الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-062-2
الصفحات: ٦٢٨

لأصبح الحكم واضحاً ، لأنّ الحلف قسم من أقسام الطلاق المعلّق.

نعم ربّما استدلّ ببعض الوجوه العقلية على البطلان ، وهي ليست تامّة عندنا ، نظير :

أ. إنّ الطلاق المعلّق من قبيل تفكيك المنشأ عن الإنشاء ، لأنّ المفروض عدم وقوعه قبل الشرط ، فيلزم تفكيك المنشأ عن الإنشاء.

وأنت خبير بعدم استقامة الدليل ، فإنّ المنشأ بعد الإنشاء محقّق من غير فرق بين المنجّز والمعلّق ، غير أنّ المنشأ تارة يكون منجّزاً وأُخرى معلّقاً ، وفائدة الإنشاء أنّه لو تحقّق المعلّق عليه لا يحتاج إلى إنشاء جديد.

ب. ظاهر الأدلّة ترتّب الأثر على السبب فوراً ، فاشتراط تأخّره إلى حصول المعلّق عليه ، خلاف ظاهر الأدلّة.

يلاحظ عليه : أنّه ليس في الأدلّة ما يثبت ذلك ، فالوارد في الأدلّة هو لزوم الوفاء بالإنشاء غير أنّ الوفاء يختلف حسب اختلاف مضمونه.

وبذلك يظهر عدم صحّة الاستدلال على البطلان بما في «المحلّى» حيث قال : فإن كلّ طلاق لا يقع حين إيقاعه فمن المحال أن يقع بعد ذلك في حين لم يوقعه فيه. (١)

أدلّة القائل بالصحّة

استدلّ القائل بالصحّة بوجوه :

١. إطلاق قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) حيث لم يفرق بين منجز ومعلّق. (٢)

__________________

(١) المحلى : ١٠ / ٢١٣ ، المسألة ١٩٧٠.

(٢) الفقه الإسلامي وأدلته : ٧ / ٤٤٨.

١٢١

يلاحظ عليه : أنّ من شرائط التمسك بالإطلاق أو من شرائط انعقاد الإطلاق كون المتكلّم بصدد بيان حكم الأمر المشكوك فيه ، حتّى يستدلّ بسكوته على التسوية بين الأمر المشكوك فيه وغيره ، كما في قوله : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) (١) فإذا شكّ في شرطية الإيمان في تحرير الرقبة ، يحكم بعدم الشرطية بإطلاق الآية.

وأمّا إذا لم يكن بصدد بيان حكم الأمر المشكوك فيه فلا يستدلّ بسكوته وعدم تعرّضه على التسوية كما في المقام ، حيث إنّ قوله سبحانه بصدد بيان عدد الطلاق وانّه مرتان ، وليس بصدد بيان كيفيته من حيث التنجيز والتعليق حتّى يتمسك بإطلاقه.

وكون المتكلّم في بيان المقام من مقدمات انعقاد الإطلاق كما هو محرر في محله.

٢. المسلمون عند شروطهم ، والطلاق المعلّق من قبيل الأُمور المشروطة.

يلاحظ عليه : أنّ قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «المسلمون عند شروطهم» ضابطة شرعية يستدلّ بها إذا شكّ في لزوم العمل بالشرط وعدمه ، ـ بعد ثبوت صحة الاشتراط ـ كما إذا اشترطت الزوجة في عقد النكاح أن لا يمنعها الزوج من مواصلة الدراسة أو العمل في خارج البيت إذا لم يكن مخلاً بحقّ الزوج ففي مثل هذا المورد ـ بعد ثبوت أصل مشروعية التعليق ـ يتمسك بالكبرى ويلزم الزوج بالعمل بالشرط.

وأمّا إذا شكّ في جواز أصل تعليق الإنشاء ، وانّه هل يصحّ أو لا ، لاحتمال خصوصية في الطلاق ، فلا يتمسك بالكبرى لإثبات أصل مشروعية الصغرى ، وهذا واضح لمن له إلمام بالأُصول.

