أساليب بلاغية

الدكتور أحمد مطلوب

أساليب بلاغية

المؤلف:

الدكتور أحمد مطلوب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: وكالة المطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٣

وتقديم وتأخير ، مع أنّ الفعل مسند ، وكان ينبغى أن يبحثه فى باب المسند ويذكر أنّه يأتى فعلا واسما وجملة.

ولكننا لا بدّ أن نحمد للسكاكى انتباهه إلى اشتراك كثير من المباحث التى ذكرها فى المسند والمسند إليه ، فقد أشار ـ وهو يتحدث عن الحالة المقتضية لقصر المسند إليه على المسند ـ إلى أنّ القصر لا يختص بالمسند إليه وإنما يدخل المسند أيضا ، ويجرى بين الفاعل والمفعول ، وبين المفعولين ، وبين الحال وذى الحال ، وبين كل طرفين. يقول : «واعلم أنّ القصر كما يكون للمسند إليه على المسند يكون للمسند على المسند إليه ، ثم هو ليس مختصا بهذا البين بل له شيوع وله تفريعات ، فالأولى أن نفرد للكلام فى ذلك فصلا ونؤخره إلى تمام التعرف لما سواه فى قانوننا هذا ليكون إلى الوقوف عليه أقرب» (١)

هذا ما يتعلق باتخاذ ركنى الجملة أساسا فى تقسيم مباحث علم المعانى ، أما ما يتصل بالموضوعات نفسها فقد ذكر التقديم والتأخير ، والحذف والذكر والفصل والوصل ، والإيجاز والإطناب ، والتعريف والتنكير ، والقصر ، فى القانون الأول أى فى باب الخبر. وليس فى هذا دقة ، لأنّ هذه الموضوعات تدخل الطلب كما تدخل الخبر. وقد أشار عبد القاهر إلى ذلك بقوله : «أنّه لا يجوز أن يكون لنظم الكلام وترتيب أجزائه فى الاستفهام معنى لا يكون له ذلك المعنى فى الخبر ، ذلك أنّ الاستفهام استخبار ، والاستخبار هو طلب من المخاطب أن يخبرك. فاذا كان كذلك كان محالا أن يفرق الحال بين تقديم الاسم وتأخيره فى الاستفهام فيكون المعنى إذا قلت : «أزيد قام؟» غيره إذا قلت «أقام زيد؟» ، ثم لا يكون هذا الافتراق فى الخبر. ويكون قولك «زيد قام» و «قام زيد» سواء ذاك ، لأنه يؤدى إلى أن نستعمله أمرا لا سبيل فيه إلى جواب ، وأن تستثبته المعنى على وجه ليس عنده عبارة يثبته لك بها على ذلك الوجه» (٢). وبقوله : «وإذ قد عرفت الحكم فى الابتداء بالنكرة فى الاستفهام فابن الخبر عليه» (٣).

__________________

(١) مفتاح العلوم ص ٩٤.

(٢) دلائل الإعجاز ص ١٠٨.

(٣) دلائل الإعجاز ص ١٠٩.

٨١

ولم يأخذ السكاكى برأى عبد القاهر مع أنّه اعتمد على كتابيه وجرّدهما من النزعة الأدبية وأحالهما هيا كل بتقسيماته المنطقية.

والعجيب أنّ الخطيب القزوينى وسعد الدين التفتازانى وغيرهما من الشراح تابعوا السكاكى فى هذا التقسيم مع أنّهم ذكروا أنّ الموضوعات التى بحثت فى الخبر تدخل الطلب أيضا. يقول القزوينى بعد أن ذكر أحوال المسند : «كثير مما ذكر فى هذا الباب والذى قبله غير مختص بهما كالذكر والحذف وغيرهما. والفطن إذا أتقن اعتبار ذلك فيهما لا يخفى عليه اعتباره فى غيرهما» (١). وأعاد هذا القول فى كتابه «الإيضاح» بعد أن ذكر أحوال الإسناد والمسند إليه والمسند وأحوال متعلقات الفعل والقصر ، وقال : «ما ذكرناه فى هذه الأبواب الخمسة السابقة ليس كله مختصا بالخبر بل كثير منه حكم الإنشاء فيه حكم الخبر ، يظهر ذلك بأدنى تأمل» (٢). وقال التفتازانى : «إنّ الإسناد الإنشائى أيضا إمّا مؤكد أو مجرد عن التأكيد ، وكذا المسند إليه إمّا مذكور أو محذوف مقدم أو مؤخر ، معرف أو منكر ، إلى غير ذلك ، وكذلك المسند اسم أو فعل ، مطلق أو مقيد بمفعول أو بشرط أو بغيره. والمتعلقات إما متقدمة أو متأخرة ، مذكورة أو محذوفة ، وإسناده وتعلقه أيضا إما بقصر أو بغير قصر. والاعتبارات المناسبة فى ذلك مثل ما مر فى الخبر ولا يخفى عليك اعتباره بعد الإحاطة بما سبق» (٣).

