ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت عليهم السلام

السيد شهاب الدين الحسيني العذاري

ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

السيد شهاب الدين الحسيني العذاري


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-408-6
الصفحات: ١١٦

قتل الإمام الحسين عليه‌السلام وأهل بيته ، وبخطاب الإمام زين العابدين عليه‌السلام في الكوفة والشام والمدينة عاد عدد كبير من المسلمين إلىٰ وعيهم ورشدهم فتبنّوا منهج أهل البيت عليهم‌السلام وعاد الكثير منهم إلى الاستقامة.

وكان المنبر الحسيني وسيلة واسعة لالقاء الخطب والبيانات وتبيان الحقائق والحثّ على الطاعة ، وتبيان مظلومية أهل البيت عليهم‌السلام وكراماتهم وسيرتهم ليقتدي بها الآخرون ، وقد شجع أهل البيت عليهم‌السلام على اقامة مجالس العزاء علىٰ سيّد الشهداء ، وهي مجالس تلقى فيها الخطب سواء أكانت خطباً لأهل البيت عليهم‌السلام أم للعلماء أم للصالحين.

والمتابع لخطابات أهل البيت عليهم‌السلام يجدها خطابات موجزة ومفهومة للسامعين ومتنوعة في مفاهيمها وقيمها.

ثانياً : القصص

القصص بطبيعتها محبّبة لدى الناس ومؤثرة فيهم حيث يتوجهون إليها بعقولهم وقلوبهم ووجدانهم ، يتابعون أحداثها وفصولها ، ويتأثرون بابطالها وشخصياتها ، والقصص تبقىٰ فاعلة في الذهن أكثر من غيرها ؛ لسهولة حفظها وتذكرها ونقلها.

وحول دور القصة في التربية ورد في وصية أمير المؤمنين عليه‌السلام للإمام الحسن عليه‌السلام : « أحي قلبك بالموعظة... وأعرض عليه أخبار الماضين ، وذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأولين... انّي وإن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلي ، فقد نظرت في أعمالهم ، وفكّرت في أخبارهم ، وسرت في آثارهم ؛ حتىٰ عدت كأحدهم ؛ بل كأنّي بما انتهىٰ إليّ من اُمورهم قد عُمِّرت مع

٨١

أوّلهم إلىٰ آخرهم ... » (١).

وللقصة دور في تحريك العقول للتفكر ، والوصول إلى الحقيقة وتجسيدها في ممارسات ومواقف عملية ، وقد حفلت سيرة أهل البيت عليهم‌السلام بتربية أصحابهم عن طريق القصص لما فيها من مفاهيم وقيم متنوعة في مجالات النفس الإنسانية وفي مجالات المجتمع الإنساني ، وقد ذكروا عليهم‌السلام قصصاً عديدة عن تاريخ ومسيرة الأنبياء والأولياء والصالحين ودورهم في الحياة الإنسانية وخصائصهم الحميدة ومواقفهم من الأفراد ومن الوجودات ، وقصصاً عن ايمانهم وعباداتهم وعن أخلاقهم وعلاقاتهم مع الناس ، وعن زهدهم وإيثارهم وصبرهم واحسانهم إلىٰ غير ذلك من الصفات النبيلة.

كما ذكر أهل البيت عليهم‌السلام قصصاً عن الصالحين وعن التائبين وعن مواقف شريفة ونبيلة لكي تؤدي دورها في تربية النفوس والقلوب ، ومن هذه القصص : قصة نقلها الإمام زين العابدين عن امرأة نجت من سفينة فواجهها رجل يقطع الطريق وينتهك الحرمات ، فلم يكلمها حتّىٰ جلس منها مجلس الرجل من المرأة فلما أن همّ بها اضطربت ، فقال لها : ما لك تضطربين ، قالت : أفرق من هذا وأومأت بيدها إلى السماء ، قال : فصنعت من هذا شيئاً ؟ قالت : لا وعزته ، قال : فأنت تفرقين منه هذا الفرق ولم تصنعي من هذا شيئاً وإنّما استكرهتك استكراهاً ، فأنا والله أولىٰ بهذا الفرق والخوف وأحقّ منك ، فقام ولم يحدث شيئاً ورجع إلى أهله وليست له همّة إلّا التوبة والمراجعة. (٢)

وهناك قصص عديدة في جميع أصناف وألوان السلوك والممارسات ذكرها

_______________________

(١) نهج البلاغة : ٣٩٣.

(٢) الكافي / الكليني : ٢ / ٧٠.

٨٢

أهل البيت عليهم‌السلام في أجواء التربية والاصلاح والارشاد للموالين وللمخالفين.

ثالثاً : الأمثال والتمثيل

استخدم أهل البيت عليهم‌السلام ضرب الأمثال كوسيلة من وسائل التربية في طريق الهداية والاستقامة بالحثّ على الالتزام بمفاهيم وقيم الإسلام.

