الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-062-2
الصفحات: ٦٢٨

٨

أقسام التقية

تنقسم التقية حسب انقسام الأحكام إلى خمسة ، والمهم هو الإشارة إلى الأقسام الثلاثة :

١. التقية الواجبة : وهي ما كانت لدفع الخوف على نفس أو عرض محترمين ، أو ضرر لا يتحمل عن نفسه أو غيره من المؤمنين.

٢. التقية المندوبة : وهي ما كانت لدفع ما يرجح دفعه من ضرر يسير يتحمّل عادة ، سواء تعلق بنفسه أو بغيره.

٣. التقية المحرمة وهي ما يترتّب عليها مفسدة أعظم ، كهدم الدين وخفاء الحقيقة على الأجيال الآتية ، وتسلّط الأعداء على شئون المسلمين وحرماتهم ومعابدهم ، ولأجل ذلك ترى أنّ كثيراً من أكابر الشيعة رفضوا التقية في بعض الأحيان وقدّموا أنفسهم وأرواحهم أضاحي من أجل الدين ، فللتقية مواضع معينة ، كما أنّ للقسم المحرم منها مواضع خاصة أيضاً.

إنّ التقية في جوهرها كتم ما يحذر من إظهاره حتى يزول الخطر ، فهي أفضل السبل للخلاص من البطش ، ولكن ذلك لا يعني أنّ الشيعي جبان خائر العزيمة ، خائف متردّد الخطوات يملأ حناياه الذل ، كلاّ إنّ للتقية حدوداً لا

٣٢١

تتعداها ، فكما هي واجبة في حين ، هي حرام في حين آخر ، فالتقية أمام الحاكم الجائر كيزيد بن معاوية مثلاً محرّمة ، إذ فيها الذل والهوان ونسيان المُثُل والرجوع إلى الوراء ، فليست التقية في جوازها ومنعها تابعة للقوّة والضعف ، وإنّما تحددها جوازاً ومنعاً مصالح الإسلام والمسلمين.

إنّ للإمام الخميني ـ قدّس الله سرّه ـ كلاماً في المقام ننقله بنصّه حتى يقف القارئ على أنّ للتقية أحكاماً خاصة وربّما تحرم لمصالح عالية. قال ـ قدّس الله سرّه ـ :

تحرم التقية في بعض المحرّمات والواجبات التي تمثّل في نظر الشارع والمتشرّعة مكانة بالغة ، مثل هدم الكعبة ، والمشاهد المشرّفة ، والرد على الإسلام والقرآن والتفسير بما يفسد المذهب ويطابق الإلحاد وغيرها من عظائم المحرّمات ، ولا تعمّها أدلة التقية ولا الاضطرار ولا الإكراه.

وتدلّ على ذلك معتبرة مسعدة بن صدقة وفيها : «فكلّ شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية ممّا لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز». (١)

ومن هذا الباب ما إذا كان المتقي ممن له شأن وأهمية في نظر الخلق ، بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرّمات تقية أو تركه لبعض الواجبات كذلك مما يعد موهناً للمذهب وهاتكاً لحرمه ، كما لو أُكره على شرب المسكر والزنا مثلاً ، فإنّ جواز التقية في مثله متمسّكاً بحكومة دليل الرفع (٢) وأدلّة التقية مشكل بل ممنوع ، وأولى من ذلك كلّه في عدم جواز التقية ، ما لو كان أصل من أُصول الإسلام أو المذهب أو ضروري من ضروريات الدين في معرض الزوال والهدم والتغيير ، كما لو

__________________

(١) الوسائل : ١٠ ، الباب ٢٥ من أبواب الأمر والنهي ، الحديث ٨.

(٢) الوسائل : ١٠ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ١.

٣٢٢

أراد المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الإرث والطلاق والصلاة والحج وغيرها من أُصول الأحكام فضلاً عن أُصول الدين أو المذهب ، فإنّ التقية في مثلها غير جائزة ، ضرورة أنّ تشريعها لبقاء المذهب وحفظ الاصول وجمع شتات المسلمين لإقامة الدين وأُصوله ، فإذا بلغ الأمر إلى هدمها فلا تجوز التقية ، وهو مع وضوحه يظهر من الموثقة المتقدمة. (١)

وعلى ضوء ما تقدّم ، نخرج بالنتائج التالية :

١. إنّ التقية أصل قرآني مدعم بالسنّة النبوية ، وقد عمل بها في عصر الرسالة من ابتلي من الصحابة ، لصيانة نفسه ، فلم يعارضه الرسول ، بل أيّده بالنص القرآني كما في قضية عمّار بن ياسر ، حيث أمره ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بالعودة إذا عادوا.

