أساليب بلاغية

الدكتور أحمد مطلوب

أساليب بلاغية

المؤلف:

الدكتور أحمد مطلوب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: وكالة المطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٣

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

المقدمة

هذه محاضرات فى علم المعانى أريد بها أن تكمل ما بدأناه فى «فنون بلاغية» وتقدم صورة صادقة للبلاغة العربية وتطور موضوعاتها. وهى محاضرات أخذت من القديم خطوطها واعتمدت على السابقين فى فصولها ، ولم ترجع إلى ما أثير فى هذه الأيام ، لأن الهدف ليس تجديد البلاغة وإنما تقديم ما عند القدماء بأسلوب يجمع بين عباراتهم وينسّق آراءهم ، لتكون منطلقا إلى التجديد.

وقد اقتضى المقرر الذى ينبغى أن يلم به طالب اللغة العربية فى مرحلة دراسته الجامعية الأولى أن يكون لأهم أساليب البلاغة نصيب فى هذه المحاضرات التى انقسمت إلى قسمين :

الأول : الفصاحة والبلاغة ، وهى مقدمة ينبغى أن يعرفها الدارس لأنّها الأساس الذى ينطلق منها إلى أساليب البلاغة وفنونها ، بل هى الغاية التى يصل إليها حينما ينهى تطوافه فى الموضوعات التى وضعت لتنير الطريق له فى دراسة الأدب.

الثانى : علم المعانى ، الذى كان أحد علوم البلاغة العربية حينما قسمها السكاكى إلى البيان والمعانى والمحسنات اللفظية والمعنوية أى البديع.

وكان العرب قبل ذلك قد درسوا هذا العلم فى كتب النحو ، ولعل كتاب سيبويه أصدق ما وصل إلينا وأقربه إلى ذوق العربية ، لأنه عنى بالأساليب إلى جانب عنايته بالقواعد والأصول. وقد سمينا هذا القسم «أساليب

٥

بلاغية» لأنه يتصل بأهم وسائل التعبير وصياغة الكلام. وليس أدل على ذلك من أنّ المتحدث أو الأديب لا ينطلق فى تصوير نفسه وعرض أفكاره إلّا من خلالها. فالخبر والإنشاء ، والتعريف والتنكير ، والذكر والحذف ، والتقديم والتأخير ، والقصر ، والفصل والوصل ، والإيجاز والإطناب والمساواة ، وخروج الكلام على مقتضى الظاهر ـ عمدة الكلام وزاد المنشئين.

والدرس النحوى أولى بهذه الموضوعات لو لا انصراف النحاة إلى العناية بالإعراب والبناء ، والعوامل والتقديرات مما أبعد النحو عن هدفه وأحاله قواعد لا روح فيها. وسنظل نؤمن بأن هذه الدراسة من البلاغة حتى تعود إلى النحو أصالته وحتى نجد أساتذة النحو يغيّرون طرق تدريسه ويعنون بالأساليب البلاغية كعنايتهم بالقواعد والإعراب.

إنّ دراسة الأساليب والوقوف عندها تفتح السبيل أمام الأديب مادام يكتب باللغة العربية ، وهى لغة عريقة تشعبت فنون التعبير فيها وأصبحت طيعة لمن تعمق فيها وفهم أسرارها ، ولن يكون المنشىء أديبا إذا نأى عن لغته وضرب عن أساليبها صفحا ، وإنّه لمن أعجب العجب إذا لم ير فى الخبر والإنشاء ، والتقديم والتأخير ، والحذف والذكر ، والإيجاز والإطناب وغيرها ـ فائدة وهى أصل الكلام وعمدة التعبير. ولن يغنى ما تقدّمه الكتب المترجمة والأساليب الغربية عما تتسم به لغة الضاد ، وإن كانت تضيف أبعادا جديدة وتفتح آفاقا واسعة. وستبقى الأساليب البلاغية التى عرضت لها هذه المحاضرات خالدة ما دامت اللغة العربية حية فى العقول ونابضة فى القلوب ، ولن يقدر على إنكارها من سولت له نفسه وظن أنّه سبق العصر وتخطّى الزمان.

لقد سار البحث فى هذه المحاضرات كما سار فى «فنون بلاغية» ويتجلى ذلك فى أمرين :

الأول : الوقوف على تعريفات القدماء وتقسيماتهم وآرائهم.