وضرب الأمثال يقرب المعنى إلىٰ الأذهان ويجعله متحركاً في الضمير والوجدان البشري ، وهو سهل الحفظ والنقل ، وله تأثير محسوس وواقعي علىٰ جميع مقومات الشخصية ، إضافة إلى انّه يضرب باختصار وايجاز ، فلا يصيب المستمع بسماعه مللاً بل يتوجه بكل جوارحه ليستمع إليه.

وقد مثل أمير المؤمنين عليه‌السلام الدنيا بالحيّة فقال : « أما بعد فإنّ مثل الدنيا مثل الحية ، لين مسّها ، قاتل سمّها » (١).

ومثّلها الإمام الصادق عليه‌السلام بماء البحر فقال : « مثل الدنيا كمثل البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتىٰ يقتله » (٢).

ومثل الإمام محمد الباقر عليه‌السلام من لم يتبع الأئمة المنصّبين من قبل الله تعالىٰ بالشاة فقال : « كل من دان الله بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله ؛ فسعيه غير مقبول ، وهو ضالّ متحيّر ، والله شانئ لأعماله ، ومثله كمثل شاة ضلّت عن راعيها وقطيعها » (٣).

يلحق بضرب الأمثال التمثيل العملي فانه أسرع للانتقال من لسان

_______________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١٨ / ٦٨.

(٢) الكافي / الكليني : ٢ / ١٣٦.

(٣) الكافي / الكليني : ١ / ٣٧٥.

٨٣

لآخر ، ومن محفل لآخر. عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : « ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزل بأرض قرعاء ، فقال لأصحابه : ائتوا بحطب ، فقالوا : يا رسول الله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب ، قال : فليأت كل انسان بما قدر عليه ، فجاءوا به حتىٰ رموا بين يديه ، بعضه علىٰ بعض ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هكذا تجتمع الذنوب ».

ثم قال : « إيّاكم والمحقّرات من الذنوب ، فإنّ لكلّ شيء طالباً ، ألا وإنّ طالبها يكتب ما قدّموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين » (١).

رابعاً : العبرة والموعظة

يتخذ أهل البيت عليهم‌السلام من العبرة والموعظة وسيلة تربوية لتنوير العقل والقلب ، واستخلاص المفاهيم والقيم الكامنة وراء المواقف والحوادث ،  وبالعبرة والموعظة يعي الإنسان حركة الحياة من حيث الشدة والرخاء ، وأسباب التقدم والتأخر للمجتمعات والحضارات ، وبالعبرة والموعظة يقلع الإنسان عن الممارسات المنحرفة ، ثم يتوجه لاصلاح نفسه لتسمو وتتكامل.

وقد ورد في ( نهج البلاغة ) الكثير حول الاعتبار بالأنبياء والصالحين ، وبالأقوام السالفة ، والاعتبار بما أصاب الأقوام المتمردة علىٰ طول التاريخ ، والتذكير بالموت والهلاك ، والنعيم والعذاب الخالد ، والتذكير بما أصاب الأمم المتمردة من قلق واضطراب ومن نقص في الثمرات والأنفس ، والتذكير بما تنعمت به الأمم الصالحة من نعم وخيرات.

_______________________

(١) الكافي / الكليني : ٢ / ٢٨٨.

٨٤

ومواعظ أهل البيت عليهم‌السلام لا تعد ولا تحصىٰ ، وكان لها دور ملموس في تربية أصحابهم ومخالفيهم.

خامساً : الاقتداء

الاقتداء وسيلة هامة من وسائل التربية ، لأنّ الناس يتأثرون بمن يقتدون به ، وغالباً ما يكون القدوة من الطبقات العليا في المجتمع كالرؤساء والقادة وعلماء الدين أو من السلف المتقدّمين ، وأهل الكرامة وأهل القدوة يكرمهم الناس وهم الذين ( يقتدي بهم عامة الشعب ) (١).

والاقتداء بالأسلاف ( أكثر من الاقتداء بالطبقة العليا ) (٢) ، لأن الناس يتأثرون بالتراث الفكري والسلوكي لأسلافهم ، وخير اُسلوب لتعميق الاقتداء هو التوجيه المستمر والترويج المتزايد لسيرة الأسلاف وممارساتهم العملية ، وهذا ما أكّد عليه أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في منهجهم التربوي.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « اقتدوا بهدىٰ نبيكم فانّه أصدق الهدىٰ ، واستنّوا بسنّته فانها أهدى السنن ».

وقال عليه‌السلام : « طوبىٰ لمن عمل بسنّة الدين ، واقتفىٰ آثار النبيين » (٣).

وقال عليه‌السلام : « انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم واتبعوا أثرهم ، فلن يخرجوكم من هدىً ، ولن يعيدوكم في ردىً ، فإن لبدوا فالبدوا ، وإن نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلّوا ، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا » (٤).

_______________________

(١) علم الاجتماع / لنقولا الحداد : ص ١٤٠.

(٢) المصدر السابق نفسه : ص ١٤٦.

(٣) تصنيف غرر الحكم : ص ١١٠.