٢. انّ التقيّة ليست بمعنى تشكيل جماعات سرية لغاية التخريب والهدم ، وهذا لا يمتّ إلى التقية بصلة.

٣. اتّفق المفسّرون عند التعرّض لتفسير الآيات الواردة في التقية على ما ذهبت إليه الشيعة من إباحتها للتقية.

٤. تنقسم التقية حسب انقسام الأحكام إلى أقسام خمسة ، فبينما هي واجبة في موضع ، تجدْها محرّمة في موضع آخر.

٥. إنّ مجال التقية لا يتجاوز القضايا الشخصية ، وهي فيما إذا كان الخوف قائماً ، وأمّا إذا ارتفع الخوف والضغط ، فلا مجال للتقية.

وفي ختام هذا البحث نقول :

نفترض أنّ التقية جريمة يرتكبها المتقي لصيانة دمه وعرضه وماله ، ولكنّها

__________________

(١) رسالة في التقية مطبوعة ضمن الرسائل العشر : ١٤ ، باب حول موارد استثنيت من الأدلّة.

٣٢٣

في الحقيقة ترجع إلى السبب الذي يفرض التقيّة على الشيعي المسلم ويدفعه إلى أن يتظاهر بشيء من القول والفعل الذي لا يعتقد به ، فعلى من يعيب التقية للمسلم المضطهد ، أن يسمح له بالحرية في مجال الحياة ويتركه بحاله ، وأقصى ما يصح في منطق العقل ، أن يسأله عن دليل عقيدته ومصدر عمله ، فإن كان على حجّة بيّنة يتبعه ، وإن كان على خلافها يعذره في اجتهاده وجهاده العلمي والفكري.

نحن ندعو المسلمين للتأمّل في الدواعي التي دفعت بالشيعة إلى التقية ، وأن يعملوا قدر الإمكان على فسح المجال لإخوانهم في الدين فإنّ لكل فقيه مسلم ، رأيَه ونظرَه ، وجهدَه وطاقتَه.

إنّ الشيعة يقتفون أثر أئمّة أهل البيت في العقيدة والشريعة ، ويرون رأيهم ، لأنّهم هم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، وأحد الثقلين اللّذين أمر الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بالتمسّك بهما في مجالي العقيدة والشريعة ، وهذه عقائدهم لا تخفى على أحد ، وهي حجّة على الجميع.

نسأل الله سبحانه ، أن يصون دماء المسلمين وأعراضهم عن تعرض أي متعرض ، ويوحّد صفوفهم ، ويؤلّف بين قلوبهم ، ويجمع شملهم ، ويجعلهم صفّاً واحداً في وجه الأعداء ، إنّه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.

٣٢٤

٩

شبهات حول التقية

لقد تعرفت على حقيقة التقية : لغة واصطلاحاً وتاريخاً ، كما تعرفت على أدلّتها من الكتاب والسنّة وظهر انّ سيرة المسلمين جرت على ممارسة التقية عند الشدة ، وبقيت ثمّة شبهات تدور حول التقية ، نطرحها على طاولة البحث.

الشبهة الأُولى : التقية من شعب النفاق

إذا كانت التقية إظهارَ ما يُضمر القلبُ خلافَه أو ارتكاب عمل يخالف العقيدة ، فهي إذن شعبة من شعب النفاق ، لأجل انّ النفاق عبارة عن التظاهر بشيء على خلاف العقيدة.

والجواب عنها واضح : لأنّ مفهوم التقية في الكتاب والسنّة هو إظهار الكفر وإبطان الايمان ، أو التظاهر بالباطل وإخفاء الحق ، وإذا كان هذا مفهومها ، فهي تقابل النفاق ، تقابلَ الإيمان والكفر ، فانّ النفاق ضدها وخلافها ، فهو عبارة عن إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، والتظاهر بالحق وإخفاء الباطل ، ومع وجود هذا التباين بينهما فلا يصحّ عدّها من فروع النفاق.

