ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت عليهم السلام

السيد شهاب الدين الحسيني العذاري

ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

السيد شهاب الدين الحسيني العذاري


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-408-6
الصفحات: ١١٦

آنس وأسلم ، فان أبيتم إلّا مجالسة الناس ، فجالسوا أهل المروّات ؛ فانهم لا يرفثون في مجالسهم » (١).

وحثّ الامام محمد الباقر عليه‌السلام علىٰ مصاحبة واتباع الناصحين فقال : « اتّبع من يبكيك وهو لك ناصح ، ولا تتّبع من يضحكك وهو لك غاشّ... » (٢).

٣ ـ المجالس وحلقات الذكر

المجالس وحلقات الذكر بيئة اجتماعية متكاملة تترك آثارها الملموسة علىٰ الانسان تأثراً بالجماعة التي تتألف منها المجالس وحلقات الذكر ؛ حيث تخلق أجواءً تربوية فكرية وسلوكية تؤثّر تدريجياً علىٰ المشاركين فيها ، وقد أطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ مجالس الذكر وحلقات الذكر مصطلح « رياض الجنّة ».

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بادروا إلىٰ رياض الجنّة » ، قالوا : يا رسول الله ، وما رياض الجنّة ؟ قال : « حلق الذكر » (٣).

وسئل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أين رياض الجنّة ؟ فقال : « مجالس الذكر ، فاغدوا وروّحوا في ذكر الله » (٤).

وتتنوع مجالس وحلقات الذكر بتنوّع الظروف والأوضاع ، كمجالس العلماء ، ومجالس الصالحين ، وجلسات حفظ القرآن الكريم وتلاوته ، ومجالس العزاء علىٰ الإمام الحسين عليه‌السلام ، ويلحق بها الاحتفالات والمهرجانات التي تُقام

_______________________

(١) مستدرك الوسائل / النوري : ٨ / ٣٢٨.

(٢) الكافي / الكليني : ٢ / ٦٣٨.

(٣) من لا يحضره الفقيه / الصدوق : ٤ / ٤٠٩.

(٤) مكارم الأخلاق / الطبرسي : ص ٣١٢.

٢١

علىٰ مدار السنة في الأعياد ومناسبات ولادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام ، ويوم المبعث ، ويوم الغدير وغير ذلك.

ومجالس الصالحين لها أثر كبير في الاصلاح والتغيير ، وكما ورد عن الامام زين العابدين عليه‌السلام : « مجالس الصالحين داعية إلىٰ الصلاح » (١).

ومن مجالس الصالحين المجالس التي تعقد أثناء الزيارات المتبادلة في المنازل ، قد حثّ أهل البيت عليهم‌السلام عليها لدورها في التربية والاصلاح.

قال الامام جعفر الصادق عليه‌السلام : « تزاوروا فانّ في زيارتكم إحياء لقلوبكم وذكراً لأحاديثنا ، وأحاديثنا تعطف بعضكم علىٰ بعض ؛ فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم ، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم ، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم » (٢).

وحذّر أهل البيت عليهم‌السلام من الاشتراك في مجالس الانحراف لتأثيرها السلبي علىٰ المشاركين ، قال الامام جعفر الصادق عليه‌السلام : « لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلساً يُعصىٰ الله فيه ولا يقدر علىٰ تغييره » (٣).

وقال أيضاً : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدنّ في مجلس يغتاب فيه إمام أو ينتقص فيه مؤمن » (٤).

٤ ـ المساجد

المساجد من أهم الأجواء الايمانية والتربوية ، التي تسهم بشكل فعّال في

_______________________

(١) مجموعة ورّام : ٢ / ٣٥.

(٢) الكافي / الكليني : ٢ / ١٨٦.

(٣) و (٤) مجموعة ورّام : ٢ / ٢١٠.

٢٢

تربية الانسان واصلاحه وتغييره ، والمسجد خير محيط للانسان للارتباط بالله سبحانه وتعالىٰ وبعالم الغيب ، حيث يجعل الانسان يعيش أجواءً معنوية وروحية يتعالىٰ فيها علىٰ أثقال الحياة ويتسامىٰ فيها فكراً وعاطفة ثمّ سلوكاً.

