من مصادر التشريع برأسها ، وإنّما ترجع إلى المنابع الأربعة الأُولى ؛ خلافاً لما يتراءى من أهل السنّة ، فجعلوا البراءة أو الاستصحاب في عرض الكتاب والسنّة ، كما جعلوا القياس أيضاً كذلك.

وأمّا أهل السنّة ، فالمرجع عندهم فيما لا نصّ فيه ، هي الأُمور السبعة التالية التي نطرحها على صعيد البحث والدراسة ، في الفصل التالي.

٤٢٨

الفصل السادس

ما هو المرجع فيما لا نصّ

فيه في الفقه السنّيّ؟

قد تعرّفت على ما هو المرجع فيما لا نصّ فيه عند الشيعة الإمامية بقي الكلام في بيان ما هو المرجع عند أهل السنّة فيما لا نصّ فيه.

إنّ قلة النصوص الشرعية في الأحكام هو السبب الرئيسي لالتجاء فقهائهم إلى العمل بالقواعد الظنية ، وهي كالتالي :

١. القياس.

٢. الاستحسان.

٣. المصالح المرسلة (الاستصلاح).

٤. سدّ الذرائع.

٥. فتح الذرائع.

٦. قول الصحابي.

٧. اتّفاق أهل المدينة.

فما ذكرناه من المصادر هي المعروفة بين فقهاء المذاهب الأربعة وإن كان

٤٢٩

بينهم اختلاف في حجّية بعض دون بعض ، فمثلاً القياس قد اتّفقوا على حجّيته جميعاً ، غير الظاهرية في حين انّ المصالح المرسلة قد انفرد بها مالك وإن نسب القول بها إلى غيره كما سيتضح فيما بعد ، فنسبة هذه الأُمور إلى أهل السنّة لا تعني انّهم يعتبرون الجميع على حدّ سواء ، بل انّ بعضها محلّ خلاف بينهم.

٤٣٠

مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة

١ ـ القياس

ظهر القول بالقياس بعد رحيل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لمواجهة الأحداث الجديدة وكان هناك اختلاف حادّ بين الصحابة في الأخذ به ، ولو توفرت بأيديهم نصوص في الموضوع ، لما حاموا حول القياس ، ولكن إعواز النصوص جرّهم إلى القياس لأجل معالجة المشاكل العالقة والمسائل المستحدثة وقد نقل ابن خلدون عن أبي حنيفة انّه لم يصح عنده من أحاديث الرسول إلاّ سبعة عشر حديثاً. (١)

فإذا كان الصحيح عنده هذا المقدار اليسير فكيف يقوم باستنباط الأحكام من الكتاب والسنّة؟ فلم يكن له محيص إلاّ اللجوء إلى القياس ونظائره.

فأئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ ولفيف من الصحابة والتابعين رفضوه ، وأكثروا من ذمّه ، والشيعة عن بكرة أبيهم تبعاً للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأهل بيته أبطلوا العمل بالقياس ، ووافقهم من الفقهاء داود بن خلف ، إمام أهل الظاهر ، وتبعه ابن حزم الأندلسي فلم يقيموا له وزناً ، وأوّل من توسع في القياس هو أبو حنيفة شيخ أهل القياس وتبعه مالك والشافعي وابن حنبل وقال الشافعي : ليس لأحد أبداً أن يقول في

__________________

(١) مقدّمة ابن خلدون : ٤٤٤ ، الفصل السادس في علوم الحديث.

٤٣١

شيء : حل ولا حرم إلاّ من جهة العلم ، وجهة العلم الخبر في الكتاب أو السنّة أو الإجماع أو القياس. (١) وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً :

الأوّل : القياس لغة واصطلاحاً

قال في «لسان العرب» : قاس الشيء يقيسه قَيساً : إذا قدّره على مثاله والمقياس : المقدار. (٢)

ومن ذلك يقال : قاس الثوب بالذراع إذا قدّره به ، وفي كلام عليّ ـ عليه‌السلام ـ : «لا يقاس بآل محمّد من هذه الأُمّة أحد» أي لا يسوّى بهم أحد.

