أساليب بلاغية

الدكتور أحمد مطلوب

أساليب بلاغية

المؤلف:

الدكتور أحمد مطلوب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: وكالة المطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٣

ثم قال : «ومن له أدنى بصيرة يعلم أنّ للالفاظ فى الأذن نغمة لذيذة كنغمة أوتار ، وصوتا منكرا كصوت حمار ، وأن لها فى الفم أيضا حلاوة كحلاوة العسل ومرارة كمرارة الحنظل ، وهى على ذلك تجرى مجرى النغمات والطعوم (١)».

وذكر أن ابن سنان قد تحدث عما يتعلق باللفظة الواحدة من الأوصاف وقسمها عدة أقسام ـ كما مر ـ وفيما قاله ابن سنان لا حاجة إليه ، لأنّ تباعد المخارج يشمل معظم اللغة العربية ، وأنّ جريان اللفظة على الصرف العربى ليس مما يوجب لها حسنا ولا قبحا وإنما يقدح فى معرفة مستعملها بما ينقله من الألفاظ ، وأنّ تصغير الكلمة مما لا حاجة إلى ذكره لأنّ المعنى يسوق إليه. أما الأوصاف الأخرى التى ذكرها ابن سنان فقد أقام عليها ابن الأثير بحثه فى الألفاظ فقبل منها ما قبل ورفض ما رفض ، وشرح تلك الأوصاف بما يغنى عن كثير من الكتب ، وكانت دراسته من أوسع الدراسات وأعمقها ولم يأت بعده من أضاف إليها ، واتجهت الكتب إلى التلخيص والقضاء على النزعة الأدبية التى ، اتسمت بها دراسة ابن الأثير.

السكاكى :

وعندما قسم السكاكى (ـ ه) البلاغة إلى علومها لم يعقد للفصاحة فصلا ، وإنّما تكلم عليها بعد أن انتهى من علم البيان ، وذكر أنّها قسمان :

الأول : راجع إلى المعنى وهو خلوص الكلام من التعقيد.

وشرح تعقيد الكلام وقال : هو أن يعثر صاحب الفكر فى متصرفه ويشيك الطريق إلى المعنى ، كقول الفرزدق :

وما مثله فى الناس إلّا مملكا

أبو أمه حىّ أبوه يقاربه

وكقول أبى تمام :

ثانيه فى كبد السماء ولم يكن

كاثنين ثان إذ هما فى الغار

__________________

(١) المثل السائر ، ج ١ ص ١٤٩ ـ ١٥٠.

٤١

أما غير المعقد فهو أن يفتح صاحبه للفكرة الطريق ويمهده (١).

الثانى : راجع إلى اللفظ ، وهو :

١ ـ أن تكون الكلمة عربية أصلية ، وعلامة ذلك أن تكون على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدور واستعمالهم لها أكثر ، لا مما أحدثها المولدون ولا مما أخطأت فيه العامة.

٢ ـ وأن تكون أجرى على قوانين اللغة.

٣ ـ وأن تكون سليمة من التنافر.

وجعل الفصاحة غير لازمة للبلاغة التى حصر مرجعها فى المعانى والبيان ، ولم يجعل للفصاحة مرجعا فى شىء منهما ، وهو فى ذلك يتابع عبد القاهر والرازى اللذين نظرا إلى النظم ولم يوليا اللفظ المفرد أهمية كبيرة.

ابن مالك :

واختصر بدر الدين بن مالك (ـ ه) القسم الثالث من «مفتاح العلوم» وتكلم على الفصاحة وأطلق عليها اسم البديع الذى قال عنه «هو معرفة توابع الفصاحة» وعرّف الفصاحة بأنّها «صوغ الكلام على وجه له توفية بتمام الأفهام لمعناه وتبين المراد منه (٢)». وقسمها إلى معنوية ولفظية ، وذكر ما فى «مفتاح العلوم» من صفاتهما ، ثم قسم المعنوية إلى مختصة بالأفهام والتبيين ومختصة بالتزيين والتحسين. وهذه الأنواع الثلاثة هى علم البديع عند المتأخرين.

القزوينى :

وحينما جاء الخطيب القزوينى (ـ ه) وجد الطريق ممهدا فأخذ عن علماء البلاغة المتقدمين ورتّب بحث الألفاظ ترتيبا علميا خالف فيه السكاكى

__________________

(١) مفتاح العلوم ، ١٩٦ ـ ١٩٧.

(٢) المصباح ، ص ٧٥.

٤٢

وبدر الدين ، لأنّه اتخذها مقدمة للبلاغة ، وفى هذه المقدمة التى كانت كشفا عن معنى الفصاحة والبلاغة وانحصار علم البلاغة فى المعانى والبيان ـ تكلم على صفات الألفاظ وما ينبغى أن تكون عليه. وكان بحثه إيذانا باتخاذ الفصاحة مقدمة لعلوم البلاغة بعد أن كانت موضوعا تشيع فيه الحياة (١).

