أساليب بلاغية

الدكتور أحمد مطلوب

أساليب بلاغية

المؤلف:

الدكتور أحمد مطلوب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: وكالة المطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٣

بعض أو فيما كان من جنسه ، وإنما يكون الإنكار فيما يدخل بعضه فيما ليس من جنسه وما هو غير لائق به. (١)

ابن وهب :

وفى كتاب «البرهان فى وجوه البيان» (٢) لأبى الحسين إسحاق بن ابراهيم بن سليمان بن وهب الكاتب إشارات إلى جزالة اللفظ وسخافته وركاكته. ولم يحدد معانى هذه المصطلحات واكتفى بالتمثيل وقال : «وأما جزالة اللفظ فكقوله :

وعلى عدوّك يا ابن عمّ محمد

رصدان : ضوء الشمس والإظلام

فاذا تنبه رعته وإذا غفا

سلّت عليه سيوفك الأحلام

وأما سخافة اللفظ وركاكته فمثل قول الآخر :

يا عتب سيدتى أما لك دين

حتى متى قلبى لديك رهين

فأنا الصبور لكل ما حملتنى

وأنا الشقىّ البائس المسكين (٣)

وقال عن الفصيح : «وأما الفصيح من الكلام ، فهو ما وافق لغة العرب ولم يخرج عما عليه أهل الأدب ، ولتصحيح ذلك وضع النحو ، ولجمعه وضعت الكتب فى اللغة ، وذكر المستعمل منها والشاذ والمهمل.

وحق من ينشأ فى العرب أن يستعمل الاقتداء بلغتهم ، ولا يخرج عن جملة ألفاظهم ، ولا يقنع من نفسه بمخالفتهم فيخطئوه ويلحنوه» (٤)

وليس فى هذه الإشارات ما يوضّح رأى صاحب «البرهان» فى الفصاحة كما عرفها الجاحظ ومعاصروه.

__________________

(١) نقد الشعر ، ص ١٩٦.

(٢) هو النص الكامل للكتاب المطبوع باسم «نقد النثر» المنسوب إلى قدامة ابن جعفر.

(٣) البرهان فى وجوه البيان ، ص ١٧٧.

(٤) البرهان ، ص ٢٥٢.

٢١

العسكرى :

وذكر أبو هلال العسكرى (ـ ه) رأيين فى الفصاحة :

الأول : إن الفصاحة والبلاغة ترجعان إلى معنى واحد وإن اختلف أصلاهما ؛ لأنّ كل واحد منهما هو الإبانة عن المعنى والإظهار له. يقول : «فأما الفصاحة فقد قال قوم : إنّها من قولهم : أفصح فلان عما فى نفسه إذا أظهره ، والشاهد على أنّها هى الإظهار قول العرب : أفصح الصبح إذا اضاء. وأفصح اللبن إذا انجلت عنه رغوته فظهر ، وفصح أيضا. وأفصح الأعجمى إذا أبان بعد أن لم يكن يفصح ويبين ، وفصح اللحان إذا عبر عما فى نفسه وأظهره على جهة الصواب دون الخطأ.

وإذا كان الأمر على هذا فالفصاحة والبلاغة ترجعان إلى معنى واحد وإن اختلف أصلاهما» (١).

الثانى : أنهما مختلفان ، وذلك أنّ الفصاحة تمام آلة البيان فهى مقصورة على اللفظ ، لأنّ الآلة تتعلق باللفظ دون المعنى ، والبلاغة إنّما هى إنهاء المعنى إلى القلب فكأنّها مقصورة على المعنى. يقول : «وقال بعض علمائنا : الفصاحة تمام آلة البيان ، فلهذا لا يجوز أن يسمّى الله تعالى فصيحا إذ كانت الفصاحة تتضمن الآلة ، ولا يجوز على الله تعالى الوصف بالآلة ويوصف كلامه بالفصاحة لما يتضمن من تمام البيان. والدليل على ذلك أنّ الألثغ والتمتام لا يسميان فصيحين لنقصان آلتهما عن إقامة الحروف. وقيل : «زياد الأعجم» لنقصان آلة نطقه عن إقامة الحروف ، وكان يعبر عن «الحمار» بالهمار ، فهو أعجم وشعره فصيح لتمام بيانه» (٢).

ووضّح الأمر بقوله : «ومن الدليل على أنّ الفصاحة تتضمن اللفظ والبلاغة تتناول المعنى ، أنّ الببغاء يسمّى فصيحا ولا يسمى بليغا إذ هو مقيم

__________________

(١) كتاب الصناعتين ، ص ٧.

(٢) كتاب الصناعتين ، ص ٧.

