تهذيب اللغة - ج ١٥

محمّد بن أحمد الأزهري

تهذيب اللغة - ج ١٥

المؤلف:

محمّد بن أحمد الأزهري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨

خطأ وغلط.

وقال غير واحد : نَوَيْت النَّوى ، وأَنْوَيته ، وذلك إذا أكلت التَّمر وَجمعت نَوَاه.

الليث : نَوَّت البُسرة ، وأَنْوَت ، إذا عَقَدت نَوَاتها. وثلاث نَوَيات. والجميع : النَّوَى.

قال : والنَّوَى : مَخْفِض الجارية ، وهو الذي يَبْقى من بَظْرها إذا قُطِع المُتْك.

وقالت أعرابّية : ما تَرَك النَّخْجُ لنا مِن نَوًى.

أبو عُبيد ، عن الأصمعي : إذا سَمِنت الناقة ، فهي ناوِية.

وقد نَوت تَنْوِي نَيًّا.

وهُن نُوقٌ نِوَاءٌ ؛ قال أبو النَّجم :

أَو كالمُكَسَّر لا تَؤُوب جِيادُه

إلّا غَوانِمَ وهي غَيْرُ نِوَاء

قال أبو الدُّقَيش : النِّيّ ، الاسم ، وهو الشَّحْمُ.

والنَّيّ ، هو الفِعل.

يقال : نَوت الناقة نَيًّا ، إذا كثر نِيّها.

وقال الليث : النَّيّ ، والنِّيّ.

وقال غيره : النِّيّ : اللحم ، بكسر النُّون.

والنَّيّ : الشَّحم.

ثعلب ، عن ابن الأعرابي ، قال : النَّوى : الحاجات. والوَنى : ضَعْف البَدن. وأَنْوَى الرَّجُل ، إذا كثرت أَسْفارُه. وأَنوى ، إذا تباعد.

وأَنْوَى ، ونَوَى ، ونَوَّى ، إذا أَلْقى النَّوى.

وأَنْوى ، ونَوَى ، ونَوَّى ، من النِّيّة.

وأَنْوى ، ونَوى ، ونَوَّى ، في السَّفَر.

وأَنْشد :

إنّك أَنت المَحْزون في أَثر الْ

حَيّ فإن تَنْوِينّهم تُقِم

قال ابن الأعرابي : قلت للمُفضَّل : ما تقول في هذا البيت؟ قال : فيه مَعنيان : أحدهما : يقول : قد نَوْوا فِراقَك فإن تَنْو كما نَوَوْا تُقم فلا تَطْلُبهْم.

والثاني : قد نَوَوْا السَّفَر ، فإن تَنْو كما نَوَوْا تُقِم صُدُور الإبل في طَلبهم ؛ كما قال الآخر :

* أقِم لها صُدورَها يا بَسْبَسُ*

وقال ابن الأعرابيّ : الوَنْوة : الاسترخاء في العَقل. والوَنى : الضَّعْف. والنَّنّ : الشَّعر الضَّعيف.

والوَنّ : الصَّنْج الذي يُضْرب بالأصابع ، وهو الونج ، مشتقّ من كلام العَجم.

أبو عُبيد (١) : وَنَيْت في الأمر : فَتَرت.

وأَوْنَيْت غيري.

وفي «نوادر الأعراب» : فلانٌ نَوِيّ القوم وناويهم ، ومُنْتويهم ، أي صاحب أَمرهم

__________________

(١) هذا مكانه : «ونى» ، (إبياري).

٤٠١

ورأيهم.

نون : قال الله جلّ وعزّ : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١)) [القلم : ١].

قال الفراء : لك أن تُدغم النون وتُظهرها ، وإظهارها أَعجب إليّ ، لأنَّها هِجاء والهِجاء كالموقوف عليه وإن اتَّصَل.

ومن أخفاها بناها على الاتِّصال.

وقد قرأ القُرَّاء بالوَجْهين جميعاً.

قال أبو إسحاق : جاء في التفسير أن «ن» الحُوت الذي دُحِيت عليه سَبْع أَرَضين.

وجاء في التفسير ، أن «ن» : الدَّواة.

ولم يجىء في التفسير كما فُسرت حروف الهجاء.

قلت : «ن وَالْقَلَمِ» لا يجوز فيه غير الهجاء ، ألا ترى أن كُتَّاب المصحف كتبوه «ن» ، ولو أريد به : الدواة والحوت ، لكُتب : نون.

وقال ابن الأنباريّ في باب إخفاء النّون وإظهارها : النّون ، مَجهورة ذات غُنّة ، وهي تخفى مع حروف الفم خاصة ، وتبين مع حروف الحلق عامة ، وإنما خفيت مع حروف الفم لقربها منها ، وبانت مع حروف الحلق لبُعدها منها.

وكان أبو عمرو يخفي النون عند الحروف التي تُقاربها ، وذلك أنها من حُروف الفم ، كقولك : من قال؟ ومن كان؟ ومن جاء؟ قال الله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) [الأنعام : ١٦٠] على الإخفاء.

وأما بيانها عند حروف الحلق السّتة ، فإن هذه الستة تباعدت من مَخرجها ولم تكن مِن قَبيلتها ولا من حيِّزها ، فلم تخف فيها كما أنها لم تُدْغم فيها.

وكما أن حروف اللسان لا تُدغم في حروف الحَلق لبُعدها منها ، وإنما أُخْفيت مع حروف الفم كما أُدغمت اللام وأخواتها ، كقولك : من أجلك ، من هنا ، من خاف ، (مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) ، من عليّ ، من عليك.

قال : ومن العرب من يُجري الغين والخاء مجرى القاف والكاف في إخفاء النون معهما.

وقد حكاه النَّضر عن الخليل.

قال : وإليه ذهب سِيبويه.

قال الله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦)) [الرحمن : ٤٦] إن شئت أَخفيت ، وإن شئت أَبَنْت.

ثعلب ، عن ابن الأعرابي : النُّونة : الكلمة مِن الصَّواب.

والنُّونة : النُّقْبة التي تكون في ذَقَن الصّبيّ الصَّغير.

وفي حديث عثمان أنه رأى صَبِيًّا مَلِيحاً فقال : وسِّموا نُونته ، أي : سَوِّدوها لئلا تُصيبه العَين.

٤٠٢

وذو النون : سيفٌ كان لمالك بن زُهير ، أخي قيس بن زهير ، فقتله حَمل بن بَدْر وأخذ منه سيفَه «ذا النون» ، فلما كان يوم الهَباءة قتل الحارث بن زُهير حَمَل بن بدر وأخذ منه ذا النون ، وفيه يقول الحارث :

ويُخبرهم مكانُ النُّون منِّي

وما أُعطيتُه عَرَق الخِلَالِ

أي : ما أُعطيته مكافأة ولا مَودَّة ، ولكني قتلت حَملاً وأخذتُه منه قَسْراً.

وقول الله تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) [الأنبياء : ٨٧] هو : يونس عليه‌السلام ، سمّاه الله «ذا النون» لأنه حَبسه في جوف الحوت الذي التقمه.

والنُّون : الحُوت.

ويقال للسَّيف العَريض المعطوف طَرَفي الظُّبة : ذو النُّونَيْن ؛ ومنه قوله :

قَرَيْتُك في الشَّريط إذا التَقَيْنَا

وذو النّونيْن يومَ الحَرْب زَيْني

والتَّنْوين : تنوين الاسم إذا أَجْرَيته.