بدأ القزوينى مقدمته بقوله : «للناس فى تفسير الفصاحة والبلاغة أقوال مختلفة لم أجد ـ فيما بلغنى منها ـ ما يصلح لتعريفهما به ولا ما يشير إلى الفرق بين كون الموصوف بهما الكلام وكون الموصوف بهما المتكلم ، فالأولى أن نقتصر على تلخيص القول فيهما بالاعتبارين (٢)». وهذا غير صحيح ، لأنّ البلاغيين اهتموا بهما ووضعوا لهما حدودا وفرّقوا بينهما ، وكانت بحوث الجاحظ وقدامة وأبى هلال وعبد القاهر وابن سنان وابن الأثير من أروع ما كتب وأبدع ما خطته يد بلاغى ناقد ، وما مقدمة القزوينى إلّا خلاصة هذه الدراسات ، فكيف لم يترك القدماء تعريفا للفصاحة أو البلاغة يمكن الركون إليه؟ ولعله فى ذلك متأثر بدعوى عبد القاهر الذى يقول : «لم أزل منذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلماء فى معنى الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة وفى بيان المغزى من هذه العبارات وتفسير المراد بها فأجد بعض ذلك كالرمز والإشارة فى خفاء ، وبعضه كالتنبيه على مكان الخبىء ليطلب وموضع الدفين يبحث عنه فيخرج» (٣). ويقول : «إنّا لم نر العقلاء قد رضوا من أنفسهم فى شىء من العلوم أن يحفظوا كلاما للأولين ويتدارسوه ، ويكلم به بعضهم بعضا من غير أن يعرفوا له معنى ويقفوا منه على غرض صحيح ، ويكون عندهم أن يسألوا عن بيان له وتفسير ، إلّا علم الفصاحة فانك ترى طبقات من الناس يتداولون فيما بينهم ألفاظا للقدماء. وعبارات من غير أن يعرفوا لها معنى أصلا أو يستطيعوا إن يسألوا عنها أن يذكروا لها تفسيرا يصح» (٤).

__________________

(١) ينظر كتابنا القزوينى وشروح التلخيص ، ٢٤٩ ـ ٢٨٣.

(٢) الإيضاح ، ص ٢.

(٣) دلائل الإعجاز ، ص ٢٨.

(٤) دلائل الإعجاز ، ص ٣٥٠.

٤٣

وهذا صحيح فى عهد التأليف الأول وعند عبد القاهر الذى لم يفرق بين المصطلحين ، لأنهما عنده يعبر بهما عن فضل بعض القائلين على بعض من حيث نطقوا وتكلموا وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد وراموا أن يعلموهم ما فى نفوسهم ويكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم (١) ، أما القزوينى فالأمر عنده مختلف ، لأنّ مصطلحات البلاغة استقرت فى عهده وأصبح للفصاحة والبلاغة محتوى واضح. والفصاحة والبلاغة عند القزوينى تقع كل واحدة منهما صفة لمعنيين :

الأول : الكلام كما فى «قصيدة فصيحة أو بليغة» ، و «رسالة فصيحة أو بليغة».

الثانى : المتكلم كما فى «شاعر فصيح أو بليغ» ، و «كاتب فصيح أو بليغ».

وتحدث عن فصاحة اللفظة المفردة ، وقال إنّ الفصاحة تقع صفة للمفرد فيقال «كلمة فصيحة» ولا يقال «كلمة بليغة». ووضع للفظة المفردة شروطا هى خلوصها من :

١ ـ تنافر الحروف : والتنافر منه ما تكون الكلمة بسببه متناهية فى الثقل على اللسان كما روى أنّ أعرابيا سئل عن ناقته فقال : «تركتها ترعى الهعخع». ومنه ما دون ذلك كلفظة «مستشزر» فى قول امرئ القيس :

غدائرها مستشزرات إلى العلى

تضلّ العقاص فى مثنّى ومرسل

ولم يشرح القزوينى هذا التنافر ولم يذكر علته ، وكان ابن سنان قد علله بقوله : «وعلة هذا واضحة وهى أنّ الحروف التى هى أصوات تجرى من السمع مجرى الألوان من البصر ولا شكّ فى أن الألوان المتباينة إذا جمعت

__________________

(١) دلائل الإعجاز ، ص ٣٥.

٤٤

كانت فى المنظر أحسن من الألوان المتقاربة وبهذا كان البياض مع السواد أحسن منه مع الصفرة لقرب ما بينه وبين الأصفر وبعد ما بينه وبين الأسود. وإذا كان هذا موجودا على هذه الصفة لا يحسن النزاع فيه كانت العلة فى حسن اللفظة المؤلفة من الحروف المتباعدة هى العلة فى حسن النقوش إذا مزجت من الألوان المتباعدة» (١).

لقد جمعت لفظة «الهعخع» القبح من أطرافه ، لأنّ جميع حروفها حلقية ، وحرف حلقى واحد يبعث على الثقل فكيف إذا اجتمع الهاء والعين والخاء فى كلمة واحدة؟ ولفظة «مستشزرات» ـ وإن كانت أخف منها ـ ثقيلة لتوسط الشين التى هى من الحروف المهموسة الرخوة بين التاء التى هى من المهموسة الشديدة والزاى التى هى من المجهورة الرخوة. ويرى النقاد أنّ امرأ القيس لو قال : «مستشرف» لزال الثقل.

٢ ـ الغرابة : وهى أن تكون الكلمة وحشية لا يظهر معناها فيحتاج فى معرفته إلى البحث فى كتب اللغة ، كما روى عن عيسى بن عمر النحوى أنّه سقط عن حماره فاجتمع عليه الناس فقال : «ما لكم تكأكأتم علىّ تكأكؤكم على ذى جنّة ، افرنقعوا عنى».