وبعبارة أُخرى : انّ النفاق في الدين ستر الكفر بالقلب ، وإظهار الإيمان

٣٢٥

باللسان ، وأين هذا من التقية التي هي على العكس تماماً (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فهي إظهار الكفر وإخفاء الإيمان وستره بالقلب ، وأمّا تقية الشيعة فهي تَكْمُنُ في إخفاء الاعتقاد بالإمامة والولاية لأهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ يعني ستر التشيع مع التظاهر بموافقة الآخرين في عقيدتهم تجاه الإمامة وفي الوقت نفسه يشاركون المسلمين في الشهادتين والإيمان بالقيامة ، ويمارسون العبادات ويعملون بالفروع ويعتقدون ذلك بقلوبهم ويعيشون هذه العقيدة بوجدانهم وبأرواحهم.

نعم من فسر النفاق بمطلق مخالفة الظاهر للباطن وبه صوّر التقية ـ الواردة في الكتاب والسنّة ـ من فروعه ، فقد فسره بمفهوم أوسع ممّا هو عليه في القرآن ، فانّه يعرف المنافقين بالمتظاهرين بالإيمان والمبطنين للكفر بقوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (١) فإذا كان هذا حدّ المنافق فكيف يعمّ من يستعمل التقية تجاه الكفار والعصاة فيُخفي إيمانه أو عقيدته في ولاء أهل البيت ويظهر الموافقة لغاية صيانة النفس والنفيس والعرض والمال من التعرض؟!

ويظهر صدق ذلك إذا وقفنا على ورودها في التشريع الإسلامي ، ولو كانت من قسم النفاق ، لكان ذلك أمراً بالقبيح ويستحيل على الحكيم أن يأمر به (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). (٢)

الشبهة الثانية : لما ذا عُدَّت التقية من أُصول الدين؟

قد نقل عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ انّهم قالوا : التقية ديني ودين آبائي ، ولا

__________________

(١) المنافقون : ١.

(٢) الأعراف : ٢٨.

٣٢٦

دين لمن لا تقية له. (١)

وظاهر هذه الروايات انّ الاعتقاد بالتقية وتطبيق العمل على ضوئها من أُصول الدين فمن لم يتق فقد خرج عن الدين وليس له من الإيمان نصيب.

يلاحظ عليه : بأنّ التقية من الموضوعات الفقهية ، تخضع كسائر الموضوعات للأحكام الخمسة ، فتارة تجب وأُخرى تحرم ، وثالثة ... ، ومعه كيف يمكن أن تكون من أُصول الدين ، وقد ذكرها فقهاء الشيعة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وأمّا الروايات التي عدتها من الدين فهي من باب الاستعارة وغايتها ، التأكيد على أهميتها وتطبيقها في الحياة لصيانة النفس والنفيس ، وبما انّ بعض الشيعة كانوا يجاهرون بعقائدهم وشعائرهم ، الأمر الذي يؤدي إلى إلقاء القبض عليهم وتعذيبهم وإراقة دمائهم ، فالإمام وللحيلولة دون وقوع ذلك يقول بأنّ (التقية ديني ودين آبائي) لحثّهم على الاقتداء بهم ، وأمّا ما ورد في الحديث «لا دين لمن لا تقيّة له» فالغاية التأكيد على الالتزام بالتقيّة ، نظير قوله : لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد.

وبعبارة أُخرى : ليس المراد من الدين هو الأُصول العامة كالتوحيد والنبوة والمعاد التي بالاعتقاد بها يرد إلى حظيرة الإسلام وبإنكارها أو إنكار واحد منها أو إنكار ما يلازم إنكار أحد الأُصول الثلاثة يخرج عنها ، وإنّما المراد به هو الشأن الذي يتعبد به الإمام ويعمل بدين الله ، فقوله : «التقية ديني ودين آبائي» أي هو من شئوننا أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ فاقتدوا بنا ، وأمّا من يتصور انّ التقية تمس كرامته فهو إنسان جاهل خارج عن هذا الشأن الذي عليه تدين الأئمة به.

__________________

(١) الوسائل : ١٠ ، الباب ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف ، الحديث ٣ ، ٢٢.

٣٢٧

الشبهة الثالثة : التقية تؤدي إلى محق الدين

إذا مارست جماعةٌ التقية فترة طويلة في أُصول الدين وفروعه ، ربما يتجلى للجيل المقبل بأنّ ما مارسه آباؤهم من صميم الدين وواقعه ، فعند ذلك تنتهي التقية إلى محق الدين واندثاره.