وأمّا اصطلاحاً فيستعمل في موردين ، أحدهما مهجور والآخر ذائع.

الأوّل : التماس العلل الواقعية للأحكام الشرعية من طريق العقل وجعلها مقياساً لصحة النصوص الشرعيّة فما وافقها يحكم عليه انّه حكم الله الذي يُؤخذ به وما خالفها كان موضعاً للرفض أو التشكيك ، وعلى هذا النوع من الاصطلاح تنزّل التعبيرات الشائعة : انّ هذا الحكم موافق للقياس وذلك الحكم مخالف له.

وقد كان القياس بهذا المعنى مثارَ معركة فكرية واسعة النطاق على عهد الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ وبعض فقهاء عصره. وعلى هذا الاصطلاح دارت المناظرة التالية بين الإمام وأبي حنيفة : روى أبو نعيم بسنده عن عمرو بن جميع : دخلتُ على جعفر بن محمد أنا وابن أبي ليلى وأبو حنيفة ، فقال لابن أبي ليلى : من هذا

__________________

(١) الرسالة : ٣٩ ، تحقيق حمد محمد شاكر.

(٢) لسان العرب : مادة قاس.

٤٣٢

معك؟! قال : هذا رجل له بصر ونفاذ في أمر الدين ، قال : «لعلّه يقيس أمر الدين برأيه» إلى أن قال : «يا نعمان ، حدثني أبي عن جدّي انّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : أوّل من قاس أمر الدين برأيه إبليس ، قال الله تعالى له : اسجد لآدم فقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ، فمن قاس الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لأنّه اتّبعه بالقياس». (١)

فالقياس في هذه الرواية منصرف إلى هذا المصطلح حيث إنّ إبليس تمرّد عن الأمر بالسجود ، لأنّه على خلاف قياسه لتخيله انّ الأمر بالسجود يقتضي أن يبتني على أساس التفاضل العنصري ، ولأجل هذا خطّأ الحكم الشرعي لاعتقاده بأنّه أفضل في عنصره من آدم لكونه مخلوقاً من نار وهو مخلوق من طين. (٢)

وعلى هذا الاصطلاح يبتني ما رواه أبان حيث يقول :

قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع امرأة ، كم فيها؟ قال : «عشرة من الإبل» ، قلت : قطع اثنين؟ قال : «عشرون». قلت : قطع ثلاثاً؟ قال : «ثلاثون».

قلت : قطع أربعاً؟ قال : «عشرون».

قلت : سبحان الله! يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون؟! انّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله ، ونقول : إنّ الذي قاله ، الشيطان ، فقال ـ عليه‌السلام ـ : «مهلاً يا أبان! هذا حكم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ انّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثُلث الدية ، فإذا بلغت الثلث رجعت المرأة إلى النصف ، يا أبان انّك

__________________

(١) حلية الأولياء : ٣ / ١٩٧.

(٢) الأُصول العامة للفقه المقارن للسيد محمد تقي الحكيم : ٣١٥. وهو ـ قدس‌سره ـ أوّل من نبّه بوجود اصطلاحين في استعمال القياس.

٤٣٣

أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدين». (١)

إنّما صار أبان إلى تخطئة الخبر الذي وصل إليه حتّى نسبه إلى الشيطان ، لأجل أنّه وجده خلاف ما حصّله وأصّله ، وهو انّه كلّما ازدادت الأصابع المقطوعة تزداد الدية فلمّا سمع قوله «قطع أربعاً ، قال : عشرون» قامت سورته ، إذ وجده مخالفاً للأصل الأصيل عنده ، فردعه الإمام بأنّ هذا هو حكم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وانّ استنكارك قائم على الأخذ بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدين ، وتصحيح الأحكام وتخطئتها حسب الموازين المتخيّلة سبب لمحق الدين ، وأنّى للعقول أن تصل إليها.

هذا أحد المصطلحين في القياس ، وقد صار هذا الاصطلاح مهجوراً في العصور المتأخرة ، والرائج هو الاصطلاح التالي.

