تهذيب اللغة - ج ١٥

محمّد بن أحمد الأزهري

تهذيب اللغة - ج ١٥

المؤلف:

محمّد بن أحمد الأزهري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨

وأمّا اللفظ فقولهم في جَمع «الخطيئة» : خطايَا ؛ وفي جمع «المرآة» : مَرايا ، اجتمعت همزتان فَليَّنوهما وجعلوا إحداهما ألفاً.

ومنها : ياء التَّصْغير ، كقولك في تَصغير «عمرو» : عُمَير ، وفي تصغير «ذا» : ذَيّا ، وفي تَصغير «شيخ» : شُيَيْخ.

ومنها : الياء المُبدلة من لام الفِعْل ، كقولك : الخامي ، والسادي ، للخامس والسادس ، يفعلون ذلك في القوافي وغير القوافي.

ومنها : ياء الثَّعالي ، يريدون : الثعالب ؛ وأَنْشد :

* ولِضَفادِي جَمَّه نَقانِقُ*

يريد : لِضَفادع.

وقال الآخر :

إذا ما عُدّ أربعةٌ فِسالٌ

فَزوْجكِ خامسٌ وأبوك سادِي

ومنها : الياء الساكنة تُترك على حالها في مَوضع الجَزم في بعض اللغات ؛ وأَنْشد الفراء :

ألم يأتيك والأنباء تَنْمى

بما لاقت لَبُون بني زيَادِ

فأثبت الياء في «يأتيك» وهي في موضع جزم. ومثله قوله :

* هُزِّي إليك الجِذْعَ يُجْنِيْكِ الجَنَى*

ووجه الكلام : يُجْنبك.

وقد نَقلوا مثل ذلك في «الواو» ؛ وأَنشد :

هجوتَ زيّان ثم جِئْتَ مُعْتذراً

من هَجْو زيّان لم تَهْجو ولم تَدَعِ

ومنها : ياء النِّداء ، وحذفُ المنادى وإضماره ، كقول الله تعالى ، على قراءة مَن قرأ : ألّا يا اسجدوا لله [النمل : ٢٥] ، المعنى : ألا يا هؤلاء اسجدوا ؛ وأَنْشد :

يا قاتلَ الله صِبْياناً تجيء بهم

أمُّ الهُنَيْنَين مِن زَنْدٍ لها وارِي

كأنه أراد : يا قوم ، قاتل الله صبياناً.

ومثله قوله :

يا من رأى بارقاً أُكَفْكفه

بين ذِرَاعَي وجَبْهة الأَسَدِ

كأنه دعا : يا قوم ، يا إخوتي ، فلما أقبلوا عليه قال : من رأَى؟

ومنها : ياء نداء ما لا يُجيب تنبيهاً لمن يَعْقل ؛ من ذلك قول الله تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) [يس : ٣٠] و (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) [هود : ٧٢] والمعنى : أن استهزاء العباد بالرُّسل صار حَسْرةً عليهم ، فنُوديت تلك الحسرةُ تنبيهاً للمُتحسِّرين. المعنى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) ، أين أنت فهذا أوانك ، وكذلك ما أشبهه.

ومنها : ياآت تدل على أفعال بعدها في أوائلها ياآت ؛ وأَنشد بعضهم :

٤٨١

ما للظّلِيم عاكَ كيف لايا

يَنْقَدّ عنه جلدُه إذا يا

* يُذّرَى التُّرابُ خلفه إذْ رَايَا*

أراد : كيف لا ينقدّ جلده إذَا يُذْرَى الترابُ خَلْفه.

ومنها : ياء الجزم المُرسل والجَزم المُنْبسط.

فأما ياء الجزم المُرسل فكقولك : أَقضي الأمر ، وتحذف لأن قبل الياء كسرة تَخلُف منها.

وأما ياء الجزم المُنبسط فكقولك : رأيت عبدي الله ؛ ومررت بعبدي الله ، لم تكن قبل الياء كسرة تكون عوضاً منها ، فلم تَسْقط وكُسرت لالتقاء الساكنين ، ولم تَسقط لأنه ليس منها خَلف.

أخبرني المُنذريّ ، عن الحرّاني ، عن ابن السّكيت ، قال : إذا كانت الياء زائدة في حرف رباعيّ أو خماسيّ أو ثلاثيّ ، فالرباعيّ : كالقَهْقرى ، والخَوْزَلى ، وبَعير جَلْعبى ، فإذا ثَنّته العربُ أَسقطت الياء ، فقالوا : الْخوزلان ، والقهقران ، ولم يثبتوا الياء فيقولا : الخوزَليان ، ولا القَهْقريان ، لأن الحرف كرّر حُروفه ، فاسْتثقلوا مع ذلك جمع الياء مع الألف ، وذلك أنهم يقولون في نَصبه لو ثُنّي على هذا : الخوزَليين ، فثقُل وسقطت الياء الأولى.

وفي الثلاثي إذا حُرّكت حروفُه كُلها : الجَمزَى والوَثَبى ، ثم ثَنَّوه فقالوا : الجَمزان ، والوَثبان ، ورأيت الجَمزَيْن والوَثَبْين.

قال الفراء : ما لم يَجتمع فيه ياآن كتبته بالياء للتأنيث ، فإذا اجتمع الياآن كتبت إحداهما ألفاً لثقلها.

باب الواوات

الواو : الواوات ، لها معان مختلفة ، لكُل معنى منها اسم تُعرف به.

فمنها : واو الجمع ، كقولك ، اضربوا ، ويَضربون. وفي الأسماء : المُسلمون.

ومنها : واو العطف ، والفرق بينها وبين «الفاء» في المعطوف ، أن الواو يُعطف بها جملة جُمل ، ولا تَدلّ على الترتيب في تَقديم المُقدّم ذكره ، وتأخير المؤخّر ذكرُه.

و «أما» الفاء فإنها يُوصل بها ما بعدها بالذي قبلها ، والمقدّم هو الأوّل.

قال الفراء : إذا قلت : زُرت عبد الله وزيداً ، فأيهما شِئت كان المبتدأ بالزيارة.

وإذا قلت : زرت عبد الله فَزَيْداً ، كان الأول هو الأول والآخر هو الآخر.

ومنها : واو القسم تخَفْض ما بعدها ؛ قال الله تعالى : (وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢)) [الطور : ١ ، ٢] ف «الواو» التي في

٤٨٢

«الطور» هي واو القسم ، والواو التي هي في (وَكِتابٍ) هي واو العطف ، ألا ترى أنه لو عطف بالفاء كان جائزاً ، و «الفاء» لا يقسم بها ، كقوله تعالى : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢)) [الذاريات : ١ ، ٢] غير أنه إذا كان بالفاء فهو مُتّصل باليمين الأولى ، وإذا كان بالواو فهو شيء آخر أُقسِم به.