أن : قال أبو زيد : أنّ الرّجُل يَئِن أَنِيناً ، وأَنَت يَأنِت أَنِيتاً ، ونَأَتَ يَنْئِت نَئِيتاً ، بمعنى واحد.

الليث : رَجُلٌ أُنَنَة : كثير الكلام والبَثّ والشُّكْوى. ولا يُشْتقّ منه فِعْل.

ومن «الأنين» يُقال : أنّ يَئِن أَنِيناً ، وأَنًّا ، وأَنَّةً.

وإذا أَمَرْت قُلت : إينَنْ ، لأن الهمزتين إذا الْتقتا فسَكنت الأخيرةُ اجْتمعوا على تَلْيِينها.

وأما في الأمر الثاني فإِنه إذا سكنت الهمزة بَقي النُّون مع الهمزة وذهبت الهمزة الأولى.

ويقال للمرأة : إنّي ، كما يُقال للرُّجل : اقْرِرْ ، وللمرأة : قِرّي.

أبو العبّاس ، عن ابن الأعرابي : أنَ الماءَ يُؤنّه ، إذا صَبَّه.

وفي بعض أخبار العرب : أُنّ ماءً ثم أَغْلِه ، أي : صُبَّه وأَغْلِه.

ابن السِّكيت : يُقال : ما له حانّة ولا آنَّة ، أي ما له ناقة ولا شاة.

قال : ويقال : لا أفعله بما أنّ في السماء نَجْمٌ ، أي : ما كان في السماء نجم ؛ وما عَنّ في السماء نجم ، أي : ما عَرض ؛ وبما أنّ في الفُرات قَطرة ، أي : ما كان في الفُرات قطرة.

وفي حديث ابن مسعود : إنّ طول الصلاة وقِصَر الخُطْبة مَئِنّة من فِقْه الرَّجُل ، أي : بيان منه.

قال أبو زيد : إنه لَمِئّنة أَن يَفعل ذلك ، وإنها وإنهن لمِئَّنة أن يفعلوا ذلك ، بمعنى : لخليق أن يفعلوا ذلك : وأَنْشد :

ومَنزل من هَوَى جُمْلٍ نزلتُ به

مَئِنّة من مَراصيد المَئِنّاتِ

٤٠٣

به تجاوزتُ عن أولى وكائِده

إنّي كذلك رَكّاب الحَشِيّاتِ

أولى ، حكاية عمرو ، عن أبيه.

الأنّة والمَئِنة ، والعَدْقة ، والشَّوّزب ، واحد ؛ وقال دُكَين :

يَسْقِي على دَرّاجة خَرُوس

مَعْصُوبة بَين رَكايا شُوسِ

* مَئِنَّة مِنْ قَلَتِ النّفوسِ*

يقال : مكان من هَلاك النفوس. وقوله : مكان من هلاك النفوس : تفسير لِمئِنّة ، ودلّ ذلك على أنه بمنزلة «مَظِنّة» والخَروس : البَكْرة التي ليست بصافية الصَّوْت. والجَروس ، بالجيم : التي لها صوت.

وقال أَبو عبيد : قال الأصمعي : سألني شُعبة عن «مَئِنّة» ، فقلت : هو كقولك علامة ، وخليق.

قال أبو زيد : هو كقولك : مَخْلقة ، ومَجْدَرة.

وقال أبو عبيد : يَعني أن هذا مما يُعْرف به فِقه الرجل ويُستدلّ به عليه.

قال : وكل شيء دلّك على شيء فهو مَئِنَّة له ؛ وأَنشد للمَرّار :

فتَهامَسُوا سِرًّا فقالوا عَرِّسُوا

من غَيْر تَمْئِنة لغير مُعَرَّسِ

قلت : الذي رواه أبو عُبيد ، عن الأصمعي ، وأبي زيد ، في تفسير المَئِنّة ، صَحِيح ، وأما احتجاجه برأيه ببيت المَرّار في التَّمْئنة للمَئِنّة ، فهو غَلط وسَهو ؛ لأن الميم في «التمئنة» أصلية ، وهي في «مئنّة» مَفْعلة ليست بأَصلية.

وقد فسرت بيت المَرّار في باب «مأن».

وأما «مئنة» فإن اللحياني قال : هو مَئِنّة أن يفعل ذلك ، ومَظِنَّة أن يفعل ذلك ، وأَنْشد :

إنّ اكْتحالا بالنَّقِيِّ الأَبْلج

ونَظَراً في الحاجِب المُزجَّجِ

* مَئِنّة من الفَعال الأعْوج*

فكان «مَئِنّة» عند اللّحياني مُبدل الهمزة فيها من الظاء في «المظنة» ، لأنه ذكر حروفاً تُعاقب فيها الظاء الهمزة ، منها قولهم : بيت حَسن الأَهْرة والظَّهرة ، وقد أَفر وظَفر ، أي : وَثب.

إن : قال الليث : قال الخليل : «إن» الثقيلة تكون منصوبة الألف ، وتكون مكسورة الألف ، وهي التي تَنْصب الأسماء.

قال : وإذا كانت مُبتدأة ليس قبلها شيءٌ يُعتمد عليه ، أو كانت مُستأنفة بعد كلام قديم ومَضى ، أو جاءت بعدها لام مؤكدة يُعْتمد عليها ، كُسرت الألف ، وفيما سوى ذلك تُنصب الألف.

وقال الفرّاء في «أنّ» إذا جاءت بعد القول وما تصرّف من القول ، وكانت حكايةً لم يقع عليها القولُ وما تصرف منه ، فهي

٤٠٤

مكسورة ، وإن كانت تَفْسيراً للقول نَصَبتها ، وذلك مثل قول الله تعالى : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [يونس : ٦٥].

وكذلك المَعنى استئناف ، كأنه قال : يا محمد ، (إِنَ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً).

وكذلك (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) [النساء : ١٥٧] كسرتها ، لأنها بعد القول على الحكاية.

قال : وأما قوله تعالى : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) [المائدة : ١١٧] فإنك فَتحت الألف ، لأنها مُفَسّرة ل «ما» ، و «ما» قد وَقع عليها القولُ فنصبها ، وموضعها نَصْب.

ومثله في الكلام : قد قلت لك كلاماً حَسناً أنّ أباك شريفٌ ، وأنَّك عاقل ، فتحت «أنّ» لأنها فَسَّرت الكلام ، والكلام مَنْصوب.

ولو أردت تكرير القول عليها كَسَرْتها.

قال : وقد تكون «إنّ» بعد القول مفتوحة ، إذا كان القول يُرافعها ؛ من ذلك أن تقول : قولُ عبد الله مُذ اليوم أنّ الناس خارجون ، كما تقول : قولُك مُذ اليوم كلامٌ لا يُفْهم.

وقال الليث : إذا وقعت «إنّ» على الأسماء والصّفات فهي مُشدَّدة.

وإذا وقعت على فعل أو حرف لا يتمكن في صِفة أو تَصريف فخفِّفها ، تقول : بلغني أن قد كان كذا وكذا ، تخفّف من أجل «كان» ، لأنها فِعل ، ولو لا قد لم تَحْسن على حال من الفِعل حتى تعتمد على «ما» أو على «الهاء» ، كقولك : إنما كان زَيْدٌ غائباً ، وبلغني أنه كان أخو بكر غنِيًّا.