٢٢

الحروف وليس له قصد إلى المعنى الذى يؤديه. وقد يجوز مع هذا أن يسمى الكلام الواحد فصيحا بليغا إذا كان واضح المعنى ، سهل اللفظ ، جيد السبك ، غير مستكره فج ولا متكلف وخم ، ولا يمنعه من أحد الاسمين شئ لما فيه من إيضاح المعنى وتقويم الحروف». (١)

وهذا هو رأيه ، أما الرأى الأول فقد عرضه ، لأنّ بعضهم يذهب إلى ذلك. وعقد فصلا فى تمييز الكلام تحدث فيه عن صفات الألفاظ الحسنة ، وانتهى إلى أنّ الكلام إذا جمع العذوبة والجزالة والسهولة والرصانة مع السلاسة والنصاعة ، واشتمل على الرونق والطلاوة ، وسلم من الحيف فى التأليف ، وبعد عن سماجة التركيب ، وورد على الفهم الثاقب ـ قبله ولم يرده ، وعلى السمع المصيب استوعبه ولم يمجه ، والنفس تقبل اللطيف وتنبو عن الغليظ. (٢)

وأعطى الألفاظ أهمية كبيرة ، لأنه ليس الشأن فى إيراد المعانى ، لأنّ المعانى يعرفها العربى والعجمى والقروى والبدوى ، وإنما هو فى جودة اللفظ وصفائه ، وحسنه وبهائه ، ونزاهته ونقائه ، وكثرة طلاوته ومائه مع صحة السبك والتركيب. وليس يطلب من المعنى إلّا أن يكون على هذه الأوصاف ، وهو ما أشار إليه الجاحظ من قبل ، ولكنه جعل التصوير أساس البيان.

ابن سنان :

وعقد ابن سنان الخفاجى (ـ ه) فى كتابه «سر الفصاحة» فصولا ضافية تحدث فيها عن صفات الحروف ومخارجها ، وفصاحة اللفظة المفردة والألفاظ المؤلفة.

__________________

(١) كتاب الصناعتين ، ص ٨.

(٢) كتاب الصناعتين ، ص ٥٧.

٢٣

والفصاحة ـ عنده : «الظهور والبيان» (١) ، والفرق بينها وبين البلاغة» أنّ الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ والبلاغة لا تكون إلّا وصفا للألفاظ مع المعانى. لا يقال فى كلمة واحدة لا تدل على معنى يفضل عن مثلها بليغة وإن قيل فيها فصيحة ، وكل كلام بليغ فصيح ، وليس كل فصيح بليغا» (٢).

ولكى تكون اللفظة الواحدة فصيحة ينبغى أن تتوفر فيها بعض الشروط قال : «إنّ الفصاحة على ما قدمنا نعت للألفاظ إذا وجدت على شروط عدة ومتى تكاملت تلك الشروط فلا مزيد على فصاحة تلك الألفاظ وبحسب الموجود منها تأخذ القسط من الوصف وبوجود أضدادها تستحق الاطّراح والذم. وتلك الشروط تنقسم قسمين :

فالأول منها : يوجد فى اللفظة الواحدة على انفرادها من غير أن ينضم إليها شىء من الألفاظ وتؤلف معه.

والقسم الثانى : «يوجد فى الألفاظ المنظومة بعضها مع بعض» (٣)

فأما الذى يوجد فى اللفظة الواحدة فثمانية أشياء :

الأول : أن يكون تأليف تلك اللفظة من حروف متباعدة المخارج ، وعلة ذلك أنّ الحروف التى هى أصوات تجرى من السمع مجرى الألوان من البصر ، ولا شك فى أنّ الألوان المتباينة إذا جمعت كانت فى المنظر أحسن من الألوان المتقاربة ، ولهذا كان البياض مع السواد أحسن منه مع الصفرة.

ومثال التأليف من الحروف المتباعدة كثير جل كلام العرب عليه ، فأما تأليف الحروف المتقاربة فمثل «الهعخع» ، وقد روى أنّ الخليل بن أحمد الفراهيدى قال : «سمعنا كلمة شنعاء هى «الهعخع» وأنكرنا تأليفها.

__________________

(١) سر الفصاحة ، ص ٥٩.

(٢) سر الفصاحة ، ص ٦٠.

(٣) سر الفصاحة ، ص ٦٥.

٢٤

وقيل : إنّ أعرابيا سئل عن ناقته فقال : تركتها ترعى الهعخع» (١). وقال ابن سنان : «ولحروف الحلق مزية فى القبح إذا كان التأليف منها فقط وأنت تدرك هذا وتستقبحه كما يقبح عندك بعض الأمزجة من الألوان وبعض النغم من الأصوات» (٢).

الثانى : أن يكون لتأليف اللفظة فى السمع حسن ومزية على غيرها وإن تساويا فى التأليف من الحروف المتباعدة كما نجد لبعض النغم والألوان حسنا يتصور فى النفس ويدرك بالبصر والسمع دون غيره مما هو من جنسه. ومثاله فى الحروف «ع. ذ. ب» فان السامع يجد لقولهم «العذيب» ـ اسم موضع و «عذيبة» ـ اسم امرأة ـ و «عذب» و «عذاب» و «عذب» و «عذبات» ما لا يجده فيما يقارب هذه الألفاظ فى التأليف. وليس سبب ذلك بعد الحروف فى المخارج فقط ولكنه تأليف مخصوص مع البعد ، ولو قدّمت الذال أو الباء لم تجد الحسن على الصفة الأولى فى تقديم العين على الذال لضرب من التأليف فى النغم يفسده التقديم والتأخير. وليس يخفى على أحد من السامعين أنّ تسمية الغصن غصنا أو فننا أحسن من تسميته عسلوجا ، وأنّ أغصان البان أحسن من عساليج الشوحط (٣). ومن الكلمات العذبة الجميلة «تفاوح» وقد استعملها المتنبى فقال :

إذا سارت الأحداج فوق نباته

تفاوح مسك الغانيات ورنده (٤)

وهى فى غاية من الحسن ، وقيل : إنّ المتنبى أول من نطق بها على هذا المثال.

__________________

(١) سر الفصاحة ، ص ٥٧.