أو يخرج له وجه بعيد كما فى قول العجاج :

وفاحما ومرسنا مسرّجا

فانه لم يعرف ما أراد بقوله «مسرجا» حتى اختلف فى تخريجه ، فقيل : هو من قولهم للسيوف «سريجية» منسوبة إلى قين يقال له سريج ، يريد أنّه فى الاستواء والدقة كالسيف السريجى. وقيل : من السراج ، يريد أنّه فى البريق كالسراج ، وهذا يقرب من قولهم : «سرج وجهه» أى : حسن ، و «سرّج الله وجهه» أى : بهّجه وحسّنه.

__________________

(١) سر الفصاحة ، ٦٦.

٤٥

وهذا بحث اهتم به النقاد والبلاغيون كابن سنان الذى عاب الذين يكثرون من الوحشى الغريب فى كلامهم وذكر ما وقع فيه بعضهم فخرج كلامه عن الفصاحة وبعد عن الفهم (١). وكابن الاثير الذى يرى أنّ الوحشى ليس المستقبح من الألفاظ وإنّما هو قسمان : غريب حسن ، وغريب قبيح (٢).

٣ ـ مخالفة القياس اللغوى ، كقول الراجز :

الحمد لله العلىّ الأجلل

الواهب الفضل الكريم المجزل

فان القياس «الأجل» بالإدغام.

ولم يوضح مخالفة القياس ، وكان ابن سنان قد تكلم عليه ووضحه وأدخل فيه كل ما ينكره أهل اللغة ويرده علماء النحو من التصرف الفاسد فى الكلمة (٣)

ووضع القزوينى قاعدة للفظة الفصيحة فقال : «ثم علامة كون الكلمة فصيحة أن يكون استعمال العرب الموثوق بعربيتهم لها كثيرا أو أكثر من استعمالهم ما بمعناها» (٤).

وبعد أن انتهى من شروط اللفظة الفصيحة تحدّث عن فصاحة الكلام وهى :

١ ـ خلوصه من ضعف التأليف ، ومثل له بقوله : «ضرب غلامه زيدا» فان رجوع الضمير إلى المفعول المتأخر لفظا ممتنع عند الجمهور لئلا يلزم رجوعه إلى ما هو متأخر لفظا ورتبة ، وقيل يجوز لقول الشاعر :

جزى ربّه عنى عدىّ بن حاتم

جزاء الكلاب العاويات وقد فعل

٢ ـ التنافر : وهو أن تكون الألفاظ بسببه متناهية فى الثقل على اللسان متتابعة كما فى البيت الذى أنشده الجاحظ :

وقبر حرب بمكان قفر

وليس قرب قبر حرب قبر

__________________

(١) سر الفصاحة ٧٥.

(٢) المثل السائر ج ١ ص ٥٧ ، ١٥٥ ، ١٦٣.

(٣) سر الفصاحة ، ٨٢ ـ ٩١.

(٤) الإيضاح ٤.

٤٦

ومنه ما دون ذلك كقول أبى تمام :

كريم متى أمدحه أمدحه والورى

معى وإذا ما لمته لمته وحدى

وسبب التنافر فى «أمدحه» ما بين الحاء والهاء من تنافر لأنهمّا حلقيان ، وتكرار الكلمة ، فى الشرط والجزاء.

ـ التعقيد : وهو أن لا يكون ظاهر الدلالة على المراد به وله سببان :

الأول : ما يرجع إلى اللفظ وهو أن يختل الكلام ولا يدرى السامع كيف يتوصل منه إلى معناه كقول الفرزدق :

وما مثله فى الناس إلّا مملكا

أبو أمه حىّ أبوه يقاربه

ووضع القزوينى قاعدة للكلام الخالى من التعقيد اللفظى وقال إنّه : «ما سلم نظمه من الخلل فلم يكن فيه ما يخالف الأصل من تقديم أو تأخير أو إضمار أو غير ذلك إلّا وقد قامت عليه قرينة ظاهرة لفظية أو معنوية (١). وهذا ما تكلم عليه عبد القاهر وسماه «التعقيد» أو «فساد النظم» (٢) وأدخله ابن سنان فى بحث التقديم والتأخير (٣) ، وعدّه ابن الأثير من المعاظلة المعنوية التى يسببها التقديم والتأخير» (٤).

الثانى : ما يرجع إلى المعنى وهو أن لا يكون فى انتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثانى الذى هو لازمه والمراد به ظاهرا كقول العباس بن الأحنف :

سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا

وتسكب عيناى الدموع لتجمدا

_________________

(١) الإيضاح ، ص ٦.

(٢) أسرار البلاغة ، ص ١٦٢.

(٣) سر الفصاحة ، ص ١٢٥.

(٤) المثل السائر ، ج ١ ص ٢٩٤ ، ج ٢ ص ٤٤ وما بعدها.

٤٧

كنّى بسكب الدموع عما يوجبه الفراق من الحزن ، وأصاب ؛ لأنّ من شأن البكاء أن يكون كناية عنه كقولهم : «أبكانى وأضحكنى» أى : أساءنى وسرنى ، كما قال الحماسى :

أبكانى الدهر ويا ربّما

أضحكنى الدهر بما يرضى

ثم طرد ذلك فى نقيضه فأراد أن يكنّى عما يوجبه دوام التلاقى من السرور بالجمود لظنه أنّ الجمود خلوّ العين من البكاء مطلقا من غير اعتبار شىء آخر ، وأخطأ لأنّ الجمود خلوّ العين من البكاء فى حال إرادة البكاء منها فلا يكون كناية عن المسرة وإنّما يكون كناية عن البخل كما قال الشاعر :

ألا إنّ عينا لم تجد يوم واسط

عليك بجارى دمعها لجمود

وضبط القزوينى الكلام الخالى من التعقيد وقال عنه : «ما كان الانتقال من معناه الأول إلى معناه الثانى الذى هو المراد به ظاهرا حتى يخيل إلى السامع أنّه فهمه من حاقّ اللفظ» (١).