يلاحظ عليه : أنّ الظروف مختلفة وليست على منوال واحد ، فربما يشتد الضغط فلا يجد المحقّ مجالاً للإعراب عن رأيه وعقيدته وشريعته ، وقد تتبدّل الظروف إلى ظروف مناسبة تسمح بممارسة الشعائر بكلّ حرية ، وقد عاشت الشيعة بين الحين والآخر في هذه الظروف المختلفة ، وبذلك صانت أُصولها وفروعها وثقافتها والله سبحانه هو المعين لحفظ الدين وشريعته.

وبعبارة أُخرى : انّ للتقية سيطرة على الظاهر دون الباطن ، فالأقلّية التي صودرت حرياتها يمارسونها في الظاهر ، وأمّا في المجالس الخاصة فيقومون بواجبهم على ما هو عليه ويربّون أولادهم على وفق التعاليم التي ورثوها عن آبائهم عن أئمتهم.

ولو افترضنا انّ مراعاة التقية فترة طويلة تنتهي إلى محق الدين فالتقية عندئذ تكون محرمة يجب الاجتناب عنها. وقد مرّ انّ التقية لها أحكام خمسة ، فالتقية المنتهية إلى محق الدين محظورة.

الشبهة الرابعة : التقية تؤدي إلى تعطيل الأمر بالمعروف

إنّ التقية فكرة تحوّل المسلم إلى إنسان يتعايش مع الأمر الواقع على ما فيه من ظلم وفساد وانحراف ، فتعود إلى الرضا بكلّ ما يحيط بها من الظلم والفساد

٣٢٨

والانحراف.

يلاحظ عليه : أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروط بالتمكن منه ، فمرتبة منه وظيفة الفرد وهو الأمر بالمعروف بكراهية القلب واللسان ، ومرتبة منه وظيفة المجتمع وعلى رأسه الدولة صاحبة القدرة والمنعة ، فالممارس للتقية يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حسب مقدرته ولو لا القدرة فلا حكم عليه ، لأنّ الله سبحانه لا يكلف نفساً إلاّ وسعها.

ومع ذلك فالممارس للتقية يتحيّن الفرص للانقضاض على الواقع الفاسد وتغييره ، فلو ساعدته الظروف على هذا التغيير فحينها يتخلّى عن التقية ويجاهر بالحقّ قولاً وعملاً.

الشبهة الخامسة : التقية من المسلم من البدع

ربما يتصور انّ التقية من اختلافات الشيعة وانّها لا دليل عليها من الكتاب والسنّة ، وذلك لأنّ الآيات الواردة في التقية ترجع إلى اتّقاء المسلم من الكافر ، وأمّا اتّقاء المسلم من المسلم فهذا ما لا دليل عليه من الكتاب والسنة.

الجواب

إنّ مورد الآيات وإن كان هو اتّقاء المسلم من الكافر ، ولكن المورد كما هو المسلم لا يكون مخصِّصاً ، إذ ليس الغرض من تشريع التقية عند الابتلاء بالكفار إلاّ صيانة النفس والنفيس من الشر ، فإذا ابتُلي المسلم بأخيه المسلم الذي يخالفه في بعض الفروع ولا يتردد الطرف القوي عن إيذاء الطرف الآخر ، كأن ينكل به أو ينهب أمواله أو يقتله ، ففي تلك الظروف الحرجة يحكم العقل السليم بصيانة

٣٢٩

النفس والنفيس عن طريق كتمان العقيدة واستعمال التقية ، ولو كان هناك وزر فإنّما يحمله من يُتّقى منه لا المتّقي. ونحن نعتقد أنّه إذا سادت الحرية جميع الفرق الإسلامية ، وتحمّلت كل فرقة آراء الفرقة الأُخرى لوقفت على أنّ الرأي الآخر هو نتيجة اجتهادها ، وعندها لا يضطر أحد من المسلمين إلى استخدام التقية ، ولساد الوئام مكان النزاع.

وقد فهم ذلك لفيف من العلماء وصرّحوا به ، وإليك نصوص بعضهم :

١. قال الشافعي : تجوز التقية بين المسلمين كما تجوز بين الكافرين محاماة عن النفس. (١)

٢. يقول الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) : ظاهر الآية يدل على أنّ التقية إنّما تحل مع الكفّار الغالبين ، إلاّ أنّ مذهب الشافعي ـ رضي‌الله‌عنه ـ : أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين حلّت التقية محاماة عن النفس ، وقال : التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» ، وقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «من قتل دون ماله فهو شهيد». (٢)

٣. ينقل جمال الدين القاسمي عن الإمام مرتضى اليماني في كتابه «إيثار الحق على الخلق» ما نصّه : وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران : أحدهما : خوف العارفين ـ مع قلّتهم ـ من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن ، وإجماع أهل الإسلام ، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق ، ولا برح المحق عدوّاً لأكثر الخلق ، وقد صحّ عن أبي هريرة ـ رضي الله

__________________

(١) تفسير النيسابوري في هامش تفسير الطبري : ٣ / ١٧٨.

