أساليب بلاغية

الدكتور أحمد مطلوب

أساليب بلاغية

المؤلف:

الدكتور أحمد مطلوب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: وكالة المطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٣

الأنواع الأدبية» وحجتهم أنّ مصطلح «البلاغة» قد رثّ من كثرة ما تداولته الأجيال وأصبح مقترنا بألوان الأدب القاتمة التى خلّفتها العهود المظلمة.

ولو عدنا إلى المصطلحات الجديدة التى حاول الدارسون أن يربطوا البلاغة يها ويقضوا على المصطلح القديم لرأيناهم غير موفقين ، لأنّ مصطلحاتهم لا تحمل المعانى الكثيرة التى تحملها لفظة «البلاغة» القديمة ، فلا «فن القول» ولا «علم الأساليب» ولا «فن الانشاء» تغنى عن هذا المصطلح أو تضم مباحثه وأقسامه كلها ، لأنّ لكل مصطلح منها دلالته فى لغته التى استعمل فيها ، وأنّ بعضها فقد محتواه بعد ترجمته وأصبح يضيق بالبلاغة العربية ذات الإرث العريق.

وقد آثر بعضهم مصطلح «البلاغة» على هذه المصطلحات ، وقال الأستاذ عدنان بن ذريل : «لقد وسعت مجالات البحث البلاغى الحديث إلى حدود أرحب أفقا ، وسعت من حدود اللفظة والجملة إلى المجالات الرحبة التى للنوع الأدبى الواحد والأساليب المتنوعة فى القول ، وصارت تشمل ما يكفل تبين إبداع الأديب أو جمال أدبه. ولنلاحظ أخيرا أنّ البلاغة كمصطلح فنى أدبى حديث تشمل الأسلوب وعلمه ، إلا أنّها إلى جانب ذلك تتضمن الطاقة الأدبية أو الملكة أو المقدرة على التعبير عند الأديب ، كما أنها تقصدها ، وبذلك هى تتميز عن مصطلح أسلوب أو علم أسلوب. وبالفعل إذا نحن قارنا بين مصطلحى «بلاغة» و «علم الأسلوب» وجدنا أنّ مصطلح «بلاغة» يضعنا أمام ملكة التعبير الأدبى ثم التعبير الأدبى ، كما يضعنا أمام أصول الأدب وجماله ، بينما مصطلح «علم الأسلوب» أو «علم الأساليب» لا يتعدى إيحاؤه دراسة التعبير الأدبى وأساليبه ، ومصطلح «أسلوب» مصطلح حديث يقصد طريقة فى التعبير خاصة بالأديب. يضاف إلى ذلك أنّ مصطلح «بلاغة» يشمل أيضا بحث الذوق الذى ظل الأقدمون ينوهون به ، وهو أساسى أيضا فى بحث المحدثين ، الأمر الذى يقربنا من المجالات المختلفة التى

٦١

للدراسة الأدبية وللتعبير الأدبى ومطابقته مقتضيات أحوال المخاطبين والجمهور» (١).

وهذا ما آمنا به بعد دراسة طويلة للبلاغة ومصطلحاتها ، وبذلك يبقى هذا المصطلح محتفظا بمعناه البلاغى القديم ومحتواه الأدبى الجديد ، جامعا كثيرا من المباحث التى لا يمكن أن تضمها المصطلحات الجديدة كالفصاحة أو دراسة الألفاظ وعلم المعانى وعلم البيان وعلم البديع ، وهى من أقدم الفنون التى عنى بها البلاغيون وأولوها أهمية عظيمة ، وكانت دراساتهم المفصلة ونظراتهم العميقة دليلا على تلك العناية. أما التعبير الأدبى والملكة على إنشائه أو نقده فقد عبر عنها القزوينى تعبيرا دقيقا حينما قال : «وأما بلاغة الكلام فهى مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته» ... «وأما بلاغة المتكلم فهى ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ» ، وفى هاتين العبارتين إشارة إلى الملكة الأدبية والتعبير الأدبى. ويضاف إلى ذلك أنّ مصطلح أسلوب لا يشمل البلاغة كلها بل يخص بعضها أو يكون أشد ارتباطا بقسم من موضوعاتها وهى «علم المعانى» ولذلك سمينا هذا الكتاب «أساليب بلاغية» وسمينا ما يبحث فى علمى البيان والبديع «فنون بلاغية» ، وهى تسمية ليست أخيرة ولكنها أقرب إلى روح البلاغة العربية التى تضم الأساليب والفنون وغيرها.

وأما الذوق فقد كان من القضايا التى اهتم بها البلاغيون وأقاموا عليها أحكامهم ، ولا يخلو كتاب بلاغى أو نقدى من الرجوع إليه أو التحدث عنه وعقد فصول ضافية عنه ، ومن ذلك الفصل الرائع الذى ختم به عبد القاهر الجرجانى كتابه «دلائل الاعجاز» وقرر أنّ العمدة فى إدراك البلاغة هو الذوق والإحساس الروحانى ، وأنه لا بد من تهذيبه بالوقوف على مواطن الجمال فى الأدب ، ولن يفهم الأدب ويهتز له من عدم الذوق وفقد الإحساس والشعور مهما أوتى من علم بالبلاغة وقواعدها ، ومهما كدّ ذهنه وأجهد عقله. يقول

__________________

(١) مجلة الأديب البيروتية (السنة ـ أيلول) ص.