__________________

(١) المجادلة : ٣.

١٢٢

ونظير الشرط ، النذر ، والعهد واليمين ، فإنّما يستدلّ بكبرياتها على لزوم العمل إذا ثبتت المشروعية ، وأمّا إذا شكّ في صحّة النذر ، فلا يتمسك بالكبرى لإثبات صحة الصغرى ، فلو نذر أن يتوضأ بالماء المضاف ، أو بالنبيذ ، فلا يصلح قوله : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) (١) لإثبات مشروعية التوضّؤ بهما.

٣. انّ القائلين بالصحّة استدلوا بآثار وفتاوى من ابن مسعود ، وأبي ذرّ الغفاري ، وعائشة ، والحسن البصري وغيرهم من الفقهاء ، ومعلوم أنّ أقوالهم وآراءهم حجّة على أنفسهم لا على غيرهم ما لم يثبت صدورها عن المعصوم.

__________________

(١) الحج : ٢٩.

١٢٣
١٢٤

١٨

الحلف بالطلاق

١٢٥
١٢٦

الحلف بالطلاق

قد عرفت أنّ الحلف بالطلاق من أقسام الطلاق المعلّق ويفارق المسألة السابقة في انّ الغاية فيها ربط مضمون صيغة الطلاق بفعل المطلّق أو المطلّقة أو غيرهما كطلوع الشمس وقدوم الحاج من دون أن يكون فيه حث على الفعل أو منع عنه ، بخلاف الحلف بالطلاق ، فانّ الغاية فيه هو الحث أو المنع من العمل ، أو حمل المخاطب على الثقة بكلامه ، وإنّما سمّي حلفاً تجوّزاً لمشاركته الحلف في الغاية وهو الحث أو المنع أو تأكيد الخبر ، كقوله «والله لأفعلن» وليس في الواقع حلفاً.

وقبل الخوض في المقصود نقدم أُموراً :

الأوّل : ليس للطلاق إلاّ صيغة واحدة

ذهبت الإمامية تبعاً لأئمة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ إلى أنّه ليس للطلاق إلاّ صيغة واحدة. روى بكير بن أعين عن أحدهما ـ عليهما‌السلام ـ قال : «ليس الطلاق إلاّ أن يقول الرجل لها ـ وهي طاهر من غير جماع ـ : أنت طالق ، ويشهد شاهدي عدل ، وكلّ ما سوى ذلك فهو ملغى». (١)

خلافاً لأهل السنّة فقد أجازوا الطلاق بكلّ ما دلّ عليه لفظاً ، وكتابة ،

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٥ ، الباب ١٦ من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه ، الحديث ١.

١٢٧

وصراحة ، وكناية مثل : أنت عليّ حرام ، أو أنت بريّة ، أو اذهبي فتزوجي ، أو حبلك على غاربك ، أو الحقي بأهلك ، إلى غير ذلك من الصيغ. وللبحث في تعيّن الصيغة الواحدة أو كفاية كلّ ما دلّ على الطلاق ، مقام آخر.

الثاني : تسويد الصفحات بأقسام الحلف بالطلاق

ذهبت الإمامية إلى بطلان الحلف بالطلاق ، لأنّه من أقسام المعلّق الذي أوضحنا حاله ، وبذلك أراحوا أنفسهم من تسويد الصفحات الطوال العراض بأقسام الحلف بالطلاق ، في حين زخرت كتب فقهاء السنّة بآراء وفتاوى لم يبرهنوا عليها بشيء من الكتاب والسنّة ، والراجع إلى تلك الصفحات التي ربما تستغرق ٤٥ صفحة يذعن بأنّ الطلاق أُلعوبة يتلاعب بها الرجل بصور شتى ، وإن كنت في شك من ذلك فلاحظ الكتابين المعروفين :