٦

الثانى : الأخذ بالأمثلة التى ذكروها لئلا تتجرد القواعد والأصول من روحها التى ارتبطت بها حينما فكّر العرب الأوائل بضبط لغتهم وحفظها من الضياع.

ولذلك لم يكن للجديد نصيب فيها ، لأنّ فى ذلك ابتعادا عن منهج دراسة القديم وتجنيا على الأدب الحديث الذى خطا خطوات واسعة وكانت له مناهج درس جديرة بالتأمل العميق والنظر السليم والبحث الرصين. ولن يقدر على بحثه إلّا من وطن نفسه وأخلص النية ، ووقف على القديم وأساليبه وعرف الحديث وفنونه ، وليس ذلك بيسير.

هذه ملامح محاضرات «أساليب بلاغية» جاءت كما بناها القدماء ليعرف الجيل الجديد ما كان من هذا العلم الذى لم ينضج ولم يحترق ، ولتكون مقدمة لمن يريد أن يخطو باتزان فى طريق التجديد الذى من أول متطلباته قتل القديم درسا.

ومن الله العون والتوفيق.

الدكتور أحمد مطلوب

أستاذ البلاغة والنقد فى كلية الآداب

جامعة بغداد

٧
٨

الكتاب الأول

الفصاحة والبلاغة

٩
١٠

الفصل الأول

الفصاحة

فى اللغة :

لفظة الفصاحة مما شاع وعرفه العرب بمفهومه اللغوى قبل أن تأخذ الألفاظ دلالتها الفنية. ونجد لها فى المعاجم دلالتين :

الأولى : لغوية تقوم على المعنى الأول الذى وضعه العرب واستعملوه قبل أن تظهر علوم البلاغة والنقد. ففى لسان العرب : «يوم مفصح : لا غيم فيه ولا قر. أفصح اللبن : ذهب اللبأ عنه. فصح اللبن : إذا أخذت عنه الرغوة. قال فضلة السلمى :

رأوه فاز دروه وهو خرق

وينفع أهله الرجل القبيح

فلم يخشوا مصالته عليهم

وتحت الرغوة اللبن الفصيح

أفصحت الشاة والناقة : خلص لبنها. أفصح الصبح : بدا ضوؤه واستبان ، وكل ما وضح فقد أفصح ، وكل واضح مفصح. ويقال : قد فصحك الصبح ، أى : بان لك وغلبك ضوؤه. فصحه الصبح : هجم عليه»

الثانية : دلالة تقرب من المعنى الاصطلاحى الذى تعارف عليه البلاغيون ، ففى اللسان : «الفصاحة : البيان. فصح الرجل فصاحة فهو فصيح من قوم فصحاء وفصاح وفصح ، وامرأة فصيحة من نسوة فصاح وفصائح. رجل فصيح وكلام فصيح ، أى : بليغ. لسان فصيح ، أى : طلق. وقد جاء فى الشعر فى وصف العجم : أفصح ، يريد به بيان القول وإن كان بغير العربية ، كقول أبى النجم :

أعجم فى آذانها فصيحا

يعنى : صوت الحمار أنه أعجم ، وهو فى آذان الأتن فصيح بين.

١١

وفصح الأعجمى فصاحة : تكلم بالعربية وفهم عنه. وقيل : جادت لغته حتى لا يلحن. أفصح كلامه إفصاحا وأفصح تكلم بالفصاحة ، وكذلك الصبى يقال : أفصح الصبى فى منطقه إفصاحا إذا فهمت ما يقول فى أول ما يتكلم. أفصح الأغتم : إذا فهمت كلامه بعد غتمته. أفصح عن الشىء إفصاحا إذا بينه وكشفه. فصح الرجل وتفصح إذا كان عربى اللسان فازداد فصاحة. وقيل : تفصح فى كلامه وتفاصح : تكلف الفصاحة. يقال : ما كان فصيحا ولقد فصح فصاحة وهو البين فى اللسان والبلاغة. التفصح استعمال الفصاحة ، وقيل : التشبه بالفصحاء.

وقيل : جميع الحيوان ضربان : أعجم وفصيح ، فالفصيح كل ناطق ، والأعجم كل ما لا ينطق.

الفصيح فى اللغة : المنطلق اللسان فى القول الذى يعرف جيد الكلام من رديئه. أفصح الكلام وأفصح به وأفصح عن الأمر. الفصيح فى كلام العامة : المعرب».