وأضاف إلى ذلك خلوص الكلام من كثرة التكرار ، كقول المتنبى :

وتسعدنى فى غمرة بعد غمرة

سبوح لها منها عليها شواهد

وخلوّه من تتابع الإضافات ، كقول ابن بابك :

حمامة جرعا حومة الجندل اسجعى

فأنت بمرأى من سعاد ومسمع

وكان الصاحب بن عباد قد أشار إليه بقوله : «إياك والاضافات المتداخلة فانها لا تحسن». ويرى القزوينى أنّ هذا الشرط لا يؤخذ به دائما ، لأنّ ذلك إن أفضى باللفظ إلى الثقل على اللسان فقد حصل الاحتراز عنه وإلّا فلا تخلّ بالفصاحة ، وقد قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الكريم بن الكريم

__________________

(١) الإيضاح ، ص ٦.

٤٨

ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم». وهذا رأى عبد القاهر الذى قال : «لكنه إذا سلم من الاستكراه ملح ولطف».

ومما حسن فيه قول ابن المعتز :

وظلّت تدير الراح أيدى جآذر

عتاق دنانير الوجوه ملاح

ومما جاء فيه حسنا جميلا قول الخالدى يصف غلاما له :

ويعرف الشعر مثل معرفتى

وهو على أن يزيد مجتهد

وصيرفىّ القريض وزّان دينا

ر المعانى الدقاق منتقد (١)

ومما يتصل بالألفاظ المركبة : الفنون التى سماها البلاغيون «المحسنات اللفظية» وهى عظيمة الأهمية فى دراسة الألفاظ ، وينبغى أن توضع فى بحث الفصاحة لأنّ لها تأثيرا فى الكلام. وإذا تابع القزوينى صاحب «مفتاح العلوم» فتحدث عنها فى البديع فان دراستها هنا أجدى وأكثر نفعا. وقد سبق إلى ذلك علماء البلاغة كابن الأثير الذى قسم الصناعة اللفظية قسمين :

الأول : فى اللفظة المفردة.

الثانى : فى الألفاظ المركبة ، وهى السجع ، والتصريع ، والتجنيس ، والترصيع ، ولزوم ما لا يلزم ، والموازنة ، واختلاف صيغ الألفاظ ، وتكرار الحروف.

هذه دراسة البلاغيين للفصاحة ، أما النقاد فقد تحدثوا عن دقة الألفاظ وإيحائها وسهولتها وجزالتها وألفتها وغرابتها وغير ذلك مما نجده فى كتب البلاغة والنقد ، وهو حديث فيه طرافة وجدّة يتم ما ذكره البلاغيون عن الفصاحة وأوصافها.

__________________

(١) الإيضاح ص ٨ ، ودلائل الإعجاز ص ٨٢.

٤٩

واهتم المعاصرون بالبحث فى الألفاظ الموحية والقوية والمؤنسة والعذبة ، وتحدثوا عن تآلفها وتعبيرها عن الانفعال والفكرة وإحداثها الصور البديعة ، وعنوا بها ؛ لأنّ اختيار الكلمة المؤثرة هى أول خطوة للبناء الفنى.

وكنا قد دعونا ـ كما دعا أمين الخولى ـ إلى الاقتصار على مصطلح «البلاغة» للدلالة على الفصاحة والبلاغة. ومما قلناه قبل أعوام : «ونرى ـ كما يرى الأستاذ أمين الخولى ـ أنّه لا حاجة إلى استعمال مصطلحين هما «الفصاحة» و «البلاغة» بل ينبغى التسوية بينهما كما رأينا عند الجاحظ وعبد القاهر تقليلا للأقسام ، فنقول «بلاغة الكلمة» و «بلاغة الكلام» كما نستطيع أن نقول «بلاغة الألفاظ» و «بلاغة المعانى» أى جودة ذلك. وحينئذ نقول : إنّ من شروط البلاغة أن تكون الألفاظ كذا وكذا ، ولا يعتبر الكلام بليغا ما لم تكن ألفاظه حسنة كمعانيه ، وبذلك لا يكون مجال لقولهم إنّ فصاحة الألفاظ غير مستلزمة لبلاغتها وإن صرح السكاكى بأنّ البلاغة والفصاحة مما يكسو الكلام حلة التزيين ويرقيه أعلى درجات التحسين» (١).

ولكن الأيام تغير كثيرا من الأحكام ، فقد اتضح لنا أنّ استعمال مصطلح «الفصاحة للدلالة على الدراسة المتصلة بالألفاظ أكثر دقة وشمولا وجمعا لما تفرق من هذه المباحث فى كتب البلاغة والنقد. ولا يضير الدراسات الحديثة التمسك بالمصطلحات القديمة ذات الدلالة الواسعة والواضحة معا. والفصاحة إحدى تلك المصطلحات التى يمكن أن تجمع فى إطارها جميع البحوث الصوتية واللفظية ، وهى دراسات واسعة ومجدية فى دراسة الأدب ونقده.