١. المغني : تأليف محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة (المتوفّى عام ٦٢٠) وهو أوسع كتاب فقهي ظهر عند الحنابلة مع الترجيح بين الأقوال بالدليل المقنع لهم. فقد خصّص (٤٥) صفحة من كتابه لهذا النوع من الصيغ. (١)

٢. الفقه على المذاهب الأربعة : تأليف الشيخ عبد الرحمن الجزيري ، ألّفه ليعرض الفقه بثوبه الجديد على الجيل الجديد ، ومع ذلك تجد قد خصّص لهذا النوع من صور الطلاق صفحات كثيرة. (٢) وإليك نماذج من هذه الصور حتى تقف على صدق ما قلناه ؛ ننقلها من «المغني» لابن قدامة.

١. إن قال لامرأتيه : كلّما حلفت بطلاقكما فأنتما طالقتان ، ثمّ أعاد ذلك ثلاثاً ، طلّقت كل واحدة منهما ثلاثاً.

__________________

(١) لاحظ الجزء السابع ٣٦٩ ـ ٤١٤ بتصحيح الدكتور محمد خليل هراس.

(٢) الفقه على المذاهب الأربعة ، الجزء الرابع.

١٢٨

٢. إن قال لإحداهما : إن حلفت بطلاقك ، فضرّتك طالق ، ثمّ قال للأُخرى مثل ذلك ...

٣. وإن كان له ثلاث نسوة فقال : إن حلفتُ بطلاق زينب ، فعمرة طالق ، ثم قال : وإن حلفت بطلاق عمرة ، فحفصة طالق ، ثمّ قال : إن حلفت بطلاق حفصة ، فزينب طالق ، طلّقت عمرة ، وإن جعل مكان زينب عمرة طلّقت حفصة ، ثمّ متى أعاده بعد ذلك طلّقت منهنّ واحدة ...

٤. ومتى علّق الطلاق على صفات فاجتمعن في شيء واحد وقع بكلّ صفة ما علّق عليها كما لو وجدت متفرّقة وكذلك العتاق ، فلو قال لامرأته : إن كلّمت رجلاً فأنت طالق ، وإن كلّمت طويلاً فأنت طالق ، وإن كلّمت أسود فأنت طالق ، فكلّمت رجلاً أسود طويلاً ، طلّقت ثلاثاً. (١)

إلى غير ذلك من الصور التي لا يترتب على نقلها سوى إضاعة الوقت والورق.

الثالث : بطلان الحلف بالطلاق عند البعض

المشهور عند أهل السنّة هو صحّة الطلاق بالحلف به ، ومع ذلك ذهب لفيف من الصحابة والتابعين إلى كونه باطلاً ، ووافقهم بعض المتأخّرين من الظاهريين كابن حزم ، وابن تيمية من الحنابلة.

قال ابن حزم : وصحّ خلاف ذلك (وقوع الطلاق باليمين) عن السلف.

١. روينا من طريق حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن : انّ رجلاً تزوّج امرأة وأراد سفراً فأخذها أهل امرأته فجعلها طالقاً إن لم يبعث بنفقتها إلى شهر ،

__________________

(١) المغني : ٧ / ٣٦٩ ـ ٣٧٦.

١٢٩

فجاء الأجل ولم يبعث بشيء ، فلمّا قدم خاصموه إلى عليّ ، فقال عليّ ـ عليه‌السلام ـ : اضطهدتموه حتى جعلها طالقاً ، فردّها عليه. (١)

٢. روينا من طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن عطاء : في رجل قال لامرأته : أنتِ طالق إن لم أتزوّج عليك. قال : إن لم يتزوّج عليها حتى تموت أو يموت ، توارثا. والحكم بالتوارث آية بقاء العلقة.