(٢) سر الفصاحة ، ص ٦٧.

(٣) الشوحط : شجر يتخذ منه القسى.

(٤) الرند : العود ، أو الآس ، أو شجر طيب الرائحة.

٢٥

ومثال ما يكره قول المتنبى :

مبارك الاسم أغرّ اللقب

كريم الجرشّى شريف النسب (١)

فانك تجد فى «الجرشى» تأليفا يكرهه السمع وينبو عنه ، وأين كلمة «النفس» من هذه اللفظة الثقيلة؟

الثالث : أن تكون الكلمة غير متوعرة وحشية كقول أبى تمام :

لقد طلعت فى وجه مصر بوجهه

بلا طائر سعد ولا طائر كهل

فان «كهلا» هنا من غريب اللغة ، وروى أنّ الأصمعى لم يعرف هذه الكلمة وأنّها ليست موجودة إلّا فى شعر بعض الهذليين وهو قوله :

فلو أنّ سلمى جاره أو أجاره

رياح بن سعد ردّه طائر كهل

وقيل : إنّ الكهل الضخم ، وهى لفظة ليست قبيحة التأليف لكنها وحشية غريبة لا يعرفها مثل الأصمعى.

ولهذا اعتمد الحذاق من الشعراء على اختيار أسماء المنازل والنساء فى الغزل وتجنبوا ما لا يحسن لفظه ، وعابوا على جرير قوله :

وتقول بوزع قد دببت على العصا

هلا هزئت بغيرنا يا بوزع

وذكروا أنّ الوليد بن عبد الملك قال له : أفسدت شعرك بـ «بوزع».

وقد قال ابن سنان : «وأنا أكره من قول كثير بن عبد الرحمن صاحب عزة :

وما روضة بالحزن طيبة الثرى

يمجّ الندى جثجاثها وعرارها

ذكر «الجثجاث» لأنه اسم غير مختار ، ولو أمكنه ذكر غيره كان عندى أليق وأوفق. ولا أحب أيضا تسمية أبى تمام صاحبه ـ علاثة ـ ونداءه بالترخيم فى قوله :

__________________

(١) كريم الجرشى : كريم النفس.

٢٦

قف بالطلول الدارسات علاثا

أضحت حبال قطينهن رثاثا

وإن كان الروى قاده إلى ذلك ، فليت شعرى من حظر عليه القوافى واقتصر به على الثاء دون غيرها من الحروف» (١).

الرابع : أن تكون الكلمة غير ساقطة عامية ، ومثال العامية قول أبى تمام :

جليت والموت مبد حرّ صفحته

وقد تفرعن فى أفعاله الأجل

فان «تفرعن» مشتق من اسم «فرعون» وهو من ألفاظ العامة ، وعادتهم أن يقولوا :

«تفرعن فلان» إذا وصفوه بالجبرية.

ومنه قول أبى نصر عبد العزيز بن نباتة :

أقام قوام الدين زيغ قناته

وأنضج كىّ الجرح وهو فطير

فلفظة «فطير» عامية مبتذلة.

ومنه قول أبى تمام :

قد قلت لما لجّ فى صدّه

اعطف على عبدك يا قابرى

فان «قابرى» من ألفاظ عوام النساء.

ومن ذلك لفظة «أو جعتها» فى قول ابن نباتة :

فقد رفعت أبصارها كل بلدة

من الشوق حتى أوجعتها الأخادع

ولفظة «الجورب» فى قول المتنبى :

تستغرق الكفّ فوديه ومنكبه

وتكتسى منه ريح الجورب الخلق

__________________

(١) سر الفصاحة ، ص ٧٦.

٢٧

الخامس : أن تكون الكلمة جارية على العرف العربى الصحيح غير شاذّة. ويدخل فى هذا القسم ما ينكره أهل اللغة ويردّه علماء النحو من التصرف الفاسد فى الكلمة ، وقد يكون ذلك لأجل أنّ اللفظة بعينها غير عربية كما أنكروا على أبى الشيص قوله :

وجناح مقصوص تحيّف ريشه

ريب الزمان تحيّف المقراض

وقالوا : ليس «المقراض» من كلام العرب ، ولم يسمع عنهم إلا مثنى.

وقد تكون الكلمة عربية إلا أنّها قد عبّر بها عن غير ما وضعت له فى عرف اللغة ، كما قال البحترى :

يشق عليه الريح كلّ عشية

جيوب الغمام بين بكر وأيّم

فوضع «الأيم» مكان «الثيب» وليس الأمر كذلك ، وإنّما «الأيم» التى لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا. ومن ذلك قول البحترى :

شرطى الإنصاف إن قيل اشترط

وصديقى من إذا صافى قسط

وأراد بـ «قسط» عدل ، لأنّ الأمر عليه ، وليس الأمر كذلك وإنّما يقال «أقسط» إذا عدل ، و «قسط» إذا جار ، ومنه قوله تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)(١)

وقد يكون على جهة الحذف من الكلمة كقول رؤبة بن العجاج :

قواطنا مكة من ورق الحما

يريد : الحمام

وقد يكون على وجه الزيادة فى الكلمة مثل أن تشبع الحركة فيها فتصير حرفا ، كما قال الشاعر :

وأنت على الغواية حين ترمى

وعن عيب الرجال بمنتزاح

أى : بمنتزح.

__________________

(١) الجن ١٥.