وفى هذا يتضح معنى البيان والظهور فى كلمة «الفصاحة» ، وليس هذا المعنى بعيدا عن الدلالة الأولى ولا عن المعنى الذى اصطلح عليه علماء البلاغة وهو رقة الألفاظ وجمالها ، وبيان التعبير ووضوحه.

فى القرآن والحديث :

ولو مضينا نبحث عن لفظة «الفصاحة» فى تراثنا لرأيناها فى قوله تعالى حكاية عن نبيه موسى ـ عليه‌السلام ـ : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً)(١) وفى الحديث النبوى الشريف : «أنا أفصح العرب بيد أنّى من قريش» (٢) ، و «غفر له بعدد كل فصيح وأعجم». وفسّره أصحاب

__________________

(١) القصص ٣٤.

(٢) قال عبد الله بن رواحة فى مدح الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

لو لم تكن فيه آيات مبينة

كانت فصاحته تنبيك بالخبر

١٢

الحديث بأن النبى محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أراد بالفصيح بنى آدم ، وبالأعجم البهائم. (١)

ولا تخرج لفظة «الفصاحة» فى القرآن الكريم والحديث النبوى الشريف عن معناها اللغوى وهو الظهور والبيان. وحينما دخلت هذه اللفظة الدراسات البلاغية والنقدية ارتبطت بلفظة البلاغة وصارت صنوها ، وأصبح رجال البلاغة الأوائل لا يفرقون بينهما ، بل لم يروا بأسا من أن يستعملوا إحداهما مكان الأخرى كما فعل أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ه) الذى لم يضع حدّا فاصلا بين اللفظتين وإنما أجراهما بمعنى واحد فى مواضع كثيرة من كتابه «البيان والتبيين».

الجاحظ :

عرف الجاحظ البلاغة بقوله : «وقال بعضهم ـ وهو أحسن ما اجتبيناه ودوناه ـ : لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ، ولفظه معناه ، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك» (٢).

وفى هذا التعريف التقاء الفصاحة بالبلاغة ، والنص على امتزاجهما.

والفصاحة ـ عنده ـ واسعة المعنى ، ولذلك نراه يتحدث عنها وعن الألفاظ كثيرا ، وتعتبر إشاراته فى كتابه «البيان والتبيين» من أوسع ما وصل إلينا من عهد التدوين الأول. ويرى أنّ الألفاظ جديرة بالرعاية والاهتمام ، يقول : «وقد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها وغيرها أحق بذلك منها ، ألا ترى أنّ الله تبارك وتعالى لم يذكر فى القرآن الجوع إلّا فى موضع العقاب أو فى موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر. والناس لا يذكرون السّغب ويذكرون الجوع فى حال القدرة والسلامة ، وكذلك ذكر المطر ، لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلّا فى موضع الانتقام. والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون

__________________

(١) النهاية فى غريب الحديث والأثر ، ج ٣ ، ص ٤٥٠.

(٢) البيان والتبيين ، ج ١ ص ١١٥.

١٣

بين ذكر المطر وبين ذكر الغيت ، ولفظ القرآن الذى عليه نزل أنه إذا ذكر الأبصار لم يقل الأسماع ، وإذا ذكر سبع سماوات لم يقل الأرضين. ألا تراه لا يجمع الأرض أرضين ولا السمع أسماعا. والجارى على أفواه العامة غير ذلك لا يتفقدون من الألفاظ ما هو أحق بالذكر وأولى بالاستعمال» (١).

وتكلم على تنافر الحروف فقال : «فأما فى اقتران الحروف فان الجيم لا تقارن الظاء ولا القاف ولا الطاء ولا الغين بتقديم ولا تأخير ، والزاى لا تقارن الظاء ولا السين ولا الضاد ولا الذال بتقديم ولا بتأخير. وهذا باب كبير وقد يكتفى بذكر القليل حتى يستدل به على الغاية التى إليها يجرى» (٢)

وتحدث عن تنافر الألفاظ فقال : «ومن ألفاظ العرب ألفاظ تتنافر وإن كانت مجموعة فى بيت شعر لم يستطع المنشد إنشادها إلّا ببعض الاستكراه فمن ذلك قول الشاعر :

وقبر حرب بمكان قفر

وليس قرب قبر حرب قبر

ولما رأى من لا علم له أنّ أحدا لا يستطيع أن ينشد هذا البيت ثلاث مرات فى نسق واحد فلا يتتعتع ولا يتلجلج ، وقيل لهم : إنّ ذلك إنما اعتراه إذ كان من أشعار الجن ، صدقوا بذلك.