٣. ومن طريق عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن غيلان بن جامع ، عن الحكم بن عتيبة قال : في الرجل يقول لامرأته : أنتِ طالق إن لم أفعل كذا ثمّ مات أحدهما قبل أن يفعل ، فإنّهما يتوارثان.

إنّ في عدم اعتداد الإمام عليّ بالطلاق ـ بلا إكراه ـ والحكم بالتوارث في الروايتين الأخيرتين دلالة على عدم الاعتداد باليمين بالطلاق.

٤. ومن طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج : أخبرني ابن طاوس عن أبيه أنّه كان يقول : الحلف بالطلاق ليس شيئاً. قلت : أكان يراه يميناً؟ قال : لا أدري.

قال ابن حزم بعد نقل هذه الروايات : فهؤلاء علي بن أبي طالب وشريح (٢) وطاوس لا يقضون بالطلاق على من حلف به فحنث ، ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ثم يقول : من أين أجزتم الطلاق بصفة ولم تجيزوا النكاح بصفة ، والرجعة بصفة كمن قال : إذا دخلت الدار فقد راجعت زوجتي المطلّقة ، أو قال : فقد تزوّجتك ، وقالت هي مثل ذلك ، وقال الولي مثل

__________________

(١) ظاهر الحديث : أنّ الإمام ردّ المرأة لوقوع الطلاق مكرهاً ، وبما أنّه لم تكن هناك كراهة ولم يطلب أهل المرأة سوى النفقة ، يحمل على خلاف ظاهره ، من بطلان الطلاق لأجل الحلف به.

(٢) نقل رواية عن شريح تركنا نقلها لعدم دلالتها. وكان عليه عطف عطاء عليه أيضاً.

١٣٠

ذلك ولا سبيل إلى فرق. (١)

هذا وقد فصّل ابن تيميّة بين التعليق الذي يقصد به الإيقاع والذي يقصد به اليمين.

فالأوّل أن يكون مريداً للجزاء عند الشرط وإن كان الشرط مكروهاً له ، لكنّه إذا وجد الشرط فانّه يريد الطلاق لكون الشرط أكره إليه من الطلاق ، كما إذا قال لزوجته : «إن خنت فأنت طالق» ، فخانت الزوجة ، فهذا موقع للطلاق عند الصفة لا حالف ووقوع الطلاق في مثل هذا هو المأثور عن الصحابة.

والثاني هو التعليق الذي يقصد به اليمين ، ويمكن التعبير عن معناه بصيغة القسم ، كما إذا قال : «إن خنتِ فأنت طالق» بقصد زجرها أو تخويفها باليمين لإيقاع الطلاق (في المستقبل) إذا فعلت ، لأنّه لا يكون مريداً لها ـ له ـ وإن فعلت لكون طلاقها أكره إليه من مقامها على تلك الحال فهو علق بذلك لقصد الحظر والمنع لا لقصد الإيقاع فهذا حالف ليس بموقع. (٢)

حاصل تفصيله : يرجع إلى التفريق بين الحلف على النتيجة ، والحلف على الفعل ، فعلى الأوّل يتحقّق الطلاق ، إذا حصل المعلّق عليه ولا يتصوّر فيه الحنث ، لصيرورة الزوجة عندئذ مطلقة ، شاء الزوج أم لم يشأ ، لأنّ المنشأ صيرورتها مطلقة عند وقوع المعلق عليه وأمّا على الثاني ، فالمنشأ قيامه بالفعل في المستقبل وتطليقها ، وعندئذ يتصوّر فيه الحنث ولو كان ابن تيمية ملمّاً بفقه الشيعة ومصطلحاتهم ، لسهل عليه التعبير عن مقصده بما قلناه.

نعم الحلف على النتيجة ، إنّما يصحّ إذا لم يتوقّف حصولها على سبب

__________________

(١) المحلّى : ١٠ / ٢١٣٢١٢.

(٢) الفتاوى الكبرى : ٣ / ٩.