__________________

(١) البلاغة عند السكاكى ص ٣٠٣. وتنظر مادة (بلاغة) فى دائرة المعارف الإسلامية (الترجمة العربية ج ص) ، ومناهج تجديد ص ، وفن القول ص.

٥٠

الفصل الثانى

البلاغة

كلمة «البلاغة» من الكلمات التى شاع استعمالها فى كتب الأدب ، وكانت هى والفصاحة صنوين تستعملان معا أو تستعمل الواحدة فى موضع الأخرى.

فى اللغة :

والبلاغة ـ فى اللغة ـ الانتهاء والوصول ، وفى لسان العرب : «بلغ الشىء يبلغ بلوغا وبلاغا : وصل وانتهى. تبلغ بالشىء : وصل إلى مراده. البلاغ : ما يتبلغ به ويتوصل إلى الشىء المطلوب. البلاغ : ما بلغك ، والكفاية. الإبلاغ : الإيصال. بلغت المكان بلوغا : وصلت إليه ، وكذا إذا شارفت عليه».

وأشار ابن منظور إلى المعنى الاصطلاحى فقال : «البلاغة : الفصاحة. والبلغ والبلغ : البليغ من الرجال. ورجل بليغ وبلغ وبلغ : حسن الكلام فصيحه يبلغ بعبارة لسانه كنه ما فى قلبه ، والجمع بلغاء. وقد بلغ بلاغة : صار بليغا».

وليس فى هذا القول غير المعنى العام للكلمة ، فهى ـ أولا ـ الانتهاء والوصول إلى الغاية ، وهى ، ثانيا ـ الفصاحة ، أى أنّ الكلمتين مترادفتان. وهذا رأى معظم اللغويين والبلاغيين الأوائل.

فى القرآن :

ولو تلمسنا هذه اللفظة فى التراث العربى لرأيناها شائعة معروفة ، وقد جاءت لفظة «بليغ» فى قوله تعالى : «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ

٥١

لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً» (١). يقول الراغب الأصفهانى فى تفسيرها : «البلاغة تقال على وجهين :

أحدهما : أن يكون بذاته بليغا ، وذلك بأن يجمع ثلاثة أوصاف : صوابا فى موضوع لغته ، وطبقا للمعنى المقصود ، وصدقا فى نفسه. ومتى اخترم وصف من ذلك كان ناقصا فى البلاغة.

والثانى : أن يكون بليغا باعتبار القائل والمقول له ، وهو أن يقصد القائل أمرا فيرده على وجه حقيق أن يقبله المقول له. وقوله تعالى : (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) يصح حمله على المعنيين» (٢).

وذهب الزمخشرى مذهبا نفسيا فى تفسيرها ، وأشار إلى تأثيرها رمزا فى قوله : «قل لهم قولا بليغا مؤثرا فى قلوبهم يغتمون به اغتماما ويستشعرون منه الخوف استشعائرا» (٣).

فى الحديث :

وليس فى أحاديث النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما يشير إلى هذا المعنى مع كثرة ما جاء من مشتقاتها فى كلامه (٤). فقد ورد عنه قوله : «إنّ الله يبغض البليغ الذى يتخلل بلسانه». وجاء عنه أنه عاب فيه المتشادقين والثرثارين والذى يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها (٥).

فى التراث :

ولا نكاد نعثر على بغيتنا فى فترة صدر الإسلام ، وحينما جاء العصر الأموى نجد معاوية بن أبى سفيان يسأل صحارا بن عياش : «ما هذه البلاغة

__________________

(١) النساء ٦٣.

(٢) المفردات فى غريب القرآن ص ٦٠.

(٣) الكشاف ج ١ ص ٤٠٧.

(٤) النهاية فى غريب الحديث والأثر ج ١ ص ١٥٢.

(٥) البيان والتبيين ج ١ ص ٢٧١.

٥٢

التى فيكم؟» قال : «شىء تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا». وقال له معاوية : «ما تعدّون البلاغة فيكم؟» قال «الايجاز». قال له معاوية : «وما الإيجاز؟» قال صحار : «أن تجيب فلا تبطىء ، وتقول فلا تخطىء» (١).

وفى كتاب «البيان والتبيين» تعريفات كثيرة للبلاغة عند العرب وغيرهم ، فقد قيل للفارسى : ما البلاغة؟ قال : معرفة الفصل من الوصل. وقيل لليونانى : ما البلاغة؟ قال : حسن الاقتضاب عند البداهة ، والغزارة يوم الإطالة. وقيل للهندى : ما البلاغة؟ قال : وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الإشارة. وقال بعض أهل الهند : «جماع البلاغة : البصر بالحجة ، والمعرفة بمواضع الفرصة» (٢).