٦٢

مصوّرا ذلك أحسن تصوير : «والبلاء والداء العياء أن هذا الإحساس قليل فى الناس حتى أنّه ليكون أن يقع للرجل من هذه الفروق والوجوه فى شعر يقوله أو رسالة يكتبها الموقع الحسن ثم لا يعلم أنه قد أحسن فأما الجهل بمكان الإساءة فلا تعدمه ، فلست تملك إذن من أمرك شيئا حتى تظفر بمن له طبع إذا قدحته ورى ، وقلب إذا أريته رأى ، فأما وصاحبك من لا يرى ما تريه ولا يهتدى للذى تهديه فانت رام معه فى غير مرمى ، معنّ نفسك فى غير جدوى. وكما لا تقيم الشعر فى نفس من لا ذوق له ، كذلك لا تفهم هذا الشأن من لم يؤت الآلة التى بها يفهم. إلّا أنّه إنّما يكون البلاء إذا ظن العادم لها أنّه أوتيها وأنّه ممن يكمل للحكم ويصح منه القضاء فجعل يقول القول لو علم غيّه لاستحيا منه ، فأما الذى يحس بالنقص من نفسه ويعلم أنّه قد علم علما أوتيه من سواه فأنت منه فى راحة وهو رجل عاقل قد حماه عقله أن يعدو طوره وأن يتكلف ما ليس بأهل له» (١).

لقد ضمت كتب البلاغة البحث فى الفصاحة والمعانى والبيان والبديع والسرقات والذوق الأدبى والإحساس الروحانى والعاطفة ، وليس هناك ما يمنع أن تدرس الكتب الحديثة هذه الفنون ويعنى بها كما فعل القدماء ، ويظل مصطلح «البلاغة» جامعا لها كما كان ، لأنّ أى مصطلح من المصطلحات الجديدة التى أسرف بعضهم فى إشاعتها والتعصب لها لا يجمعها ويوحد بينها ، وبذلك نحتفظ بالمصطلح القديم وما ينضوى تحته من فنون قديمة وحديثة ، وللباحثين الجدد الحرية الواسعة فى معالجتها ورسم المناهج التى تكفل فائدتها وتطورها ، ما دامت الأصول ثابتة والأسس متينة راسخة.

__________________

(١) دلائل الإعجاز ص ٤٢١.

٦٣
٦٤

المعانى

الكتاب الثانى

٦٥
٦٦

الفصل الأول

علم المعانى

علم المعانى من المصطلحات التى أطلقها البلاغيون على مباحث بلاغية تتصل بالجملة وما يطرأ عليها من تقديم وتأخير ، أو ذكر وحذف ، أو تعريف وتنكير ، أو قصر ، أو فصل ووصل ، أو إيجاز وإطناب.

وليس فى كتب البلاغة الأولى إشارة إلى هذا العلم ، ولا نعرف أحدا استعمله وسمّى به قسما من موضوعات البلاغة قبل السكاكى (ـ ه). وكان الأوائل يستعملون مصطلح «المعانى» فى دراساتهم القرآنية والشعرية ، فيقولون : «معانى القرآن» أو «معانى الشعر» ، ويتخذون من ذلك أسماء لكتبهم ، وليس فى هذه المصطلحات ما يتصل بالبلاغة أو أحد علومها.

ولعل عبارة «معانى النحو» التى وردت فى المناظرة التى جرت بين الحسن بن عبد المرزبانى المعروف بأبى سعيد السيرافى (ـ ه) وأبى بشر متّى بن يونس فى مجلس الوزير أبى الفتح بن جعفر بن الفرات كانت من أقدم الإشارات إلى هذا المصطلح بمعناه القريب من البلاغة. قال السيرافى : «معانى النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته ، وبين وضع الحروف فى مواضعها المقتضية لها ، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير ، وتوخى الصواب فى ذلك وتجنب الخطأ من ذلك ، وإن زاغ شىء عن هذا النعت فانه لا يخلو من أن يكون سائغا بالاستعمال بالنادر والتأويل البعيد أو مردودا لخروجه عن عادة القوم الجارية على فطرتهم» (١).

__________________

(١) الإمتاع والمؤانسة ج ١ ص ١٢١ ، ومعجم الأدباء ج ٣ ص ١١٧.

٦٧

وعقد أحمد بن فارس (ـ ه) فى كتابه «الصاحبى» بابا سماه «معانى الكلام» (١) وهى عند أهل العلم عشرة : خبر واستخبار ، وأمر ونهى ، ودعاء وطلب ، وعرض وتحضيض ، وتمن وتعجب. وبذلك يكون ابن فارس أول من أطلق مصطلح «معانى الكلام» على مباحث الخبر والإنشاء التى أصبحت فيما بعد أهم فصول علم المعانى.