ولكنّ البلاغيين سحروا بمنهج السكاكى وساروا عليه من غير أن يحاولوا إصلاحه إلا ما صدر عنهم من ملاحظات لا تبعد البلاغة عن جوهره كثيرا. ونرى ـ إذا ما أردنا أن نعيد ترتيب مباحث علم المعانى فى كتاب «مفتاح العلوم» ـ أن يبحث الخبر والإنشاء فى باب مستقل وتذكر أنواعهما وأساليبهما ، ثم تبحث الجملة فى باب آخر يجمع أجزاءها ويكون للتقديم والتأخير فصل ، وللذكر والحذف فصل ثان ، وللتنكير والتعريف فصل

__________________

(١) التلخيص ص ١٢٥.

(٢) الإيضاح ص ١٠١.

(٣) المطول ص ٢٤٦.

٨٢

ثالث ، وللقصر وأنواعه وطرقه فصل رابع ، ولتقييد المسند والمسند إليه فصل خامس. ولا بدّ من بحث الفصل والوصل ، والإيجاز والإطناب فى بابين مستقلين. وبهذه الطريقة نجمع ما فرّقه السكاكى ونبعث الحياة فى هذا الفن ليكون صالحا فى الدراسات الأدبية.

وليس بغريب أن ندعو إلى هذا المنهج فقد بحث المتقدمون البلاغة بما هو قريب منه ، وكان لأعلامهم كأبى هلال وابن رشيق وابن سنان وعبد القاهر وابن الأثير مناهج سليمة وبحوث طريفة ذات نفع عظيم وأثر كبير ، لأنّهم لم يبعثروا الموضوعات فى فصول كثيرة وإنّما جمعوها جمعا دقيقا ، وبذلك جاءت كتبهم آية فى الإبداع ، وكانت بحوثهم غاية فى الوضوح والجلاء.

وكان الخطيب القزوينى (ـ ه) أوضح منهجا من السكاكى ، والمعانى عنده «علم يعرف به أحوال اللفظ العربى التى بها يطابق مقتضى الحال» (١). وقد رفض تعريف السكاكى وهو «تتبع خواص تراكيب الكلام فى الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ فى تطبيق الكلام على ما يقتضى الحال ذكره» (٢) ، لأنّ التتبع ليس بعلم ولا صادق عليه فلا يصح تعريف شىء من العلوم به.

وحصر علم المعانى فى ثمانية أبواب :

الأول : أحوال الإسناد الخبرى.

الثانى : أحوال المسند اليه.

الثالث : أحوال المسند.

الرابع : أحوال متعلقات الفعل.

الخامس : القصر.

السادس : الإنشاء.

السابع : الفصل والوصل.

الثامن : الإيجاز والإطناب (٣).

__________________

(١) الإيضاح ص ١٢.

(٢) مفتاح العلوم ص ٧٧.

(٣) ينظر كتابنا «القزوينى وشروح التلخيص» ص وما بعدها.

٨٣

ووجه الحصر أنّ الكلام إمّا خبر أو إنشاء ، لأنّه إما أن يكون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه ، أو لا يكون لها خارج ، الأول الخبر ، والثانى الإنشاء. ثم الخبر لا بد له من إسناد ومسند إليه ومسند ، وأحوال هذه الثلاثة هى الأبواب الثلاثة الأولى. ثم المسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلا أو متصلا به أو فى معناه كاسم الفاعل ونحوه ، وهذا هو الباب الرابع ، ثم الإسناد والتعلق كل واحد منهما يكون إمّا بقصر أو بغير قصر ، وهذا هو الباب الخامس. والإنشاء هو الباب السادس. ثم الجملة إذا قرنت بأخرى فتكون الثانية إمّا معطوفة على الأولى أو غير معطوفة ، وهذا هو الباب السابع ولفظ الكلام البليغ إما زائد على أصل المراد لفائدة أو غير زائد عليه ، وهذا هو الباب الثامن.

وهذا المنهج يختلف قليلا عن منهج السكاكى ، وهو أقرب إلى الكمال لأنّ القزوينى ضم الموضوعات المتشابهة فى فصول مستقلة ، وكان فى بحثه ألصق بالبلاغة وروحها من صاحب «مفتاح العلوم» الذى مزقها كل ممزق.

وسيطر هذا المنهج على البلاغيين وظلت كتبهم تقسم علم المعانى هذا التقسيم ، ولم يخرج عنه معظم المتأخرين والمحدثين.