ومنها : واو الاستنكار ، إذا قلت : جاءني الحسن ، قال المُستنكر : الْحسَنُوه. وإذا قلت : جاءني عَمْرو ، قال : أعمْروه ، يمدّ بواو ، والهاء للوقفة.

ومنها : واو الصِّلة في القوافي ؛ كقوله :

* قِف بالدِّيار التي لم يَعفها القِدَمُو*

فوُصلت ضمة الميم بواو تَمّ بها وزن البَيْت.

ومنها : واو الإشباع ؛ مثل قولهم : البُرْقُوع ، والمُعْلُوق.

وحكى الفراء : أَنظور ، في موضع «أنظر» ؛ وأنشد غيرُه :

* لو أنّ عَمْراً همّ أَن يَرْقُودَا*

أراد : أن يرقد ، فأشبع الضمة بالواو ، ونَصَب «يرقودا» على ما يُنصب به الفعل.

ومنها : واو التَّعايي ، كقولك : هذا عمرو ، فيستمدّ ، ثم يقول : مُنطلق.

وقد مضى بعض أخواتها في باب الألفات والياآت.

ومنها : واو مَدّ الاسم بالنداء ؛ كقولهم : أيَا قُورط ، يريد قُرْطاً ، فمدّوا ضمّة القاف ليمتدّ الصوتُ بالنداء.

ومنها : الواو المُحوّلة ، نحو ، طُوبى ، أصلها : طيِبى ، فقلبت الياء واواً ، لانضمام الطاء قبلها ، وهي من : طاب يَطيب.

ومنها : واو المُوقنين ، والموسرين ، أصلها : المُيْقنين ، من : أيقنت ، والمُيْسرين ، من : أَيْسرت.

ومنها : واو الجزم المُرسل ؛ مثل قوله تعالى : (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) [الإسراء : ٤] فأسقط الواو لالتقاء الساكنين ، لأن قبلها ضَمّة تخلفها.

ومنها جَزم الواو المُنْبسط ؛ كقوله تعالى : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ) [آل عمران : ١٨٦] فلم يُسقط الواو وَحَرّكها لأن قبلها فتحة ، ولا تكون عِوضاً منها.

هكذا أخبرني المُنذريّ به ، عن أَبي طالب ، وقال : إنما يَسقط أحد الساكنين إذا كان الأول من الجزم المُرسل انكسر ولم يسقط. والجزم المُرسل كل وَاو قبلها فتحة ، وياء قبلها كسرة ، أو ألف قبلها فتحة.

فالألف كقولك للاثنين : اضربا الرجل ، سَقطت الألف عند التقاء الساكنين ، لأن قبلها فتحة فهي خلف منها.

٤٨٣

ومنها : واوات الأبنية ، مثل الجَورب ، والتّورب ، للتّراب والجورب ، وما أشبهها.

ومنها : واو الهمزة في الخطّ واللّفظ.

فأما الخط ، فقولك : هذه شاؤك ، صورت الهمزة وَاواً لضمّتها.

وأما اللفظ فقولك : حَمروان ، وسوداوان.

ومثل قولك : أعيذك بأَسْماوات الله ، وأبناوات سعد ، ومثل «السَّماوات» وما أَشبهها.

ومنها : واو النداء ، وواو النُّدبة.

فأما النّداء ، فقولك : وا زيد.

وأما النّدبة ، فقولك ، وا زَيداه ، وا لهفاه ، وا غُربتاه.

ومنها : وَاو الحال ، كقولك : أتيتُه والشمس طالعة ، أي : في حال طلوعها ؛ قال الله تعالى : (إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) [القلم : ٤٨].

ومنها : واو الوقت ، كقولك : اعمل وَأنت صحيح ، أي : في وقت صِحَّتك ، والآن وأنت فارغ.

فهذا واو الوقت ، وهي قريبة من واو الحال. ومنها : واو الصَّرف.

قال الفراء : الصَّرف أن تأتي «الواو» مَعطوفة على كلام في أوله حادثة لا تَسْتقيم إعادتُها على ما عُطف عليها ؛ كقوله :

لا تَنْه عن خُلُقٍ وتأتِيَ مِثْلَه

عارٌ عليك إذا فَعَلْت عظيِمُ

ألا ترى أنه لا يَجوز إعادة «لا» على : «وتأتي مثله» ، فلذلك سُمّي صَرْفاً ، إذ كان معطوفاً ولم يَسْتقم أن يُعاد فيه الحادث الذي فيما قبله.

ومنها : التي تدخل في الأجوبة فتكون جواباً مع الجواب ، ولو حُذفت كان الجواب مُكتفياً بنفسه ؛ وأنشد الفراء :

حتى إذا قَمِلت بُطُونكمُ

ورأيتُمُ أبناءكم شَبُّوا

وقَلبتُم ظَهْر المِجَنّ لنا

إنّ اللئيم العاجزُ الْخَبُ

أراد : قلبتم.

ومثله في الكلام : لما أتاني وأثب عليه.

كأنك قلت : وثبت عليه.

قال : وهذا لا يجوز إلا مع «لما» و «حتى» و «إذا».

الأصمعي قال : قلت لأبي عَمرو بن العلاء : رَبّنا ولك الحمد ، ما هذه الواو؟

فقال : يقول الرجل للرجل : بِعْني هذا الثوب ، فيقول : وهو لك.

أصله يريد : هو لك ؛ وقال أبو كبير الهُذلي :

فإذا وذلك لَيس إلا حِينَه

٤٨٤

وإذا مَضى شيءٌ كأن لمْ يُفْعَلِ

أراد : فإذا ذلك ، يعني شَبابه وما مضى من أيام تمتُّعه.

ومنها : واو النِّسْبة.

حكى أبو عبيد ، عن اليَزيدي ، عن أبي عمرو بن العلاء ، أنه كان يقول : يُنْسب إلى «أخ» : أخوي ، وإلى «الرِّبَا» : رِبَويّ ، وإلى «أخت» : أُخَويّ ، وإلى «ابن» : بَنَوِيّ ، وإلى «عالية» الحجاز : عُلْوِيّ ، وإلى «عَشِيّة» عشويّ ، وإلى «أب» : أبَوِيّ.