نظرية النظم :

وكان لنظرية النّظم أثر كبير فى ظهور هذا اللون من الدراسات ، وللنحاة العرب يد طولى فى دراسة الكلام وتحليله والوقوف عند الجملة وما يطرأ عليها من تقديم وتأخير ، أو ذكر وحذف. ولعل سيبويه (ـ ه) كان من أقدم الذين وقفوا عند هذه الجوانب ودرسها بعمق فى فصول كتابه الشهير وأبوابه ، ولكن سيبويه والنحاة لم يسموا هذه البحوث نظما وإنّما هى قواعد تسير عليها العرب فى كلامها أو إنشائها. ولا نستطيع أن ننسب إليهم بعد ذلك نظرية النظم التى حاول بعض المعاصرين أن يربطها بهؤلاء النحاة ربطا وثيقا ليجرد البلاغيين الأصالة والتجديد ، مع إيماننا بأنّ الموضوعات التى بنيت عليها هذه الفكرة كانت نحوية محضة ، وقد استفاد منها البلاغيون وطوروها وصوروها أحسن تصوير.

وإذا أردنا أن نتلمس فكرة النظم فينبغى أن نتلمسها فى كتب أخرى بعد أن رأينا ارتباطها بكتب النحو. وأقدم إشارة عثرنا عليها فى الكتب العربية عبارة ابن المقفع (ـ ه) التى أشار فيها إلى صياغة الكلام. قال : «فاذا خرج الناس من أن يكون لهم عمل وأن يقولوا قولا بديعا. فليعلم الواصفون المخبرون أنّ أحدهم وإن أحسن وأبلغ ليس زائدا على أن يكون كصاحب فصوص وجد ياقوتا وزبرجدا ومرجانا فنظمه قلائد وسموطا وأكاليل ووضع كل فص موضعه وجمع إلى كل لون شبهه مما يزيده بذلك حسنا فسمّى بذلك صائغا رقيقا ، وكصاغة الذهب والفضة صنعوا فيها ما

__________________

(١) الصاحبى ، ص ٢٧٩ وما بعدها.

٦٨

يعجب الناس من الحلى والآنية ، وكالنحل وجدت ثمرات أخرجها الله طيبة وسلكت سبلا جعلها الله ذللا فصار ذلك شفاء وطعاما وشرابا منسوبا إليها مذكورا به أمرها وصنعتها. فمن جرى على لسانه كلام يستحسنه أو يستحسن منه فلا يعجبن به إعجاب المخترع المبتدع ، فانه إنما اجتباه كما وصفنا» (١)

وأخذ البلاغيون هذا الكلام وأداروه فى كتاباتهم من غير أن يشيروا إلى ابن المقفع فقال الجاحظ (ـ ه) : «فانما الشعر صناعة ، وضرب من النسج ، وجنس من التصوير» (٢) ، وتحدث عن النظم فى كتبه وسمّى أحدها «نظم القرآن» ، قال : «كما عبت كتابى فى الاحتجاج لنظم القرآن وغريب تأليفه وبديع تركيبه» (٣). وقال : «وفى كتابنا المنزل الذى يدلّ على أنّه صدق ، نظمه البديع الذى لا يقدر على مثله العباد مع ما سوى ذلك من الدلائل التى جاء بها من جاء به» (٤). والجاحظ فى هذين النصين وغيرهما يؤمن بأنّ القرآن الكريم معجز بنظمه وما فيه من بلاغة تأسر القلوب.

وكان لمسألة إعجاز القرآن أثر فى بلورة فكرة النظم ، وقد ذهب قوم من المتكلمين إلى أن وجه الاعجاز هو ما اشتمل عليه القرآن من النظم الغريب المخالف لنظم العرب ونثرهم فى مطالعه ومقاطعه وفواصله. وذهبت جماعة منهم إلى أن وجه الاعجاز فى مجموع الأمرين : النظم ، وكونه فى أعلى درجات البلاغة.

ولأبى عبد الله محمد بن يزيد الواسطى (ـ ه) كتاب فى إعجاز القرآن سماه «إعجاز القرآن فى نظمه وتأليفه» ، ولا نعرف عنه شيئا مع أنّ عبد القاهر الجرجانى شرحه مرتين ، لأنّ الأصل وشرحيه لم تصل وإن كان العنوان يدل على أنّه عالج مسألة النظم وأقام عليها إعجاز كتاب الله.

__________________

(١) الأدب الصغير ـ آثار ابن المقفع ص ٣١٩ ، ورسائل البلغاء ص ٥ ـ ٦.

(٢) الحيوان ج ٣ ص ١٣٢.

(٣) الحيوان ج ١ ص ٩.

(٤) الحيوان ج ٤ ص ٩٠.