١٣١

خاص ، ككون الشيء ملكاً لزيد ، وأمّا إذا توقّف على سبب خاص أو شكّ في توقّفها عليه ، كما هو الحال في الطلاق ، فالحلف به ، لا يفيد في حصولها.

إذا عرفت هذه الأُمور يقع الكلام في محورين :

الأوّل : صحة الطلاق بالحلف به عند حصول المعلّق عليه.

الثاني : حكم الزوجة في الفترة التي لم يتحقق المعلّق عليه.

وإليك الكلام في الأوّل :

بطلان الطلاق بالحلف به

ذهبت الإمامية ـ كما عرفت ـ إلى بطلانه ، وقد اشتهرت الطائفة في باب الطلاق بإنكار أُمور :

١. طلاق المرأة وهي حائض.

٢. طلاق المرأة دون حضور عدلين.

٣. الحلف بالطلاق.

والدليل على بطلان الحلف بالطلاق ، هو نفس الدليل على بطلان الطلاق المعلّق ، لما عرفت من أنّ الأوّل من أقسام الثاني ، ونزيده بياناً بما ورد عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ في خصوص الحلف بالطلاق.

عن أبي أُسامة الشحام ، قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : إنّ لي قريباً لي أو صهراً حلف إن خرجت امرأته من الباب فهي طالق ثلاثاً ، فخرجت ، فقد دخل صاحبها منها ما شاء الله من المشقة ، فأمرني أن أسألك ، فأصغى إليّ ، فقال : «مره فليُمسكها فليس بشيء» ، ثمّ التفت إلى القوم فقال : «سبحان الله يأمرونها أن تتزوّج

١٣٢

ولها زوج». (١)

ونعيد هنا كلمة لبعض المشايخ ، مرّت بنا والصفحات الماضية ، قال : إنّ الزواج عصمة ومودة ورحمة وميثاق من الله. قال تعالى : (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٢) ، وقال سبحانه : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً). (٣) إذن لا يجوز بحال أن ننقض هذه العصمة والمودة والرحمة ، وهذا العهد والميثاق ، إلاّ بعد أن نعلم علماً قاطعاً لكلّ شكّ بأنّ الشرع قد حلّ الزواج ، ونقضه بعد أن أثبته وأبرمه. (٤)

دليل القائل بالصحّة

استدلّ القائل بالصحّة بما مرّ في الطلاق المعلّق من أنّه التزم أمراً عند وجود شرطه فلزمه ما التزمه مثلاً التزم بأنّه إذا كلّمت الزوجة فلاناً فهي طالق.

يلاحظ عليه : أنّه عبارة أُخرى للتمسّك بقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «المسلمون عند شروطهم» وقد سبق انّه لا يستدلّ بالكبرى على صحّة الصغرى فانّ معنى قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «المسلمون عند شروطهم» هو انّهم عند شروطهم التي ثبتت صحّة الاشتراط بها في الإنشاء ، دون ما إذا شكّ في صحّة الاشتراط.

وربما يستدلّ عليه بالإجماع ، كما ذهب إلى ذلك السبكي في «الدرة» ، وقد عرفت وجود الخلاف بين الصحابة والتابعين فكيف يدّعي الإجماع؟!

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٥ ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث ٣.

(٢) النساء : ٢١.

(٣) الروم : ٢١.

(٤) الفقه على المذاهب الخمسة : ٤١٤.

١٣٣

حكم المرأة في الفترة

لو قلنا ببطلان الحلف بالطلاق وانّ وجوده وعدمه سيان ، تكون المحلوف عليها زوجته ، سواء تحقّق المعلّق عليه أو لا ، فيكون البحث أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع ، وقد مرّ في كلام أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : «سبحان الله يأمرونها أن تتزوّج ولها زوج»

وأمّا على القول بصحّة الإنشاء وصيرورتها مطلّقة عند تحقّق المعلّق عليه فمقتضى القاعدة جواز مسها في الفترة بين إنشاء الصيغة وتحقّق المعلّق عليه ، وقد روى ابن حزم عن ابن عباس جواز مسّها قبل رأس الشهر إذا علّق الطلاق عليه ، ومع ذلك نقل عن سعيد بن المسيب حرمة المس قبل رأس شهر.