قال الامام الحسن عليه‌السلام : « من أدام الاختلاف إلىٰ المسجد أصاب إحدىٰ ثمان : آية محكمة ، وأخاً مستفاداً ، وعلماً مستطرفاً ، ورحمة منتظرة ، وكلمة تدلّه علىٰ الهدىٰ أو تردّه عن ردىٰ ، وترك الذنوب حياءً أو خشية » (١).

ولأهمية المسجد في بناء الشخصية الرسالية تضافرت الروايات عن أهل البيت عليهم‌السلام علىٰ استحباب بناء المساجد ، واستحباب الصلاة فيها ، ووضعوا برنامجاً متكاملاً في المستحبات والمكروهات التي ينبغي مراعاتها داخل المساجد ، وهي الحصن الواقي الذي يدفع الانسان للحركة نحو السمو والتكامل.

٥ ـ العلماء

للعلماء سلطان علىٰ الناس وخصوصاً علماء الدين ؛ لأنّ لهم قدسية خاصة يؤثرون من خلالها علىٰ الأفكار والعواطف والارادات ، ولهم دور فعّال في بناء الانسان والتصدي لجميع ألوان الانحراف الذي يهدد فكر المجتمع وسلوكه ومسيرته التاريخية ، وهم ليسوا مجرد وعاظ ومعلمين لطقوس دينية أو فروض منطقية ؛ انهم قادة روحيون يتحملون مسؤولية الهداية والاصلاح والتغيير الشامل.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصفه للعلم : « ... يرفع الله به أقواماً يجعلهم في

_______________________

(١) تحف العقول / الحرّاني : ص ١٦٦.

٢٣

الخير أئمة يقتدىٰ بهم ، ترمق أعمالهم ، وتقتبس آثارهم » (١).

ولمقام العلماء ودورهم في التأثير أثر واضح في صلاح الناس أو فسادهم تبعاً لصلاح العلماء أو فسادهم.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّ كلام الحكماء إذا كان صواباً كان دواءً ، وإذا كان خطأً كان داءً » (٢).

وقال أيضاً : « زلة العالم كانكسار السفينة تغرق ويغرق معها خلق » (٣).

وقال أيضاً : « زلة العالم تفسد عوالم » (٤).

٦ ـ الدولة

من الحقائق التاريخية أنّ المجتمعات تتأثر بحكامها ، حيث تنعكس أفكار وأخلاق الحاكم وأجهزة الحكم على الناس خيراً أم شراً ، فالحاكم حريص علىٰ تغيير المجتمع طبقاً لمتبنياته الفكرية والعاطفية والسلوكية ، ويستطيع تحقيق ما يحرص عليه لامتلاكه لمصادر القوة والتأثير ومنها : المال والاعلام.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « السلطان الفاضل هو الذي يحرس الفضائل ويجود بها لمن دونه ، ويرعاها من خاصته وعامته حتىٰ تكثر في أيّامه ، ويتحسن بها من لم تكن فيه » (٥).

_______________________

(١) بحار الأنوار / المجلسي : ١ / ١٦٦.

(٢) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد : ١٩/ ٢٧١.

(٣) شرح نهج البلاغة : ٢٠ / ٣٤٣.

(٤) تصنيف غرر الحكم : ص ٤٧.

(٥) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد : ٢٠ / ٢٨٢.

٢٤

وجعل الامام الصادق عليه‌السلام مقدمات الاصلاح واجبة علىٰ السلطان وعلىٰ دولته فقال : « ثلاثة تجب على السلطان للخاصة والعامة : مكافأة المحسن بالاحسان ليزدادوا رغبة فيه ، وتغمد ذنوب المسيء ليتوب ويرجع عن غيّه ، وتألفهم جميعاً بالاحسان والانصاف » (١).

والرعية تتأثر بحاكمها وكما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « قلوب الرعية خزائن راعيها ، فما أودعها من عدلٍ أو جورٍ وجده » (٢).

ومثّل عليه‌السلام الملك بالنهر والناس بالجداول فقال : « الملك كالنهر العظيم تستمد منه الجداول ، فان كان عذباً عذبت ، وإن كان ملحاً ملحت » (٣).

أثر الغرائز في التربية

الغريزة في اللغة هي : الطبيعة والقريحة والسجيّة ، وقال اللحياني : هي الأصل والطبيعة (٤).