وإذا كان علم المعانى قريبا من النحو أو هو توخى معانى النحو فانّه يختلف عنه فى معالجة الموضوعات ، وقد فصل القول فى ذلك عبد القاهر وانتهى إلى أنّنا لا نريد المعانى الأول وإنّما المعانى الثوانى وهى عنده معنى المعنى. ولخص المتأخرون فائدة علم المعانى فقال بهاء الدين السبكى : «ولعلك تقول : أى فائدة لعلم المعانى فانّ المفردات والمركبات علت بالعلوم الثلاثة ـ اللغة والنحو والصرف ـ وعلم المعانى غالبه من علم النحو؟ كلا إنّ غاية النحوى أن ينزل المفردات على ما وضعت له ويركبها عليها ووراء ذلك مقاصد لا تتعلّق بالوضع مما يتفاوت به أغراض المتكلم على أوجه لا تتناهى وتلك الأسرار لا تعلم إلّا بعلم المعانى ، والنحوى ـ وإن ذكرها ـ فهو على وجه إجمالى يتصرف فيه البيانى تصرفا خاصا لا يصل إليه النحوى. وهذا كما أنّ معظم أصول الفقه من علم اللغة والنحو والحديث وإن كان مستقلا بنفسه.

٨٤

واعلم أنّ علمى أصول الفقه والمعانى فى غاية التداخل فانّ الخبر والإنشاء اللذين يتكلم فيهما المعانى هما موضوع غالب الأصول وأنّ كل ما يتكلم عليه الأصولى من كون الأمر للوجوب والنهى للتحريم ومسائل الإخبار والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد والإجمالى والتفصيل والتراجيح كلها ترجع إلى موضوع علم المعانى ، وليس فى أصول الفقه ما ينفرد به كلام الشارع عن غيره إلّا الحكم الشرعى والقياس ، وأشياء يسيرة» (١).

وهذا ما أطال الكلام عليه عبد القاهر الذى قال إنّ الصحة فى الكلام هى الخطوة الأولى ، أمّا الخطوة الثانية فهى فهم الكلام واستخلاص ما فيه من المعانى الثوانى التى يدل عليها ، ولذلك كان «علم المعانى» ضروريا فى فهم الأساليب البلاغية ، بعد أن فقد النحو رونقه وبهاءه ، وأصبح قواعد لا تعنى إلّا بالإعراب والبناء ، والعوامل ، والجدل المنطقى الذى لا يخدم اللغة بقدر ما يعوقها عن النمو والازدهار.

* * *

__________________

(١) عروس الأفراح ـ شروح التلخيص ج ١ ص ٥١ ـ ٥٣.

٨٥

الفصل الثانى

الخبر والانشاء

ظهرت دراسات هذا الموضوع فى رحاب علم الكلام ، وكان لمسألة خلق القرآن أثر فى ذلك ، وقد بنى المعتزلة رأيهم على أساس أنّ القرآن أمر ونهى وخبر ، وذلك مما ينفى عنه صفة القدم التى ذهب إليها معظم المسلمين.

وظهر فى بيئة الاعتزال رأيان فى صدق الخبر وكذبه :

الرأى الأول : ينسب إلى أبى إسحاق إبراهيم بن سيار المعروف بالنظام (ـ ه أو ه) وخلاصة هذا الرأى أنّ صدق الخبر مطابقة حكمه لاعتقاد المخبر صوابا كان أو خطأ ، وكذبه مطابقة حكمه له. واحتج بوجهين :

أحدهما : أنّ من اعتقد أمرا فأخبر به ثم ظهر خبره بخلاف الواقع يقال : ما كذب ولكنه أخطأ. كما روى عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت فيمن شأنه كذلك «ما كذب ولكنه وهم».

الثانى : قوله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)(١) كذبهم فى قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) وإن كان مطابقا للواقع لأنّهم لم يعتقدوه. وردّ الخطيب القزوينى على الوجه الأول بأنّ المنفى تعمد الكذب لا الكذب بدليل تكذيب الكافر إذا قال : «الإسلام باطل» وتصديقه إذا قال : «الإسلام حق». فقول السيدة عائشة «ما كذب» متأول بما كذب عمدا وأجاب عن الوجه الأول بوجوه :

__________________

(١) المنافقون ١ ، والآية : («إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا : نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ، وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ».)

٨٦

أحدها : أنّ المعنى نشهد شهادة واطأت فيها قلوبنا ألسنتنا ، كما يترجم عنه «إنّ» واللام ، وكون الجملة اسمية فى قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) ، فالتكذيب فى قولهم «نشهد» وادعائهم فيه المواطأة لا فى قولهم (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ)

وثانيها : أنّ التكذيب فى تسميتهم إخباره شهادة ، لأنّ الإخبار إذا خلا عن المواطأة لم يكن شهادة فى الحقيقة.