الثاني : هو استنباط حكم واقعة ـ لم يرد فيها نصّ ـ عن حكم واقعة ورد فيها نص لتساويهما في علّة الحكم ومناطه وملاكه.

هذا هو القياس الذي وقع معركة للنقاش والجدال ، وما ذكرنا من التعريف أوضح التعاريف وأفضلها ، وقد عرف بتعاريف أُخرى.

١. حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما ، أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة. (٢)

٢. مساواة فرع لأصله في علّة حكمه الشرعي.

إلى غير ذلك من التعاريف.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٩ / ٣٥٢ ؛ القوانين المحكمة : ٢ / ٨٩.

(٢) إرشاد الفحول : ٢ / ١٩٨.

٤٣٤

الثاني : أركان القياس

ثمّ إنّ أركان القياس أربعة :

الأصل : وهو المقيس عليه.

الفرع : وهو المقيس.

الحكم : وهو ما يحكم به على الثاني بعد الحكم به على الأوّل.

العلة : وهي الوصف الجامع ، الذي يجمع بين المقيس والمقيس عليه ، ويكون هو السبب للقياس.

مثلاً إذا قال الشارع : «الخمر حرام» وثبت بطريق انّ علّة التحريم هو الإسكار ، فإذا شككنا في حكم سائر السوائل المسكرة كالنبيذ والفقاع يحكم عليهما بالحرمة ، لاشتراكهما مع الخمر في الجهة الجامعة.

الثالث : إمكان العمل بالقياس

لا شكّ انّ التعبد بالقياس أمر ممكن فللشارع أن يتعبّدنا به كما تعبدنا بالعمل بقول الثقة ، وما ربما يُنسب إلى الشيعة بقولهم بامتناع العمل بالقياس وعدم إمكانه (١) ففي غير موضعه.

وذلك لأنّ القياس كسائر الأدلّة الظنية المشتركة في إمكان التعبّد به ، وإنّما الكلام في وقوعه وعدم ورود النهي عنه ، فالشيعة الإمامية على الثاني.

ويعجبني أن أنقل كلمة لبعض علمائنا السابقين لمناسبتها المقام :

يقول ابن زهرة الحلبي (٥١١ ـ ٥٨٥ ه‍) : ويجوز من جهة العقل التعبّد بالقياس في الشرعيات ، لأنّه يمكن أن يكون طريقاً إلى معرفة الأحكام الشرعية

__________________

(١) المستصفى : ٢ / ٥٦.

٤٣٥

ودليلاً عليها ، ألا ترى أنّه لا فرق في العلم بتحريم النبيذ المسكر مثلاً بين أن ينصَّ الشارع على تحريم جميع المسكر ، وبين أن ينصَّ على تحريم الخمر بعينها ، وينص على أنّ العلّة في هذا التحريم ، الشدة.

ولا فرق بين أن ينصّ على العلة ، وبين أن يدل بغير النص على أنّ تحريم الخمر لشدتها أو ينصب لنا أمارة تغلب في الظن عندها انّ تحريم الخمر لهذه العلّة مع إيجابه القياس علينا في هذه الوجوه كلّها ، لأنّ كلّ طريق منها ، يوصل إلى العلم بتحريم النبيذ المسكر ، ومن منع من جواز ورود العبادة بأحدها كمن صنع من جواز ورودها بالباقي. (١)

الرابع : أقسام القياس

القياس ينقسم إلى منصوص العلة ومستنبطها.

فالأوّل عبارة عمّا إذا نصّ الشارع على علّة الحكم وملاكه على وجه علم انّه علّة الحكم التي يدور الحكم موردها ، لا حكمته التي ربما يتخلّف الحكم عنها.

والثاني : فيما إذا لم يكن هناك تنصيص من الشارع عليها ، وإنّما قام الفقيه باستخراج علّة الحكم بفكره وجُهده ، فيطلق على هذا النوع من القياس ، مستنبط العلّة.