ويترتب على ذلك التوارث إذا مات أحدهما قبل رأس الشهر ، فيرث على قول ابن عباس ، لأنّها زوجته ولا يرث على القول الآخر.

كما روى عن مالك التفصيل بين كون المعلّق عليه مشكوك الوجود في المستقبل ، فيجوز فيها ويتوارثان إذا مات أحدهما قبل تحقّق المعلّق عليه ، دون ما إذا كان محقّق الوجود ، فلا يجوز فيها ولا يتوارثان. (١)

__________________

(١) المحلى : ١٠ / ٢١٤٢١٣ ، ونقل قولاً رابعاً لا يخلو من إبهام ولذا تركنا نقله.

١٣٤

خاتمة المطاف

هل تتعلّق الكفّارة إذا حنث

قال الشهيد : تختصّ الكفّارة بما إذا حلف بالله أو أسمائه الخاصة لتحقّق ما يحتمل المخالفة والموافقة في المستقبل. (١)

وقال العلاّمة : اليمين عبارة عن تحقيق ما يمكن فيه الخلاف بذكر اسم الله أو صفاته. (٢) إلى غير ذلك من الكلمات المتضافرة من اختصاص الكفّارة بالحلف بالله وصفاته ولا ينعقد الحلف باليمين على غير الله وصفاته وإن كان المحلوف به هو الكعبة والقرآن والنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وعلى ذلك فالبحث عن الكفّارة على أُصولنا أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع لعدم انعقاد اليمين بغير الله وصفاته.

نعم ذهبت المالكية إلى أنّ أيمان المسلمين ستة أشياء ، وهي : اليمين بالله تعالى ، والطلاق البات لجميع الزوجات ، أو عتق ما يملك من العبيد والإماء ، والتصدق بثلث المال ، والمشي بحج وصوم عام. ونُقل قريب من ذلك من الحنابلة. (٣)

واختاره ابن تيمية فقال : إنّ هذا يمين من أيمان المسلمين فيجري فيها ما

__________________

(١) الدروس : ٢ / ١٦١.

(٢) القواعد : ٣ / ٢٦٦.

(٣) الموسوعة الفقهية : ١٧ / ٢٥١.

١٣٥

يجري في أيمان المسلمين ، وهو الكفارة عند الحنث ، إلاّ أن يختار إيقاع الطلاق فله أن يوقعه ولا كفّارة. (١)

ولكن من أين ثبت انّه من أيمان المسلمين ، ليكونَ للطلاق من القداسة ما للفظ الجلالة ، فلاحظ.

ومن عجيب الأمر ما أحدثه الحجاج بن يوسف الثقفي المعروف بأيمان البيعة ، فكان يأمر الناس عند البيعة لعبد الملك بن مروان أن يحلفوا بالطلاق والعتاق واليمين بالله وصدقة المال ، فكان هذه الأيمان الأربعة ، أيمان البيعة القديمة المبتدعة.

ثمّ أحدث المستحلفون من الأمراء عن الخلفاء والملوك وغيرهم إيماناً كثيرة تختلف فيها عاداتهم. (٢)

ومع ذلك فلا خلاف بين فقهاء السنة عدا ابن تيميّة في كلامه السابق انّ الحلف بغير الله لا تجب بالحنث فيه الكفّارة ، إلاّ ما روي عن أكثر الحنابلة في وجوب الكفارة على من حنث في رسول الله ، لأنّه أحد شطري الشهادتين اللّتين يصير بهما الكافر مسلماً.