(٢) مفاتيح الغيب : ٨ / ١٣ في تفسير الآية.

٣٣٠

عنه ـ أنّه قال ـ في ذلك العصر الأوّل ـ : حفظت من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وعاءين ، أمّا أحدهما فبثثته في الناس ، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. (١)

٤. وقال المراغي في تفسير قوله سبحانه : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) : ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة ، وإلانة الكلام لهم ، والتبسّم في وجوههم ، وبذل المال لهم ، لكف أذاهم وصيانة العرض منهم ، ولا يعد هذا من الموالاة المنهي عنها ، بل هو مشروع ، فقد أخرج الطبراني قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «ما وَقَى المؤمن به عرضَه فهو صدقة». (٢)

إنّ الشيعة تتقي الكفّار في ظروف خاصة لنفس الغاية التي لأجلها يتّقيهم السنّي ، غير أنّ الشيعي ولأسباب لا تخفى ، يلجأ إلى اتّقاء أخيه المسلم لا لتقصير في الشيعي ، بل في أخيه الذي دفعه إلى ذلك ، لأنّه يدرك أنّ الفتك والقتل مصيره إذا صرّح بمعتقده الذي هو عنده موافق لأُصول الشرع الإسلامي وعقائده ، نعم كان الشيعي وإلى وقت قريب يتحاشى أن يقول : إنّ الله ليس له جهة ، أو أنّه تعالى لا يُرى يوم القيامة ، وإنّ المرجعية العلمية والسياسية لأهل البيت بعد رحلة النبي الأكرم ، أو أنّ حكم المتعة غير منسوخ. إنّ الشيعي إذا صرّح بهذه الحقائق ـ التي استنبطت من الكتاب والسنّة ـ سوف يُعرّض نفسه ونفيسه للمهالك والمخاطر. وقد مرّ عليك كلام الرازي وجمال الدين القاسمي والمراغي الصريح في جواز هذا النوع من التقية ، فتخصيص التقية بالتقية من الكافر فحسب ، جمود على ظاهر الآية وسد لباب الفهم ، ورفض للملاك الذي شُرّعت لأجله التقية ، وإعدام لحكم العقل القاضي بحفظ الأهم إذا عارض المهم.

__________________

(١) محاسن التأويل : ٤ / ٨٢.

(٢) تفسير المراغي : ٣ / ١٣٦.

٣٣١

وقد مرّ الكلام عن لجوء جملة من كبار المحدّثين إلى التقية في ظروف عصيبة أوشكت أن تؤدي بحياتهم وبما يملكون ، وخير مثال على ذلك ما أورده الطبري في تاريخه (١) عن محاولة المأمون دفع وجوه القضاة والمحدّثين في زمانه إلى الإقرار بخلق القرآن قسراً وقد علموا انّ إنكاره يستعقب قتل الجميع دون رحمة ، ولما أبصر أُولئك المحدّثون لَمَعان ، حد السيف عمدوا إلى مصانعة المأمون في دعواه وأسرّوا معتقدهم في صدورهم ، ولمّا عُوتبوا على ما ذهبوا إليه من موافقة المأمون برّروا عملهم بعمل عمّار بن ياسر حين أُكره على الشرك وقلبه مطمئن بالإيمان ، والقصّة شهيرة وصريحة في جواز اللجوء إلى التقية التي دأب البعض بالتشنيع فيها على الشيعة وكأنّهم هم الذين ابتدعوها من بنات أفكارهم دون أن تكون لها قواعد وأُصول إسلامية ثابتة ومعلومة.

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٧ / ٢٠٦١٩٥.