ومن ذلك قول ابن يسير :

لم يضرها والحمد لله شىء

وانثنت نحو عزف نفس ذهول

فتفقّد النصف الأخير من هذا البيت فانك ستجد بعض ألفاظه يتبرأ من بعض» (٣).

__________________

(١) البيان ، ج ١ ص ٢٠.

(٢) البيان ، ج ١ ص ٦٩.

(٣) ـ البيان ، ج ١ ص ٦٥.

١٤

وينبغى أن تكون الألفاظ متماثلة متلائمة كى لا يقع بينها التنافر فتصبح كأولاد علة ، يقول : «وأنشدنى أبو العاصى ، قال : أنشدنى خلف الأحمر فى هذا المعنى :

وبعض قريض القوم أولاد علة

يكد لسان الناطق المتحفظ (١)

وقال أبو العاصى : وأنشدنى فى ذلك أبو البيداء الرياحى :

وشعر كبعر الكبش فرّق بينه

لسان دعىّ فى القريض دخيل

فانه يقول : إذا كان الشعر مستكرها وكانت ألفاظ البيت من الشعر لا يقع بعضها مماثلا لبعض كان بينها من التنافر ما بين أولاد العلّات. وإذا كانت الكلمة ليس موقعها إلى جنب أختها مرضيا موافقا كان على اللسان عند إنشاد ذلك الشعر مؤونة.

قال : وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج ، فتعلم بذلك أنّه قد أفرغ إفراغا واحدا ، وسبك سبكا واحدا ، فهو يجرى على اللسان كما يجرى على الدهان.

وأما قوله : «كبعر الكبش» فانما ذهب إلى أنّ بعر الكبش يقع متفرقا غير مؤتلف ولا متجاور ، وكذلك حروف الكلام وأجزاء البيت من الشعر تراها متفقة ملسا ولينة المعاطف سهلة ، وتراها مختلفة متباينة ومتنافرة مستكرهة تشق على اللسان وتكده ، والأخرى تراها سهلة لينة ورطبة مواتية ، سلسة النظام خفيفة على اللسان حتى كأنّ البيت بأسره كلمة واحدة ، وحتى كأنّ الكلمة بأسرها حرف واحد» (٢).

ويرى أنّ اللفظ كما لا ينبغى أن يكون عاميا وساقطا سوقيا ، فكذلك لا ينبغى أن يكون غريبا وحشيا إلّا أن يكون المتكلم بدويا أعرابيا ، فان

__________________

(١) أولاد علة : هم بنو رجل واحد من أمهات شتى.

(٢) البيان ، ج ١ ص ٦٦.

١٥

الوحشى من الكلام يفهمه الوحشى من الناس كما يفهم السوقى رطانة السوقى. (١)

لقد اهتم الجاحظ بالألفاظ اهتماما عظيما أولاها عناية كبيرة ، وقد دفعه هذا الاهتمام إلى أن يقول : «والمعانى مطروحة فى الطريق يعرفها العجمى والعربى والبدوى والقروى والمدنى ، وإنما الشأن فى إقامة الوزن ، وتخير اللفظ وسهولة المخرج ، وكثرة الماء ، وفى صحة الطبع وجودة السبك ، فانما الشعر صناعة وضرب من النسج ، وجنس من التصوير» (٢).

وظن بعض الباحثين أنّه يميل إلى اللفظ كل الميل ، وأنّه لا يرى للمعنى كبير أهمية ، والواقع أنّه عنى باللفظ وأعطاه نصيبه من الاهتمام ، وشغل بالمعنى والتصوير الأدبى الذى يقول عنه : «فانما الشعر صناعة ، وضرب من النسج ، وجنس من التصوير» ، وهذه نظريته التى شرحها عبد القاهر الجرجانى وسماها «نظرية النظم» ، فالجاحظ اهتم بالألفاظ والمعانى والتصوير مع أنّه يروى أنّ بعضهم لا يحفل إلّا بالمعنى وحده كأبى عمرو الشيبانى الذى يرى أنّ المعنى متى كان رائعا حسنا ظل كذلك فى أية عبارة وضع. فالبيتان :

لا تحسبنّ الموت موت البلى

فانما الموت سؤال الرجال

كلاهما موت ولكنّ ذا

أفظع من ذاك لذل السؤال

استحسنهما أبو عمرو على حين ليست عليهما مسحة من جمال سوى الوزن.