وينقسم مستنبط العلّة إلى قسمين :

تارة يصل الفقيه إلى حد القطع بأنّ ما استخرجه علّة الحكم ومناطه ، وأُخرى لا يصل إلاّ إلى حدّ الظن بكونه كذلك.

__________________

(١) غنية النزوع : ٣٨٦ ، قسم الأُصولين ، الطبعة الحديثة.

٤٣٦

وقلّما يتّفق لإنسان عادي أن يقطع بأنّ ما وصل إليه من العلّة هو علّة التشريع ومناطه واقعاً ، وليس هناك ضمائم أُخرى وراء ما أدرك.

الخامس : الفرق بين علّة الحكم وحكمته

كثيراً ما يختلط على الفقيه علّة الحكم مع حكمته ، والعلّة هي ما يدور الحكم مدارها ، والحكمة أعمّ من ذلك.

وبعبارة أُخرى : لو كان الحكم دائراً مدار الشيء وجوداً وعدماً فهو علّة الحكم ومناطه ، كالإسكار بالنسبة إلى الخمر ، وأمّا إذا كان الحكم أوسع ممّا ذكر في النصّ ، أو استُنبط فهو من حِكَم الأحكام ومصالحه ، لا من مناطاته وملاكاته ، فمثلاً :

وهذا ما سمّوه ب «المناسب المؤثر» يقول خلاف : ولا خلاف بين العلماء في بناء القياس على المناسب المؤثر ويسمّون القياس بناء عليه قياساً في معنى الأصل. (١)

ولعلّ من هذا القبيل قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في الهرة : «إنّها ليست بنجس انّها من الطوافين عليكم والطوافات». (٢) فلو كان المفهوم من الرواية «انّ الطواف» علة الحكم ويدور مدارها ، صحّ إلحاق الحشرات من الفأرة وغيرها بها ، وأمّا لو قلنا بأنّه حكمة الحكم ، لا علّته ، يتوقّف في الإلحاق.

نعم الإنجاب وتشكيل الأُسرة من فوائد النكاح ومصالحه ، وليس من مناطاته وملاكاته ، بشهادة انّه يجوز تزويج المرأة العقيمة واليائسة ومن لا تطلب ولداً بالعزل ، وغير ذلك من أقسام النكاح.

__________________

(١) مصادر التشريع فيما لا نص فيه : ٤٥.

(٢) سنن الترمذي : ١ / ١٥٤ ، كتاب الطهارة ، ح ٩٢.

٤٣٧

ولنذكر مثالاً آخر : قال سبحانه : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). (١)

ففرض سبحانه على المطلّقة تربّص ثلاثة قروء بُغية استعلام حالها من حيث الحمل وعدمه ، وأضاف سبحانه بأنّها لو كانت حاملاً فعدتها أن تضع حملها ، قال سبحانه : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ). (٢)

ولكن استعلام حال المطلّقة ليس ضابطاً للحكم ولا ملاكاً له ، بل من حِكَمِه ، بشهادة انّه لو غاب زوجها عنها مدّة سنة أو أقلّ أو أكثر فطلّقها يجب عليها التربّص مع العلم بعدم حملها منه.

كلّ ذلك يعرب عن أنّ بعض ما ورد في الشرع بصورة العلّة ، ربما تكون حكمة ومصلحة.

قال أبو زهرة : الفارق بين العلّة والحكمة ، هو انّ الحكمة غير منضبطة بمعنى انّها وصف مناسب للحكم يتحقّق في أكثر الأحوال ، وأمّا العلة فهي وصف ظاهر منضبط محدود ، أقامه الشارع أمارة على الحكم. (٣)

السادس : حكم القياس في منصوص العلّة

العمل بالقياس في منصوص العلّة راجع في الحقيقة إلى العمل بالسنّة ، لا بالقياس ، لأنّ الشارع شرّع ضابطة كلية عند التعليل فنسير على ضوئها في جميع الموارد التي تمتلك تلك العلة.

نفترض انّه ورد في الحديث : «الخمر حرام لأنّه مسكر» فإلحاق غير الخمر

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

(٢) الطلاق : ٤.