٣٣٢

١٠

الآثار البنّاءة للتقية

إذا ساد الاستبداد المجتمعَ الإنساني وصودرت فيه الحريات وهُضمت فيه الحقوق وأُخمدت فيه أصوات الأحرار ، فحينئذ لا تجد الأقلية المهضومة ، حيلة سوى اللجوء إلى التقية والتعايش مع الأمر الواقع ، وهذا الأمر وان يتلقّاه البعض أمراً مرغوباً عنه ، ولكن الإمام أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ ـ كما سيوافيك كلامه ـ يصفه بأنّه رخصة من الله تفضّل الله بها على المؤمنين. كيف وقد يترتّب على ممارسة التقية آثار بنّاءة تتلخّص في الأُمور التالية :

١. حفظ النفس والنفيس

إنّ ممارسة التقية والمداراة مع الظالم المستبد يصون الأقلية من البطش والكبت والقتل ومصادرة الأموال بخلاف عدم ممارستها فانّه يعرِّضها للقتل والفناء ، ولذلك يعبر عنها بالترس والجُنّة ، قال الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ التقية ترس المؤمن ، ولا إيمان لمن لا تقية له». (١)

وقال ـ عليه‌السلام ـ : «كان أبي يقول : وأي شيء أقرّ لعيني من التقية ، انّ التقية جُنّة المؤمن». (٢)

__________________

(١) الوسائل : ١١ ، الباب ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف ، الحديث ٤ و ٦.

(٢) الوسائل : ١١ ، الباب ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف ، الحديث ٤ و ٦.

٣٣٣

روى شيخنا المفيد قال : كتب علي بن يقطين (الوزير الشيعي للرشيد) إلى الإمام الكاظم ـ عليه‌السلام ـ يسأله عن الوضوء؟ فكتب إليه أبو الحسن ـ عليه‌السلام ـ : «فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء ، والذي آمرك به في ذلك أن تمضمض ثلاثاً ، وتستنشق ثلاثاً ، وتغسل وجهك ثلاثاً ، وتخلّل شعر لحيتك ، وتغسل يديك من أصابعك إلى المرفقين ثلاثاً ، وتمسح رأسك كلّه ، وتمسح ظاهر أُذنيك وباطنهما ، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثاً ، ولا تخالف ذلك إلى غيره.

فلمّا وصل الكتاب إلى علي بن يقطين تعجب مما رسم له أبو الحسن ـ عليه‌السلام ـ فيه ممّا أجمع العصابة على خلافه ، ثمّ قال : مولاي أعلم بما قال : وأنا أمتثل أمره ، فكان يعمل في وضوئه على هذا الحد ، ويخالف ما عليه جميع الشيعة امتثالاً لأمر أبي الحسن ـ عليه‌السلام ـ ، وسُعِيَ بعلي بن يقطين إلى الرشيد ، وقيل : إنّه رافضي ، فامتحنه الرشيد من حيث لا يشعر ، فلمّا نظر إلى وضوئه ناداه : كذب يا علي بن يقطين من زعم أنّك من الرافضة ، وصلحت حاله عنده ، وورد عليه كتاب أبي الحسن ـ عليه‌السلام ـ : «ابتدأ من الآن يا علي بن يقطين وتوضّأ كما أمرك الله تعالى ، اغسل وجهك مرة فريضة وأُخرى إسباغاً واغسل يديك من المرفقين كذلك ، وامسح بمقدم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك ، فقد زال ما كنّا نخاف منه عليك ، والسلام». (١)

ترى أنّ الإمام أنقذ علي بن يقطين من الموت من خلال أمره بالتقية وكم له في التاريخ من نظير ، وكفى شاهداً قصة عمّار وأبيه وأُمّه المتقدّمة.

__________________

(١) الوسائل : ١ ، الباب ٣٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٣.

٣٣٤

٢. حفظ وحدة الأُمّة

لا شكّ انّ وحدة الكلمة هي مصدر قوة الأُمّة وازدهارها ، وهي حبل الله الوثيق الذي لا بدّ من الاعتصام به ، حيث قال في محكم كتابه : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا). (١)

فقد عدّ سبحانه التفريق والتشرذم والتشتت عذاباً يستأصل الأُمّة ويستنفد قواها ، قال سبحانه : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ). (٢)

إلى غير ذلك من الآيات الحاثّة على الوحدة والمحذِّرة من التفرق والتبدد.

وتشريع التقية يعين على الوحدة ويمسك الأُمة عن التبدد ، فلذلك يصفها الإمام بأنّها «رخصة تفضّل بها الله على المؤمنين رحمة لهم».

وهذا لا يعني الإفراط في ممارسة التقية حتّى إذا توفرت الفرص المناسبة للتعبير عن رأيه ومنهجه ، فعند ذلك تحرم التقية ، لأنّه يترتب عليها طمس الدين وكتمان الحقيقة.