ومنها : الواو الدائمة ، وهي كل وَاو تُلابس الجزاء ، ومعناها : الدوام ؛ كقولك : زُرْني وأَزورَك ، وأزورُك ، بالنصب والرفع.

فالنصب على المُجازاة ، ومَن رَفع فمعناه : زيارتك عليّ واجبة أُديمها لك على كُلّ حال.

ومنها : الواو الفارقة ، وهي كُل واو دَخلت في أحد الحرفين المُشْتبهين لُيفرق بينه وبين المُشْبه له في الخطّ ، مثل واوِ «أولئك» وواو «أولى» ؛ قال الله تعالى : (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) [النور : ٣١] : زيدت فيها الواو في الخط ليَفرق بينها وبين ما شاكلها في الصورة ، مثل : إلي ، وإليك.

ومنها : واو «عمرو» فإنها زيدت لتفرق بين «عمرو» و «عمر». وزيدت في «عمرو» دون «عُمر» ، لأن «عُمر» أثْقل من «عمرو».

باب تصريف أفعال حروف اللين وغيرها

الِّلحياني عن الكسائي : ما كان من ثلاثة أحرف وسطه «ألف» ففي فِعله لغتان : الواو والياء ، كقولك : دَوّلت دالاً ، وقَوّفت قافاً ، أي كتبتهما : إلا «الواو» فإنها بالياء لا غير ، لكثرة «الواوات» ، فتقول فيها : وَيَّيْت واواً حسنة ، وغيره يقول : أَوَّيت ، وبعضهم يقول : وَوَّيت.

الكسائي : تقول العرب : كلمة مُؤَوَّاة ، مثل «مُعَوَّاة» ، أي : مبنيّة من بنات «الواو».

غيره كلمة : مُؤَيّاة ، من بنات «الواو» وكلمة مُيَوَّاة ، من بنات «الياء».

وإذا صَغَّرت «الواو» قلت : أُوَيَّة ؛ وإذا صغرت «الياء» قلت : أُيَيَّة.

غيره : هذه قصيدة واويّة ، إذا كانت على «الواو» ، ويائيّة ، على الياء.

ويقال : أشبهت ياؤك يائِي ، وأشبهت ياءَك ، بوزن «ياعك».

فإذا ثَنّيت قلت : ياءَيّ ، بوزن : «ياعَيّ».

وقال الكسائي : جائز أن تقول : يَيَّيت ياءً حسنةً ، إذا كتبتها.

وكذلك : ووَّيت واواً حَسنة.

وأما الألف فتأليفها من : همزة ، ولام ، وألف.

وقيل : إنها سُميت «ألفاً» لأنها تألف

٤٨٥

الحروف ، وهي أكثر الحُروف دُخولاً في المَنْطق.

ويقولون : هذه ألِفٌ مُؤَلَّفة.

وقد جاء عن بعضهم في قوله تعالى : (الم (١)) [البقرة : ١] أن «الألف» من أسماء الله تعالى ، والله أعلم بما أَراد.

وقال الخليل : وجدتُ كُلَّ «ياء» و «واو» في الهجاء لا تعتمد على شيء بعدها تَرجع في التَّصريف إلى «الياء» ، نحو : يا ، وفا ، وطا ، ونحوه.

باب ما جاء في تفسير الحروف المقطعة

روي عن ابن عباس في الحروف المُقطعة ، مثل : الم ، المص ، المر ، وغيرها : ثلاثة أقوال :

أحدهما : أن الله تعالى أقسم بهذه الحروف ، وأن هذا الكتاب الذي أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الكتاب الذي عند الله لا شك فيه.

قال هذا في قوله تعالى : (الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ١ ، ٢].

والقول الثاني : أن : الر ، حم ، ن ، اسم «الرحمن» مقطع في اللفظ موصول في المعنى.

والقول الثالث : الم ، معناه : أنا الله أعلم وأرى.

وروي عن عكرمة : (الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ) قَسم.

وحدثنا محمد بن إسحاق ، عن الزعفراني ، عن يحيى بن عباد ، عن شعبة ، عن السدي ، عن ابن عباس : الر : اسم من أسماء الله ، وهو الاسم الأعظم.

وقال قتادة : الم : اسم من أسماء الله.

وحدثنا محمد : حدثنا ابن قنبر ، عن علي بن حسين بن واقِد ، قال : أخبرني أُبَيّ ، عن يزيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : الر ، الم ، حم : حروف معرّفة.

قال أُبيّ : فحدّثت به الأعمش ، فقال : عندك مثل هذا ولا تُحدِّثنا به.

وحدثنا ابن هَاجك ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : الم : اسم من أسماء القرآن ، وكذلك : حم ، ويس ، وجميع ما في القرآن من حروف الهجاء في أوائل السُّور.

وحدثنا محمد ، قال : حدثنا عبيد الله بن حُريت العتكي ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، عن أبي عَوانة ، عن إسماعيل بن سالم ، قال : سُئل عامر عن فواتح القرآن ، نحو : حم ، ونحو : ص ، والم ، والر ، فقال : هي اسم من أسماء الله مقطعة بالهجاء ، إذا وصلتها كانت اسما من أسماء الله.

٤٨٦

ثم قال عامر : الرَّحْمنُ ، هذه فاتحة ثلاث سور ، إذا جمعتهن كانت اسماً من أسماء الله.

وحدثنا أبو الإصبع المصري ، عن شبيب بن حفص ، عن بشر بن بكر ، عن أبي بكر بن أبي مَرْيم ، عن ضَمْرة بن حبيب ، وحكيم ، وراشد بن سعد ؛ قالوا : إنّ : المر ، والمص ، والم ، وأشباه ذلك ، وهي ثلاثة عشر حرفاً ، إن فيها اسم الله الأعظم.

وروى ابن نجيح ؛ عن مجاهد : الم : اسم من أسماء القرآن.

قال أبو عبد الله : وحدثنا إبراهيم بن هانىء : حدثنا آدم بن أبي إياس : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله «الم» قال : هذه الأصول الثلاثة من التسعة والعشرين حرفاً ، ليس فيها حرف إلّا وهو مفتاح اسم من أسماء الله تعالى.

قال : وليس فيها حرف إلا وهو في آلائه وبلائه ؛ وليس فيها حرف إلا وهو في مُدّة قوم وآجالهم.

قال : وقال عيسى بن عمر : أعجب أنهم ينطقون بأسمائه ويعيشون في رِزقه كيف يَكْفُرون به ؛ فالألف مفتاح اسمه «الله» ، ولا مِفْتاح اسمه «لطيف» ، وميم مفتاح اسمه «مجيد». فالألف آلاء الله ، واللام لطف الله ، والميم مجد الله ؛ والألف واحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون.