٢٨

وقد يكون إيراد الكلمة على وجه الشاذ القليل ، كلفظة «باهت» التى جاءت رديئة شاذة فى قول البحترى :

متحيرين فباهت متعجب

مما يرى أو ناظر متأمّل

والعربى المستعمل «بهت الرجل يبهت فهو مبهوت».

ويدخل فى هذا القسم ما يسمى الضرورة الشعرية من إظهار التضعيف ، أو مدّ المقصور ، أو قصر الممدود ، أو تأنيث المذكر على بعض التأويل ، أو صرف ما لا ينصرف ، وغير ذلك.

السادس : أن لا تكون الكلمة قد عبّر بها عن أمر آخر يكره ذكره ، فاذا أوردت وهى غير مقصود بها ذلك المعنى قبحت وإن كملت فيها الصفات كقول الشريف الرضى :

أعزز علىّ بأن أراك وقد خلت

من جانبيك مقاعد العوّاد

فايراد «مقاعد» فى هذا البيت صحيح ، إلّا أنّه موافق لما يكره ذكره فى مثل هذا الشأن ، لا سيما إضافته إلى من يحتمل إضافته إليهم وهم «العواد» ، ولو انفرد لكان الأمر فيه سهلا فأما إضافته إلى ما ذكره ففيها قبح لاخفاء به.

السابع : أن تكون الكلمة معتدلة غير كثيرة الحروف فانها متى زادت على الأمثلة المعتادة المعروفة قبحت وخرجت عن وجه من وجوه الفصاحة.

ومن ذلك قول أبى نصر بن نباتة :

فاياكم أن تكشفوا عن رؤوسكم

ألا إنّ مغناطيسهن الذوائب

ف «مغناطيسهن» كلمة غير مرضية لطولها.

ومنه قول أبى تمام :

فلأذربيجان اختيال بعد ما

كانت معرّس عبرة ونكال

سمجت ونبهنا على استسماجها

ما حولها من نضرة وجمال

٢٩

فقوله «فلأذربيجان» كلمة رديئة لطولها وكثرة حروفها وهى غير عربية ، وكذلك قوله «استسماجها» ردئ لكثرة الحروف وخروج الكلمة بذلك عن المعتاد فى الألفاظ إلى الشاذ النادر.

ومنه قول المتنبى :

إنّ الكريم بلا كرام منهم

مثل القلوب بلا سويداواتها (١)

ف «سويداواتها» كلمة طويلة جدا.

الثامن : أن تكون الكلمة مصغرة فى موضع عبر بها فيه عن شىء لطيف أو خفى أو قليل أو ما يجرى مجرى ذلك ، فانها تحسن به. ومن ذلك قول عمر بن أبى ربيعة :

وغاب قمير كنت أرجو طلوعه

وروّح رعيان ونوّم سمّر

وهذا تصغير مختار فى موضعه ، فأما الأسماء التى لم ينطق بها إلّا مصغرة كاللجين والثريا فليس للتصغير فيهما حسن يذكر ، لأنّه غير مقصود بهما ما ذهب إليه ابن سنان.

ومعظم هذه الشروط تدخل فى فصاحة الألفاظ المؤلفة ، والإخلال بها قد يؤدى إلى زيادة القبح والتنافر فى الكلام ، لأنّه حين تكون الألفاظ مجتمعة تحتاج إلى دقة فى التركيب واختيار اللطيف منها. يقول ابن سنان متحدثا عن الشرط الأول : «إنّ الأول منها أن يكون تأليف اللفظة من حروف متباعدة المخارج ، وهذا بعينه فى التأليف وبيانه أن يجتنب الناظم تكرر الحروف المتقاربة فى تأليف الكلام كما أمرناه بتجنب ذلك فى اللفظة الواحدة ، بل هذا فى التأليف أقبح ، وذلك أنّ اللفظة المفردة لا يستمر فيها من تكرار الحرف الواحد أو تقارب الحرف مثلما يستمر فى الكلام المؤلف إذا طال واتسع» (٢).

__________________

(١) سويداء القلب : حبته ، وجمعها سويداوات.

(٢) سر الفصاحة ، ص ١٠٧.

٣٠

ومما قبح قول أبى تمام :

فالمجد لا يرضى بأن ترضى بأن

يرضى المؤمل منك إلّا بالرضى

ومنه قول الآخر :

وقبر حرب بمكان قفر

وليس قرب قبر حرب قبر

ومنه قول المتنبى :

وتسعدنى فى غمرة بعد غمرة

سبوح لها منها عليها شواهد

وأما الثانى من شروط اللفظة المفردة فيكون فى التأليف إذا ترادفت الكلمات المختارة فيوجد الحسن فيها أكثر وتزيد طلاوته على ما لا يجمع من تلك الكلمات إلا القليل ، وهذا يرجع إلى اللفظة بانفرادها وليس للتأليف فيه إلّا ما أثاره التواتر والترادف. وكذلك الثالث والرابع من الأقسام لا علقة للتأليف بهما ، وإنّما يقبح إذا كثر فيه الكلام الوحشى أو العامى.

وأما الخامس فللتأليف به علقة وكيدة ، لأنّ إعراب اللفظة تبع لتأليفها من الكلام وعلى حكم الموضع الذى وردت فيه.

وأما السادس فللتأليف فيه تعلق بحسب إضافة الكلمة إلى غيرها ، فانّ القبح يختلف بحسب ذلك.