وثالثها : أنّ المعنى لكاذبون فى قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) عند أنفسهم لاعتقادهم أنّه خبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه.

الرأى الثانى : ينسب إلى أبى عثمان الجاحظ (ـ ه) ، وفيه أنكر انحصار الخبر فى الصدق والكذب ، وزعم أنّه ثلاثة أقسام : صادق ، وكاذب ، وغير صادق ولا كاذب. فالخبر الصادق هو المطابق للواقع مع الاعتقاد بأنّه مطابق ، والخبر الكاذب هو الذى لا يطابق الواقع مع الاعتقاد بأنّه غير مطابق. أما الخبر الذى ليس بصادق ولا كاذب فهو أربعة أنواع :

١ ـ الخبر المطابق للواقع مع الاعتقاد بأنه غير مطابق.

٢ ـ الخبر المطابق للواقع بلا اعتقاد.

٣ ـ الخبر غير المطابق للواقع مع الاعتقاد بأنه مطابق.

٤ ـ الخبر غير المطابق للواقع بلا اعتقاد.

واحتج بقوله تعالى : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ)(١) ، فانهم حصروا دعوى النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الرسالة فى الافتراء والإخبار حال الجنون ، بمعنى امتناع الخلو ، وليس إخباره حال الجنون كذبا لجعلهم الافتراء فى مقابلته ، ولا صدقا لأنّهم لم يعتقدوا صدقه ، فثبت أنّ من الخبر ما ليس بصادق ولا كاذب (٢).

__________________

(١) سبأ ٨.

(٢) ينظر الإيضاح ص ١٣ ـ ١٥ ، وشروح التلخيص ج ١ ص ١٧٦ وما بعدها.

٨٧

وانتقلت هذه المباحث إلى كتب البلاغة والأدب ، فقال ابن قتيبة (ـ ه) وهو يتحدث عما كان فى زمانه من معارف أذهلت بعضهم : «والكلام أربعة : أمر ، وخبر ، واستخبار ، ورغبة. ثلاثة لا يدخلها الصدق والكذب وهى : الأمر ، والاستخبار ، والرغبة. وواحد يدخله الصدق والكذب وهو الخبر» (١).

وقسّم ثعلب (ـ ه) قواعد الشعر إلى أمر ، ونهى ، وخبر ، واستخبار (٢).

وقسم أبو الحسين إسحاق بن إبراهيم بن وهب الكلام إلى خبر وطلب ، وقال : «الخبر : كل قول أفدت به مستمعه ما لم يكن عنده ، كقولك : «قام زيد» فقد أفدته العلم بقيامه ... والطلب : كل ما طلبته من غيرك (٣)»

وعقد أحمد بن فارس (ـ ه) فى كتابه «الصاحبى» بابا سماه «معانى الكلام» وهى عند أهل العلم عشرة : خبر واستخبار ، وأمر ونهى ، ودعاء وطلب ، وعرض وتحضيض ، وتمن وتعجب. وقال فى تعريف الخبر : «أمّا أهل اللغة فلا يقولون فى الخبر أكثر من أنّه إعلام : تقول أخبرته أخبره ، والخبر هو العلم. وأهل النظر يقولون : الخبر ما جاز تصديق قائله أو تكذيبه ، وهو إفادة المخاطب أمرا فى ماض من زمان ، أو مستقبل ، أو دائم (٤)».

__________________

(١) أدب الكاتب ص ٤.

(٢) قواعد الشعر ص ٢٥ وما بعدها.

(٣) البرهان فى وجوه البيان ص ١١٣.

(٤) الصاحبى ص ١٧٩.

٨٨

الخبر

تعريفه :

وكان للبلاغيين المتأخرين وقفة عند الخبر ودلالته ، وقد عادوا فى بحثه إلى منهج المعتزلة وأدخلوا فيه المباحث الفلسفية والعقائدية فقال فخر الدين الرازى (ـ ه) إنّه «القول المقتضى بتصريحه نسبة معلوم إلى معلوم بالنفى أو بالاثبات. ومن حدّه بأنّه المحتمل للصدق والكذب المحدودين بالخبر لزمه الدور. ومن حده المحتمل للتصديق والتكذيب المحدودين بالصدق والكذب ، واقع فى الدور مرتين (١)».