قال محمد : وحدثنا عُبيد الله بن جَرير : حدثنا ابن كثير ، عن الثوري ، عن عبد الأعلى ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، قال : الم : آية ، وحم : آية.

وأخبرني المنذري ، عن أبي فهم ، عن الأثرم ، عن أبي عُبيدة ، أنه قال : هذه الحروف المُقَطعة حروف الهجاء ، وهي افتتاح كلام.

وقال الأخفش نحوَه.

ودليل ذلك أن الكلام الذي ذُكر قبل السُّورة قد تَمّ.

وزعم قُطرب أن «الر» و «المص» و «الم» و «كهيعص» و «ص» و «ق» و «يس» و «ن» حروف المعجم لتدلّ أن هذا القرآن مؤلّف من هذه الحروف المقطّعة ، التي هي حروف : ا ، ب ، ت ، ث ، فجاء بعضها متقطَّعاً وجاء تمامُها مؤلف ليدل القوم الذين نزل عليهم القرآن أنه بحروفهم التي يَعقلونها لا ريبَ فيه.

ولقُطرب قولٌ آخرُ في «الم» : زعم أنه يجوز أن يكون لمّا لغَا القومُ في القرآن فلم يتفهّموه حين قالوا : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت : ٢٦] ، أنزل عليهم ذِكْر هذه الحروف ، لأنهم لم يعتادوا الخطاب بتقطيع الحروف ، فسكتوا

٤٨٧

لما سمعوا الحروف طمعاً في الظَّفر بما يحبون ، ليفهموا بعد الحروف القرآن وما فيه ، فتكون الحجّة عليهم أَثْبت ، إذا جَحدوا بعد تفهّم وتعلم.

وقال أبو إسحاق : المختار من هذه الأقاويل ما رُوي عن ابن عباس ، وهو أن معنى «الم» : أنا الله أعلم ، وأن كل حرف منها له تفسير.

قال : والدّليل على ذلك أن العرب تنطق بالحرف الواحد تدلّ به على الكلمة التي هو منها ؛ وأَنشد :

* قُلت لها قِفي فقالت ق*

فنطق بقاف فقط ، يريد : قالت أقف.

وأنشد : أيضاً :

نادَيتهم أن أَلْجِمُوا ألاتا

قالُوا جميعاً كلّهم أَلَافَا

قال : تفسيره : نادوهم أن ألجموا ، ألَا تركبون؟ قالوا جميعاً : ألَا فارْكَبُوا.

فإنما نطق ب «تا» و «فا» ، كما نَطق الأول ب «قاف».

قال : وهذا الذي أختاره في معنى هذه الحروف ، والله أعلم بحقيقتها.

ورُوي عن الشّعبي أنه قال : لله في كل كتابٌ سِرٌّ ، وسره في القرآن حُروف الهجاء المذكورة في أوائل السُّور.

وأجمع النحويون أن حروف التهجّي ، وهي الألف والباء والتاء والثاء ، وسائر ما في القرآن منها ، أنها مبنيَّة على الوقف وأنّها لا تُعرب.

ومعنى «الوقف» أنك تقدّر أن تسكت على كل حرف منها ، فالنَّطق بها : ألف لام ميم.

والدليل على أن حروف الهجاء مبنيّة على السكت كما بُني العدد على السَّكت ، أنك تقول فِيها بالوقف مع الجمع بين الساكنين ، كما تقول إذا عددت : واحد ، إثنان ، ثلاثة ، أربعة ، فتقطع ألف «اثنين» وألف «اثنين» ألف وصل ، وتذكر الهاء في «ثلاثة» ، و «أربعة». ولو لا أنك تقدِّر السكت لقلت : ثلاثة ، كما تقول : ثلاثة يا هذا. وحقّها من الإعراب أن تكون سَواكن الأواخر.

وشَرْح هذه الحروف وتفسيرها أن هذه الحروف ليست تجري مجرى الأسماء المتمكنة والأفعال المضارعة التي يجب لها الإعراب ، وإنما هي تقطيع الاسم المؤلّف الذي لا يجب الإعراب إلا مع كماله ، فقولك : جعفر ، لا يجب أن تُعرب منه الجيم ولا العين ولا الفاء ولا الراء ، دون تكميل الاسم.

وإنما هي حكاية وُضعت على هذه الحروف ، فإن أجريتها مجرى الأسماء وحدَّثت عنها قلت : هذه كافٌ حسنة ،

٤٨٨

وهذا كافٌ حَسَن.

وكذلك سائر حروف المعجم.

فمن قال : هذه كاف ، أنّث لمعنى الكلمة ؛ ومن ذكَّر فلمعنى الحَرْف.

والإعراب وقع فيها لأنك تُخرجها من باب الحكاية ؛ قال الشاعر :

* كافاً وميمَيْن وسيناً طاسِمَا*

وقال آخر :

* كما بُيِّنت كافٌ تلُوح وميمُها*

فذكَّر «طاسما» لأنه جعله صفة للسِّين ، وجعل السِّين في مَعنى الحرف.

وقال : كاف تلُوح ، فأنّث «الكاف» لأنه ذَهب بها إلى الكلمة.

وإذا عطفت هذه الحروف بعضها على بعض أعربتها : فقلت : ألف وباء وتاء وثاء ، إلى آخرها.

وكذلك العدد إذا عَطفت بعضها على بعض أعربتها ، فقلت : واحد ، واثنان ، إلى آخرها.

٤٨٩

أبواب الهمز

اعلم أن الهمزة لا هجاءَ لها ، إنما تكتب مرةً ألفاً ، ومرة ياءً ، ومرة واواً.

والألف اللينة لا حَرف لها إنما هي جزءٌ من مدة بعد فتحة.

والحروف ثمانية وعشرون حرفاً ، مع الواو والألف والياء ، وتتم بالهمزة تسعة وعشرين حرفاً.

والهمزة كالحرف الصحيح ، غير أن لها حالات من التَّلْيين والحَذْف والإبدال والتَّحقيق ، تعتلّ فيها ، فأُلحقت بالأحرف المعتلة الجُوف ، وليست من الجوف إنما هي حلقية في أقصى الحلق.

ولها ألقاب كألقاب الحروف :

فمنها : همزة التأنيث ، كهمزة العُشَراء ، والنّفساء والخُششاء.

ومنها : الهمزة الأصليَّة في آخر الكلمة ، مثل : الحفاء ، والبواء ، والوطاء ، والطواء ؛ ومنها : الوصاء ، والباء ، والواء ، والإيطاء في الشعر. هذه كُلها همزها أصْلِيّ.