وأما السابع فلا علقة للتأليف به ، إلّا أنّ ظهور قبحه أجلى إذا ترادفت فيه الكلمات الطوال.

وأما الثامن فلا علقة للتأليف به إذ كان لا يتعدى الكلمة بانفرادها.

ودراسة ابن سنان للفصاحة من أخصب الدراسات ، ولا يكاد المتأخرون يخرجون عنها فى كل ما ألفوا أو اختصروا أو شرحوا.

عبد القاهر :

وكانت الفصاحة والبلاغة والبراعة والبيان ألفاظا مترادفة عند عبد القاهر الجرجانى (ـ ه أو ه) ، وكلها يعبر بها عن «فضل بعض القائلين

٣١

على بعض من حيث نطقوا وتكلموا وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد وراموا أن يعلموهم ما فى نفوسهم ، ويكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم» (١)

والألفاظ عنده خدم للمعانى وأوعية تتبعها فى حسنها وجمالها أو قبحها ورداءتها ، يقول : «ولن تجد أيمن طائرا ، وأحسن أولا وآخرا ، وأهدى إلى الاحسان ، وأجلب للاستحسان من أن ترسل المعانى على سجيتها وتدعها تطلب لأنفسها الألفاظ ، فانها إذا تركت وما تريد لم تكتس إلّا ما يليق بها ولم تلبس من المعارض إلّا ما يزينها. فأما أن تضع فى نفسك أن لا بدّ من أن تجنس أو تسجع بلفظين مخصوصين فهو الذى أنت بعرض الاستكراه وعلى خطر من الخطأ والوقوع فى الذم. فان ساعدك الجد كما ساعد فى قوله :

أو دعانى أمت بما أودعانى

وكما ساعد أبا تمام فى نحو قوله :

وأنجدتم من بعد إتهام داركم

فيا دمع أنجدنى على ساكنى نجد

وقوله :

هنّ الحمام فان كسرت عيافة

من حائهن فانهنّ حمام

فذاك وإلا أطلقت ألسنة العيب» (٢).

إنّ الفصاحة تكون فى المعنى وليس للكلمة المفردة كبير قيمة ، وكثيرا ما تستعمل اللفظة فى موضع فتكون حلوة الجرس عذبة ، وتستعمل فى موضع آخر فتفقد تلك المزية ، وإنما كان ذلك «لأنّ المزية التى من أجلها نصف اللفظ فى شأننا هذا بأنه فصيح مزية تحدث بعد أن لا تكون وتظهر فى العلم من بعد أن يدخلها النظم. وهذا شىء إن أنت طلبته فيها وقد جئت بها إفرادا

__________________

(١) دلائل الإعجاز ، ص ٣٥.

(٢) أسرار البلاغة ، ص ١٩ ، وينظر دلائل الإعجاز ، ٤٠١.

٣٢

لم ترم فيها نظما ولم تحدث لها تأليفا طلبت محالا. وإذا كان كذلك وجب أن تعلم قطعا أنّ تلك المزية فى المعنى دون اللفظ» (١).

فالألفاظ عند عبد القاهر لا تتفاضل من حيث هى ألفاظ مجردة ، ولا من حيث هى كلم مفردة ، وإنما تثبت لها الفضيلة وخلافها فى ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التى تليها وما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ. ومما يشهد لذلك أنّك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك فى موضع ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك فى موضع آخر كلفظ «الأخدع» فى بيت الحماسة :

تلفتّ نحو الحى حتى وجدتنى

وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا (٢)

وبيت البحترى :

وإنى وإن بلّغتنى شرف الغنى

وأعتقت من رقّ المطامع أخدعى

فان لها فى هذين البيتين ما لا يخفى من الحسن ، ثم إنك تتأملها فى بيت أبى تمام :

يا دهر قوّم من أخدعيك فقد

أضججت هذا الأنام من خرقك

فتجد لها من الثقل على النفس ومن التنغيص والتكدير أضعاف ما وجدت هناك من الروح والخفة والإيناس والبهجة.

ومن أعجب ذلك لفظة «الشىء» فانك تراها مقبولة حسنة فى موضع وضعيفة مستكرهة فى موضع آخر ، وإن أردت أن تعرف ذلك فانظر إلى قول عمر بن أبى ربيعة :

ومن مالىء عينيه من شىء غيره

إذا راح نحو الجمرة البيض كالدّمى

وإلى قول أبى حية النميرى :

إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة

تقاضاه شىء لا يملّ التقاضيا

_________________

(١) دلائل الإعجاز ، ص ٣٠٧.

(٢) الأخدعان : عرقان فى جانبى العنق قد خفيا وبطنا ، والليت : صفحة العنق.

٣٣

فانك تعرف حسنها ومكانها من القبول ، ثم انظر فى بيت المتنبى :

لو الفلك الدوّار أبغضت سعيه

لعوّقه شىء عن الدوران

فانك تراها تقل وتضؤل بحسب نبلها وحسنها فيما تقدم.