قال : وكذلك بلغني أنه كان كذا وكذا ، تشدِّدها إذا اعتمدَتْ.

ومن ذلك قولك : إنْ رُبّ رجل ، فتخفّف.

فإذا اعتمدَت قلت : إنه رُبّ رجُل ، شدَّدْت.

وهي مع الصّفات مشدّدة : إنّ لك ، وإنّ فيها ، وإنّ بك ، وأَشَباهها.

قال : وللعرب لغتان في «إنّ» المشددة : إحداهما التَّثقيل ، والأخرى التخفيف.

فأمّا من خَفّف فإنه يَرفع بها.

إلا أن ناساً من أهل الحجاز يخفِّفون ويَنصبون على توُّهم الثقيلة.

وقرىء : (وَإِنَ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) [هود : ١١١] خفَّفوا ونَصبوا.

وأنْشد الفَرّاء في تَخْفيفها مع المُضْمر :

فلو أَنْك في يوم الرَّخاء سأَلْتني

فِراقَك لم أَبْخل وأنت صَدِيقُ

وأنْشد القولَ الآخر :

٤٠٥

لقد عَلِم الضَّيْفُ والمُرْمِلون

إذا اغْبرّ أفْقٌ وهَبّت شَمالا

بأنْك رَبيعٌ وغَيثٌ مَرِيعٌ

وقِدْماً هُناك تكون الثِّمالا

وقال أبو طالب النّحوي ، فيما رَوى عنه المُنذري ، قال : أهلُ البصرة غير سيبويه وذَويه يقولون : إنّ العرب تخفِّف «أن» الشديدة وتُعملها ؛ وأَنشدوا :

ووَجْهٍ مُشْرق النَّحْر

كأنْ ثَدْيَيه حُقّانِ

أراد «كأنّ» فخفَّف وأَعمل.

وقال الفَرّاء : لم نسمع العرب تُخفّف «أن» وتُعملها إلّا مع المَكنّى ، لأنه لا يتبيّن فيه إعراب ، فأمّا في الظاهر فلا.

ولكن إذا خفّفوها رَفَعوا وأمّا من خَفف : (وَإِنَ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) فإنهم نَصبوا (كُلًّا) ب (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) ، كأنه قال : «وإن ليوفينهم كُلا».

قال : ولو رُفعت «كل» لصَلح ذلك ، تقول : إنْ زيدٌ لقائم.

وأما قول الله تعالى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه : ٦٣] فإن أبا إسحاق النَّحوي اسْتَقصى ما قال فيه النَّحويون ، فحكيتُ كلامَه.

قال : وقرأ المدنيون والكوفّيون ، إلّا عاصماً : «إنّ هذان لساحران».

ورَوى عن عاصم أنه قرأ «إِنْ هذانِ» بتخفيف «إنْ».

ورُوي عن الخليل «إنْ هذا لساحران».

قال : وقرأ أبو عمرو : «إنّ هذين لساحران» ، بتَشديد «أنّ» ونصب «هذين» قال أبو إسحاق : والحجّة في «إنّ هذان لساحران» بالتشديد والرفع ، أن أبا عُبيدة روى عن أبي الخطّاب أنه لُغة لِكنانة ، يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد ، يقولون : رأيت الزيدان.

وروى أَهل الكوفة والكسائي والفَراء أنها لُغة لبني الحارث بن كعب.

قال : وقال النحويّون القُدماء : هاهنا هاء مُضمرة ، المعنى : إنّه هذان لساحران.

قال : وقال بعضهم : «إن» في معنى «نعم» ، المعنى : نعم هذان لساحران ؛ وأنشد :

ويَقُلْن شَيْبٌ قد عَلا

كَ وقد كَبِرْت فقلت إنَهْ

وقال الفراء في هذا : إنهم زادوا فيها النون في التثنية ، وتركوها على حالها في الرفع والنصب والجر ، كما فعلوا في «الذين» فقالوا : الذين ، في الرَّفع والنَّصب والجر.

فهذا جميع ما قال النحويّون في الآية.

قال أبو إسحاق : وأجودها عندي أن ، «أن» وقعت موقع «نعم» ، وأن اللام

٤٠٦

وقعت موقعها ، وأن المعنى : نعم هذان لهما ساحران.

والذي يلي هذا في الجودة مَذْهب بني كنانة وبَلْحارث بن كعب.

فأمّا قراءة أبي عمرو فلا أُجيزها ، لأنها خلاف المُصْحف.

قال : وأَستحسن قراءة عاصم والخليل : «إِنْ هذانِ لَساحِرانِ».

وقال غيره : العربُ تجعل الكلام مختصراً ما بَعْدَه على «إنّه» ، والمراد : إنه لكذلك ، وإنّه على ما تقول.

فأما «إن» الخفيفة ، فإن المنذريّ رَوى عن ابن اليَزيدي ، عن أبي زيد ، أنه قال : «إن» تقع في موضع من القرآن مَوْضِعَ «ما» ، ضَرْبُ قَوْله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) [النساء : ١٥٩] ، معناه : ما من أهل الكتاب.

ومثله : (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء : ١٧] أي : ما كنّا فاعلين.

قال : وتجيء «إن» في موضع «لقد» ، ضَرْبُ قوله تعالى : (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) [الإسراء : ١٠٨] ، المعنى ، لقد كان من غير شك من القوم.

ومثله : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) [الإسراء : ٧٣] ، (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) [الإسراء : ٧٦].

وتجيء «إن» بمعنى «إذ» ، ضَرْبُ قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٢٧٨] المعنى : إذ كنتم مؤمنين.

وكذلك قوله تعالى : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [النساء : ٥٩] معناه : إذ كنتم.

قال : و «أن» بفتح الألف وتَخفيف النون ، قد تكون في موضع «إذ» أيضاً.

و «إن» بَخْفض الألف تكون موضع «إذا» ، من ذلك قولُه تعالى : (لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا) [التوبة : ٢٣].

من خَفضها جعلها في موضع «إذا».

ومَن فتحها جعلها في موضع «إذ».

ثعلب ، عن ابن الأعرابيّ في قوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩)) [الأعلى : ٩].

قال : «إن» في معنى «قد».

وقال أبو العبّاس ، العربُ تقول : إن قام زيد ، بمعنى قد قام زيد.

وقال الكسائي : سمعتُهم يقولونه فظننته شرطاً ، فسألتهم فقالوا : نريد : قد قام زيد ، ولا نريد : ما قام زيد.

وقال الفراء : «إن» الخفيفة أُمّ الْجَزاء ، والعرب تُجازي بحروف الاستفهام كُلّها وتجزم الفعلين : الشرط والجزاء ، إلا «الألف» و «هل» ، فإنهما يَرفعان ما يليهما.

٤٠٧

وسئل ثَعلب : إذا قال الرّجل لامرأته : إن دخلت الدار ، إن كلمت أخاك ، فأنت طالق ، متى تَطْلُق؟ فقال : إذا فعلتهما جميعاً. قيل له : لِم؟ قال : لأنه قد جاء بشَرطين. قيل له : فإن قال لها : أنت طالق إن احمرّ البُسْر. فقال : هذه مسألةُ محال ، لأنّ البُسر لا بُدّ من أن يَحمرّ.