ومنها : همزة المدّة المُبدلة من الياء والواو ، كهمزة : السماء ، والبكاء ، والكساء ، والدعاء ، والجزاء ، وما أشبهها.

ومنها : الهمزة المُجلبة بعد الألف الساكنة ، نحو : همزة : وائل ، وطائف ، وفي الجمع ، نحو : كتائب ، وسرائر.

ومنها : الهمزة الزائدة ، نحو همزة : الشمأل ، والشأمل ، والغرقىء.

ومنها : الهمزة التي تُزاد لئلا يجتمع ساكنان ، نحو : اطمأنّ ، واشمأز ، وازبأر ، وما شاكلها.

ومنها : همزة الوقفة في آخر الفِعل ، لغة لبعض دون بعض ، نحو قولهم للمرأَة : «قولىء» ، وللرجلين : قولأ ، وللجميع : قولؤ ، وإذا وصلوا الكلام لم يَهمزوه ، ولا يهمزون إلا إذا وقفوا عليها.

ومنها : همزة التوهّم ، كما رَوى الفراء عن بعض العرب أَنهم يهمزون ما لا همز فيه إذا ضارع المَهموز.

قال : وسمعت امرأَة من غَنِيّ تقول : رثأت زَوجي بأَبيات ، كأَنها لمّا سَمعت : «رثأَت اللبن» ذهبت إلى أَنّ مرثية الميت منها.

قال : ويقولون : لبّأَت بالحج ، وحلأت السويق ، فيغلطون ، لأن «حلأت» يقال في دَفع العَطشان عن الماء ، و «لبأت» يذهب

٤٩٠

بها إلى اللّبأ.

وقالوا : استنشأَت الريح ، والصواب : استنشيت ، ذهبوا به إلى قولهم : نشأ السحاب.

ومنها : الهمزة الأصلية الظاهرة في اللفظ ، نحو همزة : الخبء ، والدفء ، والكفء ، والعبء ، وما أشبهها.

ومنها : اجتماع الهمزتين في كل واحدة ، نحو همزتي : الرئاء ، والحلوئاء.

وأما «الضياء» فلا يجوز همز يائه ، والمدة الأخيرة فيه همزة أصليّة ، من : ضاء يضوء ضوءاً ؛ وأنشد أحمد بن يحيى فيمن هَمز ما ليس بمَهموز :

وكنت أرجِّي بئر نعمان حائراً

فَلوّأ بالعينين والأَنف حائِرُ

أراد : لوّى ، فهمز.

قال : والناس كلهم يقولون : إذا كانت الهمزة طرفاً وقبلها ساكن حَذَفوها في الخَفض والرَّفْع وأثبتوها في النصب ، إلا الكسائي وحَده فإنه يُثبتها كُلَّها.

قال : وإذا كانت الهمزة وُسْطى أجمعوا كلّهم على ألّا تَسْقط.

قال : واختلف العلماء بأيّ صُورة تكون الهمزة؟.

فقالت طائفة : تكتبها بحركة ما قبلها ، وهم الجماعة.

وقال أصحاب القياس : تكتبها بحركة نفسها.

واحتجت الجماعة بأنّ الخطّ ينوب عن اللّسان ، وإنما يلزمنا أن نتوهّم بالخطّ ما نَطق به اللسان.

قال أحمد بن يحيى : وهذا هو الكلام.

باب : اجتماع الهمزتين لهما معنيان

قال الله تعالى : (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٦].

من القُراء من يُحقق الهمزتين ، فيقرأ : «أَأَنْذَرْتَهُمْ» قرأ به عاصم وهَمزه والكسائي.

وقرأ أبو عمرو : «آنذرتهم» بهمزة مطوّلة.

وكذلك جميع ما شاكله نحو قوله تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) [المائدة : ١١٦].

(أَأَلِدُ) [هود : ٧٢] ، (أَإِلهٌ) [النمل : ٦٠ ـ ٦٤].

وكذلك قرأ ابن كثير ونافع ويعقوب بهمزة مطوَّلة.

وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق : «آأنذرتهم» بألف ساكنة بين الهمزتين ، وهي لغة سائرةٌ بين العرب ؛ قال ذو الرمّة :

أيا ظبية الوَعساء بين حُلاحل

وبين النَّفا آأنت أم أُمّ سالِم

وقال آخر :

٤٩١

تطالَلْت فَاسْتشرفْتُه فعرفته

فقُلت له آأنت زيدُ الأرانبِ

وأنشد أحمد بن يحيى :

خِرق إذا ما القوم أَجْرَوا فكاهةً

تذكَّر آإيّاه يَعْنون أم قِرْدا

وقال الزجّاج : زعم سيبويه أن من العرب من يحقِّق الهمزة ولا يجمع همزتين ، وإن كانتا من كلمتين.

قال : وأهل الحجاز لا يخفّفون واحدة منهما.

قال : وكان الخليل يَرى تَخفيف الثانية ، فيجعل الثانية بين الهمزة والألف ، ولا يجعلها ألفاً خالصة.

قال : ومن جعلها ألفاً خالصة فقد أخطأ من جهتين :

إحداهما : أنه جَمع بين ساكنَيْن.

والأخرى : أنه أبدل من همزة متحرِّكة قبلها ألفاً ، والحركة الفتح.

قال : وإنما حَقّ الهمزة إذا تحرّكت وانفتح ما قبلها أَن تُجعل بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركتها ، فتقول في : «سأل» : سال ؛ وفي «رؤف» : روف ؛ وفي «يئس» بِيس.

وهذا في الخط واحد ، وإنما تحكمه المُشافهة.

قال : وكان غير الخليل يقول في مثل قوله تعالى : (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) [محمد : ١٨] أن تخفّف الأُولى.

وقال سيبويه : جماعة من العرب يقرؤون «فقد جا أشراطها» يحقِّقون الثانية ويخفّفون الأولى.

قال : وهذا مذهب أبي عمرو بن العلاء.

قال : وأمّا الخليل فإنه يقرأ بتحقيق الأولى وتخفيف الثانية.

قال : وإنما اخترت تخفيف الثانية ، لاجتماع الناس على بدل الثانية في قولهم : آدم ، وآخر ، لأن الأصل في «آدم» : أأدم ، وفي «آخر» : أَأْخر.

قال الزجّاج : وقول الخليل أَقيس ، وقول أبي عمرو جيّد أيضاً.