(٤) نهج البلاغة : ص ١٤٣.

٨٥

وأكّد الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام على الاقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبأهل البيت عليهم‌السلام فقال : « عليكم بآثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسنّته وآثار الأئمة الهداة من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعده وسنتهم ، فانه من أخذ بذلك فقد اهتدىٰ ، ومن ترك ذلك ورغب عنه ضلّ » (١).

والتربية بالقدوة مقدمة على التربية بالقول أو الخطاب أو الموعظة ، ولهذا أكد أهل البيت عليهم‌السلام على المربي أن يكون قدوة ، وأن يربي الناس بالاقتداء به.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من نصّب نفسه للناس إماماً ، فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه » (٢).

وقال الامام جعفر الصادق عليه‌السلام : « رحم الله قوماً كانوا سراجاً ومناراً ؛ كانوا دعاة إلينا بأعمالهم ومجهود طاقاتهم » (٣).

سادساً : الحوار

الحوار من الوسائل المعمول بها في التربية والاصلاح ، فبه يطرح الإنسان متبنياته الفكرية والعاطفية والسلوكية ويرد علىٰ شبهات المحاورين ، ويطرح الأدلة والبراهين ويجيب على حجج المقابل.

وبالحوار يتمكن المحاور من معرفة الآخرين على المستوىٰ الفكري والعاطفي والسلوكي ، ويتعرف علىٰ نقاط القوة والضعف في شخصياتهم ، ويتفهم مشكلاتهم بعمق ويعيش تجربتهم بكل جوانبها ، ويتعرف علىٰ مستوى التطور

_______________________

(١) الكافي / الكليني : ٨ / ٨.

(٢) شرح نهج البلاغة / لابن أبي الحديد : ١٨ / ٢٢٠.

(٣) تحف العقول / الحرّاني : ص ٢٢١.

٨٦

الطارئ أثناء وبعد الحوار ، وعلى ضوء هذه المعرفة يستطيع أن يضع لكل فرد الأسس والقواعد المناسبة لتوجيهه.

وقد استخدم أهل البيت عليهم‌السلام الحوار كوسيلة لاثبات حقهم في الإمامة ودورهم الريادي في الأُمة ، ولاثبات المفاهيم والقيم الصالحة كأُسس للتعامل وللتقييم ، وكانوا يحاورون مخالفيهم وأنصارهم حول مختلف القضايا والأمور وفي جميع مجالات العقيدة والشريعة ، فقد احتجّ الإمام أمير المؤمنين على أبي بكر وعمر وعثمان حول امامته ودوره الرسالي في الاُمة ، وناظر طلحة والزبير حينما خرجا عليه ، وحاور الخوارج ، وكانت للإمام الحسن عليه‌السلام حوارات مع معاوية وعمرو بن العاص ، ومع أتباعه وأنصاره ، وكذا الحال في سائر الأئمة عليهم‌السلام  ، وكانوا عليهم‌السلام يشجعون أنصارهم وأتباعهم على الحوار للوصول إلىٰ الحقيقة انطلاقاً من نقاط الاشتراك ، وكانوا يثنون علىٰ من يتمكّن من الحوار مع الآخرين من أصحابهم.

سابعاً : الأساليب المتداخلة

من الأساليب المتداخلة : المراسلة والشعر ، وهما متداخلان مع بقية الأساليب التربوية ، ولأهميتهما كان أهل البيت عليهم‌السلام يستخدمونهما في لغة التعبير ، لأنّ الحكمة والعبرة والموعظة والنصيحة تحقق غاياتها كلما كان الاُسلوب شيّقاً وجذّاباً.

١ ـ المراسلة

كانت لأهل البيت عليهم‌السلام مراسلات مع مواليهم ومخالفيهم ، فيها الكثير من الارشادات والنصائح والأوامر والمواعظ ، وقد حقّقت نتائج ملحوظة في حركة

٨٧

التربية ، ونكتفي هنا بذكر بعض المراسلات الموجزة :

كتب أمير المؤمنين عليه‌السلام إلىٰ عبدالله بن العباس : « أمّا بعد ، فإنّك لست بسابقٍ أجلك ، ولا مرزوق ما ليس لك ، واعلم بأنّ الدّهر يومان : يوم لك ويوم عليك ، وأنّ الدنيا دار دول ، فما كان منها لك أتاك علىٰ ضعفك ، وما كان منها عليك لم تدفعه بقوّتك » (١).

وكتب رجل للإمام الحسين عليه‌السلام : عظني بحرفين ، فكتب إليه : « من حاول أمراً بمعصية الله كان أفوت لما يرجو وأسرع لمجيء ما يحذر » (٢).

وعن علي بن سويد ، عن أبي الحسن موسىٰ عليه‌السلام قال : سألته عن الضعفاء ، فكتب إليّ : « الضعيف من لم ترفع إليه حجّة ولم يعرف الاختلاف ، فاذا عرف الاختلاف فليس بمستضعف » (٣).