قيل له : فإن قال : أنت طالق إذا احْمَرّ البُسر. قال : هذا شرط صحيح ، تطلُق إذا احمرّ البُسر.

وقال الشافعي : فيما أثْبت لنا عنه : إنْ قال الرَّجُل لامرأته : أنتِ طالق إن لم أُطلِّقك ، لم يَحْنث حتى يُعلم أنّه لا يُطلِّقها بموته أو بموتها.

وهو قول الكوفيّين.

ولو قال : إذا لم أطلّقك ، ومتى ما لم أُطلّقك ، فأنت طالق ، فسكت مُدّة يمكنه فيها الطلاق ، طُلّقت.

أنا : للعرب في «أنا» لُغات ، وأجودها : أنّك إذا وَقَفْت عليها قُلت : أنَا ، بوزن «عَنَا».

وإذا مَضَيت عليها قلت : أَنَ فَعَلْت ذاك ، بوزن : عَنَ فَعَلْت ذاك.

تُحرِّك النون في الوَصل وهي ساكنة من مثله في الأسماء غير المتمكِّنة ، مثل : «من» و «كم» إذا تَحرّك ما قبلها.

ومن العرب من يقول : أنا فعلت ذاك ، فيثبت الألف في الوصل ولا يُنوّن.

ومنهم من يسكّن النون ، وهي قليلة ، فيقول : أنْ قُلت ذاك.

وقُضاعة تَمُدّ الألف الأُولى : آنَ قُلته ؛ قال عَدِيّ :

يا لَيت شعري آنَ ذُو عَجّةٍ

مَتَى أرى شَرْباً حوالَي أَصِيصْ

وقال العُدَيل فيمن يُثبت الألف :

أنا عَدْل الطِّعان لمن بَغَانِي

أنا العَدْل المُبيِّن فاعْرفونِي

و «أنا» لا تَثْنية له من لفظه إلا ب «نحن» ، ويَصلح «نحن» في التّثنية والجمع.

فإن قيل : لمَ ثَنَّوا «أنت» فقالوا : أنتما ، ولم يثنوا «أنا».

قيل : لمَا لم تجز : أنا وأنا ، لرجُل آخر ، لم يُثنّوا.

وأما «أنت» فثنّوه «بأنتما» لأنك تُجيز أن تقولَ لرجلٍ : أنت وأنت ، لآخر معه ، فلذلك ثُنِّي.

وأما «إنّي» فتثنية «إنا» ، وكان في الأصل : إنّنا ، فكثرت النونات ، فحذفت إحداها ، وقيل : إنّا.

وقوله عزوجل : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ) [سبأ : ٢٤]. المعنى : إنّنا وإنكم ، فعطف «إِيَّاكُمْ» على الاسم في قوله «إِنَّا» على النون والألف ، كما تقول : إني وإيّاك.

معناه : إنّي وإنّك ، فافهمه ؛ وقال :

٤٠٨

إنّا اقْتَسمنا خُطّتَيْنا بعدكم

فحملتُ بَرّة واحْتملت فجارِ

«إنا» تثنية «إني» في البيت.

نينوى : اسم قرية مَعْروفة تُتاخم كَرْبلاء.

وين : الوَيْنة : العِنَبة السَّوداء. وجمعه : الوَيْن ؛ وأَنْشد :

* كأنه الوَيْن إذ يُجْنى الوَيْن *

يَصف شَعْر امرأَة.

يين : قال أبو عمرو : يَيَن : اسْم مَوضع.

النون : الليث : النُّون حرف فيه نونان بينهما واو ، وهي مدّة.

ولو قيل في الشعر : نن ، كان صواباً.

وقرأ أبو عمرو «نون» جزماً.

وقرأ أبو إسحاق «نون» : جرًّا.

وقال الفَراء (ن وَالْقَلَمِ) [القلم : ١] : لك أن تدغم النون الأخيرة وتُظهرها ، وإظهارها أعجب إليّ. لأنها هجاء ، والهجاء كالموقوف عليه ، وإن اتَّصل.

ومن أخفاها بناها على الآتصال.

وقد قرأ القُرّاء بالوَجهْين جميعاً.

وكان الأعمش وحمزة يُبِينانها ، وبعضهم يترك البيان.

وقال النحويون : «النّون» تزاد في الأسماء والأفعال.

أما في الأسماء فإنها تزاد أولاً في : تفعل ، إذا سُمِّي به.

وتُزاد ثانية في : جُنْدب ، وجَنْدل.

وتُزاد ثالثة في : حَبَنطى ، وسَرَندى ، وما أشْبهه.

وتُزاد رابعة في : خَلْبن ، وضَيْفن ، وعَلْجن ، ورَعْشن.

وتُزاد خامسة في : مثل : عثمان ، وسُلطان.

وتُزاد سادسة في : زعفران ، وكَيْذُبان.

وتُزاد سابعة في مثل : عُبَيْثران.

وتُزاد علامة للصَّرف في كل اسم منصرف.

وتُزاد في الأفعال ثقيلةً وخَفِيفة.

وتُزاد في التّثنية والجمع ، وفي الأمر في جماعة النِّساء.

حدثنا عبد الله ، عن حمزة ، عن عبد الرزاق ، عن معمر والثَّوري ، عن الأعمش ، عن أبي ظَبيان ، أن ابن عباس قال : أول ما خَلق الله خَلق القلم فقال له : اكتب ، فقال : إي رَبّ ، وما أكتب؟

فقال : القدر. قال : فكتب في ذلك اليوم ما هو كائن إلى قيام الساعة. ثم خلق النون ، ثم بسط الأرض عليها فاضطربَ النُّون فمادت الأرض ، فخلق الله الجِبال فأثْبتها بها. ثم قرأ ابن عبّاس : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١)) [القلم : ١].

٤٠٩

وبالإسْناد عن الحَسن وقَتادة في قوله : (ن وَالْقَلَمِ) [القلم : ١] قالا : الدَّواة والقَلم. (وَما يَسْطُرُونَ) : ما يَكْتبون.

قال أبو تُراب : وأَنْشدني جماعةٌ من فُصحاء قيس وأَهل الصِّدْق منهم :

حاملةٌ دَلوك لا مَحمولَهْ

مَلأى من الماء كعَين النُّونَهْ

فقلت لهم : رواها الأصمعي «كعين الموله» فلم يَعْرفوها ، وقالوا : النونة : السّمكة.

وقال أبو عمرو : المُوله : العَنْكبوت.

٤١٠

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حرف الفاء

قال ابن المُظَفّر : قال الخليل بن أحمد : ذهبت العربيّة مع الحروف التي مرت فلم يَبْق للفاء إلا اللّفيف وأحرف قليلة من المُعتل ، وهي :

فُمّ ، فأم ، فوم ، فَمٌ

فمّ : ومن المضاعف : ثُم وفُمّ ، في النَّسَق.

يُقال : رأيت عمراً فُمَ زيداً ، وثُمّ زيداً ، بمعنى واحد.

وقال الفَرّاء : فُمّ وثُم ، من حُروف النّسَق.

فأم : أبو عُبيد ، عن أبي عمرو : الفِئام : وطاءٌ يكون للمَشاجِر.