قال : وأما الهمزتان إذا كانتا مكسورتين نحو قوله تعالى : (عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) [النور : ٣٣] ، وإذا كانتا مضمومتين ، نحو قوله تعالى : (أَوْلِياءُ أُولئِكَ) [الأحقاف : ٣٢] ، فإِن أبا عمرو يُخفف الهمزة الأولى منهما ، فيقول «على البغا إن أَردن» ، و «أوليا أولئك» فيجعل الهمزة الأولى في «الْبِغاءِ» بين الهمزة والياء ويكسرها ؛ ويجعل الهمزة في قوله تعالى : «أَوْلِياءُ أُولئِكَ» الأولى بين الواو والهمزة وبضمّها.

قال : وجملة ما قال النحويون في مثل هذا ثلاثة أقوال :

٤٩٢

أحدها : وهو مذهب الخليل ، أن تجعل مكان الهمزة الثانية همزة بين بين أعني : بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركتها ، فإذا كان مضموماً جُعل الهمزة بين الواو والهمزة ، فقال : (أَوْلِياءُ أُولئِكَ).

وأما أبو عمرو فيقرأ على ما ذكرنا.

وأما ابن أبي إسحاق وجماعة من القراء فإنهم يَجمعون بين الهمزتين.

وأما اختلاف الهمزتين ، نحو قوله تعالى : (السُّفَهاءُ أَلا) [البقرة : ١٣] فأكثر القُراء على تحقيق الهمزتين.

وأما أبو عمرو فإنه يحقِّقَ الهمزة الثانية في رواية سيبويه ، ويخفّف الأولى فيجعلها بين الواو والهمزة ، فيقول «السُّفَهاءُ أَلا» ويقرأ «مِنَ السَّماءِ إِنْ» فيخفّف الثانية.

وأما سيبويه والخليل فيقولون «السفهاء ولا» يَجعلون الهمزة الثانية واواً خالصة ؛ وفي قوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ) [الملك : ١] ياءً خالصة.

فهذا جميع ما جاء في هذا الباب.

باب ما جاء عن العرب في تحقيق الهمز وتليينه وتحويله وحذفه

قال أبو زيد الأنصاري : الهمز على ثلاثة أوجه : التحقيق ، والتخفيف ، والتحويل.

فالتحقيق منه أن تعطي الهمزة حقها من الإشباع ، فإذا أردت أن تعرف إشباع الهمزة فاجعل «العَين» في موضعها ، كقولك من «الخب» : قد خبأت لك ، بوزن «خبعت» ، وقرأت ، بوزن «قرعت» ، فأنا أخبع وأقرع ، وأنا خابىء وقارىء ، نحو : خابع ، وقارع.

فخُذ تحقيق الهمز بالعين كما وصفت لك.

قال : والتخفيف من الهمزة ، إنما سمّوه تخفيفاً لأنه لم يُعط حقّه من الإعراب والإشباع ، وهو مُشْرب همزاً تصرّف في وجوه العربيّة بمنزلة سائر الحروف التي تحرّك ، كقولك : خبأت وقرأت ، فجعل الهمزة ألفاً ساكنة على سُكونها في التحقيق ، إذا كان ما قبلها مفتوحاً.

وهي كسائر الحروف التي يدخلها التحريك ، كقولك : لم يَخبا الرجل ، ولم يقرا القرآن ، فيكسر الألف من «يخبا» و «يقرا» ، لسكون ما بعدها ، فكأنك قلت : لم يَخْبِيَّرجُل ، ولم يَقْر يَلْقرآن ، وهو يخبو ويَقرو ، فيجعلها واواً مضمومة في الإدراج.

فإِن وقفتها جعلتها ألفاً ، غير أنك تهيئها للضَّمة من غير أَن تظهر ضمتها ، وتقول : ما أخباه وأقراه ، فتحرّك الألف بفتح لبقيّة ما فيها من الهمزة ، كما وَصفت لك.

٤٩٣

قال : وأمّا التَّحويل من الهمز فأَن تحوّل الهمزة إلى «الياء» و «الواو» ، كقولك : قد خَبَيت المتاع ؛ فهو مخبيّ ، وَهو يَخباه ، فاعْلم.

فيجعل الياءَ ألفاً حيث كان قبلها فتحة ، نحو ألف : يسعا ، و: يخشا ؛ لأن ما قبلها مفتوح.

قال : وَتقول : رفوت الثوب رَفواً ، فحوّلت الهمزة واواً ، كما ترى.

وتقول : لم يخب عني شيئاً ، فتسقط موضع اللام من نظيرها من الفِعْل ؛ للإعراب ، وتدع ما بقي على حاله متحركاً ، وتقول : ما أخباه ؛ فتسكن الألف المحوّلة كما أسكنت الألف من قولك : ما أخشاه.

قال : ومن محقّق الهمز قولُك للرجل : يلؤم ، كأنك قلت : يَلعم ، إذا كان بخيلاً ؛ والأسد يَزْئر ، كقولك : يزعر.

فإِذا أردت التَّخفيف قلت للرجل : يَلُم ، وللأسد : يَزر ؛ على أن ألقيت الهمزة من قولك : يلؤم ويزئر ، وحركت ما قبلها بحركتها على الضم والكسر ، إذا كان ما قبلها ساكناً.

فإِذا أردت تحويل الهمزة منهما قلت للرجل : يَلُوم ، فجعلتها واواً ساكنة ، لأنها تَبعت الضمة ؛ وللأسد : يزير ، فجعلتها ياء للكسرة قبلها ، نحو : يبيع.

وكذلك كل همزة تبعث حرفاً ساكناً عَدلتها إلى التخفيف ، فإِنك تلقيها وتحرّك بحركتها الحرفَ الساكن قبلها ، كقولك للرجل : يسل ، فتحذف الهمزة وتحرك موضع الفاء من نظيرها من الفعل بحركتها ، لأنه ساكن ؛ كقولك في الأمر : سل ، فتحرك ما قبل الهمزة بحركتها ، وأسقطت ألف الوصل إذ تحرك ما بعدها.

وإنما يجتلبونها للإسكان ؛ فإِذا تحرك ما بعدها لم يحتاجوا إليها.

ومن المحقق باب آخر : وهو قولك من «رأيت» ، وأنت تأمر : ارأ ، كقولك : ارْع زَيداً.

فإذا أردت التخفيف قلت : رَ زَيْداً ، فتسقط ألف الوصل لتحرّك ما بعدها.