٣. الحفاظ على القوى من الاستنزاف

إنّ الجماعة المهضومة ، بممارسة التقية تحمي قواها وطاقاتها من الاستنزاف ، وبالتالي تربّي جماعة واعية لأهدافها ، فإذا هبّ على مجتمعها نسيم الحرية فيتيسّر عندها أن تُجاهر بأفكارها وآرائها دون أي خوف أو وجل وتطالب بحقوقها ، وهذا من آثار التقية حيث صانت الجماعة الضعيفة من استنزاف قواها.

__________________

(١) آل عمران : ١٠٣.

(٢) الأنعام : ٦٥.

٣٣٥

وبما انّ هذه الآثار البنّاءة تعبير واضح للرحمة ، التي أشار إليها الإمام أمير المؤمنين ، نأتي بنص كلمته :

روى الشريف المرتضى في رسالة «المحكم والمتشابه» نقلاً عن «تفسير النعماني» عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال : «وانّ الله منّ على المؤمن بإطلاق الرخصة له عند التقية في الظاهر ، أن يصوم بصيامه ويفطر بإفطاره ويصلّي بصلاته ويعمل بعمله ويظهر له استعمال ذلك ، موسعاً عليه فيه ، وعليه أن يدين الله تعالى في الباطن بخلاف ما يظهر لمن يخافه من المخالفين المستولين على الأُمّة ، فهذه رخصة تفضّل الله بها على المؤمنين رحمة لهم ليستعملوها عند التقية في الظاهر». (١)

__________________

(١) الوسائل : ١ ، الباب ٢٥ من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث ١.

٣٣٦

١١

موقف أئمة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ من التقية

إنّ أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ خلفاء الرسول في الخلافة والإمامة ، فهم ساسة العباد في حقل قيادة المجتمع إلى المنهج المهيع ، والمرجع العلمي في تفسير الكتاب والسنّة وما تحتاج إليه الأُمّة إلى يوم القيامة في حقل الأحكام ، هذا عندنا وأمّا غيرنا ، فقد اتّفقت كلمة الأُمّة على أنّ العترة الطاهرة باب علم النبي بحكم حديث الثقلين ، ولذلك يرجع إليهم الموافق والمخالف في حلّ المشاكل العقائدية والتشريعية.

فأئمّة المذاهب الأربعة وغيرهم من التابعين قد نهلوا من نمير علومهم ، ولا يشكّ في ذلك مَن له أدنى إلمام بتاريخ الحديث والفقه ، ولا يسع المقام هنا لبيان التفصيل.

وينبغي أن يعلم أنّ أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ لم يمارسوا التقية في حياتهم الشخصية إلاّ في المجالات السياسية التي تمس سياسة الخلفاء ، ولم تكن لديهم أيّة خشية في الإفصاح عن أفكارهم وآرائهم أمام فقهاء عصرهم ، كيف وانّ الفقهاء والمحدّثين كلّهم كانوا معترفين بفضلهم ومغترفين من علومهم ، وكانوا عيالاً عليهم ، وبذلك يظهر ما ينسب إلى الأئمّة من التقية في حياتهم لا يجانب

٣٣٧

الصواب.

نعم كانوا يمارسون التقية في الأُمور التي تتعلّق بالسلطان ولا يخالفونه.

روى الصدوق بسند صحيح عن عيسى بن أبي منصور أنّه قال : كنت عند أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ في اليوم الذي يشك فيه ، فقال : يا غلام اذهب فانظر أصام السلطان أم لا؟ فذهب ثمّ عاد فقال : لا ، فدعا بالغداء فتغدّينا. (١)

وهنا سؤال يطرح نفسه وهو انّه لا يشكّ مَن أمعن في الأخبار المروية عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ انّهم كانوا يفتون ـ في بعض الموارد ـ على وفق آراء فقهاء عصرهم تقية مع أنّ الحكم الواقعي لديهم غير ذلك ، فما هو الوجه في الإفتاء بالتقية؟

والجواب : انّ الإفتاء بالتقية لم يكن لأجل الحفاظ على أنفسهم من القتل والتعذيب ، وإنّما كان الغرض صيانة شيعتهم من أن يُعرَّضوا ويُؤخذوا لمخالفتهم الرأي العام في حقل العقيدة والشريعة ، ولما قلناه شواهد كثيرة في تاريخ الحديث والفقه ، نكتفي بهذين الحديثين :