ومن سر هذا الباب أنّك ترى اللفظة المستعارة قد استعيرت فى عدة مواضع ثم ترى لها فى بعض ذلك ملاحة لا تجدها فى الباقى ، مثال ذلك أنك تنظر إلى لفظة «الجسر» فى قول أبى تمام :

لا يطمع المرء أن يجتاب لجّته

بالقول ما لم يكن جسرا له العمل

وقوله :

بصرت بالراحة العظمى فلم ترها

تنال إلا على جسر من التّعب

فترى لها فى الثانى حسنا لا تراه فى الأول ، ثم تنظر إليها فى قول ربيعة الرقى :

قولى : نعم ، ونعم إن قلت واجبة

قالت : عسى وعسى جسر إلى نعم

ترى لها لطفا وخلابة وحسنا ليس الفضل فيه بقليل.

وينتهى عبد القاهر إلى أنّ الكلمة لو كانت إذا حسنت من حيث هى لفظ واذا استحقت المزية والشرف ، استحقت ذلك فى ذاتها وعلى انفرادها دون أن يكون السبب فى ذلك حال لها مع أخواتها المجاورة لها فى النظم لما اختلفت بها الحال ولكانت إما أن تحسن أبدا أو لا تحسن أبدا (١).

ولعل الغرض الدينى كان دافعا إلى هذا الرأى ، لأن كلمات القرآن الكريم عربية نطق بها الشعراء والخطباء وتداولها الناس ، وليس لها مزية وهى مفردة لا يضمها سلك يوحد بينها ويجمع متفرقها ، ولكى يظهر عبد القاهر

__________________

(١) دلائل الإعجاز ، ص ٣٨ ، ٦٢.

٣٤

إعجاز القرآن ويردّ ما كان يشيع فى البيئات المختلفة اتجه إلى نظرية النظم ليسد بها المسالك ويفند آراء المختلفين ويوقف طعنات الحاقدين.

ولم يقف عند الاهتمام بالنظم وإنما اهتم بالتصوير الأدبى الذى لا يكون إلا بترتيب الألفاظ والتأليف بينها ، يقول : «ومعلوم أنّ سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة ، وأنّ سبيل المعنى الذى يعبر عنه سبيل الشىء الذى يقع التصوير والصوغ فيه كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار ، فكما أنّ محالا إذا أنت أردت النظر فى صوغ الخاتم وفى جودة العمل ورداءته أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذى وقع فيه العمل وتلك الصنعة ، كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية فى الكلام أن تنظر فى مجرد معناه. وكما أنا لو فضلنا خاتما على خاتم بأن تكون فضة هذا أجود أو فضة ذاك أنفس لم يكن ذلك تفضيلا له من حيث هو خاتم ، كذلك ينبغى إذا فضلنا بيتا على بيت من أجل معناه أن لا يكون تفضيلا له من حيث هو شعر وكلام» (١).

فعبد القاهر يرى أنّ للتصوير الأدبى قيمة كبيرة ، ولذلك أطال الكلام فى «أسرار البلاغة» على الوسائل التى تجعل الصورة حسنة مقبولة ، وفصل القول فى نظرية النظم ، وذهب إلى أبعد من ذلك ورأى أنّ فى الاستعارة ما لا يمكن بيانه إلّا بعد العلم بالنظم والوقوف على حقيقته. يقول متحدثا عن الاستعارة فى بيت الشاعر :

سالت عليه شعاب الحىّ حين دعا

أنصاره بوجوه كالدنانير

«فانك ترى هذه الاستعارة على لطفها وغرابتها إنمّا تم لها الحسن وانتهى إلى حيث انتهى بما توخّى فى وضع الكلام من التقديم والتأخير ، وتجدها قد ملحت ولطفت بمعاونة تلك ومؤازرته لها. وإن شككت فاعمد إلى الجارين والظرف فأزل كلّا منها عن مكانه الذى وضعه الشاعر فيه فقل : «طالت

__________________

(١) دلائل الإعجاز ، ص ١٩٦.

٣٥

شعاب الحى بوجوه كالدنانير عليه حين دعا أنصاره» ثم انظر كيف يكون الحال وكيف يذهب الحسن والحلاوة وكيف تعدم أريحيتك التى كانت وكيف تذهب النشوة التى كنت تجدها» (١).

إنّ الفصاحة عنده لا تكون إلّا بتوخى معانى النحو ، أى النظم ، والألفاظ لا تفيد حتى تؤلف ضربا خاصا من التأليف ويعمد بها إلى وجه فى التركيب.

فلو أنّك عمدت إلى بيت شعر أو فصل نثر فعددت كلماته حدّا كيف جاء واتفق وأبطلت نضده ونظامه الذى عليه بنى وفيه أفرغ المعنى وأجرى ، وغيرت ترتيبه الذى بخصوصيته أفاد كما أفاد ، وبنسقه المخصوص أبان المراد نحو أن تقول فى «قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل» : «منزل قفا ذكرى من نبك حبيب» أخرجته من كمال البيان إلى محال الهذيان ، وأسقطت نسبته من صاحبه ، وقطعت الرحم بينه وبين منشئه ، بل أحلت أن يكون له إضافة إلى قائل ونسب يخص بمتكلم (٢).

وانتهى إلى الحكم بالخطأ على من قصر الفصاحة على الكلمات من حيث هى ألفاظ منطوقة وأصوات مسموعة ، والأديب لا يطلب اللفظ بحال ، وإنّما يطلب المعنى فاذا ظفر به فاللفظ معه وإزاء ناظره ، ولذلك لم تكن الفصاحة عنده من صفات المفردات من غير اعتبار التركيب.