وفي الاصطلاح هي : استعداد فطري نفسي جسمي يدفع الفرد الى أن يدرك وينتبه الى أشياء من نوع معيّن ، وأن يشعر بانفعال خاص عند إدراكها ، وأن يسلك نحوها مسلكاً خاصاً (٥).

_______________________

(١) تحف العقول / الحرّاني : ص ٢٣٦.

(٢) تصنيف غرر الحكم : ص ٣٤٦.

(٣) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد : ٢٠ / ٢٧٩.

(٤) لسان العرب / ابن منظور : ٥ / ٣٨٦.

(٥) منهج التربية أساسياته ومكوّناته / الدكتور علي أحمد مدكور : ص ٥٩ ، الدار الفنية ، القاهرة ، ١٩٩٣ م.

٢٥

والغريزة كما هو المستفاد من معناها أمر مغروز في داخل الذات يتفاعل مع المحيط الخارجي لينطلق نحو الاستجابة والاشباع ، وهي قوة لا نلاحظها مباشرة بل نستنتجها من الاتجاه العام للسلوك الصادر منها في الواقع.

ومن هنا فللغريزة مظاهر ثلاثة : ١ ـ مثير خارجي. ٢ ـ سلوك عملي. ٣ ـ هدف يراد تحقيقه. وبعبارة اُخرىٰ أنّ الغريزة تتفاعل مع الشعور بمظاهره الثلاثة : الادراك والانفعال والرغبة للتحقيق.

فهي تتفاعل مع المثير الخارجي وتنفعل مع مظاهره المتنوعة ، وتنطلق لتحقيق هدفها وهو الاشباع والارتواء ، وهذا التفاعل والانطلاق هو أمر فطري لا يختلف ولا يتخلف من فرد لآخر ، وأمّا السلوك الصادر عن الغريزة ، فهو أمر تتحكم به ارادة الانسان وما يحمله من متبنيات فكرية وعاطفية وخلقية ؛ من حيث نظرته للكون وللحياة والمجتمع ، فيكون منسجماً معها مطابقاً للأسس والقواعد التي تبناها في رسم منهجه في الحياة ، ولهذا يختلف سلوك الانسان وممارساته العملية اندفاعاً وانكماشاً من انسان لآخر تبعاً لدرجات ايمانه واعتقاده بمتبنياته.

وتتنوع الغرائز بتنوع تركيبة الانسان وكينونته ، فهو جسد وروح ولكلّ منهما وظائفه الخاصة المترتبة على الحاجات الأساسية العضوية والوجدانية في آن واحد.

والتقسيم الثنائي للغرائز يرجعها الى العقل والشهوة ، وهما الأساس الذي تتفرع وتتنوع منهما سائر الغرائز والدوافع والحاجات.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « انّ الله ركَّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة ، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل ، وركّب في بني آدم كلتيهما ، فمن غلب عقله

٢٦

شهوته فهو خير من الملائكة ، ومن غلبت شهوته عقله ، فهو شرّ من البهائم » (١).

ومصطلح الشهوة يطلق على القوة التي تشتهي ، وعلى الأمر المشتهى (٢).

فمن العقل تتفرع غريزة التديّن وغريزة التكامل أو حب الكمال ، وغريزة الأمن والاستقرار ، ومن الشهوة تتفرع غريزة الجوع والغريزة الجنسية وبقية الغرائز ذات الطابع الجسماني.

عن الامام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « انّ أول ما عصي الله به ستة أشياء : حبّ الدنيا ، وحب الرئاسة ، وحب الطعام ، وحبّ النوم ، وحب الراحة ، وحب النساء » (٣).

وقد أيّد العلم الحديث ما قاله الامام علي عليه‌السلام في نظرته للانسان حيث انّ المفهوم السائد في هذا العصر ( انّ الانسان لا هو حيوان ولا هو من السماء ، ولكنّه بين الاثنين ، وتطوره يعتمد علىٰ تمييزه المضبوط لطبيعة إمكاناته المحدودة ) (٤).

فالانسان في رأي أمير المؤمنين تتجاذبه قوتان : الشهوة والعقل ، وهذه القوىٰ تبكّر لديه في الظهور واليقظة ، وتسرع عنده في النمو والتأثير ، وهي

_______________________

(١) علل الشرايع / الشيخ الصدوق : ١ / ١٠٢ ، المكتبة الحيدرية ، النجف ، ١٣٨٥ ه‍.