١. روى سلمة بن محرز قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : إنّ رجلاً مات وأوصى إليّ بتركته وترك ابنته ، قال : فقال لي : «أعطها النصف» ، قال : فأخبرت زرارة بذلك ، فقال لي : اتّقاك إنّما المال لها ، قال : فدخلت عليه بعدُ ، فقلت : أصلحك الله! إنّ أصحابنا زعموا أنّك اتّقيتني فقال : «لا والله ما اتّقيتك ، ولكنّي اتّقيت عليك أن تُضْمن ، فهل علم بذلك أحد؟» قلت : لا ، قال : «فاعطها ما بقي». (٢)

__________________

(١) الوسائل : ٧ ، الباب ٧٥ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ١.

(٢) الوسائل : ١٧ ، الباب ٤ من أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، الحديث ٣.

٣٣٨

٢. روى عبد الله بن محرز بياع القلانس ، قال : أوصى إليّ رجل ، وترك خمسمائة درهم أو ستمائة درهم ، وترك ابنة ، وقال : لي عصبة بالشام ، فسألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن ذلك؟ فقال : «اعط الابنة النصف ، والعصبة النصف الآخر».

فلمّا قدمت الكوفة أخبرت أصحابنا ، فقالوا : اتّقاك ، فأعطيت الابنة النصف الآخر ، ثمّ حججت فلقيت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ فأخبرته بما قال أصحابنا وأخبرته انّي دفعت النصف الآخر إلى الابنة ، فقال : «أحسنت إنّما أفتيتك مخافة العصبة عليك». (١)

إنّ مذهب أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ كان أمراً ذائعاً بين الناس وكان خلافهم مع سائر الفقهاء والمحدّثين في مسائل كثيرة واضحة ، ولذلك لم يكن أيّ ضغط عليهم بالإفصاح بالحقيقة ، نعم الإفتاء على وفق الواقع واجتماع الشيعة على العمل به يورث سوء الظن للسلطة وتقف في وجههم بحجة انّهم بصدد الثورة عليها ، فلذلك كان الإمام يكره اجتماعهم على فكرة واحدة لئلاّ يؤخذوا. نعم البطانة من أصحاب الأئمة كانوا يميزون الحكم الواقعي عن الحكم الصادر تقية ، يقول الشيخ جعفر كاشف الغطاء :

وليس مذهبنا أقل وضوحاً من مذهب الحنفية والشافعية والحنبلية والمالكية والزيدية والناووسية والواقفية والفطحية وغيرهم ، فانّ لكلّ طائفة طريقة مستمرة يتوارثونها صاغراً عن كابر ، بل أهل الملل من عدا المسلمين على بُعد عهدهم عن أنبيائهم الماضين لهم طرائق وسير يمشون فيها على الأثر ولا يصغون إلى إنكار من أنكر. (٢)

__________________

(١) المصدر نفسه ، الباب ٥ من أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، الحديث ٤.

(٢) كشف الغطاء : ١ / ٢١٥.

٣٣٩

١٢

في إجزاء العمل الموافق للتقية

قد تقدّم البحث في أقسام التقية وأحكامها التكليفية ، بقي الكلام في أحكامها الوضعيّة ، والمراد منها هو صحّة العمل الموافق للتقية المخالف للواقع ، وله أقسام :

١. أن تكون التقية في العمل بالحكم الواقعي كغسل القدمين مكان مسحهما ، والمسح على الخفّين ، والنكس في غسل اليدين والصلاة في جلد الميتة وما لا يؤكل لحمه ، والتكفير في اليدين (قبض اليسرى باليمنى) والتأمين في الصلاة ، والسجود على ما لا يصحّ السجود عليه ، والطلاق بلا حضور عدلين أو مع كون المطلقة حائضاً ، إلى غير ذلك من الأعمال التي تخالف الواقع وتوافق التقية ، ومورد التقيّة هو الأحكام الشرعية.

٢. أن تكون التقية في الموضوعات لا في الأحكام الشرعية ، سواء كان الموضوع عاماً غير مقيد بزمان دون زمان ، ككون المغرب متحقّقاً بسقوط القرص ؛ أو في الموضوعات الخاصة كثبوت هلال ذي الحجة أو شهر رمضان أو شوال في سنة معينة ، وعندئذ يقع الكلام في صحّة العمل في هذه الموارد فالعمل موافق للتقية لكنّه مخالف للوظيفة الواقعية في مجال الحكم والموضوع.

٣٤٠