وجمعه : فُؤُم ، على وزن فُعُم ؛ قال لَبِيد :

وأَرْبَد قارسُ الهَيْجَا إذا ما

تَقعَّرت المَشاجِرُ بالفِئَامِ

وقال غيره : هَوْدجٌ مُفَأَّم ، وُطِّىء بالفِئَام ؛ وأنشد قولَ زُهَير :

* على كُلِّ قَيْنيّ قَشِيب مُفْأَّمِ *

ورواه غيرُه : قشيب مُفْأَّم.

والتَّفْئيم : تَوسيع الدَّلْو.

يُقال : أفأمت الدَّلْو ، وأَفْعمته ، إذا مَلأْتَه.

ومَزَادةٌ مُفَأَّمة ، إذا وُسِّعت بِجلْد ثالث.

الحرّاني ، عن ابن السِّكيت : عند فلان فِئامٌ من الناس ، والعامة تقول : فِيام ، وهم الجماعة ؛ وأنشد غيره :

* فِئَامٌ يَنْهضُون إلى فِئَام *

وقال أبو عمرو : فأَمْت وصأمْت ، إذا رَوِيتَ من الماء.

وروى ابن الفرج لابن الأعرابيّ في باب الصاد والفاء : فَئِبْت وصَئِبْت ، إذا رويتَ من الماء.

قال أبو عمرو : التفاؤم : أن تملأ الماشية أَفواهَها من العُشب ؛ وأنشد :

ظلَّت برَمْلٍ عالجٍ تَسَنَّمُهْ

في صِلِّيانٍ ونَصِيٍ تَفْأمُهْ

وقال أبو تراب : سمعتُ أبا السَّميدع يقول : فئِمت في الشَّراب وصَئِمت ، إِذَا كَرعت فيه نَفَساً.

قلت : وكأنّه من : فأمت الإناء ، إذا أَفْعمته ومَلأته.

٤١١

وأخبرني المُنذري ، عن ثعلب ، عن ابن الأعرابي : فَئِب وصَئِب ، إذا رَوِي من الماء.

قلت : وهي كُلها لغات ، القاف والفاء والميم.

فام : ابن شُميل ، يُقال : قَطعوا الشاة فُوماً فُوماً ، أي قِطَعاً قِطَعاً.

الليث : الفامِيّ : السُّكرىّ.

قلت : ما أراه عَربيّاً مَحْضاً.

وقال الفراء في قول الله تعالى : (وَفُومِها وَعَدَسِها) [البقرة : ٦١].

قال : الفُوم ، فيما يذكرون : لغةٌ قديمة ، وهي الحِنْطة والخُبز ، جميعاً قد ذُكِرَا.

قال : وقال بعضهم : سمعتُ العرب من أهل هذه اللُّغة يقولون : فَوِّموا لنا ، بالتَّشديد ، يُريدون : اخْتبزوا لنا.

قال : وهي في قراءة عبد الله «و» بالثاء.

وكأنه أشبه المعنيين بالصّواب ، لأنه مع ما يُشاكله من العَدس والبَصل.

والعرب تُبدل الفاء ثاء فيقولون : جَدَف وجدث ، للقَبْر ؛ ووقع في عافور شّر ، وعاثور شّر.

وقال الزجّاج : الفوم : الحِنْطة.

ويقال : الحُبوب.

لا اختلاف بين أهل اللُّغة أنّ «الفوم» : الحِنطة ، وسائر الحُبوب التي تُختبز يَلْحقها اسمُ الفُوم.

قال : ومن قال «الفوم» ها هنا : الثُّوم ، فإن هذا لا يُعرف. ومُحال أن يَطلب القومُ طعاماً لا بُرّ فيه ، وهو أَصْل الغذاء. وهذا يَقطع هذا القول.

وقال اللِّحياني : هو الثُّوم والفُوم ، للحِنْطة.

قلت : إن كان قرأ ابن مسعود بالثاء فمعناه : الفُوم ، وهو الحِنْطة.

فم : ابن السّكيت (١) : قال الفرّاء : يُقال : هذا فمٌ ، مفتوح الفاء مخفف الميم.

وكذلك في النَّصب والخَفض : رأيت فماً ، ومررت بِفَمٍ.

ومنهم من يقول : هذا فُمٌ ، ومررت بفُم ، ورأيت فُماً.

فيَضم الفاء في كل حال ، كما يَفتحها في كل حال.

وأمَّا تَشديد الميم فإنه يَجوز في الشعر ؛ كما قال :

* يا ليتها قد خَرَجت من فُمّه *

ولو قال : من فَمِّه ، لجاز.

قال : وأمّا : فُو ، وفي ، وفا ، فإنما يقال في الإضافة ، إلا أن العجّاج قال :

__________________

(١) أورد «اللسان» هذا كله في مادتي (فم) ، و (فوه) ، (إبياري).

٤١٢

* خالط من سَلْمى خياشِيم وفا*

قال : وربما قالوا ذلك في غير الإضافة ، وهو قليل.

الليث : أمّا : فو ، وفا ، وفي ، فإن أصل بنائها «الفَوْه» حذفت الهاء من آخرها.

وحُملت الواو على الرفع والنَّصب والجرّ ، فاجترت الواو صُروفَ النحو إلى نفسها ، فصارت كأنها مدّة تَتبع الفاء.

وإنما يستحسنون هذا اللفظ في الإضافة ، أما إذا لم تُضف فإن الميم تُجعل عماداً للفاء ، لأن الياء والواو والألف يَسْقطن مع التَّنوين ، فكرهوا أن يكون اسم بحرف مغلق ، فعمِّدت الفاء بالميم ، إلا أن الشاعر قد يضطر إلى إفراد ذلك بلا ميم ، فيجوز في القافية ؛ كقوله :

* خالط مِن سَلْمى خياشيمَ وفا*

قلت : وممّا يَدُلّ على أن الأصل في : فم ، وفو ، وفا ، وفي ، «هاء» حُذفت من آخرها : قولُهم للرّجُل الكثير الأكل : فَيِّهٌ ، وامرأة فَيِّهةٌ.

ابن السِّكيت : رَجُلٌ أَفْوه : عظيم الفَم طويل الأسْنان.

وكذلك : مَحالَة فوهاء ، إذا طالت أسنانها التي يَجري الرِّشاء فيها.

ورَجُلٌ مُفَوَّه ، وفَيِّهٌ : حَسن الكلام.

سلَمة ، عن الفَرّاء : أَلْقَيت على الأديم دَبْغةً ، والدَّبْغة : أن تُلْقِي عليه فماً مِن دباغ خَفِيفة ، أي : فَماً من دِبَاغ ، أي نَفْساً.

ودَبَغْتُه نَفْساً ، ويُجمع : أنْفُساً ، كأنْفُس النّاس ، وهي المرّة.

أخبرني المُنْذري ، عن ثَعلب عنه ، قال أبو زُبيد يصف شِبْلين :

ثم اسْتفاها فلم يَقْطع رَضَاعَهما

عن التَّصَبُّب لا شَعْبٌ ولا قَدْعُ

اسْتَفاها : اشتدّ أكلُها. والتَّصَبُّب : اكتساء اللَّحم للسِّمن بعد العِظام ، والتَّحلُّم ، مثله. والقَدْع : أن تُدفَع عن الأمر تُريده ؛ يقال : قَدَعته فقُدع قَدْعاً.

ورَجُلٌ فَيّه : جَيِّد الأكل. وقد اسْتفاه.

وهي مُسْتَفِيه.