وعرض السكاكى (ـ ه) أقوال السابقين فى تعريف الخبر وناقشها وذهب إلى أنّ الخبر والطلب مستغنيان عن التعريف الحدىّ (٢). أمّا الخطيب القزوينى (ـ ه) فقد ذكر آراء السابقين كالنظّام والجاحظ ولكنه أخذ برأى الجمهور وقال فى بداية بحثه للخبر : «اختلف الناس فى انحصار الخبر فى الصادق والكاذب ، فذهب الجمهور إلى أنّه منحصر فيهما ، ثم اختلفوا فقال الأكثر منهم صدقه مطابقة حكمه للواقع ، وكذبه عدم مطابقة حكمه له. هذا هو المشهور وعليه التعويل (٣)». وإلى ذلك ذهب معظم شراح التلخيص (٤).

وصفوة القول أنّ الخبر كل كلام يحتمل الصدق والكذب لذاته ، وهذا التعريف يصدق على كل كلام يؤخذ من غير النظر إلى قائله. والأخبار التى وردت فى القرآن الكريم وأحاديث النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والحقائق

__________________

(١) نهاية الإيجاز ص ٣٧.

(٢) مفتاح العلوم ص ٧٨ ـ ٧٩.

(٣) الإيضاح ص ١٣.

(٤) شروح التلخيص ج ١ ص ١٨٣.

٨٩

العلمية والبديهيات التى لا يشك فيها ، لا يمكن أن تحتمل الكذب مع أنّها إخبار عن شىء ، ولذلك تخرج من هذا التعريف ، أما غيرها من الأخبار فهى قابلة للتصديق والتكذيب من أى إنسان صدرت ؛ لأنّها ينظر إليها لذاتها لا لذات القائلين.

أضربه :

للجملة الخبرية معنى يحدده تركيبها ، فاذا أطلقت خالية من أى تأكيد كانت لها دلالة ، وإذا أكدت بمؤكد واحد أو أكثر كانت لها دلالة أخرى. وقد انتبه العرب إلى ذلك فى إطلاقهم الخبر ، وأشار عبد القاهر إلى هذه الاختلافات فقال : «واعلم أنّ مما أغمض الطريق إلى معرفة ما نحن بصدده أنّ ههنا فروقا خفية تجهلها العامة وكثير من الخاصة ، ليس أنّهم يجهلونها فى موضع ويعرفونها فى آخر ، بل لا يدرون أنّها هى ولا يعلمونها فى جملة ولا تفصيل. روى ابن الأنبارى أنّه قال : ركب الكندى المتفلسف إلى أبى العباس (١) وقال له : إنّى لأجد فى كلام العرب حشوا. فقال له أبو العباس : فى أى موضع وجدت ذلك؟ فقال : أجد العرب يقولون : «عبد الله قائم» ثم يقولون : «إنّ عبد الله قائم» ثم يقولون : «إنّ عبد الله لقائم» فالألفاظ متكررة والمعنى واحد. فقال أبو العباس : بل المعانى مختلفة لاختلاف الألفاظ. فقولهم : «عبد الله قائم» إخبار عن قيامه ، وقولهم : «إنّ عبد الله قائم» جواب عن سؤال سائل ، وقولهم : «إنّ عبد الله لقائم» جواب عن إنكار منكر قيامه. فقد تكررت الألفاظ لتكرر المعانى. قال : فما أحار المتفلسف جوابا. وإذا كان الكندى يذهب هذا عليه حتى يركب فيه ركوب مستفهم أو معترض فما ظنك بالعامة ومن هو فى عداد العامة ممن لا يخطر شبه هذا بباله» (٢).

__________________

(١) يريد به المبرد.

(٢) دلائل الإعجاز ص ٢٤٢.

٩٠

فالخبر ثلاثة أضرب :

الاول : الابتدائى ، وهو الخبر الذى يكون خاليا من المؤكدات لأنّ المخاطب خالى الذهن من الحكم الذى تضمنه. ومن ذلك قوله تعالى : (قالَ : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا)(١). وقوله : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ)(٢). ومنه قول المتنبى :

أنا الذى نظر الأعمى إلى أدبى

وأسمعت كلماتى من به صمم

أنام ملء جفونى عن شواردها

ويسهر الخلق جرّاها ويختصم

ففى هذه الأمثلة إلقاء للخبر إلى مخاطب خالى الذهن من حكمه ، ولذلك جاءت من غير توكيد.

الثانى : الطلبى ، وهو الخبر الذى يتردد المخاطب فيه ولا يعرف مدى صحته ، أو هو كما قال السكاكى : «وإذا ألقاها إلى طالب لها متحير طرفاها عنده دون الاستناد فهو منه بين بين لينقذه عن ورطة الحيرة ، استحسن تقوية المنقذ بإدخال اللام فى الجملة أو «إنّ» (٣). ومن ذلك قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى ، قالَ يا مُوسى : إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ)(٤). وقوله : (إِذْ قالُوا : لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا)(٥).