وعابه الجاحظ ورأى أنّه مسرف فى تقديرهما ، وقال : «وأنا رأيت أبا عمرو الشيبانى وقد بلغ من استجادته لهذين البيتين ونحن فى المسجد يوم الجمعة أن كلّف رجلا حتى أحضره دواة وقرطاسا حتى كتبهما له ، وأنا أزعم أنّ صاحب هذين البيتين لا يقول شعرا أبدا ، ولو لا أن أدخل فى الحكم بعض الفتك لزعمت أنّ ابنه لا يقول شعرا أبدا» (٣).

__________________

(١) ينظر البيان ، ج ١ ص ١٤٤.

(٢) الحيوان ، ج ٣ ص ١٣١.

(٣) الحيوان ، ج ٣ ص ١٣١.

١٦

لقد اهتم الجاحظ باللفظ ولكنه لم يهمل المعنى ، ولذلك فليس صحيحا ما ذهب إليه بعضهم وهو أنّ الجاحظ كرّس جهوده لخدمة الألفاظ ، ولأجله خاض عبد القاهر الجرجانى غمار هذا البحث. ويرى الدكتور محمد مندور أنّ كل آراء عبد القاهر تنحصر فى مسألتين :

الأولى : إنكاره لما رآه الجاحظ من أهمية فصاحة الألفاظ باعتبار تلك الفصاحة صنعة فى اللفظ ذاته ، ثم ثورته على مذهب أبى هلال العسكرى الذى يرد جودة الكلام إلى محسنات لفظية تقف عند الشكل.

الثانية : تعليقة جودة الكلام بخصائص فى النظم. (١)

وعبارة الجاحظ «فانما الشعر صناعة ، وضرب من النسج ، وجنس من التصوير» ، وما نقله عبد القاهر من اهتمامه بالصياغة والصناعة ، خير ما يفند هذا الرأى ، لأنّ عبد القاهر سار على خطا الجاحظ ونقل مصطلحه فى التصوير وقال : «وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئا نحن ابتدأناه فينكره منكر بل هو مستعمل مشهور فى كلام العرب ، ويكفيك قول الجاحظ : وإنّما الشعر صناعة ، وضرب من التصوير» (٢). فالجاحظ من أصحاب الصياغة ولذلك تسقط عنه تهمة الاهتمام بالشكلية والألفاظ ، وإن كان كثير الاعتناء باللفظ واختيار ما يؤدى المعنى أداء حسنا ، وهذه مهمة الأديب الذى يقدر قيمة الكلام ويبذل فى سبيله أعظم الجهود ، وقد كان الجاحظ أديبا كبيرا وعالما قديرا ، فعنى بالألفاظ كما عنى بالمعانى وكان له الفضل فى تصوير نظم الكلام.

ابن قتيبة :

وتحدث ابن قتيبة (ـ ه) عن الألفاظ ، وذكر أنّ الشعر أربعة أضرب :

__________________

(١) ينظر فى الميزان الجديد ، ص ١٤٩.

(٢) دلائل الإعجاز ، ص ٣٨٩.

١٧

ـ ضرب منه حسن لفظه وجاد معناه ، كقول القائل فى بعض بنى أمية (١) :

فى كفه خيزران ريحه عبق

من كف أروع فى عرنينه شمم

يغضى حياء ويغضى من مهابته

فما يكلّم إلا حين يبتسم

وكقول أوس بن حجر :

أيّتها النفس أجملى جزعا

إنّ الذين تحذرين قد وقعا

ـ وضرب منه حسن لفظه وحلا فاذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة فى المعنى كقول القائل :

ولما قضينا من منى كلّ حاجة

ومسّح بالأركان من هو ماسح

وشدّت على حدب المهارى رحالنا

ولم ينظر الغادى الذى هو رائح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطّى الأباطح

يقول ابن قتيبة : «هذه الألفاظ كما ترى أحسن شئ مخارج ومطالع ومقاطع ، وإن نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته : ولمّا قطعنا أيام منى واستلمنا الأركان وعالينا إبلنا الأنضاء ، ومضى الناس لا ينتظر الغادى الرائح ابتدأنا فى الحديث وسارت المطى فى الأباطح» (٢). ونحوه قول المعلوط :

__________________

(١) كذا فى الشعر والشعراء ، وفى الهامش أنها للحزين الكنانى فى أبيات يمدح بها عبد الله بن عبد الملك بن مروان. والبيتان فى ديوان الفرزدق ، ج ٢ ص ١٨٧ (طبعة مكتبة صادر) ، وهما فى مدح زين العابدين رضى الله عنه.