قال أبو عُبيد : قال أبو زيد : من أمثالهم في الدُّعاء على الرَّجُل قولُهم : فاهَا لفيك ؛ تريد : فَا الدّاهية.

قال : ومَعناه : الخَيبةُ لك.

قال أبو عُبيد : وأصله أنه يُريد : جَعل الله بفيك الأرضَ.

وكما يقال : بفيك الأرض ، يُقال : بفيك الأثلب والحَجر ؛ وأَنْشد :

فقلت لها فاها لفيك فإنها

قلُوص امرىء قارِيك ما أَنت حاذِرُهْ

وقال سيبويه : فاهَا لفيك ، غير مُنوّن ، إنما يريدون : الدَّاهية ، وصار بدلاً من اللفّظ ، بقوله : دَهاك الله ، يدلّك على ذلك قوله :

٤١٣

وداهية مِن دَواهي المَنو

ن يَرْهَبها الناسُ لا فَالها

فجعل للدّاهية : فماً.

وقال آخر :

لئن مالكٌ أَمْسى ذليلاً لطالما

سَعَى للتي لا فَالها غَيْر آئِبِ

أراد : لا فَم لها ، أي : للداهية.

وأنْشد شَمر للكُميت :

ولا أقول لذي قُربَى وآصِرة

فاهَا لفِيك على حالٍ من العَطَبِ

وقال شَمر : قال ابن الأعرابي : فاهاً بفيك ، منوّنة ، أي : ألصق الله فاك بالأرض.

قلت : وقد مَرّ الحرف مشبعاً في كتاب الهاء.

باب حروف اللفيف من الفاء

فاء ـ فأى ـ فأفأ ـ فيف ـ فوف ـ فو ـ في ـ وفا ـ آف ـ أفّ.

فاء : قال الله تعالى : (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة : ٢٢٦].

وقال الله تعالى : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ) [النحل : ٤٨].

وقال الله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) [الحشر : ٧].

«فالفيء» في كتاب الله تعالى على ثلاثة معان ، مَرجعها إلى أصل واحد ، وهو الرُّجوع.

قال تقدّس ذِكره في المُولين من نسائهم ، (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وذلك أن المولي حَلف ألَا يطأَ امرأتَه ، فجعل الله له مُدّة أربعة أشهر بعد إيلائه ، فإن جامعها هي في الأربعة الأشهر فقد فاء ، أي : رجع عمّا حَلف عليه مِن ألّا يُجامعها إلى جِماعها ، وعليه لِحْنثه كفّارةُ يَمين ، وإن لم يُجامعها حتى تَنقضي أربعة أشهر من يوم آلَى ، فإن ابن عباس وجماعةً من الصحابة أوقعوا عليها تطْليقةً ، وجَعلوا عزيمة الطلاق انقضاء أربعة أشهر. وخالفهم الجماعة الكثيرة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيرهم من أهل العِلم ، وقالوا : إذا آنقضت أَربعة أشهر ولم يُجامعها وُقِّفَ المُولي ، فإمّا أن يَفيء ، أي يجامعها ويكفِّر ، وإما أن يُطلِّق.

فهذا هو الفيء من الإيلاء ، وهو الرُّجوع إلى ما حَلف عليه ألا يَفعله.

وأما قول الله تعالى : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) [النحل : ٤٨] فإِنْ التَّفيّؤ ، تفاعل من «الفيء» ، وهو الظل بالعشيّ.

وتَفّيؤ الظلال : رُجوعها بعد انتصاف النّهار ، وانتعال الأشياء ظِلالَها.

٤١٤

وأخبرني المنذري ، عن أبي طالب النحوي ، أنه قال : التفيَّؤ لا يكون إلّا بالعشي ، والظّل بالغداة ، وهو ما لم تَنَلْه الشمس.

والفيء بالعَشي : ما انصرفت عنه الشَّمس.

قال : وقد بَيَّنه الشاعر فقال :

فلا الظِّلّ مِن بَرْد الضُّحَى تَسْتَطيعه

ولا الفَيء مِن بَرْد العَشِيّ تَذوقُ

وأخبرني المُنذري ، عن الحراني ، عن ابن السكيت نحوَه.

قال : وجمع «الفيء» : أفياء ، وفُيوء ؛ وأنشد :

لعمري لأنت البيت أُكْرِم أَهْلَه

وأقْعُد في أَفْيائه بالأَصائِلِ

قال : والظل : ما نَسخَتْه الشمس.

والفيء : ما نَسخ الشمسَ.

ابن الأعرابي عن المفضّل ، يقال للقِطْعة من الطَّير : فَيْءٌ ، وعَرِقة ، وصَفّ.

وأما قول الله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [الحشر : ٧].

فإن «الفيء» : ما ردّ الله تعالى على أَهل دِينه من أَموال مَن خالف أَهل دينه بلا قِتال ، إمّا بأن يُجْلَوا عن أوطانهم ويُخَلّوها للمُسلمين ، أو يُصالحوا على جِزية يُؤَدّونها عن رُؤوسهم ، أو مالٍ غير الجزية يَفْتدون به من سَفك دمائهم.

فهذا المال ، هو «الفيء» في كتاب الله.

قال الله تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) [الحشر : ٦] أي : لم تُوجفوا عليه خيلاً ولا ركاباً.

نزلت في أموال بَني النّضير حين نَقضوا العَهد وجَلَوْا عن أوطانهم إلى الشام ، فقسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أموالهم من النخيل وغيرها في الوُجوه التي أراه الله أن يَقْسمها فيها.

وقِسمة الفيء غيرُ قِسمة الغَنيمة ، التي أوْجف الله عليها بالخيل والرِّكاب.

وقد بَيّنت جماع ذلك فيما مَرّ من الكتاب.

وأصل «الفيء» : الرجوع ، كما أعلمتك ، سُمّي هذا المال : فيئاً ، لأنه رجع إلى المسلمين من أموال الكُفّار عَفْواً بلا قتال.

وكذلك قوله تعالى في قِتال أهل البَغي (حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) [الحجرات : ٩] أي : تَرجع إلى الطاعة.

ويقال لنَوى التَّمر ، إذا كان صُلْباً : ذو فَيْئة ، وذلك أنه تُعْلَفه الدّوابّ فتأكله ، ثم يَخرج من بُطونها كما كان نَدِيًّا ؛ وقال علقمة بن عَبدة يَصف فرساً :

سُلَّاءة كعَصا النَّهديّ غُلّ لها

٤١٥

ذو فَيْئَة من نَوى قُرّان مَعْجُومُ

ويفسّر قوله : «... غُلّ لها ذو فَيْئة ...» تفسيرَيْن : أحدهما : أنه أَدخل جَوْفَها نَوى من نَوى نَخِيل قُرّان حتى اشتدَ لَحْمُها.

والثاني : أنه خُلِق لها في بَطن حوافرها نُسورٌ صِلابٌ كأنّها نوى قُرّان.

ويقال : تفيأَت المرأةُ لزوجها ، إذا تكسّرت له تدلُّلاً ؛ ومنه قول الراجز :

تَفّيأَت ذات الدَّلال والخَفْر

لعابسٍ جافي الدَّلالَ مُقْشَعِرّ

قال النضر (١) : الأَفَى : القِطَع من الغيم ، وهي الفِرَق يَجِئْن قِطَعاً كما هي.