٦٩

وفى كتب الاعجاز التى وصلت حديث عن النظم ، ولكنه لا يجلو الصورة ولا يوضح الهدف ، وإنما هو ومضات فى الطريق سار عليها البلاغيون ، فأبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابى (ـ ه) يرى أنّ القرآن إنّما صار معجزا لأنّه جاء بأفصح الألفاظ فى أحسن نظوم التأليف مضمنا أصح المعانى ، ويقول إنّ «عمود هذه البلاغة التى تجمع لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التى تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به ، الذى إذا أبدل مكانه غيره جاء منه إمّا تبدل المعنى الذى يكون منه فساد الكلام ، وإمّا ذهاب الرونق الذى يكون معه سقوط البلاغة» (١) ويرى أبو الحسن على بن عيسى الرمانى (ـ ه) أنّ أعلى مرتبة فى حسن البيان ما جمع أسباب الحسن فى العبارة من تعديل النظم حتى يحسن فى السمع ويسهل على اللسان وتتقبله النفس تقبل البرد (٢). ويرى أبو بكر محمد بن الطيب الباقلانى (ـ ه) أنّ كتاب الله معجز بالنظم ؛ لأنّه خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد فى كلام العرب ، يقول : «فأما شأو نظم القرآن فليس له مثال يحتذى عليه ولا إمام يقتدى به ، ولا يصح وقوع مثله اتفاقا كما يتفق للشاعر البيت النادر ، والكلمة الشاردة ، والمعنى الفذ الغريب ، والشىء القليل العجيب» (٣). ويقول : «ليس الاعجاز فى نفس الحروف وإنّما هو فى نظمها وإحكام رصفها ، وكونها على وزن ما أتى به النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وليس نظمها أكثر من وجودها متقدمة ومتأخرة ومترتبة فى الوجود ، وليس لها نظم سواها» (٤). ويقول عن القرآن : «وهو معجزة الرسول ـ عليه‌السلام ـ دال على نبوته من ثلاثة أوجه : أحدها ما فيه من عجيب النظم ، وبديع الرصف ، وأنّه لا قدرة لأحد من الخلق على تأليف مثله ولا تأليف سورة منه أو آية بقدر سورة ....» (٥).

__________________

(١) بيان إعجاز القرآن ـ ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن ص ٢٦.

(٢) النكت فى إعجاز القرآن ـ ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن ص ٩٨.

(٣) إعجاز القرآن ص ١٦٩.

(٤) كتاب التمهيد ص ١٥١.

(٥) كتاب الانتصار لنقل القرآن ص ٥٩.

٧٠

وكان كلام القاضى عبد الجبار الأسد آبادى (ـ ه) أكثر وضوحا حينما رأى أنّ الفصاحة والبلاغة تقومان على ضمّ الكلمات وتقارنها ، قال : «اعلم أنّ الفصاحة لا تظهر فى أفراد الكلام بالضم على طريقة مخصوصة ، ولا بد مع الضم من أن يكون لكل كلمة صفة ، وقد يجوز فى هذه الصفة أن تكون بالمواضعة التى تتناول الضم ، وقد تكون بالإعراب الذى له مدخل فيه ، وقد تكون بالموقع. وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابع ؛ لأنّه إمّا أن تعتبر فيه الكلمة أو حركاتها أو موقعها ، ولا بد من هذا الاعتبار فى كل كلمة ، ثم لا بد من اعتبار مثله فى الكلمات إذا انضم بعضها إلى بعض ، لأنّه قد يكون لها عند الانضمام صفة ، وكذلك لكيفية إعرابها وحركاتها وموقعها فعلى هذا الوجه الذى ذكرناه إنّما تظهر مزية الفصاحة بهذه الوجوه دون عداها.

فان قال : فقد قلتم إنّ فى جملة ما يدخل فى الفصاحة حسن المعنى ، فهلّا اعتبر تموه؟ قيل له : إنّ المعانى وإن كان لا بدّ منها فلا تظهر فيها المزية ، ولذلك تجد المعبرين عن المعنى الواحد يكون أحدهما أفصح من الآخر والمعنى متفق. على أنّا نعلم أنّ المعانى لا يقع فيها تزايد فاذن يجب أن يكون الذى يعتبر التزايد عنده الألفاظ التى يعبر بها عنها. فاذا صحّت هذه الجملة فالذى تظهر به المزية ليس إلا الإبدال ـ الاختيار ـ الذى به يختص الكلمات أو التقدم والتأخر الذى يختص الموقع أو الحركات التى تختص الإعراب ، فبذلك تقع المباينة. ولا بدّ فى الكلامين اللذين أحدهما أفصح من الآخر أن يكون إنّما زاد عليه بكل ذلك أو ببعضه ولا يمتنع فى اللفظة الواحدة أن تكون إذا استعملت فى معنى تكون أفصح منها إذا استعملت فى غيره ، وكذلك فيها إذا تغيرت حركاتها. وكذلك القول فى جملة من الكلام». ثم قال : «وهذا يبين أنّ المعتبر فى المزية ليس بنية اللفظة ، وأنّ المعتبر فيه ما ذكرناه من الوجوه. فأما حسن النغم وعذوبة القول فمما يزيد الكلام حسنا على السمع لا إنّه يوجد فضلا فى الفصاحة» (١).

__________________

(١) المغنى ج ١٦ ص ١٩٩ وما بعدها.

٧١

ذلك ما كانت عليه نظرية النظم قبل القرن الخامس للهجرة ، وليس فى أقوال الجاحظ ومن جاء بعده فكرة واضحة عنها إلا ما كان من كلام القاضى عبد الجبار الذى ربط الفصاحة بالنظم وبنى عليها رأيه فى إعجاز القرآن.