(٢) مفردات ألفاظ القرآن / الراغب : ص ٢٧٠.

(٣) مجموعة ورّام : ٢ / ٢٠٥.

(٤) الشخصية بين النجاح والفشل / الدكتور عباس مهدي : ص ٩١ ، عن :

Colin wilson, Beyond the Outsider p.١٥٩.

٢٧

المؤثرة في بنائه الخلقي والنفسي ، فاذا نمت قوة الشهوة وتغلبت علىٰ قوة العقل فانّ الانسان سيكون مستسلماً لهواه وملذّاته وسيشبعها دون قيود أو شروط في أجواء المثيرات والمغريات الخارجية الى أن يصبح كالحيوان همّه بطنه وفرجه ، أو يقف الواقع حائلاً دون اشباعها ؛ فيؤدي ذلك الى اختلال التوازن النفسي والانفعالي في كيانه فيصاب بالاضطراب النفسي والروحي ، وإذا غلبت قوة العقل قوة الشهوة ، فإنّ الانسان سيشبعها في وجهها الايجابي ، فهو لا يوقف الشهوة ولا يعطلها بل يوجهها وجهة عقلانية ويقيدها بقيود الشريعة أو يؤجل إشباعها الى ظرفها المناسب المشروع.

ودور العقل هو تعديل الشهوة وتهذيبها واستبدال مثيراتها الطبيعية بمثيرات اخرى تتجه بها الى السمو والكمال ، وتدع بها سلوكها الفطري الى سلوك فيه النضج والقوة للفرد والصلاح للمجتمع.

والعقل يقدّم التسامي على اللذات الفانية ، ويوجه الانسان الىٰ طاعة ربّه ويقدمها علىٰ غيرها.

ويصف الامام محمد الباقر عليه‌السلام أهل التقوى قائلاً : « أخّروا شهواتهم ولذّاتهم خلفهم ، وقدّموا طاعة ربّهم أمامهم » (١).

فالامام لم يقل : الغوا شهواتهم ولذاتهم أو عطّلوها بل قال : أخّروا ، لأنّ منهج أهل البيت عليهم‌السلام هو منهج التوازن ، ولهذا نجد انّ أمير المؤمنين عليه‌السلام يعاتب عاصم ابن زياد حينما لبس العباءة وتخلّىٰ عن الدنيا فيقول له : « يا عديَّ نفسه لقد استهام بك الخبيث ! أما رحمت أهلك وولدك ! أترى الله أحلَّ لك الطيّبات ،

_______________________

(١) تحف العقول / الحرّاني : ص ٢٠٩.

٢٨

وهو يكره أن تأخذها ! أنت أهون على الله من ذلك » (١).

ومنهج أهل البيت عليهم‌السلام يدعو الى أن يكون العقل حاكماً على الشهوات ، لأنّ الانسياق وراء الشهوات يؤدي إلىٰ وقوع الانسان في مهاوي الرذيلة ، ومن آثارها ما ورد في أقوال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

١ ـ قرين الشهوة مريض النفس معلول العقل.

٢ ـ غلبة الشهوة تبطل العصمة وتورد الهُلْك.

٣ ـ من زادت شهوته قلت مروّته.

٤ ـ إنكم ان ملّكتم شهواتكم نزت بكم الى الأشر والغواية (٢).

وخلاصة القول : ان غلبة العقل على الشهوة بمعنىٰ تحكمه فيها ، يجعل الانسان في قمة السمو والتكامل ، وإنّ غلبة الشهوة علىٰ العقل تجعل الانسان في المستنقع الآسن وفي ركب الطالحين.

قال الامام جعفر الصادق عليه‌السلام : « لا تدع النفس وهواها ، فإنّ هواها رداها ، وترك النفس وما تهوىٰ أذاها ، وكفّ النفس عمّا تهوىٰ دواها » (٣).

* * *

_______________________

(١) نهج البلاغة : ص ٣٢٤.

(٢) تصنيف غرر الحكم : ص ٣٠٥.

(٣) الكافي / الكليني : ٢ / ٣٣٦.

٢٩
٣٠

الفصل الثاني

دور القيم المعنوية والنفسية في المجال التربوي

قال سبحانه وتعالى : ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * الّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) (١).