ومنه قول جرير :

إنّ العيون التى فى طرفها حور

قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

__________________

(١) الأنبياء ٣٦.

(٢) النور ٤٧.

(٣) مفتاح العلوم ص ٩١.

(٤) القصص ٢٠.

(٥) يوسف ٨.

٩١

وقول البحترى :

هل يجلبنّ إلىّ عطفك موقف

ثبت لديك أقول فيه وتسمع؟

فى هذه الأمثلة أكد الخبر باحدى أدوات التأكيد ، مثل «إنّ» فى الآية الأولى والبيت الأول ، واللام فى الآية الثانية «ليوسف» والنون فى «يجلبنّ» والمؤكد فى كل منها واحد.

الثالث : الإنكارى ، وهو الخبر الذى ينكره المخاطب إنكارا يحتاج إلى أن يؤكد بأكثر من مؤكد. ففى قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ. إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ ، فَقالُوا : إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ. قالُوا : ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ، وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ. قالُوا : رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ)(١). حيث قال أولا : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) وقال ثانيا : (إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) حينما ازداد إنكارهم ولذلك أكّده بـ «إنّ» أولا وباللام ثانيا ليزيل منهم ذلك الشك والإنكار. ومنه قوله : (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ)(٢).

ومنه قول الحماسى :

إنّا لنصفح عن مجاهل قومنا

ونقيم سالفة العدو الأصيد (٣)

ومتى نجد يوما فساد عشيرة

نصلح وإن نر صالحا لا نفسد

وفى هذه الأمثلة مؤكدان «إنّ» واللام.

__________________

(١) يس ١٣ ـ ١٦.

(٢) الصافات ٣٩.

(٣) السالفة : صفحة العنق. الأصيد : المتكبر.

٩٢

مؤكداته :

للخبر مؤكدات كثيرة منها :

١ ـ إنّ : وهى التى تنصب الاسم وترفع الخبر ، ومنها قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ)(١) ، وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)(٢) ..

وقول الشاعر :

إنّ التى زعمت فؤادك ملّها

خلقت هواك كما خلقت هوى لها

وقول البحترى :

شرفا بنى العباس إنّ أباكم

عم النبى وعيصه المتفرع

إنّ الفضيلة للذى استسقى به

عمر وشفّع إذ غدا يستشفع

ول «إنّ» أثر فى العبارة غير التوكيد ، وفى «دلائل الإعجاز» (٣) إشارات إلى مواقعها فى الكلام ، ولكن الذى يتصل بالموضوع ، التأكيد كما فى بيت أبى نواس :

عليك باليأس من الناس

إنّ غنى نفسك فى الياس

يقول عبد القاهر معلقا عليه : «فقد ترى حسن موقعها وكيف قبول النفس لها ، وليس ذلك إلّا لأنّ الغالب على الناس أنّهم لا يحملون أنفسهم على اليأس ولا يدعون الرجاء والطمع ولا يعترف كل أحد ولا يسلم أنّ الغنى فى اليأس ، فلما كان كذلك كان الموضع موضع فقر إلى التأكيد فلذلك كان من حسنها ما ترى.

__________________

(١) فاطر ٥.

(٢) الحج ١.

(٣) دلائل الإعجاز ص ٢٤٣ وما بعدها ، وينظر نهاية الإيجاز ص ١٧٤ وما بعدها ، والطراز ج ٢ ص ٢٢٠.

٩٣

ومثله سواء قول محمد بن وهيب :

أجارتنا إنّ التعفّف بالياس

وصبر على استدرار دنيا بابساس (١)

حريان أن لا يقذفا (٢) بمذلة

كريما وأن لا يحوجاه إلى الناس

أجارتنا إنّ القداح كواذب (٣)

وأكثر أسباب النجاح مع الياس

هو كما لا يخفى كلام مع من لا يرى أنّ الأمر كما قال بل ينكره ويعتقد خلافه ومعلوم أنّه لم يقله إلّا والمرأة تحدوه وتبعثه على التعرض للناس وعلى الطلب» (٤).

٢ ـ أن : وهى التى تنصب الاسم وترفع الخبر ، كقوله تعالى : «قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ)(٥) وقوله : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ ، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ ، إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(٦).

ولم يعدّ بعضهم «أنّ» من المؤكدات لأنّ ما بعدها فى حكم المفرد والتأكيد المقصود هو تأكيد النسبة لا المسند ولا المسند إليه ، ولكن ابن هشام يقول : «أنّ تكون حرف توكيد تنصب الاسم وترفع الخبر ، والأصح أنّها فرع عن «إنّ» المكسورة» (٧).