(٢) الشعر والشعراء ، ج ١ ص ٦٦. ولعبد القاهر الجرجانى غير هذا الرأى فهر يراها من أبدع الشعر وأعذبه وقد حللها تحليلا جميلا. (ينظر دلائل الإعجاز ص).

١٨

إنّ الذين غدوا بلبك غادروا

وشلا بعينك لا يزال معينا

غيّضن من عبراتهنّ وقلن لى :

ماذا لقيت من الهوى ولقينا (١)

ـ وضرب منه جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه كقول لبيد بن ربيعة :

ما عاتب المرء الكريم كنفسه

والمرء يصلحه الجليس الصالح

ـ وضرب منه تأخر معناه وتأخر لفظه ، كقول الأعشى فى امرأة :

وفوها كأقاحى

غذاه دائم الهطل

كما شيب براح با

رد من عسل النّحل

ولم يشر ابن قتيبة إلى لفظة «الفصاحة» فى كتابه «الشعر والشعراء» ولكنه استعمل كلمة «الألفاظ» ، ويرى أنّ المحدث ليس له أن يتبع المتقدم فى استعمال وحشى الكلام ككثير من أبنية سيبويه ، ولا أن يسلك فيما يقول الأساليب التى لا تصح فى الوزن ولا تحلو فى الأسماع. يقول : «وهذا يكثر ، وفيما ذكرت منه ما دلك على ما أردت من اختيارك أحسن الروىّ وأسهل الألفاظ وأبعدها من التعقيد والاستكراه ، وأقربها من أفهام العوام. وكذلك اختار للخطيب إذا خطب والكاتب إذا كتب فانه يقال : «أسير الشعر والكلام المطمع» يراد الذى يطمع فى مثله من سمعه وهو مكان النجم من يد المتناول» (٢).

وفى كتابه «أدب الكاتب» حديث عن الألفاظ والأبنية ، ولكنه لا يسميها «فصاحة» وإنما هى قواعد يستعين بها الكاتب. وعقد فى كتابه «عيون الأخبار» بابا سماه «كتاب العلم والبيان» تحدّث فيه عن الإعراب واللحن والتشادق والغريب والبيان والألفاظ التى تقع فى كتب الأمان والعهود والخطب. وهو فى هذه الأبواب والفصول ليس كالجاحظ الذى أرسى كثيرا من قواعد الفصاحة ووضع أمثلتها التى تتردد فى كتب البلاغة والنقد.

__________________

(١) البيتان فى ديوان جرير ، ص ٥٧٨ ، وهما من قصيدة فى هجاء الأخطل.

(٢) الشعر والشعراء ، ج ١ ص ١٠٣.

١٩

المبرد :

وليس فيما كتب المبرد (ـ ه) إشارة إلى الفصاحة وإن كان يفضل أن تكون الألفاظ جزلة. (١)

ثعلب :

ولا فيما كتب أبو العباس ثعلب (ـ ه) الذى أشار إلى جزالة الألفاظ. (٢)

ابن المعتز :

ولا فيما ألّف ابن المعتز (ـ ه) صاحب كتاب البديع.

قدامة :

وتحدث قدامة بن جعفر (ـ ه) عن نعت اللفظ ، وقال ينبغى أن يكون سمحا ، سهل مخارج الحروف من مواضعها ، عليه رونق الفصاحة مع الخلو من البشاعة. (٣) وذكر عيوب اللفظ وهى :

ـ أن يكون ملحونا وجاريا على غير سبيل الإعراب واللغة.

ـ وأن يركب الشاعر منه ما ليس بمستعمل إلّا فى الفرط.

ـ ولا يتكلم به إلّا شاذا ، وذلك هو الوحشى الذى مدح عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ زهيرا بمجانبته له وتنكّبه إياه فقال : «لا يتبع حوشىّ الكلام».

ـ ومن عيوب اللفظ المعاظلة ، وهى التى وصف عمر بن الخطاب زهيرا بمجانبته لها فقال : «كان لا يعاظل بين الكلام». وهى ليست مداخلة الشىء فى الشىء ، لأنه محال أن ينكر مداخلة بعض الكلام فيما يشبهه من

__________________

(١) الكامل ، ج ١ ص ٤٣.

(٢) قواعد الشعر ، ص ٥٩.

(٣) نقد الشعر ، ص ٢٦.

٢٠