وفسرها عمرو بن عبيد (ـ ه) فى أول الأمر تفسيرا دينيا حين قيل له : ما البلاغة؟ فقال : ما بلغ بك الجنة ، وعدل بك عن النار ، وما بصرك مواقع رشدك وعواقب غيك. قال السائل : ليس هذا أريد. قال : من لم يحسن أن يسكت لم يحسن أن يستمع ومن لم يحسن الاستماع لم يحسن القول. قال : ليس هذا أريد. قال : قال النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إنّا معشر الأنبياء بكاء» أى : قليلو الكلام ، ومنه قيل : «رجل بكىء». وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله. قال : قال السائل : ليس هذا أريد. قال : كانوا يخافون من فتنة القول ومن سقطات الكلام ما لا يخافون من فتنة السكوت ومن سقطات الصمت. قال السائل : ليس هذا أريد. قال عمرو : فكأنك تريد تخير اللفظ فى حسن الإفهام؟ قال : نعم. قال : إنّك إذا أوتيت تقرير حجة الله فى عقول المكلفين وتخفيف المؤونة على المستمعين وتزيين تلك المعانى فى قلوب المريدين بالألفاظ المستحسنة ، فى الآذان ، المقبولة عند الأذهان رغبة فى سرعة استجابتهم

__________________

(١) البيان ج ١ ص ٩٦.

(٢) البيان ج ١ ص ٨٨.

٥٣

ونفى الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة على الكتاب والسنة ، كنت قد أوتيت فصل الخطاب واستحققت على الله جزيل الثواب (١).

وقال الأصمعى (ـ ه) عن البليغ إنّه : «من طبّق المفصل وأغناك عن المفسّر» (٢).

وقال العتابى (ـ ه) إنّ كل من أفهمك حاجته من غير إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ ، فان أردت اللسان الذى يروق الألسنة ويفوق كل خطيب فاظهار ما غمض من الحق وتصوير الباطل فى صورة الحق» (٣).

الجاحظ :

ولم يعرفها الجاحظ (ـ ه) بعد أن ذكر كثيرا من تعريفاتها ، واكتفى بأن اختار قولا أعجبه. يقول : «وقال بعضهم ـ وهو من أحسن ما اجتبيناه ودوّناه ـ لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ، ولفظه معناه ، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك (٤)»

وليس فى هذا التعريف ما يشير إلى المعنى الاصطلاحى الذى حدّده البلاغيون ، والجاحظ فى كل ما ذكر لا يضع بين الفصاحة والبلاغة حدا فاصلا ، فكثيرا ما تأتيان مترادفتين وهما عنده البيان بمعناه الواسع قبل أن يقيده المتأخرون.

المبرد :

وللمبرد (ـ ه) رسالة صغيرة سماها «البلاغة» أجاب فيها عن رسالة أحمد بن الواثق الذى سأله : «أى البلاغتين أبلغ؟ أبلاغة الشعر أم بلاغة الخطب والكلام المنثور والسجع؟ وأيتهما عندك ـ أعزك الله ـ أبلغ؟»

__________________

(١) البيان ج ١ ص ١١٤ ، وينظر عيون الأخبار ج ٢ ص ١٧٠.

(٢) البيان ج ١ ص ١٠٦.

(٣) البيان ج ١ ص ١١٣.

(٤) البيان ١ ص ١١٥.

٥٤

وأجابه المبرد : «إنّ حق البلاغة إحاطة القول بالمعنى واختيار الكلام وحسن النظم حتى تكون الكلمة مقاربة أختها ومعاضدة شكلها ، وأن يقرب بها البعيد ، ويحذف منها الفضول» (١).

ومصطلح «البلاغة» فى هذه الرسالة لا يعنى العلم المعروف ، وإنّما هو تحديد لبعض معانيها. وإذا لم نجد فيها ما نطمح إليه فاننا نستطيع القول إنّ المبرد أول من أطلق «البلاغة» على بعض رسائله.

العسكرى :

ويظهر مصطلح البلاغة بوضوح فى «كتاب الصناعتين» لأبى هلال العسكرى (ـ ه) الذى قال : «إن أحق العلوم بالتعلم وأولاها بالتحفظ بعد المعرفة بالله ـ جل ثناؤه ـ علم البلاغة ومعرفة الفصاحة (٢)». وقال : «البلاغة من قولهم : بلغت المكان ، إذا انتهيت إليها وبلغتها غيرى ، ومبلغ الشىء منتهاه. والمبالغة فى الشىء : الانتهاء إلى غايته ، فسميت البلاغة بلاغة ، لأنها تنهى المعنى إلى قلب السامع فيفهمه ، وسميت البلغة بلغة لأنك تتبلغ بها فتنتهى بك إلى ما فوقها وهى البلاغ أيضا (٣)» وأبدى رأيه فى تعريفها ، وحدّدها بقوله : «البلاغة : كل ما تبلغ به قلب السامع فتمكنه فى نفسه كتمكنه فى نفسك ، مع صورة مقبولة ومعرض حسن» (٤).

والبلاغة ـ عنده ـ من صفة الكلام لا من صفة المتكلم ، ولذلك لا يجوز أن يسمّى الله بليغا ، إذ لا يجوز أن يوصف بصفة موضوعها الكلام. وتسمية المتكلم بأنّه بليغ توسع ، وحقيقته أنّ كلامه بليغ كما نقول : «رجل محكم» ونعنى أنّ أفعاله محكمة. قال تعالى : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ)(٥) فجعل البلاغة من

__________________

(١) البلاغة ص ٥٩.

(٢) كتاب الصناعتين ص ٦.

(٣) كتاب الصناعتين ص ٦.

(٤) كتاب الصناعتين ص ١٠.

(٥) القمر ٥.

٥٥

صفة الحكمة ولم يجعلها من صفة الحكيم ، إلّا أنّ كثرة الاستعمال جعلت تسمية المتكلم بأنّه بليغ كالحقيقة.