٣ ـ كأنّ : وفيها التشبيه المؤكد إن كانت بسيطة وإن كانت مركبة من كاف التشبيه و «أنّ» فهى متضمنة لأنّ فيها ما سبق وزيادة. كقوله تعالى :

__________________

(١) الإبساس : هو التصويب عند الحلب ليستدر لبن الناقة ويتألفها.

(٢) أى : اليأس والصبر حريان.

(٣) القداح : جمع قدح ـ بالكسر فيهما ـ وهى الأزلام التى يستقسمون بها فى الجاهلية الحظ.

(٤) دلائل الإعجاز ص ٢٥٠.

(٥) الأنبياء ١٠٨.

(٦) القصص ٥٠.

(٧) مغنى اللبيب ج ١ ص ٣٩.

٩٤

(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا ، وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ)(١).

وقول بكر بن النطاح :

تراهم ينظرون إلى المعالى

كما نظرت إلى الشّيب الملاح

يحدّون العيون إلىّ شزرا

كأنى فى عيونهم السّماح

٤ ـ لكنّ : لتأكيد الجمل ، وقيل : للتأكيد مع الاستدراك ، وقيل : إنّها للتوكيد دائما مثل «إنّ» (٢). ومنه قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(٣).

وقول المتنبى :

فلا تعجبا إنّ السيوف كثيرة

ولكنّ سيف الدولة اليوم واحد

٥ ـ لام الابتداء : وتفيد تأكيد مضمون الجملة ، ولهذا زحلقوها فى باب «إنّ» عن صدر الجملة كراهية ابتداء الكلام بمؤكدين. ومنه قوله تعالى : (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ)(٤).

٦ ـ الفصل : وهو من مؤكدات الجملة ، وقد نصّ سيبويه على أنّه يفيد التأكيد ، وقال فى قوله تعالى : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً)(٥). إنّ ضمير الفصل «أنا» وصف للياء فى «ترنى» يزيد تأكيدا (٦).

__________________

(١) القصص ٨٢.

(٢) مغنى اللبيب ١ ص ٢٩١ ، والبرهان فى علوم القرآن ج ٢ ص ٤٠٨.

(٣) القصص ٥٦.

(٤) إبراهيم ٣٩.

(٥) الكهف ٣٩.

(٦) الكتاب ج ١ ص ٣٩٥ ، وينظر البرهان فى علوم القرآن ج ٢ ص ٤٠٩.

٩٥

٧ ـ أمّا : وهى حرف شرط وتفصيل وتوكيد ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً)(١).

ولكن ابن هشام قال : «وأمّا التوكيد فقلّ من ذكره ولم أر من أحكم شرحه غير الزمخشرى فانه قال : فائدة «أما» فى الكلام أن تعطيه فضل توكيد تقول : «زيد ذاهب» فاذا قصدت توكيد ذلك وأنّه لا محالة ذاهب وأنّه بصدد الذهاب وأنّه منه عزيمة قلت : «أما زيد فذاهب» ولذلك قال سيبويه فى تفسيره : مهما يكن من شىء فزيد ذاهب وهذا التفسير مدل بفائدتين : بيان كونه توكيدا ، وأنّه فى معنى الشرط» (٢).

ومنه قول الشاعر :

ولم أر كالمعروف أمّا مذاقه

فحلو وأمّا وجهه فجميل

٨ ـ قد : وهى حرف تحقيق ، ومنه قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٣). وقوله : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ)(٤).

وقول المقنع الكندى :

يعاتبنى فى الدّين قومى وإنّما

ديونى فى أشياء تكسبهم حمدا

أسدّ به ما قد أخلّوا وضيّعوا

ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدّا

__________________

(١) البقرة ٢٦.

(٢) مغنى اللبيب ج ١ ص ٥٧.

(٣) آل عمران ١٠١.

(٤) المؤمنون ١ ـ ٢.

٩٦

٩ ـ السين : وهى حرف يختص بالمضارع ويخلصه للاستقبال ، كقوله تعالى : (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ)(١) ، فالسين تفيد وجود الرحمة لا محالة ، فهى تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد فى قولك : «سأنتقم منك يوما» أى : أنّك لا تفوتنى وإن تبطأت (٢).

سيعلم الجمع ممن ضمّ مجلسه

بأنّنى خير من تمشى به قدم

١٠ ـ القسم : وهو عند النحاة جملة يؤكد بها الخبر ، حتى أنّهم جعلوا قوله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)(٣) ، قسما وإن كان فيه إخبار إلّا أنّه لما جاء توكيدا للخبر سمى قسما (٤).