الانسان والمجتمع في تدهور واضطراب وخسران في جميع مقومات الحياة وميادينها ، باستثناء من تكون المفاهيم والقيم الدينية هي الحاكمة علىٰ مسيرته وحركته ، حيث تحرر تلك القيم الإنسان والمجتمع معاً من جميع العبوديات الفكرية والاجتماعية والتربوية ، وتزرع في الضمير وخلجات النفس وفي الواقع الاستقرار والطمأنينة التي هي أساس الصحة النفسية والخلقية ، وتدفع الى العمل الايجابي البناء في اصلاح وتغيير النفس والمجتمع ، وأساس القيم المعنوية والنفسية الايمان بالله تعالى وباحاطته التامة بالانسان في حركاته وسكناته ، وهو الذي يجعل الضمير طامعاً في ثواب الله ، وخائفاً من غضبه وعقابه.

وأثبتت حركة التاريخ وسننه المتتابعة انّ الابتعاد عن الدين فكراً وسلوكاً هو أساس جميع الوان الانحراف والانحطاط الفردي والاجتماعي ، ابتداءً بفقدان الصحة النفسية والروحية ، وانتهاءً بالممارسات المنحرفة ، ولهذا نجد انّ الانحراف يتزايد في المجتمعات غير الدينية التي لا تؤمن بمفاهيمه أو لا تتبناه منهجاً لها في

_______________________

(١) سورة العصر : ١٠٣ / ١ ـ ٣.

٣١

الحياة. قال تعالىٰ : ( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) (١).

والضنك هو الضيق في كلّ شيء ، وهو لازم لمن أعرض عن ذكر الله ، والاعراض يبعد القلب عن الهدوء ، والنفس عن الطمأنينة ، ويجعل الانسان يعيش الانفلات من الرقابة الذاتية فلا كابح لشهواته ورغباته ونزواته ، فيكون همّه اشباعها بأيّ طريق أمكن دون النظر الى الآثار الوخيمة المترتبة علىٰ ذلك.

وبعد هذه المقدمة نوزّع الفصل علىٰ مبحثين :

المبحث الأول : دور القيم المعنوية في التربية من خلال ارشادات أهل البيت عليهم‌السلام

القيم المعنوية تشمل : الايمان بالله ، والايمان بالثواب والعقاب ، وذكر الله ، وذكر الموت ، والاعتراف بالذنب ، والاستغفار ، والتوبة ، والرضا بالقضاء. وفيما يلي نستعرضها تباعاً :

١ ـ الايمان بالله تعالىٰ

الانسان مجبول بفطرته على الايمان بالله تعالىٰ ، حيث يبدأ منذ الطفولة بالتساؤل عن نشوئه ونشوء الكون ، وعن العلة من وراء ذلك ، والايمان بالله من ( أهم القيم التي يجب غرسها في الطفل ... ممّا سوف يعطيه الأمل في الحياة

_______________________

(١) سورة طه : ١٢٣ و ١٢٤.

٣٢

والاعتماد على الخالق ويوجد عنده الوازع الديني الذي يحميه من اقتراف الآثام ) (١).

والايمان بالله حاجة ضرورية ، وفي هذا الصدد قال باسكال : ( كل شيء غير الله لا يشفي لنا غليلاً ) (٢).

ويرى الفيلسوف المعاصر الدوس هكسلي انّه ( لا تستريح البشرية حتىٰ يتجرّد الانسان من عوائقه ونزعاته ، ولا يكون متجرّداً إلّا إذا ارتبط برباط آخر ألا وهو الله ) (٣).

ويرىٰ عالم النفس السويسري كارل يونج ( ان انعدام الشعور الديني يسبب كثيراً من مشاعر القلق والخوف من المستقبل ، والشعور بعدم الأمان ، والنزوع نحو النزعات المادية البحتة ، كما يؤدي إلىٰ فقدان الشعور بمعنىٰ ومغزىٰ هذه الحياة ، ويؤدي ذلك إلى الشعور بالضياع ) ، وقد استخدم هذا العالم الدين في علاج كثير من مرضاه النفسيين (٤).

وهذه المشاعر وما يرافقها من نزوع نحو النزعات المادية هي أساس الانحراف الفكري والعاطفي والسلوكي وأساس الشرور والآثام ، ولا وقاية إلّا بالايمان بالله تعالىٰ ، ولا علاج إلّا بتعميق الايمان في النفوس.