٢ ـ الشعر

الشعر له دور في التربية والتوجيه والتثقيف عند جميع الاُمم وفي جميع الحضارات ، وله دور في تحريك العقول والقلوب والضمائر ، وقد دلّت التجارب والدراسات علىٰ ذلك.

وأهل البيت عليهم‌السلام كمربّين لم يغفلوا اُسلوب الشعر في الجانب التربوي ، فقد تمثّلوا بأشعار كثيرة في الموعظة والارشاد ، ورويت لهم بعض الأشعار الموجزة المعبّرة عن المفاهيم والقيم الصالحة ، نكتفي بذكر نماذج منها :

فمن الشعر المنسوب إلىٰ أمير المؤمنين عليه‌السلام :

_______________________

(١) نهج البلاغة : ٤٦٢.

(٢) الكافي / الكليني : ٢ / ٢٧٣.

(٣) المصدر السابق نفسه : ص ٤٠٦.

٨٨

وأفضل قَسْـم الله لـلمرء عـقله

فليـس من الخيـرات شيء يـقاربه

إذا أكمل الرحمن لـلمرء عـقله

فقد كـمـلت أخـلاقـه ومآربه

يعيش الفتىٰ في الناس بالعقل انّه

على العقل يجري علمه وتجاربه (١)

وقال عليه‌السلام :

ومن يصحب الدنيا يكن مثل قابض

على الماء خانته فروج الأصابع (٢)

* * *

ومن الشعر المنسوب إلى الإمام زين العابدين عليه‌السلام :

تخرّب مـا يبقىٰ وتـعمـر فانياً

فـلا ذاك موفـور ولا ذاك عامـر

أترضىٰ بأن تفنىٰ الحياة وتنقضي

ودينـك منقوص ومالك وافـر (٣)

* * *

نُراعُ إذا الـجنـائـز قـابـلتـنا

ونلهـو حيـن تمـضي ذاهبـات

كروعـة ثـلـة لـمغـار سبـعٍ

فلما غاب عـادت راتـعـات (٤)

* * *

ومن الشعر المنسوب للإمام جعفر الصادق عليه‌السلام :

يموت الفتـىٰ من عثرة بلسانـه

وليس يموت المرء من عثرة الرّجل

فعثرته من فيـه ترمـي برأسـه

وعثرته بالرجل تبرأ علىٰ مهل (٥)

_______________________

(١) ديوان الإمام علي : ص ٣٧.

(٢) ديوان الإمام علي : ص ١٩٤.

(٣) و (٤) مختصر تاريخ دمشق / لابن منظور : ١٧ / ٢٥٤ ، ٢٥٦.

(٥) العقد الفريد / لابن عبد ربّه : ٢ / ٣٠٣.

٨٩

* * *

ومن الشعر المنسوب للإمام علي الرضا عليه‌السلام :

إني ليهجـرني الصـديق تجنّبا

فأريـه أن لهـجره أسـبابا

وأراه إن عـاتبته أغـريته

فأرىٰ له تـرك العـتاب عـتابا

وإذا بـليت بجاهل مـتحكّم

يجـد المحال من الاُمـور صـوابا

أوليتـه مـني السكـوت وربما

كان السكوت عن الجواب جوابا (١)

* * *

واُدخل الإمام علي الهادي عليه‌السلام علىٰ المتوكل والكأس في يده ، فلما رآه هابه وعظّمه وأجلسه إلىٰ جانبه... وقال له : أنشدني شعراً ، فقال الإمام عليه‌السلام : أنا قليل الرواية للشعر ، ثمّ أنشده :

باتوا علىٰ قلل الأجبال تحرسهم

غلـب الرجال فما أغنتهم القلـل

واستنزلوا بعد عزّ عن معاقلهـم

واُسكنوا حفراً يا بئس ما نـزلـوا

ناداهم صارخ من بعد دفنهـم

أين الأساور والتيجـان والحلـل

أين الوجوه التي كانت منعّمـة

من دونها تُضرب الأستـار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهـم

تلك الوجوه عليها الـدود يقتـتل

قـد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد اُكلوا

فبكى المتوكل حتىٰ بلّت لحيته دموع عينه وبكى الحاضرون (٢).

* * *

_______________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام / الشيخ الصدوق : ٢ / ١٧٥.

(٢) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ص ٣٢٣.

٩٠

الفصل الرابع

مميّزات المنهج التربوي عند أهل البيت عليهم‌السلام

اختصّ منهج أهل البيت عليهم‌السلام بخصائص امتاز بها عن غيره من المناهج ، وهي تعتبر الحجر الأساس في بناء الشخصية لمن يلتزم بها ، ومن أهمها :

١ ـ ربانيّة المنهج التربوي

أهل البيت عليهم‌السلام عنوان مضيء في حياة الإنسانية ، وعنوان شامخ في حركة التاريخ والمسيرة الإنسانية ، وهم أعلام الهدىٰ وقدوة المتقين ، عُرفوا بالعلم والحكمة والإخلاص والوفاء والصدق والحلم وسائر صفات الكمال في الشخصية الإسلامية ، فكانوا قدوة المسلمين ورواد الحركة الاصلاحية والتغييرية في المسيرة الإسلامية ، وكان لهم مقامهم الكريم ودورهم السامي عند الفقهاء والمفسرين والرواة والمؤرخين والأدباء والشعراء ، وعند العابدين والزاهدين والأولياء.