قلت : الواحدة : أَفَاة.

ويقال : هَفاة ، أيضاً.

وقال أبو زيد : يقال : أفأتُ فلاناً على الأَمْر ، إفاءةً ، إذا أراد أمراً فَعدلْتَه إلى أمر غيره.

وقال الليث : المَفْيؤة ، وهي المَقْنؤة ، من الفيء.

وقال غيره : يقال : مَقْنأة ، ومقْنُؤة ، للمكان الذي لا تَطْلُع عليه الشَّمس.

ولم أَسمع «مفيؤة» بالفاء ، لغير الليث ، وهو يُشبه الصَّواب.

أبو زيد : يقال : فِئت إلى الأمر فَيْئاً ، إذا رَجَعت إليه.

وأفأت على القوم فيئاً ، إذا أخذت لهم سَلَب قوم آخرين فجِئْتهم به.

وأفأت عليهم فيئاً ، إذا أخذت لهم فيئاً أُخذ منهم.

وقال النَّضر : يُقال لِلْحَديدة إذا كَلّت بعد حِدّتها : قد فاءَتْ.

فأى : أبو زيد : فَأَوْت رأسَ الرَّجُل ، إذا فَلَقتَه بالسَّيف.

وكذلك : فَأَيْته.

وقال أبو عُبيد : الفَأْوُ : ما بين الجَبَلْين ؛ قال ذو الرُّمّة :

* حتى انْفأَى الفَأْوُ عن أَعْناقها سَحَرا*

قوله : انْفأَى ، أي : انكشف. والفَأو ، في بَيت ذي الرُّمة : طريق بين قارَتين بناحية الدَّوّ بينهما فَجٌّ واسِعٌ ، يقال له : فأو الرَّيّان ؛ وقد مَرَرْتُ به.

والفِئة ، بوزن «فِعَة» : الفِرْقة من النّاس.

مأخوذة من : فأيت رأسه ، أي : شَققته.

وكانت في الأصل فِئْوة ، بوزن «فِعْلة» فنُقص.

وجمع «الفئة» : فِئُون ، وفِئَات.

الليث : يُقال فأوت رأسه ، وفأَيْته ، وهو ضَرْبك قِحْفَه حتّى يَنْفرج عن الدِّماغ.

والانْفِياء : الانفْراج.

__________________

(١) مكان ما قاله النضر في «اللسان» (أفى) ، (إبياري).

٤١٦

قال : ومنه اشتُق اسم «الفِئة» ، وهم طائفة من الناس.

فأفأ : الليث : الفَأْفأة ، في الكلام كأنّ الفاء تَغْلب على اللِّسان.

تقول : فَأْفأ فلانٌ في كلامه ، فَأْفأةً.

ورَجُلٌ فَأْفاء ، وامرأة فَأفاءة.

وقال المبرّد : الفَأْفأة : التَّرْديد في «الفاء».

اللّحيانيّ ، يُقال : رَجُلٌ فأْفأ وفَأْفَاء ، يُمدّ ويُقْصر.

فيف : الليث : الفَيْف : المَفازة التي لا ماء فيها ، مع الاسْتواء والسَّعة.

وإذا أُنِّثت ، فهي : الفَيْفاء.

وجمعها : الفَيافي.

وجمع «الفيف» : فُيوف ، وأَفْياف.

قلت : وبالدَّهناء مَوضعٌ يقال له : فَيْف الرِّيح.

قال شَمر : وقال المؤرِّج : الفَيْف من الأرض : مُختلَف الرِّياح ؛ وأَنشد لِعَمْرو ابن مَعْديكرب :

أَخْبر المُخْبِرُ عنكم أنّكم

يومَ فَيْف الرِّيح أُبْتُمْ بالفَلَج

ويُقال : فيف الريح : موضعٌ معروف ؛ قال ذو الرّمة :

والرَّكْب يعْلُو بهم صُهْبٌ يَمانِيةٌ

فَيْفاً عليه لِذيل الرِّيح نِمْنِيمُ

وقال غيره : الفيفاء : الصحراء المَلْساء ؛ وجمعها : الفَيافي.

وقال أبو عمرو : كُلّ طريق بين جَبَلين : فَيْفٌ ؛ وأَنْشد :

* مَهِيلُ أَفْيافٍ لها فُيوف *

وقال ذو الرُّمّة :

ومُغْبَرّة الأَفياف مَسْحولة الحَصَا

دَيامِيمها مَوْصُولة بالصَّفاصِفِ

وقال أبو خَيْرة : الفَيْفاء : البعيدةُ من الماء.

وقال شمر : والقَول في «الفَيْف» «والفيفاء» ما ذكره المُؤرّج من مُخْتَلف الرِّياح.

فوف : الليث : الأفواف : ضربٌ من عُصْب البُرود.

يُقال : بُرْدٌ أفواف ، وبُرْد مُفَوّف.

قال : والفَوْف ، مصدر : الفُوفة.

يقال : ما فافَ عنِّي بخَيْرٍ ولا زَنْجَر.

وذلك أن تسأل رجلاً فيقول بظُفر إبهامه على ظُفر سبّابته : ولا مثل ذا.

والاسم منه : الفُوفة.

وأمّا «الزَّنجرة» فما يأخُذ بَطْنُ الظُّفر من طرف الثنية إذا أخذْتها به.

ثعلب ، عن ابن الأعرابي : الفُوفة : القِشْرة الرَّقيقة تكون على النَّواة.

قال : وهي القِطْمير أيضاً.

قال : والفُوف ثيابٌ رِقاقٌ من ثِياب اليَمن

٤١٧

مُوشّاة.

ونحوَ ذلك حكى شَمِرٌ عنه.

وعن أبي حاتم : الفُوف ، بضم الفاء ، وبُرد مُفَوَّف.

قلت : وروى أصحابُ أبي عُبيد عنه ، عن الفراء : الفُوف : البَياض الذي يكون في أظفار الأَحْداث.

ومنه قيل : بُرْدٌ مُفَوَّف.

وقال شَمر : هو الفُوف ، بالضّم.

قال : وسألت ابن الأعرابي عن «الفُوف» فلم يعرفه ؛ وأَنشد :

* وأنت لا تُغْنين عني فُوفَا*

فو : الليث : الفُوَّة : عُروق تُسْتَخرج من الأرض تُصْبغ بها الثياب.

يقال لها بالفارسية : رُوبِين.

ولفظها على تقدير : خُوّة ، وقُوّة.

ولو وَصفت بها أرضاً لا يُزرع فيها غيرُه ، قلت : أرضٌ مَفْواة ، من المَفَاوِي.

وثَوْبٌ مُفَوَّى ، لأن الهاء التي في «الفُوَّة» ليست بأصليّة ، بل هي هاء التأنيث.

في : الليث : «في» حرفٌ من حُروف الصِّفَات.

وقال غيره : «في» تأتي بمعنى «وسط» ، وتأتي بمعنى «داخل» ، كقولك : عبدُ الله في الدار ، أي : داخل الدار ، ووَسط الدار.

وتجيء «في» بمعنى ، على ، قال الله جلّ وعزّ (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١].

المعنى : على جُذوع النخل.

وقال ابن الأعرابي في قوله تعالى : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) [نوح : ١٦] ، أي : معهن.