قال أبو زيد : وسمعت من العرب من يقول : يا فلان نُويك ، على التخفيف ، وتحقيقه : انْأَ نُؤْيك ، كقولك : انْع نعيك ، إذا أمره أن يجعل حول خبائه نؤياً كالطّوق يَصْرف عنه ماء المطر.

ومن هذا الباب قولك : رأيت الرجل ، فإذا أردت التخفيف قلت : رايت ، فحركت الألف بغير إشباع همز ، ولا تسقط الهمزة لأن ما قبلها متحرك.

وتقول للرجل : ترأى ذلك ، على التحقيق.

٤٩٤

وعامّة كلام العرب في : يرى ، وترى ، وأرى ، ونرى ، على التخفيف.

قال : وتقول : رأب القدح ، فهو مرؤوب ، بوزن : مرعوب ، ومروب ، على التخفيف ، لم تزد على أن ألقيت الهمزة من الكلمة وجعلت حركتها بالضمّ على الحرف الساكن قَبلها.

قال أبو زيد : واعلم أن واو «فعول» و «مفعول» وياء «فعيل» وياء التصغير لا يَعتقبن الهمز في شَيء من الكلام ، لأن الأسماء طوّلت بها ، كقولك في التحقيق : هذه خطيئة ، بوزن «خطيعة» ، فإذا عدلتها إلى التخفيف قلت : هذه خطية ، جعلت حركتها ياء للكسرة ، وتقول : هذا رجل خبوء ، كقولك : خبوع ، فإذا خفّفت قلت : رجل خبو ، فجعلت الهمزة واواً للضمة التي قبلها ، وجعلتها حرفاً ثقيلاً في وزن حرفين مع الواو التي قبلها ، وتقول هذا ، متاع مخبوء ، بوزن مخبوع ، فإِذا خففت قلت : متاع مخبو ، فحولت الهمزة واواً للضمة قبلها.

أبو زيد : تقول : رجل براء من الشرك ، كقولك : براع ، فإذا عدلتها إلى التخفيف قلت : براو ، فتصير الهمزة واواً ، لأنها مضمومة.

وتقول : مررت برجل براي ، فتصير ياء على الكسرة ، ورأيت رجلاً برايا ، فتصير ألفاً لأنها مفتوحة.

ومن تحقيق الهمز قولك : هذا غطاء ، وكساء ، وخباء ، فتهمز موضع اللام من نظيرها من الفعل ، لأنها غاية وقبلها ألف ساكنة ، كقولك : هذا غطاع ، وهذا كساع ، وهذا خباع ، فالعين موضع الهمزة.

فإذا جمعت الاثنين على سنة الواحد في التحقيق قلت : هذان غذاآن ، وكساآن ، وخباآن ، كقولك غطاعان وكساعان وخباعان ، فتهمز الاثنين على سنة الواحد.

وإذا أردت التخفيف قلت : هذا غطاو ، وكساو ، وخباو ، فتجعل الهمزة واواً لأنها مضمومة.

وإن جمعت الاثنين بالتخفيف على سنة الواحد ، قلت : هذان غطاآن ، وكساآن ، وخباآن ، فتحرك الألف التي في موضع اللام من نظيرها من الفعل بغير إشباع ، لأن فيها بقية من الهمزة وقبلها ألف ساكنة.

فإذا أردت تحويل الهمزة ، قلت : هذا غطاو ، وكساو ، وخباو ، لأن قبلها حرفاً ساكناً وهي مضمومة ، وكذلك : القضاء ، هذا قضاو ، على التحويل ، لأن ظهور الواو ها هنا أخف من ظهور الياء.

وتقول في الاثنين إذا جمعتهما على سنة

٤٩٥

تحويل الواو : غطاوان ، وكساوان ، وخباوان ، وقضاوان.

قال أبو زيد : وقد سمعت بعض بني فزارة يقول : هما كسايان ، وخبايان ، وقضايان ، فيحول الواو إلى الياء.

قال : والواو في هذه الحروف أكثر في الكلام.

ومن تحقيق الهمز قولك : يا زيد من أنت؟ كقولك : من عَنت.

فإذا عدلت الهمزة إلى التخفيف قلت : يا زيد من نت ، كأنك قلت : نعنت ؛ لأنك أسقطت الهمزة من «أنت» وحركت ما قبلها بحركتها ، ولم يدخله إدغام لأن النون الأخيرة ساكنة والأولى متحركة.

وتقول : من أنا ، كقولك : من عنا ، على التحقيق.

فإِن أردت التخفيف قلت : يا زيد من نا ، كأنك قلت : يا زيد منا ، لأنك أسقطت الهمزة وحركت ما قبلها بحركتها.

فإذا أردت الإسكان قلت : يا زيد منا ، أدخلت النون الأولى في الأخيرة ، وجعلتهما حرفاً واحداً ثقيلاً في وزن حرفين ، لأنهما متحركان في حال التخفيف ، ومثله قول الله تعالى : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) [الكهف : ٣٨] خففوا الهمزة من : لكن أنا ، فصارت «لكن نا» ، كقولك : لكننا ، ثم أسكنوا ، بعد التخفيف. فقالوا : لكنا.

قال : وسمعت أعرابياً من قيس يقول : يا أب أقبل ، وياب اقبل ، ويا أبة أقبل ، ويابة أقبل ، فألغى الهمزة من كل هذا.

ومن تحقيق الهمزة قولك : افْعوعلت ، من «رأيت» : إياوْأيْت ، كقولك : افْعوْعيت.

فإذا عدلته إلى التخفيف قلت : إيويت وحدها ، وويت ، والأولى منهما في موضع الفاء من الفعل ، وهي ساكنة ، والثانية هي الزائدة ، فحرّكتها بحركة الهمزتين قبلها ، وثقل ظهور الواوين مفتوحتين ، فهمزوا الأولى منهما.

ولو كانت الواو الأولى واو عطف لم يثقل ظهورها في الكلام ، كقولك : ذهب زيد ووافد ؛ وقدم عمرو وراهب.

قال : وإذا أردت تحقيق «مُفْعوعل» من «وأيت» قلت : مُوأَوْئى ، كقولك : مُوعوعى.

فإذا عدلت إلى التخفيف قلت : مُواوِي ، فتفتح الواو التي في مَوضع الفاء بفتحة الهمزة التي في موضع العين من الفعل ، وتكسر الواو الثانية ، وهي الزائدة ، بكسر الهمزة التي بعدها.

قال أبو زيد : وسمعت بعض بني عجلان بن قيس يقول : رأَيت غُلامِيَّبَيْك.