تطور النظرية :

لقد وضحت هذه النظرية وبلغت مداها على يد عبد القاهر الجرجانى (ـ ه أو ه) الذى أطال الكلام عليها ، وسمّى موضوعات التقديم والتأخير ، والذكر والحذف ، والقصر ، والفصل والوصل ، والتعريف والتنكير ، معانى النحو أو النّظم. والنظم ـ عنده ـ تعليق الكلام بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب من بعض (١) ، أو هو توخى معانى النحو وقد حصر موضوعاته فى قوله : «واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذى يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله ، وتعرف مناهجه التى نهجت فلا تزيغ عنها ، وتحفظ الرسوم التى رسمت لك فلا تخل بشىء منها وذلك أنّا لا نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر فى وجوه كل باب وفروقه فينظر فى الخبر إلى الوجوه التى تراها فى قولك : «زيد منطلق» و «زيد ينطلق» و «ينطلق زيد» و «منطلق زيد» و «زيد المنطلق» و «المنطلق زيد» و «زيد هو المنطلق» و «زيد هو منطلق». وفى الشرط والجزاء إلى الوجوه التى تراها فى قولك : «إن تخرج أخرج» و «إن خرجت خرجت» و «إن تخرج فأنا خارج» و «أنا خارج إن خرجت» و «أنا إن خرجت خارج».

وفى الحال إلى الوجوه التى تراها فى قولك : «جاءنى زيد مسرعا» و «جاءنى يسرع» و «جاءنى وهو مسرع» أو «هو يسرع» و «جاءنى قد أسرع» و «جاءنى وقد أسرع» ، فيعرف لكل من ذلك موضعه ويجىء به حيث ينبغى له.

__________________

(١) دلائل الإعجاز ص (ص).

٧٢

وينظر فى الحروف التى تشترك فى معنى ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية فى ذلك المعنى ، فيضع كلّا من ذلك فى خاصّ معناه نحو أن يجىء بـ «ما» فى نفى الحال ، وب «لا» إذا أراد نفى الاستقبال ، وب «إن» فيما يترجح بين أن يكون وأن لا يكون ، وب «إذا» فيما علم أنّه كائن.

وينظر فى الجمل التى ترد فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل ثم يعرف فيما حقه الوصل موضع الواو من موضع الفاء ، وموضع الفاء من موضع «ثم» ، وموضع «أو» من موضع «أم» ، وموضع «لكن» من موضع «بل».

ويتصرف فى التعريف والتنكير ، والتقديم والتأخير فى الكلام كله ، وفى الحذف والتكرار والإضمار والإظهار ، فيضع كلا من ذلك مكانه ويستعمله على الصحة وعلى ما ينبغى له.

هذا هو السبيل ، فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم ويدخل تحت هذا الاسم ، إلّا وهو معنى من معانى النحو قد أصيب به موضعه ووضع فى حقه أو عومل بخلاف هذه المعاملة فأزيل عن موضعه واستعمل فى غير ما ينبغى له. فلا ترى كلاما قد وصف بصحة نظم أو فساده أو وصف بمزية وفضل فيه إلّا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل إلى معانى النحو وأحكامه ، ووجدته يدخل فى أصل من أصوله ويتصل بباب من أبوابه» (١).

فمعانى النحو أو النّظم تشمل : الخبر ، وأركان الجملة وما يتعلق بالمسند والمسند إليه من شرط وحال ، وتشمل الفصل والوصل ومعرفة مواضعهما ومعانى الواو والفاء وثم وبل ولكن ، وتشمل التعريف والتنكير ، والتقديم والتأخير ، والحذف والتكرار ، والإضمار والإظهار.

والفرق بين هذه الأساليب ليس فرقا فى الحركات وما يطرأ على الكلمات ، وإنّما فى معانى العبارات التى يحدثها ذلك الوضع والنظم الدقيق ،

__________________

(١) دلائل الإعجاز ص ٦٤ ـ ٦٥.

٧٣

ولذلك فليست العمدة فى معرفة قواعد النحو وحدها ولكن فيما تؤدى إليه هذه القواعد والأصول. وقد يكون أحدنا لا يعرف التسميات الدقيقة لموضوعات النحو ، ولكنه يعرف الفروق بينها ويحس بمعانيها حينما يسمعها ، شأنه فى ذلك شأن البدوى الذى عاش بعيدا عن المصطلحات وما تعنى به كتب النحو غير أنه كان يفهم ما يسمع ويميز بين أسلوب وآخر.

وليست المزية باللغة ومعرفتها ، لأنّ ذلك لا يؤدى إلى التفاوت بين الكلام ، ولا من أجل العلم بأنفس الفروق والوجوه فنستند إلى اللغة ، ولكن للعلم بمواضعها وما ينبغى أن يصنع فيها. وليست بسلامة الحروف ، وإنّما بالنظم الذى يعطى الكلمات والإعراب معنى دقيقا.

والنظم مراتب ، فمنه ما لا نرى المزية فيه إلّا بعد قراءة القطعة الشعرية كقول البحترى :

بلونا ضرائب من قد نرى

فما إن رأينا لفتح ضريبا

هو المرء أبدت له الحادثا

ت عزما وشيكا ورأيا صليبا

تنقّل فى خلقى سؤدد

سماحا مرجّى وبأسا مهيبا

فكالسيف إن جئته صارخا

وكالبحر إن جئته مستثيبا

ففى هذه الأبيات تلاحقت الصور وضم بعضها إلى بعض.

ومنه ما يهجم الحسن دفعة واحدة حتى يعرف من البيت الواحد مكان الشاعر من الفضل وموضعه من الحذق ، ويشهد له بالفضل حتى يعلم أنّ البيت من قبل شاعر فحل وأنّه خرج من تحت يد صناع.