وأهل البيت عليهم‌السلام عدل القرآن وهم القرآن الناطق المتحرك وقد تظافرت وتواترت الروايات علىٰ اثبات هذا المقام ، ففي رواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : « يا أيّها الناس إنّي قد تركت فيكم ما إن اخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي » (١).

_______________________

(١) سنن الترمذي : ٥ / ٦٢٢.

٩١

وفي رواية اُخرى أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « إنّي تارك فيكم خليفتين ، كتاب الله... وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يتفرقا حتىٰ يردا عليّ الحوض » (١).

ومثّل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل البيت عليهم‌السلام بسفينة نوح فقال : « ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح... من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق » (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس » (٣).

ووصفهم أمير المؤمنين عليه‌السلام قائلاً : « هم عيش العلم وموت الجهل ؛ يخبركم حلمهم عن علمهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، وصمتهم عن حكم منطقهم ؛ لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه ، وهم دعائم الإسلام وولائج الاعتصام ، بهم عاد الحقّ إلىٰ نصابه... عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية لا عقل سماعٍ ورواية » (٤).

وقال عليه‌السلام : « نحن النمرقة الوسطىٰ ؛ بها يلحق التالي ، وإليها يرجع الغالي » (٥).

_______________________

(١) مسند أحمد بن حنبل : ٦ / ٢٣٢ ، مجمع الزوائد / الهيثمي : ٩ / ١٦٣.

(٢) المستدرك على الصحيحين / الحاكم : ٣ / ١٥١ ، مجمع الزوائد / الهيثمي : ٩ / ١٦٨ ، الجامع الصغير / السيوطي : ٢ / ٥٣٣.

(٣) المستدرك على الصحيحين / الحاكم : ٣ / ١٤٩ ، الصواعق المحرقة / ابن حجر : ص ٢٣٤.

(٤) نهج البلاغة : ص ٣٥٧ ، ٣٥٨.

(٥) نهج البلاغة : ص ٤٨٨.

٩٢

وهذه الأحاديث تدل دلالة واضحة علىٰ عصمة أهل البيت عليهم‌السلام بمعنىٰ اندكاكهم الكامل بالقرآن فلا افتراق ولا اختلاف عنه ، فما يصدر منهم صادر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الله تعالى ، وبعبارة اُخرىٰ انّ منهجهم هو منهج الله تعالىٰ ، ولهذا يصح القول بأنّ منهجهم ربانيّ ، كما تدلّ أحاديثهم الشريفة على ذلك أيضاً.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أدّبه الله وهو أدّبني ، وأنا أؤدّب المؤمنين ، وأورث الآداب المكرمين » (١).

وقال الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : « والله ما نقول بأهوائنا ، ولا نقول برأينا ، ولا نقول إلّا ما قال ربّنا » (٢).

وقال عليه‌السلام : « لو كنّا نحدث الناس أو حدّثناهم برأينا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نحدّثهم بآثار عندنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٣).

وسأله رجل عن مسألة فأجابه فيها ، فقال الرجل : أرأيت إن كان كذا وكذا ما يكون القول فيها ؟ قال له : « مه ، ما أجبتك فيه من شيء فهو عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسنا من ( أرأيت ) في شيء » (٤).

ووضّح عليه‌السلام سلسلة الحديث ومصادرها فأرجعها إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى الله تعالى فقال : « حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي حديث الحسين ، وحديث الحسين حديث الحسن ، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين ، وحديث أمير المؤمنين حديث

_______________________

(١) تحف العقول / الحرّاني : ص ١١٤.

(٢) و (٣) بحار الأنوار / المجلسي : ٢ / ١٧٣.

(٤) الكافي : ١ / ٥٨.

٩٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحديث رسول الله قول الله عزّوجلّ » (١).

وعن سماعة عن أبي الحسن موسىٰ عليه‌السلام قال : قلت له : أكلُّ شيء في كتاب الله وسنة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ أو تقولون فيه ؟ قال : « بل كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه » (٢).