ورأيت غُلَاميَّسَد. تحوّل الهمزة التي في «أسد» وفي «أبيك» إلى الياء ، ويدخلونها

٤٩٦

في الياء التي في «الغلامين» التي هي نفس الإعراب فيظْهر ياء ثقيلة في وزن حرفين ، كأنك قلت : رأيت غلاميبيك ، ورأيت غلاميَّسد.

قال : وسمعت رجلاً من بني كلب يقول : هذه وأبة ، وهذه امرأة شأبة ، فهمزوا الألف منهما ، وذلك أنه ثقل عليه إسكان الحرفَيْن معاً. وإن كان الحرف الآخر منها متحرِّكاً ؛ وأنشد الفَرّاء :

يا عَجَبا لقد رأيتُ عَجَبَا

حِمار قَبَّان يسوق أَرْنَبَا

* وأمّها خاطُمها أن تذهبَا*

وقال أبو زيد : أهل الحجاز إذا اضطروا نَبَروا.

قال : وقال أبو عمرو الهذلي : قد توضَّيْت ، فلم يهمز وحَوَّلها ياء.

وكذلك ما أشبه هذا.

قلت : وقد ميزَّت في معتلات كل كتاب ما يهمز ممّا لا يهمز ، تمييزاً لا تتعذّر عليك معرفته ، وحقّقت ما يجب تحقيقه في مواضعه من أبواب المعتلات ، وفصَّلت ما لا يهمز ممّا يهمز تفصيلاً يقف بك على الصواب إذا أتت بك القراءة عليها.

وأما الليث بن المظفّر فإنه خلط في كتابه المَهموز بما لا يُهمز ، حتى يَعْسر على الناظر فيه تمييز ما لا يهمز مما لا يهمز ، لاختلاط بعضه ببعض.

ولله الحمد على حسن توفيقه وتَسديده.

٤٩٧
٤٩٨

[خاتمة الكتاب]

وهذا آخر الكتاب الذي سمّيته «تهذيب اللغة» وقد حَرصت أَلا أُودعه من كلام العرب إلّا ما صحّ لي سماعاً ، من أعرابيّ فَصيح ، أو محفوظاً لإمام ثِقة ، حَسن الضّبط ، مأمونٍ على ما أَدّى.

وأمّا ما يقع في تضاعيف الكتاب لأبي بكر محمد بن دُريد الشاعر وللّيث ، ممّا لم أحفظه لغيرهما ، فإني قد ذكرت في أَول الكتاب أني واقف حروف كَثيرة لهما ، وأنه يجب على الناظر فيها أن يَفحص عنها ، فإن وجدها محفوظة لإمام من أَئمة اللغة ، أو في شعر جاهليّ ، أو بدويّ إسلامي ، عَلِم أنها صَحِيحة ؛ وإذا لم تصحّ من هذه الجهة توقّف عن تصحيحها.

وأما «النوادر» التي رَواها أبو عُمر الزاهد وَأَودعها كتابه ، فإني قد تأمّلتها ، وما عثرت منها على كلمة مصحّفة ، أو لفظة مُزالة عن وجهها ، أو محرفة عن معناها.

ووجدتُ عُظم ما رَواه لأبي عمروٍ الشَّيباني ، وابن الأعرابي ، وأبي زيد ، وأبي عبيدة ، والأصمعي ، محفوظاً من كُتبهم المعروفة لهم ، والنوادر التي رَواها الثقات عنهم.

وليس يَخفى ذلك على مَن درس كُتبهم وعُني بحفظها والتفقّد لها.

ولم أذهب أَنا فيما أَلّفت وجَمعت في كتابي هذا مذهب من تصدَّى للتأليف فجمع ما جمع من كُتب لم يُحكم معرفتها ، أَو لم يَسمعها ممن أَتقنها ، وحمله الجهلُ وقلّةُ المعرفة على تحَصيل ما لم يحصِّله ، وإكمال ما لم يكمّله ، حتى أَفضى به الحال إلى أن صَحّف فأكثر ، وغَيَّر فأخطأ.

ولمّا رأَيْت ما أَلّفْه هذه الطبقةُ ، وجنايتهم على لسان العرب الذي نَزل به الكتاب وَوَردت السنن والأخبار ، وإزالتهم لُغات العرب عن صيغة أَلسنتها ، وإدخالهم فيها ما ليس منها ، علمتُ أَن المميّزين من عُلماء اللغة قد قلّوا في أَقطار الأرض. وأَن من درس تلك الكتب ربما اغترّ بها واتّخذها أُصولاً فبنى عليها ؛ فألّفت هذا الكتاب وأَعفيتُه

٤٩٩

من الحشو ، وبيّنت فيه الصواب من الخطأ ، بقَدر معرفتي ، ونقيته من التصحيف المغيّر ، والخطأ المُستفحش والتَّغيير والمُزال عن جهته.

ولو أَني كثّرت كتابي هذا وحَشوته بما حوته دفاتري ، وَاشتملت عليه الكتب التي أَفْسدها الورّاقون ، وغيَّرها المصحِّفون ، لطال الكتاب وتضاعف على ما انتهى ، وكنت أَحد الجانين على لسان العرب.

والله يُعيذنا من ذلك ، ويوفّقنا للصّواب ، ويؤم بنَا سَمْت الحق ، ويتغمَّد برأفته زللنا بمنّه ورَحمته.

واعلم أيها الناظر في كتابي هذا أني لا أَدّعي أني حَصَّلت فيه لغات العرب كلّها ، ولا طَمِعت فيه ، غير أني اجتهدت أن يكون ما دوّنته مهذباً من آفة التصحيف ، منقىًّ من فساد التَّغيير.

فمن نظر فيه من ذوي المَعرفة فلا يَعجلن إلى الرد والإنكار ، ولْيَتَثبَّث فيما يخطر بباله ، فإنه إذا فعل ذلك بان له الحقّ وانتفع بما استفاد.

ومهما قصرنا عنه فإنما هو العجز الإنسان عن الكمال ، وما كان من إحساس فبتوفيق الله وتسديده ، والنية في كل ذلك منها الاجتهاد في بلوغ الحق.

وَأَسأَل الله ذا المَنّ وَالطَّوْل أَن يعظم لي الأجر على حسن النية ، ولا يحرمني ثواب ما توخّيته من النَّصِيحة لأهل العلم والأدب ، وإياه أَسأَل مُبدياً ومُعيداً أن يصلّي على محمد النبي وعلى آله الطيبين أطيب الصلاة وأزكاها ، وَأن يُحلنا دار كرامته ، وَمُستقر رحمته ، إنه أكرم مسؤول ، وَأقرب مُجيب.

٥٠٠