ومن النظم ما يتحد فى الوضع ويدق فيه الصنع وذلك أن تتحد أجزاء الكلام ويدخل بعضها فى بعض ويشتد ارتباط ثان منها بأول ، وأن يحتاج فى الجملة إلى أن توضع فى النفس وضعا واحدا وأن يكون الحال فيها حال البانى يضع بيمينه ههنا فى حال ما يضع بيساره هناك. ومنه ما لا يحتاج إلى فكر وروية لكى ينتظم ، بل سبيله فى ضم بعضه إلى بعض سبيل من عمد إلى لآل فخرطها فى سلك لا يبغى أكثر من أن يمنعها التفرق ، وكمن نضد أشياء

٧٤

بعضها إلى بعض لا يريد فى نضده ذلك أن تجىء له منه هيئة أو صورة ، بل ليس إلا أن تكون مجموعة فى رأى العين ، وذلك إذا كان المعنى لا يحتاج أن يصنع فيه شىء غير عطف لفظ على مثله. ولا بد أن يتغير المعنى إذا تغير النظم وفى ذلك مجال رحب يجول فيه المنشئون (١)

لقد وضّح عبد القاهر أصول «علم المعانى» فى كتابه «دلائل الإعجاز» «وسمّاه «النّظم» أو «معانى النحو». وليست معانى النحو إلّا علم المعانى الذى عرّفه السكاكى بقوله : «هو تتبع خواص تراكيب الكلام فى الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره ، ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ فى تطبيق الكلام على ما يقتضى الحال ذكره» (٢).

جمود النظرية :

كان السكاكى (ـ ه) أول من أطلق مصطلح «علم المعانى» على الموضوعات التى سماها عبد القاهر النظم أو معانى النحو. ومع أنّه لم يطلق ذلك على بعض مباحث البلاغة أحد غيره إلّا أنّ الباحث ليحار حينما يجد مصطلحى «المعانى» و «البيان» قبله. فالزمخشرى (ـ ه) يشير إليهما فى الكشاف ويقول وهو يتحدث عن التفسير : «ولا يغوص على شىء من تلك الحقائق إلّا رجل قد برع فى علمين مختصين بالقرآن وهما : علم المعانى وعلم البيان» (٣). وكلامه غير واضح ، لأنّه كثيرا ما يردّد هذين المصطلحين وكثيرا ما يطلق مصطلح «البيان» على البلاغة كلها ، يضاف إلى ذلك أنّه لم يضع حدّا بين موضوعات المعانى والبيان. وعلة ذلك أنّه لم يكن يبحث فى البلاغة حينما ألّف «الكشاف» وإنّما كان يفسر القرآن الكريم ويوضّح ما فيه من معان رفيعة ومن روعة وجمال وتأثير فى النفوس. وكان يستخدم

__________________

(١) للتفصيل فى نظرية النظم يراجع الفصل الثانى من كتابنا «عبد القاهر الجرجانى ـ بلاغته ونقده» ص ـ.

(٢) مفتاح العلوم ، ص ٧٧.

(٣) الكشاف ، ج ١ ص (ك).

٧٥

مصطلحات البلاغة وفنونها للوصول إلى هذه الغاية ، ولذلك توزعت فى الكتاب ولم يجمعها جامع أو يحدّها منهج واضح. ونراه أحيانا يسمى البلاغة «بديعا» ففى تفسير قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)(١) يقول : «هذا من الصّنعة البديعية التى تبلغ بالمجاز الذروة العليا ، وهى أن تساق كلمة مساق مجاز» (٢). ويخالف أحيانا ما تعارف عليه البلاغيون فيجعل الالتفات من البيان ويقول فى العدول عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب : «قلت : هذا يسمى الالتفات فى علم البيان» (٣).

وذكر الدكتور شوقى ضيف أنّ الزمخشرى أول من ميّزبين المصطلحين وقسّم البلاغة إلى معان وبيان ، وأنّ السكاكى تأثر به فى هذا التقسيم (٤) ، ولكن ما ذكرناه وما يضمه تفسير الكشاف لا يؤيد هذا القول ، وإن كانت عبارة الزمخشرى توحى بذلك قبل البحث والتدقيق.

وذكر فخر الدين الرازى (ـ ه) مصطلحى «علم المعانى» و «علم البيان» ولكنه لم يعرّفهما أو يوضحهما ولم يحدد موضوعاتهما. يقول وهو يتحدث عن الخبر : «ولكن الخبر هو الذى يتصور بالصور الكثيرة ، وتظهر فيه الدقائق العجيبة والأسرار الغريبة من علم المعانى والبيان» (٥). وعبارة «من علم المعانى والبيان» غامضة لا يفهم منها إلّا معنى عام هو البلاغة أمّا معانيهما التى حصرها السكاكى فلم يشر إليها ، وهو فى ذلك يتابع الزمخشرى الذى ذكر المصطلحين من غير أن يعرفهما أو يفصل بينهما.

ويكرر السكاكى بعض العبارات مثل «صناعة علم المعانى» و «علماء علم المعانى» و «أذهان الراضة من علماء المعانى» و «أئمة علم المعانى» (٦) ،

__________________

(١) البقرة ١٦.