وعلى ضوء ما تقدّم يمكن القول : ان منهج أهل البيت عليهم‌السلام التربوي هو منهج رباني بمعنى انه موضوع من قبل ربّ الانسان وخالقه وليس من وضع الانسان ، فقد وضعه من له احاطة تامة بالعالم كلّه وبالأرض كلّها وبالناس كلّهم ؛ يعلم سكنات النفس وما تخفي الصدور ، وهو سبحانه وتعالىٰ أودع الغرائز والرغبات في الإنسان ، ولذلك فهو أعلم بكيفية اشباعها وبكيفية التوازن بينها ، فيكون المنهج التربوي الموضوع من قبله تعالىٰ كاملاً لا نقص فيه ولا ضعف ، فيستجيب له الانسان مطمئناً بأنّه المنهج الأمثل في التربية ، أمّا المناهج الوضعية فهي صادرة من البشر الذي يتصف بالضعف وعدم الاحاطة التامة بالحياة ، ويتصف بمحدودية فكره وكثرة أخطائه اضافة إلىٰ تحكم الأهواء به ، فتكون ناقصة وقابلة للتبدّل والتغيّر لتغيّر آراء وتصورات واضعيها.

والإنسان بانتسابه إلىٰ العقيدة الربانية يرىٰ نفسه مرتبطاً بالمطلق العليم الحكيم المهيمن ، وهذه الرؤية تجعله مرتبطاً بغاية وهدف ، فلا عبث ولا لهو ؛ بل تكون جميع أفكاره وعواطفه وإرادته متجهة نحو المطلق ، ويستتبعها سلوكه في نفس الاتجاه ، فيبتعد الإنسان عن التخبّط والتغيّر السلبي والمزاجية والتمزّق والصراع النفسي ، ويستقيم علىٰ منهج واحد في عقيدته وعواطفه وسلوكه.

_______________________

(١) الكافي : ١ / ٥٣.

(٢) المصدر السابق نفسه : ١ / ٦٢.

٩٤

والربانية تزرع في نفس الانسان حالة التقديس للمنهج التربوي ، لأنّه يشعر بأنّه موضوع من قبل المطلق العليم ، أو من قبل شخصيات شهد القرآن ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعصمتها ، وهذا التقديس يشجع الانسان ويدفعه إلى العمل الدؤوب لتطبيق قواعد المنهج في نفسه واُسرته ومجتمعه. ثم ان الارتباط بالله تعالىٰ يدفع الانسان للارتباط بكل ما يريده ربّه ، فيرتبط بالقرآن وما فيه من مقومات تربوية ، وبالعبادات وما فيها من قيم روحية والالتقاء بالصالحين ، والارتباط بالعلماء. وارتباط العبد بخالقه يحقّق الاستقامة في السلوك بعد شفاء الانسان من الوسوسة والقلق والاضطراب ؛ فيطمئن ويستشعر الحماية والأمن ، ويكون شفاءً من الأمراض السلوكية والاجتماعية.

وقد أثبت منهج أهل البيت عليهم‌السلام التربوي قدرته علىٰ بناء الانسان بناءً متكاملاً ، فقد تخرج علىٰ هذا المنهج مئات الشخصيات التي كانت قمة في السمو الروحي والتكامل النفسي والسلوكي ، وقدوة لجميع بني الانسان لاستشعارها بأن المنهج ربانيّ النشأة وربانيّ المصدر ، وبعد أن واكبت تعاليمه وارشاداته وقواعده منذ بداية الحياة الزوجية باختيار شريك الحياة المتديّن الصالح ، ومروراً بمرحلة الحمل والطفولة بجميع مراحلها ، وكانت تلك الشخصيات قدوة لجميع بني الإنسان.

وعلى الرغم من ابتعاد أغلب المسلمين عن المنهج التربوي لأهل البيت في تصوراتهم وممارساتهم إلّا أنّ آثاره بقيت حاكمة علىٰ كثيرٍ من المواقف والممارسات ، وكان المسلمون وخصوصاً أتباع أهل البيت عليهم‌السلام أقل انحرافاً وانحطاطاً من غيرهم من أصحاب الديانات الإلهية المحرّفة أو الوضعية ، ولا تزال كثير من العلاقات الاجتماعية قائمة على أسس صحيحة تحت تأثير ذلك

٩٥

المنهج ولو قدر للإسلام أن يبقىٰ في دوره الريادي دون اقصائه من قبل المحتلّين والغزاة لانتهى الانحراف وانحسر في دائرة ضيقة.

وفي مقابل ذلك نرىٰ أنّ المناهج الوضعية في التربية لم تحقّق إلّا مزيداً من الانحراف النفسي والسلوكي ، حيث القلق والاضطراب في النفس والانحراف في السلوك الفردي والاجتماعي ، وكان من آثاره كثرة الجرائم وكثرة الفساد وبالتالي فقدان الأمن والاطمئنان ، وفيما يلي نذكر بعض الاحصائيات في ذلك.

في نيويورك وحدها يوجد أكثر من ٣٠٠ ألف مدمن على المخدرات ، وهؤلاء يحتاجون يومياً إلىٰ ( ٥٠ ـ ١٠٠ ) دولار لكل شخص لتأمين الهيروئين لأنفسهم ، وإن إحصاءات الجرائم في نيويورك تدل على انها بلغت ٣٦٨ ألف جريمة خلال العشرة أشهر الأولىٰ من عام ١٩٧٢ من أمثال القتل ، والاغتصاب ، والهجوم المسلح (١).