إنّ عبد القاهر ربط بين الفصاحة والنظم ولذلك لم يطل الكلام على شروط الفصاحة كما فعل معاصره ابن سنان الخفاجى ، ولكنه مع ذلك لا ينكرها كل الإنكار ، ونراه يقول فى خاتمة كتابه «دلائل الإعجاز» : «واعلم أنّا لا نأبى أن تكون مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان داخلا فيما يوجب الفضيلة ، وأن تكون مما يؤكد أمر الإعجاز ، وإنما الذى ننكره ونفيل رأى من يذهب إليه أن يجعله معجزا به وحده ويجعله الأصل

__________________

(١) دلائل الإعجاز ، ص ٧٨.

(٢) أسرار البلاغة ، ص ٨.

٣٦

والعمدة فيخرج إلى ما ذكرنا من شناعات (١)» ، فهو لم ينكر فصاحة الألفاظ ونغمها ولكنه لم يرد أن يفسر الإعجاز بها ، ولذلك لم يدرسها كما فعل الآخرون ولم يعن بها عناية تظهر ميزتها وتأثيرها فى الكلام (٢).

الرازى :

عرّف فخر الدين الرازى (ـ ه الفصاحة) بأنها «خلوص الكلام من التعقيد (٣)» وهى ـ عنده ـ تتصل بالمعنى ، لأنّ الإفادة اللفظية يستحيل تطرق الكمال والنقصان إليها ، فان السامع للفظ إما أن يكون عالما بكونه موضوعا لمسماه أو لا يكون. فان كان عالما به عرف مفهومه بتمامه ، وإن لم يكن عالما به لم يعرف منه شيئا أصلا.

وحصر البحوث المتعلقة بالدلالة اللفظية فى أمرين :

الاول : أنّ الفصاحة والبلاغة لا يجوز عودهما إلى الدلالة اللفظية.

الثانى : أنّ الفصاحة وإن كانت غير عائدة إلى الدلالة اللفظية ، لكن من الأمور العائدة إلى جوهر اللفظ وإلى دلالته الوضعية ما يفيد الكلام كمالا وزينة وجمالا (٤).

وهذه فكرة عبد القاهر التى بنى عليها نظريته فى النظم ، ويرى بهاء الدين السبكى أنّ الرازى يميل إلى أنّ الفصاحة راجعة إلى الألفاظ والمعانى (٥).

__________________

(١) دلائل الإعجاز ، ص ٤٠١.

(٢) ينظر الفصل الثالث «اللفظ والمعنى» فى كتابنا «عبد القاهر الجرجانى ـ بلاغته ونقده» ص ـ.

(٣) نهاية الإيجاز ، ص ٩.

(٤) نهاية الإيجاز ، ص ١١.

(٥) عروس الأفراح ـ شروح التلخيص ، ج ١ ص ١٣٥.

٣٧

ابن الأثير :

وكان ضياء الدين ابن الأثير (ـ ه) أوضح من السابقين تصورا وفهما للفصاحة ، وقد اهتم بها اهتماما عظيما وصحّح كثيرا من الآراء فى كتابيه «المثل السائر فى أدب الكاتب والشاعر» و «الجامع الكبير». يقول عن الفصاحة : «اعلم أنّ هذا باب متعذر على الوالج ومسلك متوعر على الناهج ، ولم يزل العلماء من قديم الوقت وحديثه يكثرون القول فيه والبحث عنه ، ولم أجد من ذلك ما يعول عليه إلّا القليل. وغاية ما يقال فى هذا الباب أنّ الفصاحة هى الظهور والبيان فى أصل الوضع اللغوى ، يقال : أفصح الصبح إذا ظهر. ثم إنهم يقفون عند ذلك ولا يكشفون عن السر فيه» (١).

ولا تتبين الفصاحة بهذا القول لأنّه يعترض عليه بوجوه من الاعتراضات :

الأول : أنه إذا لم يكن اللفظ ظاهرا بينا لم يكن فصيحا ، ثم إذا ظهر وتبين صار فصيحا.

الثانى : أنه إذا كان اللفظ الفصيح هو الظاهر البين فقد صار ذلك بالنسب والإضافات إلى الأشخاص ، فان اللفظ قد يكون ظاهرا لزيد ولا يكون ظاهرا لعمرو ، فهو إذن فصيح عند هذا وغير فصيح عند ذاك. وليس كذلك ، بل الفصيح هو فصيح عند الجميع لا خلاف فيه بحال من الأحوال لأنّه إذا تحقق حد الفصاحة وعرف ما هى لم يبق فى اللفظ الذى يختص به خلاف.

الثالث : أنه إذا جىء بلفظ قبيح ينبو عنه السمع وهو مع ذلك ظاهر بين ينبغى أن يكون فصيحا ، وليس كذلك لأنّ الفصاحة وصف حسن اللفظ لا وصف قبح.

فهذه الاعتراضات الثلاثة واردة على قول القائل : «إنّ اللفظ الفصيح هو الظاهر البين» ، ومعنى ذلك أنّ ابن الأثير لا يأخذ بهذا القول الذى أثار حيرته فمضى يبحث عن تعريف للفصاحة ، ويحقق القول فيها. وقد شرح

__________________

(١) المثل السائر ، ج ١ ص ٦٤.