(٢) الكشاف ج ١ ص ٥٣.

(٣) الكشاف ج ١ ص ١١.

(٤) البلاغة تطور وتأريخ ص ٢٢١ ، ٢٧٠ ، ٢٨٨.

(٥) نهاية الإيجاز ص ٣٦.

(٦) مفتاح العلوم ص ٨١ ، ٩٥ ، ١١٩ ، ١٢١.

٧٦

ولكنه لم يحدد معانيها أو يذكر علماء علم المعانى وأثمته. ولم نعثر فى تأريخ البلاغة على علماء اختصوا بهذا العلم وبحثوا فيه كما فعل السكاكى فى «مفتاح العلوم» إلا ما نلاحظه من وقوف عبد القاهر الجرجانى على «معانى النحو» فى كتابه «دلائل الإعجاز» و «البيان» فى كتابه «أسرار البلاغة» لكن هذا الوقوف لا يعنى أنّه ميز بينهما ، لأنّ موضوعات البلاغة ظلت مختلطة فى التكابين ، وإن كان الأول أقرب إلى علم المعانى والثانى ألصق بعلم البيان.

ولأننا لم نستطع أن نتبين مفهوم المعانى قبل السكاكى مع ما جاء فى «الكشاف» و «نهاية الإيجاز» نقرر أنّه أول من قسم البلاغة إلى معان وبيان ومحسنات ، وحدد موضوعاتها وأرسى قواعدها ، وأنّه أول من أطلق على الموضوعات المتعلقة بالنظم مصطلح «علم المعانى» وعلى الموضوعات التى تبحث فى الصورة والخيال ـ التشبيه والمجاز والكناية ـ مصطلح «علم البيان» وأنّه أول من سمّى غير هذه البحوث محسنات أو «وجوها مخصوصة يصار اليها لقصد تحسين الكلام» وقسّمها إلى ما يختص بالمعنى وما يتعلق باللفظ. ولم يسمّها بديعا ، وكان بدر الدين بن مالك (ـ ه) صاحب «المصباح» هو الذى أطلق عليها هذا المصطلح وتابعه الخطيب القزوينى والمتأخرون.

وكان للسكاكى منهج فى بحث موضوعات «علم المعانى» اختلف عن كل ما ألفناه فى كتب البلاغة الأولى ، وقد قرر ـ كما قرر غيره ـ أنّ كلام العرب قسمان : الخبر والطلب ولذلك قسم المعانى إلى قانونين :

الأول : يتعلق بالخبر.

والثانى : يتصل بالطلب.

وقسم القانون الأول إلى أربعة فنون :

الأول : فى تفصيل اعتبارات الإسناد الخبرى ، تكلم فيه على أنواع الخبر وأغراضه ومؤكداته وخروجه على مقتضى الظاهر.

الثانى : فى تفصيل اعتبارات المسند إليه ، تكلم فيه على حذفه وذكره ، وتعريفه وتنكيره ، وإضماره ، وكونه معرفة سواء كان موصولا أم اسم

٧٧

إشارة أم معرفا بالألف واللام أم بالإضافة. وتحدث عن نعت المعرف ، وتأكيد المسند إليه ، وبيانه ، وتفسيره ، وبدله ، والحالة التى تقتضى العطف والفصل ، وتنكيره ، وتقديمه على المسند ، وتأخيره ، وقصره ، وخروجه على مقتضى الظاهر ، والالتفات.

الثالث : فى تفصيل اعتبارات المسند ، تكلم فيه على حذفه وذكره ، وإفراده ، وكونه فعلا ، وتقييده وترك تقييده ، وكونه منكّرا. ثم تحدث عن تخصيصه وتركه ، وكونه اسما معرفا ، وكونه جملة فعلية واسمية وظرفية ، وتكلم على تأخيره وتقديمه. وعقد فى هذا الفن فصلا تحدث فيه عن العمل ، وتركه وإثباته ، وترك مفعوله وإثباته ، وإضمار الفاعل وإظهاره. وتحدث عن اعتبار التقديم والتأخير مع الفعل ، والحالات المقتضية لتقييد الفعل بالشرط.

الرابع : فى تفصيل اعتبارات الفصل والوصل ، والإيجاز والإطناب ، والقصر. وقسّم القانون الثانى إلى خمسة فصول هى التمنى ، والاستفهام ، والأمر ، والنهى ، والنداء. وبعد أن أكمل بحث الخبر والطلب تحدث عن استعمال الخبر موضع الطلب واستعمال الطلب موضع الخبر ، وذكر أسلوب الحكيم فى خاتمة البحث (١).

نقد المنهج :

لقد بحث السكاكى «علم المعانى» بهذا المنهج وقسمه هذا التقسيم ، وبوبه هذا التبويب الذى تتضح فيه النزعة المنطقية. ويلاحظ أنّه قدّم البحث فى الخبر مع أنّ كثيرا من الموضوعات التى تحدث عنها فيه لا تخص الخبر وحده إنّما هى مشتركة بينه وبين الطلب. وقد علل سعد الدين التفتازانى (ـ ه) ذلك بقوله : «وإنما ابتدأ بأبحاث الخبر لكونه أعظم شأنا وأعم فائدة ؛ لأنّه هو الذى يتصوّر بالصور الكثيرة ، وفيه تقع الصياغات

__________________

(١) ينظر كتابنا «البلاغة عند السكاكى» ص وما بعدها.