وفى كتاب الصناعتين رأيان :

الأول : أنّ الفصاحة والبلاغة ترجعان إلى معنى واحد وإن اختلف أصلاهما ، لأنّ كل واحد منهما إنّما هو الإبانة عن المعنى والإظهار له.

والثانى : أنّ الفصاحة والبلاغة مختلفتان ، ذلك أنّ الفصاحة تمام آلة البيان فهى مقصورة على اللفظ ، لأنّ الآلة تتعلق باللفظ دون المعنى ، والبلاغة إنّما هى إنهاء المعنى إلى القلب فكأنها مقصورة على المعنى (١).

ابن سنان :

وحاول ابن سنان الخفاجى (ـ ه) أن يحدد البلاغة ويرسم معالمها غير أنّه لم يأت بالكلمة الفاصلة والتعريف الجامع المانع. ولم يك وحده الذى فعل ذلك فقد مرت بالبلاغة تعريفات كثيرة نقلها الجاحظ فى «البيان والتبيين» وأبو هلال فى «كتاب الصناعتين» ، ولذلك أشار إلى اضطراب القوم فى حدها والوقوف على كنهها ، وقال : «وقد حدّ الناس البلاغة بحدود إذا حققت كانت كالرسوم والعلائم وليست بالحدود الصحيحة فمن ذلك قول بعضهم «لمحة دالة» وهذا وصف من صفاتها فأما أن يكون حاصرا لها وحدا يحيط بها فليس ذلك بممكن لدخول الإشارة من غير كلام يتلفظ به تحت هذا الحد» (٢).

ولم يعرف البلاغة ، وإنما فرق بينها وبين الفصاحة وقال : «والفرق بين الفصاحة والبلاغة ، أنّ الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ ، والبلاغة لا تكون إلّا وصفا للألفاظ مع المعانى. لا يقال فى كلمة واحدة لا تدل على

__________________

(١) كتاب الصناعتين ص ٧.

(٢) سر الفصاحة ص ٦٠.

٥٦

معنى يفضل عن مثلها بليغة وإن قيل فيها فصيحة ، وكل كلام بليغ فصيح ، وليس كل فصيح بليغا» (١).

لقد وضع ابن سنان حدّا فاصلا بين المصطلحين ، وحصر الفصاحة فى الألفاظ ، والبلاغة فى المعانى والألفاظ ، وأصبحت الفصاحة شطر البلاغة وأحد جزأيها. وهذه التفاتة حسنة ، ولكنه أطلق «الفصاحة» على موضوعات البلاغة وسمى كتابه «سر الفصاحة» ومعنى ذلك أنّها تشمل الألفاظ والمعانى وقد أوضح ذلك بقوله : «وفى البلاغة أقوال كثيرة غير خارجة عن هذا النحو ، وإذا كانت الفصاحة شطرها وأحد جزأيها فكلامى على المقصود ـ وهو الفصاحة ـ غير متميز إلّا فى الموضع الذى يجب بيانه من الفرق بينهما على ما قدمت ذكره ، فأما ما سوى ذلك فعام لا يختص ، وخليط لا ينقسم» (٢)

وابن سنان حينما ينتقل إلى تأليف الكلام يظل مرتبطا بالحديث عن الألفاظ ، لأنّ البلاغة أن توضع الألفاظ موضعها حقيقة أو مجازا ، تقديما أو تأخيرا ، قلبا أو حشوا ، وغير ذلك مما فصّل القول فيه.

عبد القاهر :

ولم يفرّق عبد القاهر (ـ ه) أو (ه) بين المصطلحين ، لأنّهما يعبر بهما عن «فضل بعض القائلين على بعض من حيث نطقوا وتكلموا وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد ، وراموا أن يعلموهم ما فى نفوسهم ، ويكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم» (٣).

والفصاحة والبلاغة والبراعة والبيان تأتى مترادفة عنده ، ومعنى ذلك أنّ الحدود بينها لم تتضح ، وأنّ هذه المصطلحات لم تستعمل وتأخذ معناها الدقيق.

__________________

(١) سر الفصاحة ص ٦٠.

(٢) سر الفصاحة ص ٦١.

(٣) دلائل الإعجاز ص ٣٥.

٥٧

الرازى :

ولم تأخذ لفظة «البلاغة» دلالتها المعروفة عند فخر الدين الرازى (ه) وهى عنده : «بلوغ الرجل بعبارته كنه ما فى قلبه مع الاحتراز عن الاختصار المخل والاطالة المملة» (١) ولكنه ربط الفصاحة والبلاغة بالمعنى ، ونحا منحى عبد القاهر فى فهمها.

ابن الأثير :

وقال ابن الأثير (ـ ه) إنّ الكلام يسمى بليغا لأنه بلغ الأوصاف اللفظية والمعنوية ، والبلاغة شاملة للألفاظ والمعانى وهى أخص من الفصاحة كالإنسان من الحيوان ، وليس كل حيوان إنسانا ، وكذلك يقال : «كل كلام بليغ فصيح ، وليس كل فصيح بليغا». وفرّق بينهما وبين الفصاحة من وجه آخر غير الخاص والعام ، وهى أنّها لا تكون إلّا فى اللفظ والمعنى بشرط التركيب ، فانّ اللفظة المفردة لا تنعت بالبلاغة وتنعت بالفصاحة إذ يوجد فيها الوصف المختص بالفصاحة وهو الحسن ، وأما وصف البلاغة فلا يوجد فيها لخلوها من المعنى المفيد الذى ينتظم كلاما (٢)

السكاكى :

وحينما قسم السكاكى (ـ ه) البلاغة ووضع معالمها فى كتابه «مفتاح العلوم» عرّفها تعريفا دقيقا وقال : «هى بلوغ المتكلم فى تأدية المعانى حدا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها ، وإيراد التشبيه والمجاز والكناية على وجهها» (٣).