وللقسم أحرف هى : الباء والواو والتاء ، والباء هى الأصل لدخولها على كل مقسم به. ومنه قوله تعالى : (وَالضُّحى * وَاللَّيْلِ إِذا سَجى)(٥) ، وقوله : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ)(٦) وقوله : (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ)(٧) ، وقوله : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ)(٨).

ومنه قول ابن أبى ربيعة :

فو الله لا أدرى وإن كنت داريا

بسبع رمين الجمر أم بثمان

__________________

(١) التوبة ٧١.

(٢) مغنى اللبيب ج ١ ص ١٣٨ ، والبرهان فى علوم القرآن ج ٢ ص ٤١٨.

(٣) المنافقون ١.

(٤) البرهان فى علوم القرآن ج ٣ ص ٤٠.

(٥) الضحى ١ ـ ٢.

(٦) التين ١ ـ ٣.

(٧) يوسف ٨٥.

(٨) الأنبياء ٥٧.

٩٧

١١ ـ نونا اليوكيد : وهما الثقيلة والخفيفة ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ)(١) وقوله : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ)(٢).

ومنه قول الشاعر :

لأستسهلنّ الصّعب أو أدرك المنى

فما انقادت الآمال إلا لصابر

١٢ ـ لن : يؤتى بها لتأكيد النفى ، كقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ : رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ، قالَ : لَنْ تَرانِي ، وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ، فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي)(٣).

ومنه قول الطرماح :

لقد زادنى حبا لنفسى أنّنى

بغيض إلى كل امرىء غير طائل

وأنّى شقى باللئام ولن ترى

شقيّا بهم إلّا كريم الشمائل

١٣ ـ الحروف الزائدة : وهى كثيرة ، منها الباء كما فى قوله تعالى : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(٤).

وقول معن بن أوس :

ولست بماش ما حييت لمنكر

من الأمر لا يمشى إلى مثله مثلى

و «من» كقوله تعالى : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها)(٥) ، وقوله (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ)(٦).

__________________

(١) يوسف ٣٢.

(٢) العلق ١٥.

(٣) الأعراف ١٤٣.

(٤) ق ٢٩.

(٥) الأنعام ٥٩.

(٦) الملك ٣.

٩٨

ومنها قول زهير :

ومهما تكن عند امرىء من خليقة

وإن خالها تخفى على الله تعلم

١٤ ـ حروف التنبيه : ومنها «أما» حرف استفتاح وتكثر قبل القسم ، كقول أبى صخر الهذلى :

أما والذى أبكى وأضحك والذى

أمات وأحيا والذى أمره الأمر

لقد تركتنى أحسد الوحش أن أرى

أليفين منها لا يروعهما النّفر

و «ألا» الاستفتاحية ، كقوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ)(١) ، وقوله : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٢).

ومنه قول المعرى :

ألا فى سبيل المجد ما أنا فاعل

عفاف وإقدام ومجد ونائل

أغراضه :

للخبر غرضان أصليان هما :

الأول : فائدة الخبر ، ومعناه إفادة المخاطب الحكم الذى تضمنته الجملة أو الكلام ، وهذا هو الأصل فى كل خبر ؛ لأنّ فائدته تقديم المعرفة أو العلم إلى الآخرين. ومن ذلك قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ ، الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ ، الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ، يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ ، نُورٌ عَلى نُورٍ ، يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ ، وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ ، وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٣). وقوله : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً. الَّذِي لَهُ

__________________

(١) البقرة ١٢.

(٢) يونس ٦٢.

(٣) النور ٣٥.

٩٩

مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً» (١).

ومنه قول الشاعر :

فلا الجود يفنى المال والجدّ مقبل

ولا البخل يبقى المال والجدّ مدبر

وقول أبى نواس :

ذكر الكرخ نازح الأوطان

فصبا صبوة ولات أوان

ليس لى مسعد بمصر على الشّو

ق إلى أوجه هناك حسان

الثانى : لازم الفائدة ، وهذا الغرض لا يقدم جديدا للمخاطب وإنّما يفيد أنّ المتكلم عالم بالحكم. ومن ذلك قولنا لصديق : «زاركم محمد أمس» ، فالمخاطب يعلم ذلك ولكن الغرض من هذه الجملة إخباره أنّ المتحدث عارف بذلك. ومنه قول المتنبى مخاطبا سيف الدولة الحمدانى ومادحا شجاعته وبطولته :

تدوس بك الخيل الوكور على الذرى

وقد كثرت حول الوكور المطاعم

وسيف الدولة يعلم ذلك.

وقول أحد الشعراء معاتبا :

وتغتابنى فى كل ناد تحلّه

وتزعم أنى لست كفؤا لمثلكا

__________________

(١) الفرقان ١ ـ ٢.

١٠٠