_______________________

(١) قاموس الطفل الطبي : ص ٢٩٤.

(٢) دائرة معارف القرن العشرين : ١ / ٤٨٢.

(٣) نحو إنسانية سعيدة / الدكتور محمد المبارك : ص ١٣٥ ، دار الفكر ، بيروت ، ١٣٨٩ ه‍.

(٤) دراسات في تفسير السلوك الانساني / الدكتور عبدالرحمن العيسوي : ص ١٩٣ ، دار الراتب الجامعية ، بيروت ، ١٤١٩ ه‍.

٣٣

والايمان له آثار إيجابية في جميع مقوّمات النفس والحياة ، ومنها : الصحة النفسية والعقلية والخلقية ، ومن أقوال أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذا الصدد :

١ ـ « من عرف الله سبحانه لم يشقَ أبداً ».

٢ ـ « التوحيد حياة النفس ».

٣ ـ « الإيمان أمان ».

٤ ـ « من عدم الفهم عن الله سبحانه لم ينتفع بموعظة واعظٍ ».

٥ ـ « بالإيمان يستدلّ على الصالحات » (١).

والايمان بالله تعالىٰ باعث للسلوك القويم ، حيث يجعل الخير والصلاح أصيلاً ثابتاً لا عارضاً مزعزعاً ، ومن آثار الايمان علىٰ نفس الفرد هي : التفاؤل ، التفتح ، الطمأنينة ، التمتع باللذات المعنوية ، مقاومة الانحراف ، الصبر على المصائب ، التنافس علىٰ عمل الصالحات وغيرها من مقومات الاستقامة وحسن السيرة والسريرة.

ومن آثاره الاجتماعية : احترام القوانين والضوابط الاجتماعية ، تقديس العدالة ، الشعور بالاخوة والمحبة بين الافراد ، الثقة المتبادلة ، الاحساس بالمسؤولية الاجتماعية ، التقوى ، الايثار ، نكران الذات ، تقبل النصيحة والنقد البنّاء.

ومن هنا فتعميق الايمان بالله ضروري جداً في تربية الانسان وخصوصاً في مرحلة الطفولة ، وهو وحده الذي يحصنه من الانحراف ويوجه ضميره وارادته وسلوكه نحو الاستقامة والصلاح لايمانه بوجود قوة غيبية تتابعه في حركاته

_______________________

(١) تصنيف غرر الحكم : ص ٨٢ ، ٨٤ ، ٨٨.

٣٤

وسكناته.

والايمان كما جاء في قول الامام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام : « الإيمان أداء الفرائض واجتناب المحارم ، والايمان هو معرفة بالقلب واقرار باللسان وعمل بالأركان » (١).

والايمان التزام واستشعار للرقابة الآلهية ، قال رجل للإمام الصادق عليه‌السلام : أوصني ، فقال له : « لا يراك الله حيث نهاك ، ولا يفقدك حيث أمرك » (٢).

فقال الرجل : زدني ، فقال عليه‌السلام : « ما أجد لك مزيداً » (٣).

وقال عليه‌السلام : « خف الله كأنك تراه ، وإن كنت لا تراه فإنّه يراك » (٤).

٢ ـ الايمان بالثواب والعقاب

الايمان بالثواب والعقاب واستشعاره في العقل والضمير هو الزمام الذي يكبح الشهوات والنزوات ، وهو اكثر ايقاظاً للعقل والقلب والارادة ؛ حين يوجه الكيان الانساني الى اليوم الخالد الذي يقف فيه الانسان أمام من لا تخفىٰ عليه خافية وأمام من يحيط بالانسان والحياة والكون.

والايمان بالحياة الاخرىٰ حافز علىٰ اصلاح النفس والضمير ، وحافز للتسامي والارتقاء في جميع مقوّمات الشخصية الانسانية ، ومقومات الحياة الانسانية.

_______________________

(١) تحف العقول / الحرّاني : ص ٣١٥.

(٢) مجموعة ورّام : ٢ / ٢٤٦.

(٣) المصدر السابق نفسه.

(٤) بحار الأنوار / المجلسي : ٦٧ / ٢٥٥.

٣٥

ومن أقوال أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذا المجال :

١ ـ « من أحبّ الدار الباقية لهي عن اللّذات ».

٢ ـ « من اشتاق إلى الجنّة سلا عن الشهوات ».