وقال ابن السِّكيت : جاءت «في» بمعنى : «مع» ؛ قال الجَعْديّ :

ولَوْحُ ذراعَيْن في بِرْكةٍ

إلى جُؤْجُؤٍ رَهِلِ المَنْكِبِ

وقال أبو النَّجْم :

يَدْفع عنها الجُوعَ كُلَّ مَدْفَع

خَمْسون بُسْطاً في خَلايا أَرْبَعِ

أراد : مع خلايا.

وقال الأصمعي في قول عَنْترة :

بَطَلٌ كأنّ ثِيابه في سَرْحَةٍ

يُحْذَى نِعَالَ السِّبْت ليس بِتَوْأَمِ

قال : معناه : كأن ثيابه على سَرحةٍ.

وقال الفراء في قول الله تعالى : (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) [الشورى : ١١] أي : يكثركم به ؛ وأنشد :

وأَرْغبُ فيها عن عُبَيدٍ ورَهْطه

ولكن بها عن سِنْبِسٍ لستُ أَرْغَبُ

أي : أرغب بها.

وقيل في قوله تعالى : (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ

٤١٨

وَمَنْ حَوْلَها) [النمل : ٨] أي : بُورِكَ مَن على النَّار ، وهو الله جَلّ وعَزّ.

وفا : الليث : يُقال : وَفَا يَفِي وَفَاءً ؛ فهو وافٍ.

ووَفى رِيشُ الجناح ، فهو وافٍ. وكل شيء بَلغ تمام الكمال ، فقد وَفَى وتَمّ.

وكذلك : دِرْهم وافٍ ، يَعني : أنه دِرْهم يَزِن مِثْقالاً. وكَيْلٌ وافٍ.

وقال شَمر : بلغني عن ابن عُيينة ، قال : الوافِي : دِرْهمٌ ودانِقَان.

وقال غيره : هو الذي وفَى مِثْقالاً.

ورَجُلٌ وَفِيٌ : ذو وَفاء.

قال أبو بكر : قولهم : لَزِم الوَفاء : معنى «الوفاء» في اللغة : الخُلق الشَّريف العالي الرَّفيع من قولهم : وَفى الشَّعَرُ فهو وافٍ ، إذا زاد.

قال ذلك أبو العبّاس.

قال : وَوَفَيْت له بالعهد أَفِي ، ووافَيْت أُوافِي.

وارْضَ من الوفاء باللَّفاء ، أي : بدون الحق ؛ وأَنْشد :

* ولا حَظِّي اللَّفاء ولا الخَسِيس*

والمُوافاة : أن تُوافي إنْساناً في المِيعاد.

تقول : وافَيْتُه.

ويُقال : أَوْفيته حَقَّه ، ووفَّيته أَجْره.

وأوْفَيْت على شَرف مِن الأرض ، إذا أشْرَفْت عليه. فأنا مُوفٍ.

والميفاة : الموضع الذي يُوفِي فوقه البازي ، لإيناس الطَّير أو غيره.

وإنه لَمِيفاء على الأشراف ، إذا لم يَزل يُوفي على شرف ؛ قال رُؤبة :

* أبلغ مِيفاء رُؤس فوره*

والوفاة : المَنِيّة. وتُوفي فلان. وتوفّاه الله ، إذا قَبض نَفْسه.

وقال غيره : تَوَفِّي الميت ، بمعنى : اسْتيفاء مُدَّته التي كُتبت من عَدد أَيّامه وشُهُوره وأعوامه في الدّنيا.

ويُقال : تَوَفَّيْت المالَ منه ، واسْتوْفيته ، إذا أخذته كُلّه.

وتَوفَّيْت عَدد القوم ، إذا عَدَدْتَهم كلهم ؛ وأَنْشد أبو عُبيدة لِمَنظور الوَبْريّ :

إنّ بني الأَدْرم لَيسوا من أَحد

ولا تَوفّاهم قُريْشٌ في العَدَدْ

أي : لا تجعلهم قريشٌ تمام عددهم ، ولا تستوفي بهم عَدَدَهم.

ومن هذا قولُ الله جلّ وعزّ : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزمر : ٤٢] أي : يستوفي مُدد آجالهم في الدُّنْيا.

وقيل : يَستوفي تمامَ عَدَدِهم إلى يوم القيامة.

وأمّا تَوَفِّي النائم ، فهو اسْتيفاء وقت عَقله وتمييزه إلى أن نام.

٤١٩

وقال الزجّاج في قوله تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) [السجدة : ١١] هو من : تَوْفية العَدَد.

تأويله : أَن يَقْبض أَرواحكم أجمعين فلا ينقُص واحد منْكم.

كما تقول : قد اسْتوفيت من فلان ، وتوفَّيت منه ما لي عليه. تأويله : لم يَبْق عليه شيء.

أبو عُبيد ، عن الكسائي وأبي عُبيدة : وَفَيت بالعهد ، وَأَوْفيت به ، سواء.

وقال شَمر : يُقال : وَفَى ، وأَوْفَى.

من قال «وَفَى» فإنه يقول : تَمّ ، كقولك : وَفَى لنا فلانٌ ، أي : تَمّ لنا قولُه ولم يَغْدر.

ووَفَى هذا الطَّعَام قَفِيزاً ، أي : تم قفيزاً ؛ وقال الحُطيئة :

* وَفى كَيْل لا نِيبٍ ولا بَكَرات*

أي : تَمَّ.

ثم قال : ومن قال : «أوفى» فمعناه : أوفاني حقَّه ، أي : أتَمَّه ولم يَنْقُص منه شيئاً.

وقال أبو الهيثم فيما رَدّ على شَمر : الذي قال شَمر في «وفى» و «أوفى» باطلٌ لا معنى له ، إنما يُقال : أوفيت بالعهد ، ووَفَيت بالعهد.

وكل شيء في كتاب الله تعالى من هذا فهو بالألف ؛ قال الله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة : ١] و (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) [الإسراء : ٣٤].

ويُقال : وَفى الكيلُ ، ووَفَى الشيءُ ، أي : تَمّ.

وأوْفَيته أنا : أَتْمَمْتُه ؛ قال الله تعالى : (أَوْفُوا الْكَيْلَ) [الشعراء : ١٨١].

قال : ويُرْوى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنكم وَفَيتم سَبْعين أُمّةً أنتم خَيرها وأَكْرمها على الله» ، أي تمت العِدّة سَبعين أُمّة بكم.

قال : وأما قولهم : وفى لي فلانٌ بما ضَمِن لي.

فهذا من باب : أوفيت له بكذا وكذا ، ووَفَّيت له بكذا ؛ قال الأَعْشى :

* وقبلك ما أَوْفى الرُّقَادُ بجارَةٍ*

وقال الفَرّاء في قول الله تعالى : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧)) [النجم : ٣٧] ، أي : بلّغ.

يريد : بلّغ أن لَيْست تَزر وازرةٌ وِزْرَ أُخرى ، أي : لا تحمل الوازرة ذَنْب غيرها.

وقال الزّجاج : وفّى إبراهيم ما أُمِر به ، وما امْتحن به من ذَبح ولده ، فعزم على ذلك حتى فَداه الله بذبح عظيم ، وامْتُحن بالصَّبر على عَذاب قَومه ، وأُمر بالاختتان فاخْتَتن.

قيل : وَفَّى ، وهي أبلغ من «وَفى» ، لأن الذي امتحن به من أعظم المِحَن.

٤٢٠