(٣) أُصول الفقه لأبي زهرة : ٢٢٣ و ٢٣٣.

٤٣٨

من سائر المسكرات عليه ليس عملاً بالقياس المصطلح ، بل عمل بالسنّة الشريفة والضابطة الكلية التي أدلى بها الشارع.

وعلى ضوء ذلك فما يلحق من الفروع بالأصل المنصوص ليس قياساً أوّلاً بل عمل بالسنّة ، وعلى افتراض كونه عملاً بالقياس فهو خارج عن محل النزاع ثانياً ، وقد أطبق مشايخنا الإمامية على العمل بمنصوص العلّة.

توضيحه : إذا كان استخراج الحكم غير متوقّف إلاّ على فهم النص بلا حاجة إلى اجتهاد ، فهو عمل بالظاهر ، بخلاف ما إذا كان متوقفاً وراء فهم النص إلى بذل جهد ، والوقوف على المناط ثمّ التسوية ثمّ الحكم ، قال سبحانه : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ). (١) فلا نحتاج في فهم حكم الخير الكثير إلاّ إلى فهم مدلول الآية.

ولنذكر مثالاً من طريقنا.

روى محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الإمام الرضا ـ عليه‌السلام ـ ، أنّه قال : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء ، إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه فيُنزح حتّى يذهب الريح ، ويطيب طعمه لأنّ له مادة». (٢)

فإنّ قوله : «لأنّ له مادة» بما أنّه تعليل لقوله : «لا يفسده شيء» يكون حجّة في غير ماء البئر أيضاً ، فيشمل التعليل بعمومه ، ماءَ البئر ، وماءَ الحمام والعيون وحنفيةَ الخزّان وغيرها فلا ينجس الماء إذا كان له مادة ، فالعمل عندئذ بظاهر السنّة لا بالقياس ، فليس هناك أصل ولا فرع ولا انتقال من حكم الأصل إلى الفرع

__________________

(١) الزلزلة : ٧.

(٢) وسائل الشيعة : ١ ، الباب ١٤ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٦.

٤٣٩

بل موضوع الحكم هو العلة والفروع بأجمعها داخلة تحته.

وعلى ضوء ما ذكرنا ، يكون العمل بالملاك المنصوص عملاً بظاهر السنّة لا بالقياس ، وأمّا المجتهد فعمله تطبيق الضابطة التي أعطاها الشارع على جميع الموارد دفعة واحدة فليس هناك أصل ولا فرع ولا انتقال من حكم الأصل إلى الفرع ، بل موضوع الحكم هو العلة والفروع بأجمعها داخلة تحتها.

وإن شئت قلت : هناك فرق بين استنباط الحكم عن طريق القياس وبين استنباط الحكم عن طريق تطبيق القاعدة المعطاة على مواردها.

ففي الأوّل أي استنباط الحكم من طريق القياس ، يتحمل المجتهد جُهداً في تخريج المناط ، ثمّ يجعل الموضوع الوارد في الدليل أصلاً ، والذي يريد إلحاقه به فرعاً وأمّا الثاني فيكفي فيها فهم النصّ لغة بلا حاجة إلى الاجتهاد ، ولا إلى تخريج المناط فيكون النص دالاّ على الحكمين بدلالة واحدة.

يقول سبحانه : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) (١) دلت الآية على وجوب الاعتزال في المحيض ، وعلّل بكونه أذى ، فلو دلّت الآية على كونه تمام الموضوع للحكم فيتمسك بها في غير المحيض إذا كان المسّ أذى كالنفاس وليس ذلك في العمل بالقياس بل من باب تطبيق الضابطة على مواردها.

السابع : قياس الأولوية

إذا كان ثبوت الحكم في الفرع أولى من ثبوته في الأصل لقوة العلّة المفهومة فيه بطريق النص فهو قياس الأولوية ، وهو حجّة على الإطلاق وهو أيضاً عمل

__________________

(١) البقرة : ٢٢٢.

٤٤٠