٣ ـ « من خاف العقاب انصرف عن السيئات » (١).

وجعل الآخرة هماً للانسان يسهم مساهمة فعالة في اصلاح النفس واصلاح الضمير واصلاح السلوك ، والتفكير المتواصل بالآخرة يحصن الانسان من المعصية ، وهذه حقيقة ملموسة وواقعية.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

١ ـ « اجعل همك لمعادك تصلح ».

٢ ـ « من اكثر من ذكر الآخرة قلّت معصيته » (٢).

والايمان بالثواب والعقاب في دار الدنيا يحرك الانسان نحو عمل الخير ويوجهه نحو التكامل ، ويردعه عن الباطل والانحراف ، وقد وردت عدة روايات حول السنن المرتبطة بالثواب والعقاب ، نذكر منها علىٰ سبيل المثال : قول الامام محمد الباقر عليه‌السلام : « صلة الارحام تزكي الأعمال ، وتنمي الأموال ،   وتدفع البلوىٰ ، وتيسر الحساب ، وتنسيء في الأجل » (٣).

وقال عليه‌السلام : « ما من نكبة تصيب العبد إلّا بذنب » (٤).

وقال الامام جعفر الصادق عليه‌السلام : « انّ الذنب يحرم الرزق » (٥).

_______________________

(١) تصنيف غرر الحكم : ص ١٤٦.

(٢) المصدر السابق نفسه : ص ١٤٤ و ١٤٥.

(٣) الكافي / الكليني : ٢ / ١٥٠.

(٤) الكافي / الكليني : ٢ / ٢٦٩.

(٥) الكافي / الكليني : ٢ / ٢٧١.

٣٦

وقال عليه‌السلام : « من عيّر مؤمناً بذنب لم يمت حتىٰ يركبه » (١).

وقال عليه‌السلام : « من استشار أخاه فلم يمحضه محض الرّأي سلبه الله عزّوجلّ رأيه » (٢).

وعن الامام محمد الباقر عليه‌السلام قال : « وجدنا في كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة ، وإذا طفّف المكيال والميزان أخذهم الله بالسنين والنقص ، وإذا منعوا الزكاة منعت الأرض بركتها من الزّرع والثمار والمعادن كلّها ، واذا جاروا في الأحكام تعاونوا على الظلم والعدوان ، وإذا نقضوا العهد سلّط الله عليهم عدوّهم ، واذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار ، واذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر ولم يتبعوا الأخيار من أهل بيتي سلّط الله عليهم شرارهم فيدعو خيارهم فلا يستجاب لهم » (٣).

والايمان بوجود تقييم موضوعي للناس علىٰ أساس الثواب والعقاب يسهم في البناء التربوي السليم ، وهو تشجيع للمحسن وردع للمسيء.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء ، فانّ ذلك تزهيد لأهل الاحسان في الاحسان ، وتدريب لأهل الاساءة على الاساءة ، فالزم كلّاً منهم ما ألزم نفسه أدباً منك ينفعك الله به وتنفع به أعوانك » (٤).

_______________________

(١) الكافي / الكليني : ٢ / ٣٥٧.

(٢) الكافي / الكليني : ٢ / ٣٦٣.

(٣) الكافي / الكليني : ٢ / ٣٧٤.

(٤) تحف العقول / الحرّاني : ص ٨٧.

٣٧

وقال عليه‌السلام : « ازجر المسيء بثواب المحسن » (١).

٣ ـ ذكر الله تعالى

قال تعالىٰ : ( الا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) (٢).

اطمئنان القلب يحقق التوازن النفسي والانفعالي داخل النفس الانسانية ، وهو أحد أعمدة الصحة النفسية التي تسهم مساهمة فعّالة في ارتقاء الانسان سلم الكمال والمسيرة الصالحة.

وذكر الله يصدّ عن فعل القبيح لاستشعار الرقابة الالهية المطبقة علىٰ حركات الانسان وسكناته ، فلا يقدم علىٰ أي ممارسة مخالفة للموازين الالهية في السلوك والعلاقات الاجتماعية ، ولا يقدم علىٰ أي عمل لا يحرز فيه رضا الله تعالىٰ.