٧٨

العجيبة ، وبه تقع ـ غالبا ـ المزايا التى بها التفاضل ، ولكونه أصلا فى الكلام ، لأنّ الإنشاء إنّما يحصل منه باشتقاق كالأمر والنهى ، أو نقل كـ «بئس» و «نعم» وبعت واشتريت ، أو زيادة أداة كالاستفهام والتمنى وما أشبه ذلك.

ثم قدم بحث أحوال الإسناد على أحوال المسند إليه والمسند مع أنّ النسبة متأخرة عن الطرفين ، لأنّ علم المعانى إنّما يبحث عن أحوال اللفظ الموصوف بكونه مسندا إليه ومسندا. وهذا الوصف إنّما يتحقق بعد تحقيق الإسناد ، لأنه ما لم يسند أحد الطرفين إلى الآخر لم يصر أحدهما مسندا إليه والآخر مسندا. والمتقدم على النسبة إنّما هو ذات الطرفين ولا بحث لنا عنهما» (١).

ومهما حاول أنصار هذا المنهج أن يوجهوه فان البلاغة التى نقيس بها الأدب ونحكم عليه لا يمكن أن يعلل منهج بحثها هذا التعليل ، وأن يصطنع لها اصطناعا يبعدها عن روحها الأدبية. ولكن هل نجح السكاكى فى هذا المنهج؟ وهل استطاع أن يحصر موضوعات علم المعانى حصرا دقيقا؟

الواقع أنّه لم ينجح فى هذا التقسيم الذى بناه على المنطق وحده ، فحصر به موضوعات المعانى حصرا مزقها تمزيقا أفقدها كل حياة ، وباعد بينها وبين ما يتطلبه الفن الأدبى الذى ينبغى أن يعتمد ـ أول ما يعتمد ـ على الذوق الرفيع.

ولتوضيح ذلك نقول إنّ السكاكى قسّم مباحث المعانى حسب ركنى الجملة ـ المسند إليه والمسند ـ وعلى هذا الأساس ذكر التقديم ـ مثلا ـ فى المسند إليه مرة وفى المسند تارة أخرى. وفعل مثل هذا بالموضوعات الأخرى كالتأخير ، والحذف ، والذكر ، والتعريف والتنكير. وكان من الدقة أن يبحث كل موضوع بحثا مستقلا فيتكلم على التقديم والتأخير فى فصل ، والذكر والحذف فى ثان ، والتعريف والتنكير فى ثالث ، وبذلك تجمع أوصال الموضوع الواحد فى بحث يستوفى أجزاءه ويجمع شتاته. أمّا أن يوزع

__________________

(١) المطول ص ٤٣.

٧٩

أقسام الموضوع الواحد هذا التوزيع ويذكر عنه فى كل باب نتفا يسيرة لا تجدى نفعا ، فما لا يمكن الأخذ به والتعويل عليه. وبالمقارنة بين ما كتبه السكاكى وما كتبه عبد القاهر أو ابن الأثير يتضح مدى إفساده هذه المباحث وجوره عليها. فبعد أن كنا نقرأ فى «دلائل الإعجاز» أو «المثل السائر» موضوعات فيها عرض وتحليل وجمع لأطراف الموضوع الواحد جمعا يخرج الدارس منه بفكرة واضحة وفائدة كبيرة ـ بعد هذا كله ـ نقرأ فى «مفتاح العلوم» موضوعات تناثرت أطرافها فى عدة أبواب لا يخرج الدارس منها إلا بصورة حائلة ، وقواعد جامدة ، وأمثلة مبتسرة. وقد يلجأ لكى يكوّن فكرة صحيحة إلى أن يلم شتات الموضوع الواحد ويضم بعضها إلى بعض ، وفى هذا إضاعة للجهد وإفساد للبلاغة والذوق.

وكانت ثمرة ذلك أن بعثر السكاكى الموضوعات وأفقدها رونقها ، وأصبحت لا تجدى نفعا إلّا بالرجوع إلى عدة فصول لجمع شتاتها وتوحيد أجزائها.

أمّا بحث خروج الكلام على مقتضى الظاهر كوضع المضمر موضع المظهر ، ووضع المظهر موضع المضمر ، والالتفات فى المسند إليه فليس دقيقا ، لأنّ هذه الفنون لا تخصه وحده وإنما تدخل المسند أيضا. وقد أشار السكاكى إلى ذلك بقوله : «واعلم أنّ هذا النوع أعنى نقل الكلام عن الحكاية إلى الغيبة لا يختص بالمسند إليه» (١). وكان ينبغى أن يضع لكل لون من هذه الفنون بحثا يفصّل القول فيه تفصيلا.

وتكلم على استعمال المضارع مكان الماضى فى الحالات المقتضية لتقييد الفعل بالشرط مع أنّ الإخبار عن الفعل الماضى بالفعل المضارع أو بالمستقبل نوع من الالتفات كما صرح به البلاغيون.

وعقد فصلا للفعل وما يتعلق به من ترك وإثبات ، وإظهار وإضمار ،

__________________

(١) مفتاح العلوم ص ٩٥.

٨٠