وفي عام ١٩٩١ بلغ عدد جرائم القتل إلىٰ ٢٤٠٠٢٠ جريمة ، وقد ازداد العدد في عام ١٩٩٢ (٢).

وتشير الاحصائيات إلىٰ ٩٦٣ حالة اغتصاب في الولايات المتحدة في أوائل التسعينات ، علماً أنّ الاباحية الجنسية منتشرة والسلوك الجنسي سهل الاشباع.

وفي مجال جرائم القتل العائلية أفادت دراسة لوزارة العدل الأمريكية في ١٠ تموز ١٩٩٤ أنّ ٨٠% من ضحايا القتل قتلوا بأيدي أفراد من عائلاتهم.

_______________________

(١) الأفكار والرغبات بين الشيوخ والشباب / محمد تقي فلسفي : ١ / ١٨٦ ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت ، ط ١ ، ١٤١٥ ه‍.

(٢) مجلة نور الإسلام : ٤٣ / ٩٦.

٩٦

وفي عام ١٩٩٥ أعلنت وزارة الداخلية البريطانية أن نسبة الجريمة في انجلترا وويلز ارتفعت للمرة الأولىٰ في عامين ، وكانت أكبر زيادة في جرائم العنف والاعتداء والاغتصاب (١).

وأظهرت دراسة نشرها مركز مراقبة الأمراض والوقاية منها انّ نسبة جرائم قتل الأطفال الأمريكيين في عام ١٩٩٥ بلغت ٢٥٧ طفلاً بين كل مائة ألف ، وبلغت نسبة الانتحار بين الأطفال دون الخامسة عشرة ٥٥ بين كل مائة ألف (٢).

وأكدت منظمة الصحة العالمية أنّ حوالي مائة مليون من أطفال الشوارع حديثي السن يتعاطون الخمر والمخدرات وأنّ وضعهم يدعو إلى القلق.

ودلّت الاحصائيات علىٰ أنّ عدداً كبيراً من فتيات تحت سن الخامسة عشرة تظهر عليهنّ آثار الحمل كل شهر ، وبما أنّ الأطباء يخشون القيام باسقاط الجنين لصغر سنهن فانهنّ يصبحن أمهات ، ويزداد طلب اجراء عملية الاجهاض يوماً بعد يوم من المستوصفات الأمريكية (٣).

وفي احصائية اقيمت سنة ١٩٨٥ دلّت علىٰ انّ طفلاً واحداً من بين كل ستّة أطفال يولدون بصورة غير شرعية في بريطانيا ، وقد ارتفع عدد حالات الاغتصاب بنسبة ٢٧% خلال الستة شهور من سنة ١٩٨٥ (٤).

ودلّت الاحصائيات الأخيرة علىٰ قبول الناس لفكرة الانجاب غير الشرعي

_______________________

(١) العنف والجريمة / د. جليل وديع مشكور : ص ١٣ و ١٨ ، الدار العربية للعلوم ، بيروت ، ١٤١٨ ه‍.

(٢) صحيفة كيهان ، العدد ٣٨٧٦.

(٣) الأفكار والرغبات : ١ / ١٨٠.

(٤) الإسلام دين البشرية : ص ٦٢.

٩٧

للأطفال ، وأكدت علىٰ أنّ ٣٤% من الأطفال الذين ولدوا أحياء في انگلترا وويلز عام ١٩٩٥ ولدوا سفاحاً دون زواج (١).

وأشارت التقارير إلىٰ وجود نصف مليون شابة يمارسن الدعارة في مدينة ساوباولو البرازيلية في عام ١٩٩٦ ، وأنّ أطفالاً بين سن السابعة والثامنة يعيشون من ممارسة الدعارة ، وأنّ موسكو تعاني من وجود أكثر من ألف طفل يتاجرون ببيع أجسادهم ، ودلّت أيضاً علىٰ وجود ثماني مئة ألف من البغايا الأطفال في تايلند ، وأربعمئة ألف في الهند وستون ألف في الفيليبين ، كما ظهرت مراكز دولية جديدة لبغاء الأطفال في فيتنام وكمبوديا ولاوس والصين ، وفي تقرير آخر أشار إلى أنّ أكثر من ٥٠% من البغايا الأطفال في تايلند مصابات بفيروس الآيدز (٢).

وفي تموز عام ١٩٩٧ تظاهر نحو ٦٠ ألفاً من الشواذ جنسياً في شوارع لندن علىٰ غرار ما يفعلون سنوياً للمطالبة بحقوقهم ، وجرىٰ لأول مرة في سويسرا حفل زواج لشابين شاذين جنسياً في كنيسة بروتستانتية بمنطقة برن.

وفي شباط ١٩٩٥ دعا البرلمان الأوروبي في قرار الدول الأعضاء إلىٰ منح الشاذين جنسياً الحقوق والواجبات نفسها التي يتمتع بها الأزواج العاديون (٣).