وأول ثمار ذكر الله تعالى الابتعاد عن الشيطان الذي يوسوس للانسان ويزيّن له الانحراف ، والابتعاد عن الشيطان أو ابعاده عن التأثير مقدمة لاصلاح خلجات النفس ثم الممارسات العملية.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ذكر الله مطردة الشّيطان » (٣).

وقال عليه‌السلام : « ذكر الله دعامة الإيمان وعصمة من الشيطان » (٤).

ولذكر الله تعالىٰ تأثير في علاج الأمراض النفسية ، وهي عامل مساعد للانحراف ، وعلاج النفس يسهم في تقبل منهج الاستقامة والصلاح.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ذكر الله دواء أعلال النفوس » (٥).

_______________________

(١) نهج البلاغة : ص ٥٠١.

(٢) سورة الرعد : ١٣ / ٢٨.

(٣) و (٤) تصنيف غرر الحكم : ص ١٨٨.

(٥) تصنيف غرر الحكم : ص ١٨٨.

٣٨

وذكر الله تعالىٰ يسمو بسلوك الانسان بعد صلاح قلبه ومحتواه الداخلي ، وهو صلاح له في السر والعلن.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أصل صلاح القلب اشتغاله بذكر الله » (١).

وقال أيضاً : « من عمّر قلبه بدوام الذكر حسنت أفعاله في السرّ والجهر » (٢).

والذاكر لله يذكره الله ، وهذا الذكر له تأثيراته العملية علىٰ الشخصية الانسانية في جميع مقوماتها ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من ذكر الله سبحانه أحيىٰ الله قلبه ونوّر عقله ولبّه » (٣).

ومصاديق الذكر متعددة ومتنوعة لا حدود لها ، وقد وردت عدة روايات تؤكد علىٰ : التسبيح ، والتهليل ، والتحميد ، والتكبير ، وقول : لا حول ولا قوة إلّا بالله ، ولكل واقعة أو حدث أو قضية ذكر معين ، كالحمد لله ، حسبي الله ،   أتوكل على الله ، وغير ذلك.

وهنالك مصاديق عملية وواقعية لذكر الله ولتعميق صلة العبد بربّه تسهم في ردع الانسان عن الانحراف والشرور وتدفعه الى الاستقامة والصلاح ، ومن هذه المصاديق :

أولاً : قراءة القرآن الكريم

القرآن الكريم أحد وسائل الارتباط بالله تعالىٰ ، وهو نور يستضيء به الإنسان ، ففيه منهاج شامل للبشرية جمعاء يعين الانسان علىٰ الاستقامة

_______________________

(١) تصنيف غرر الحكم : ص ١٨٨.

(٢) و (٣) المصدر السابق : ص ١٨٩.

٣٩

والتقيد بالموازين الصالحة والضوابط السلوكية السليمة.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « كفى بالقرآن داعياً » (١).

وقال عليه‌السلام : « القرآن أفضل الهدايتين ».

وقال عليه‌السلام : « ما جالس أحد هذا القرآن إلّا قام بزيادة أو نقصان ؛ زيادة في هدىً ، أو نقصان في عمىً » (٢).

والقرآن الكريم شفاء من جميع الأمراض والعلل النفسية التي تؤدي غالباً الى الانحراف كالوسوسة والقلق والحيرة ؛ لأنّه يوصل القلب بمنعم الرحمة والرأفة فيسكن ويطمئن ويستشعر الحماية والأمن.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أحسنوا تلاوة القرآن فانّه أنفع القصص واستشفوا به فانّه شفاء الصدور » (٣).

وقال الامام موسىٰ الكاظم عليه‌السلام : « في القرآن شفاء من كل داء » (٤).

وقراءة القرآن تجعل أجواء المنزل وأجواء الأسرة أجواءً روحانية تتسامىٰ فيها النفوس وتتوجه نحو الاستقامة والصلاح.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله عزّوجلّ فيه ، تكثر بركته ، وتحضره الملائكة ، وتهجره الشياطين ، ويضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض ، وإنّ البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ولا يذكر الله عزّوجلّ فيه ، تقلّ بركته ، وتهجره الملائكة ، وتحضره

_______________________

(١) تصنيف غرر الحكم : ص ١١٠.

(٢) المصدر السابق : ص ١١١.

(٣) المصدر السابق : ص ١١٢.

(٤) مكارم الأخلاق / الطبرسي : ص ٣٦٣.

٤٠