وبهذا التعريف أدخل مباحث علم المعانى وعلم البيان ، وأخرج مباحث البديع ، لأنّه وجوه يؤتى بها لتحسين الكلام وهى ليست من مرجعى البلاغة

__________________

(١) نهاية الإيجاز ص ٩.

(٢) المثل السائر ج ١ ص ٦٩.

(٣) مفتاح العلوم ص ١٩٦.

٥٨

وللبلاغة طرفان : أعلى وأسفل متباينان تباينا لا يتراءى لأحد ناراهما وبينهما مراتب متفاوتة تكاد تفوت الحصر ، فمن الأسفل تبتدئ البلاغة ، وهو القدر الذى إذا نقص منه شىء التحق ذلك الكلام بأصوات الحيوانات ثم تأخذ فى التزايد متصاعدة إلى أن تبلغ حد الإعجاز ، وهو الطرف الأعلى وما يقرب منه.

ولم يعرّف الفصاحة واكتفى بتقسيمها إلى قسمين : قسم راجع إلى المعنى ، وقسم راجع إلى اللفظ ، ولم يجعلها لازمة للبلاغة التى حصر مرجعيها فى المعانى والبيان. وقد أشار القزوينى إلى ذلك بقوله : «وجعل الفصاحة غير لازمة للبلاغة ، وحصر مرجع البلاغة فى الفنين ، ولم يجعل الفصاحة مرجعا لشىء منهما» (١). وقال التفتازانى : «لم يجعل البلاغة مستلزمة للفصاحة ، وحصر مرجعها فى المعانى والبيان دون اللغة والصرف والنحو» (٢) ، ورأى أنّ مرجعها إلى هذه العلوم جميعا لا إلى مجرد المعانى والبيان.

ولكن السكاكى ـ مع ذلك كله ـ رأى أنّ البلاغة بمرجعيها والفصاحة بنوعيها «مما يكسو الكلام حلة التزيين ويرقيه أعلى درجات التحسين» (٣) ولذلك نراه حينما حلل بعض الآيات القرآنية اتخذ من مرجعى البلاغة ومن الفصاحة مقياسا لإظهار ما فيها من صور بيانية ومن روعة وتأثير فى النفوس.

القزوينى :

وكان الخطيب القزوينى (ـ ه) آخر من وقف عند البلاغة من المتأخرين وميز بين بلاغة الكلام وبلاغة المتكلم فقال عن الأولى : «وأما بلاغة الكلام فهى مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته» ومقتضى الحال مختلف ومقامات الكلام متفاوتة ، فمقام التنكير يباين مقام التعريف ، ومقام الإطلاق يباين مقام التقييد ، ومقام التقديم يباين مقام التأخير ، ومقام الذكر

__________________

(١) الإيضاح ص ٢٤٩.

(٢) المطول ص ٣.

(٣) مفتاح العلوم ص ٢٠٠.

٥٩

يباين مقام الحذف ، ومقام القصر يباين مقام خلافه ، ومقام الفصل يباين مقام الوصل ، ومقام الإيجاز يباين مقام الإطناب والمساواة ، وكذا خطاب الذكى يباين خطاب الغبى ، وكذا لكل كلمة مع صاحبتها مقام. وتطبيق الكلام على مقتضى الحال هو الذى يسميه عبد القاهر النظم. (١)

وقال عن الثانية : «وأما بلاغة المتكلم فهى ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ» (٢). وقرر أنّ كل بليغ ـ كلاما كان أم متكلما ـ فصيح ، وليس كل فصيح بليغا ، وأنّ البلاغة فى الكلام مرجعها إلى الاحتراز عن الخطأ فى تأدية المعنى المراد ، وإلى تمييز الكلام الفصيح من غيره.

وقسّم البلاغة إلى ثلاثة أقسام ، فكان ما يحترز به عن الخطأ علم المعانى ، وما يحترز به عن التعقيد المعنوى علم البيان ، وما يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال وفصاحته علم البديع. فالبلاغة ـ عنده ـ ثلاثة :

ـ علم المعانى.

ـ علم البيان.

ـ علم البديع.

ولم يخرج البلاغيون المتأخرون عن هذا التعريف والتقسيم ، وأصبح مصطلح البلاغة يضم هذه العلوم الثلاثة.

رأى :

وحينما أطل فجر النهضة الحديثة حاول العرب التجديد فى الدراسات الأدبية ، وكان للبلاغة نصيب منه. ومن أشهر الذين عنوا بذلك المرحوم أمين الخولى الذى أطلق على البلاغة «فن القول» ، وسماه غيره «فن الكتابة» أو «فن التأليف الأدبى» أو «فن الإنشاء» أو «علم الأساليب» أو «فن

__________________

(١) الإيضاح ص ٩ ، والتلخيص ص ٣٣.

(٢) الإيضاح ص ١١.

٦٠