٢ ـ شمولية المنهج التربوي

يمتاز منهج أهل البيت عليهم‌السلام التربوي بالشمول ، فهو يراعي الانسان في جميع

_______________________

(١) مجلة نور الإسلام : ٦٥ / ٩٦.

(٢) الطفولة المنحرفة : ص ١٠٦ و ١٠٨.

(٣) مجلة نور الإسلام : ٥٩ / ٨٦.

٩٨

مقوماته ، وينظر إليه من جميع جوانبه ، فهو مخلوق مزدوج الطبيعة روح وعقل وغرائز ، وجسد متعدد الجوارح ، وهو موضوع للانسان ككل فلا انفصال بين حاجات الجسد وحاجات الروح ، فهو يدعو إلى اشباع حاجات الانسان لكي يتقبل ما يلقى إليه من قواعد وأسس تربوية وتوجيهية وارشادية.

والمنهج التربوي لأهل البيت عليهم‌السلام يواكب حركة الانسان في جميع مراحلها ابتداءً باختيار شريك الحياة المناسب مروراً بمرحلة الاقتران وانعقاد الجنين ومراحل الطفولة الأخرىٰ ، ويضع لكل مرحلة تعاليم وتوجيهات منسجمة مع عمر الطفل الزمني والعقلي ، ومع حاجاته المادية والروحية ، ثم تأتي التكاليف حينما يصل الطفل إلىٰ مرحلة من النضج الجسدي والعقلي ؛ لتكون هي الموجهة له في حركته الواقعية في الحياة.

والمنهج لا يقتصر علىٰ تعاليم وارشادات خاصة في مجال معين بل انها شاملة لجميع المجالات ، وكل ما يسهم في تربية الانسان بشكل أو بآخر ، حيث يبدأ المنهج بربط الانسان وخصوصاً في مرحلة الطفولة بالمفاهيم والتصورات الإسلامية الأساسية ، كالايمان بالله تعالىٰ ، وبالثواب والعقاب ، وذكر الله عن طريق قراءة القرآن والدعاء والعبادة ، وذكر الموت ، والرضا بالقضاء.

والمنهج يتدخل في جميع المؤثرات التربوية ، فيدعو إلى اصلاح المحيط التربوي المتمثل بالأسرة والأصدقاء وحلقات الذكر والمسجد والعلماء وأجهزة الدولة.

ولا يقتصر المنهج على القاء التعاليم والارشادات ، بل يدعو إلى خلق الأجواء السليمة التي تسهم في تطبيق تفاصيل المنهج ، وهي تعميق المودة داخل الأسرة ، ومراعاة الحقوق والواجبات ، وتجنّب المشاكل والخلافات ،

٩٩

واشباع حاجات الطفل إلى الحب والحنان والتكريم واشعاره بذاته ، واشباع حاجاته إلى الرفاهية وإلى اللعب وإلى الحرية وإلى السلطة الضاغطة الموجهة.

والمنهج التربوي شامل في استخدام أساليب اللين والشدة ومراعاة الحقوق والواجبات ، وهو شامل لمعرفة الأفكار وتنميتها ، وتنمية العواطف ، وتنمية الارادة ، وتربية السلوك ، ويتصاعد المنهج التربوي بتكثيف التربية والتمرين على الطاعات المختلفة حسب القدرة ودرجة التلقي وتفاوت الأعمار.

وحينما تصطدم حاجات الانسان بالواقع ويحرم من تحقيق بعضها بسبب الظروف النفسية أو الاجتماعية ، يضع المنهج التربوي برنامجاً لمقاومة حالات التصدع النفسي في شخصية الإنسان ، ومعالجة الأمراض النفسية والروحية وهي في مهدها ، ومن مصاديق هذا البرنامج الدعوة إلى الصبر لأنه سلاح المؤمن في مقاومة العقبات والهموم والآلام ، وبه يتغلب علىٰ جميع أثقال الحياة من جوع ومرض وفقر وحرمان ومن اضطهاد وظلم ، والصبر له تأثيرات ايجابية علىٰ الصحة النفسية ، والإنسان الذي يقابل الحرمان والهموم والآلام بالصبر والثبات سيكون مطمئناً مستقراً ؛ لإيمانه بأنّ الله معه يحرسه ويرعاه ويتلطّف عليه ، ويفرّج عنه الضيق والشدّة.

والصابر يكون في أعلىٰ قمم الصحة النفسية حينما يشعر بأنّ الله يعوضه عن صبره بالحب واللطف ، فلا شقاء مع حبّ الله له ، ولا قيمة لشيء أمامه وهو داخل في دائرة الحب الإلهي ، ومن مصاديقه أيضاً التفكير بالجزاء والثواب الخالد ، فإنّ لهذا التفكير تأثيراً إيجابياً علىٰ من يعيش الحرمان والمصائب والآلام ، لأنّ التفكير بالجزاء والعوض الإلهي عمّا فقده في الدنيا يجعله يعيش الأمل في نيل ذلك الجزاء ، وهذا الأمل يخفّف من معاناته ، ويجعله موصولاً

١٠٠