٣٨

المسألة بوضوح فقال إنّ المقصود بـ «أنّ الكلام الفصيح هو الظاهر البين» أن تكون ألفاظه مفهومة لا يحتاج فهمها إلى استخراج من كتاب لغة ، وإنمّا كانت بهذه الصفة ؛ لأنّها تكون مألوفة الاستعمال بين أرباب النظم والنثر دائرة فى كلامهم ، وإنّما كانت مألوفة الاستعمال دائرة فى الكلام دون غيرها من الألفاظ لمكان حسنها ، وذلك أنّ أرباب النظم والنثر غربلوا اللغة باعتبار ألفاظها وسبروا وقسموا فاختاروا الحسن من الألفاظ فاستعملوه ونفوا القبيح منها فلم يستعملوه ، فحسن الألفاظ سبب استعمالها دون غيرها واستعمالها دون غيرها سبب ظهورها وبيانها ، فالفصيح من الألفاظ هو الحسن.

فان قيل : من أى وجه علم أرباب النظم والنثر الحسن من الألفاظ حتى استعملوه ، وعلموا القبيح منها حتى نفوه ولم يستعملوه؟

قيل لهم : إنّ هذا من الأمور المحسوسة التى شاهدها فى نفسها ، لأنّ الألفاظ داخلة فى حيز الأصوات ، فالذى يستلذه السمع منها ويميل إليه هو الحسن ، والذى يكرهه وينفر عنه هو القبيح. ألا ترى أنّ السمع يستلذ صوت البلبل من الطير وصوت الشحرور ويميل إليهما ، ويكره صوت الغراب وينفر عنه ، وكذلك يكره نهيق الحمار ولا يجد ذلك فى صهيل الفرس فالألفاظ جارية هذا المجرى فانه لا خلاف فى أنّ لفظة «المزنة» و «الديمة» حسنة يستلذها السمع ، وأنّ لفظة «البعاق» قبيحة يكرهها السمع. وهذه اللفظات الثلاث من صفة ، وهى تدل على معنى واحد ، ومع هذا فانك ترى لفظتى «المزنة» و «الديمة» وما جرى مجراهما مألوفة الاستعمال ، وترى لفظ «البعاق» وما جرى مجراه متروكا لا يستعمل ، وإن استعمل فانما يستعمله جاهل بحقيقة الفصاحة أو من ذوقه غير سليم.

لقد ثبت أنّ الفصيح من الألفاظ هو «الظاهر البين» ، وإنّما كان ظاهرا بينا ؛ لأنّه مألوف الاستعمال ، وإنّما كان مألوف الاستعمال لمكان حسنه ، وحسنه مدرك بالسمع ، والذى يدرك بالسمع إنما هو اللفظ لأنه صوت يأتلف عن مخارج الحروف ، فما استلذه السمع منه فهو الحسن وما كرهه فهو القبيح ، والحسن هو الموصوف بالفصاحة والقبيح غير

٣٩

موصوف بفصاحة لأنّه ضدها لمكان قبحه. ولو كانت الفصاحة لأمر يرجع إلى المعنى لكانت هذه الألفاظ فى الدلالة عليه سواء ليس منها حسن ومنها قبيح ، ولما لم يكن كذلك علم أنّها تخص اللفظ دون المعنى. وابن الأثير لم يفصل بين اللفظ والمعنى فى هذا القول وإنّما خصّ اللفظ بصفة هى له ، والمعنى يجىء فيه ضمنا وتبعا.

وأشار إلى الفصاحة عند المتقدمين فقال : «وقد ذكر من تقدّمنى من علماء البيان للألفاظ المفردة خصائص وهيآت تتصف بها ، واختلفوا فى ذلك ، واستحسن أحدهم شيئا فخولف فيه وكذلك استقبح الآخر شيئا فخولف فيه ، ولو حققوا النظر ووقفوا على السر فى اتصاف بعض الألفاظ بالحسن وبعضها بالقبح لما كان بينهم خلاف فى شىء منها» (١).

وردّ رأى من ذهب إلى أنّ كل الألفاظ حسن وقال : «ومن يبلغ جهله إلى أن لا يفرق بين لفظة «الغصن» ولفظة «العسلوج» ، وبين لفظة «المدامة» ولفظة «الاسفنط» وبين لفظة «السيف» ولفظة «الخنشليل» ، وبين لفظة «الأسد» ولفظة «الفدوكس» ، فلا ينبغى أن يخاطب بخطاب ولا يجاوب بجواب ، بل يترك وشأنه كما قيل : «اتركوا الجاهل بجهله ولو ألقى الجعر (٢) فى رحله». وما مثاله فى هذا المقام إلّا كمن يسوّى بين صورة زنجية سوداء شوهاء الخلق ذات عين محمرة وشفة غليظة كأنها كلوة وشعر قطط (٣) كأنه زبيبة ، وبين صورة رومية بيضاء مشربة بحمرة ذات خد أسيل وطرف كحيل ، ومبسم كأنما نظم من أقاح ، وطرة كأنها ليل على صباح. فاذا كان بانسان من سقم النظر أن يسوّى بين هذه الصورة وهذه فلا يبعد أن يكون به من سقم النظر أن يسوى بين هذه الألفاظ وهذه. ولا فرق بين النظر والسمع فى هذا المقام فان هذا حاسة وهذا حاسة ، وقياس حاسة على حاسة مناسب».

__________________

(١) المثل السائر ، ج ١ ص ١٤٨.

(٢) الجعر : ما يبس من العذرة فى المجعر أى الدبر ، أو نحو كل ذات مخلب من السباع.

(٣) الشعر القطط : القصير الجعد.

٤٠