ثمّ إنّ الحنث إنّما يتصوّر إذا حلف على الفعل بأن يطلقها في المستقبل عند حصول المعلّق عليه ، فإذا حصل ولم يطلق ، حصل الحنث دون ما إذا حلف على النتيجة أي صيرورة المرأة مطلقة أو ماله صدقة أو عبده معتقاً بنفس هذه الصيغة إذا حصل المعلّق عليه من دون حاجة إلى صيغة أُخرى ، إذ تكون المرأة عندئذ مطلقة ، شاء الحالف أم لم يشأ. ومثله كون أمواله صدقة وعبيده عتقاء ، وقد مرّ توضيحه عند نقل كلام ابن تيمية.

__________________

(١) الفتاوى الكبرى : ٣ / ١٢ و ١٣.

(٢) الموسوعة الفقهية : ٧ / ٢٥٠.

١٣٦

١٩

الطلاق في الحيض والنفاس

أو

في طهر جامعها

١٣٧
١٣٨

الطلاق في الحيض والنفاس

أو

في طهر جامعها

اتّفقت الإمامية على أنّ الطلاق في الحيض والنفاس حرام تكليفاً وباطل وضعاً ، وهكذا الطلاق في طهر المواقعة ، وأمّا جمهور الفقهاء من السنّة فاتّفقوا على وقوع الطلاق مع اتّفاقهم على وقوع الإثم فيه على المطلِّق. وقبل الخوض في تحرير دليل المسألة ، نقدّم أُموراً :

الأوّل : تقسيم الطلاق إلى سُنّي وبدعيّ

قسَّم الفقهاء الطلاق من حيث وصفه الشرعي إلى سُنّي وبدعي ؛ ويريدون بالسنّي ما وافق السنّة في طريقة إيقاعه ، والبدعي ما خالف السنّة في ذلك.

فمن مصاديق الطلاق السُّني هو أن يطلّق الزوج زوجته طلقة واحدة رجعية في طهر لم يطأها فيه ، وعلى ذلك فالطلاق في الطهر الذي واقعها أو في حالة الحيض والنفاس طلاق بدعي ، وهذا ممّا لا كلام فيه.

١٣٩

الثاني : في تفسير شرطية الطهر في الطلاق السنّي

اتّفقت كلمتهم على أنّ طهارة المرأة من الحيض والنفاس طلاق سنّي ومقابله بدعي ، إلاّ أنّ الكلام في مفاد شرطية الطهر ، فهل هو شرط الصحة والإجزاء ، أو شرط الكمال والتمام؟

وبعبارة أُخرى : هل التكليف في المقام تكليف وضعي بمعنى كونها شرطاً لصحّة الطلاق ولولاه كان الطلاق باطلاً ، أو انّه حكم تكليفي متوجّه إلى المطلِّق ، وهو انّه يجب أن يُحلّ العقدة في حال كونها طاهرة من الحيض والنفاس فلو تخلّف أثم وصحّ الطلاق؟

فالإمامية وقليل من غيرهم كسعيد بن المسيب. (١) وابن عليّة كما يأتي على الأوّل (شرط الصحّة) وأكثر المذاهب على الثاني (حكم تكليفي).

الثالث : نقل كلمات الفقهاء

قال الشيخ الطوسي في «الخلاف» : الطلاق المحرَّم ، هو أن يطلّق مدخولاً بها غير غائب عنها غيبة مخصوصة ، في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه ، فما هذا حكمه فانّه لا يقع عندنا ، والعقد ثابت بحاله. وبه قال ابن عليّة ، وقال جميع الفقهاء : إنّه يقع وإن كان محظوراً ، ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه ومالك والأوزاعي والثوري والشافعي. (٢)

وقال ابن رشد في حكم من طلّق في وقت الحيض : إنّ الجمهور قالوا :

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٨ / ١٥٠.

(٢) الخلاف : ٤ ، كتاب الطلاق ، المسألة ٢.

١٤٠