أساليب بلاغية

الدكتور أحمد مطلوب

أساليب بلاغية

المؤلف:

الدكتور أحمد مطلوب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: وكالة المطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٣

فيه التأويل فواجب أن لا يعمل عليه وأن يوقف عنده» (١). وهذا ما ذهب إليه ابن سنان من قبل ، بل إنّ حازم القرطاجنى ذكر أمثلته وتعليقه عليها.

الثانى : قبوله مطلقا ، وكان القاضى الجرجانى قد وقف عند قول المتنبى :

وعذلت أهل العشق حتى ذقته

فعجبت كيف يموت من لا يعشق

وذكر أنّ بعض من يحتج عن المتنبى أخرجه مخرج القلب ، وهو كثير يقبله مطلقا أو يرفضه مطلقا (٢). ولعل السكاكى كان أوضح البلاغيين وأصرحهم فى هذه المسألة فقبل القلب مطلقا وقال : «إنّ هذا النمط مسمى فيما بيننا بالقلب ، وهى شعبة من الإخراج لا على مقتضى الظاهر ، ولها شيوع فى التراكيب ، وهى مما يورث الكلام ملاحة ولا يشجع عليها إلّا كمال البلاغة تأتى فى الكلام وفى الأشعار» (٣).

ومثل له بقول القطامى :

فلّما أن جرى سمن عليها

كما طينّت بالفدن السياعا (٤)

أراد : كما طينت الفدن بالسياع. ولم ير السبكى فى هذا القلب معنى لطيفا (٥). وأدخل السكاكى فى القلب قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا)(٦) أى : جاءها بأسنا فأهلكناها. وقوله تعالى : (ثُمَّ دَنا

__________________

(١) منهاج البلغاء ص ١٨٤ ، وتنظر ص ٣٩١ ، والبرهان فى علوم القرآن ج ٣ ص ٢٨٨.

(٢) ينظر الوساطة ص ٤٦٩.

(٣) مفتاح العلوم ص ١٠١.

(٤) الفدن : القصر المشيد. السياع : الطين بالتبن.

(٥) عروس الأفراح ـ شروح التلخيص ج ١ ص ٤٩٠.

(٦) الأعراف ٤.

٢٦١

فَتَدَلَّى)(١) أى : تدلّى فدنا. وقوله (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ)(٢) على ما يحمل من «ألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ، ثم تولّ عنهم».

ونفى الخطيب القزوينى أن يكون فى هذه الآيات قلب ، إذ ليس فى تقديره اعتبار لطيف أو نكتة. ويرى أنّ الأصل فى الآية الأولى : «أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا أى إهلاكنا».

والأصل فى الآية الثانية : «ثم أراد الدنو من محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فتدلى فتعلق عليه فى الهواء».

والأصل فى الآية الثالثة : «تنحّ عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه ليكون ما يقولونه بمسمع منك فانظر ماذا يرجعون ، فيقال : إنّه دخل من كوّة فألقى الكتاب إليها وتوارى فى الكوة» (٣).

الثالث : قبوله إذا تضمن اعتبارا لطيفا ، وإلّا فلا يقبل ، ولذلك قال ابن الضائع : «يجوز القلب على التأويل ثم قد يقرب التأويل فيصح فى فصيح الكلام ، وقد يبعد فيختص بالشعر» (٤).

وإلى ذلك ذهب الخطيب القزوينى فقال : «والحق أنّه إن تضمّن اعتبارا لطيفا قبل وإلّا رد» (٥) ، كقول رؤبة :

ومهمه مغبرة أرجاؤه

كأنّ لون أرضه سماؤه

أى : كأنّ لون سمائه لغبرتها لون أرضه ، فعكس التشبيه للمبالغة. وسار على مذهبه شرّاح تلخيصه فى قبول أسلوب القلب أو ردّه.

__________________

(١) النجم ٨.

(٢) النمل ٢٨.

(٣) الايضاح ص ٧٩.

(٤) البرهان فى علوم القرآن ج ٣ ص ٢٨٨.

(٥) الابضاح ص ٧٧.

٢٦٢

وللقلب أقسام تحدث عنها الزركشى وهى (١) :

الأول : قلب الإسناد ، وهو أن يشمل الإسناد إلى شىء والمراد غيره ، كقوله تعالى : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ)(٢) إن لم تجعل الباء للتعدية لأن ظاهره أن المفاتح تنوء بالعصبة ، ومعناه أن العصبة تنوء بالمفاتح لثقلها فأسند «لتنوء» إلى «المفاتح» والمراد إسناده إلى العصبة ، لأنّ الباء للحال والعصبة مستصحبة المفاتح لا تستصحبها المفاتح ، وفائدته المبالغة بجعل المفاتح كأنها مستتبعة للعصبة القوية بثقلها.

وقيل : لا قلب فيه ، والمراد : أن المفاتح تنوء بالعصبة أى تميلها من ثقلها.

وقيل فى قوله تعالى : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)(٣) إنّه من المقلوب وإنّه «سكرة الحق بالموت».

الثانى : قلب المعطوف ، وهو جعل المعطوف عليه معطوفا والمعطوف معطوفا عليه كقوله تعالى : (فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ)(٤) حقيقته : فانظر ماذا يرجعون ثم تولّ عنهم ، لأنّ نظره ما يرجعون من القول غير متأتّ مع توليه عنهم ، وما يفسر به التولى من أنّه يتوارى فى الكوة التى ألقى منها الكتاب مجاز ، والحقيقة راجحة عليه.

ومنه قوله : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى)(٥) أى : تدلى فدنا ، لأنّه بالتدلى نال الدنو والقرب إلى المنزلة الرفيعة وإلى المكانة لا إلى المكان.

ورأى ابن سنان والقزوينى أنّ الآيتين لم تأتيا على القلب وإنّما على الأسلوب الأصلى وذلك لعدم تضمن القلب فيهما اعتبارا لطيفا.

__________________

(١) البرهان فى علوم القرآن ج ٣ ص ٢٨٨ وما بعدها.

(٢) القصص ٧٦.

(٣) ق ١٩.

(٤) النمل ٢٨.

(٥) النجم ٨.

٢٦٣

الثالث : العكس ، وهو أمر لفظى ، كقوله تعالى : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ)(١). وقوله : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ)(٢) ، وقوله : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ)(٣).

الرابع : المستوى ، وهو أنّ الكلمة أو الكلمات تقرأ من أولها إلى آخرها ومن آخرها إلى أولها لا يختلف لفظها ولا معناها ، كقوله تعالى : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)(٤) وقوله : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ)(٥).

الخامس : مقلوب البعض ، وهو أن تكون الكلمة الثانية مركبة من حروف الكلمة الأولى مع بقاء بعض حروف الكلمة الأولى ، كقوله تعالى : (فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ)(٦) ، فـ «بنى» مركب من حروف «بين» وهو مفرق ، إلّا أن الباقى بعضها فى الكلمتين وهو أولها.

ولعل مذهب الخطيب القزوينى أقرب المذاهب فى القلب حينما قال : «وردّه مطلقاقوم ، وقبله مطلقا قوم منهم السكاكى. والحق أنّه اذا تضمن اعتبارا لطيفا قبل ، وإلّا ردّ» (٧).

الأسلوب الحكيم :

وقد سماه عبد القاهر الجرجانى «المغالطة» (٨) وسماه السكاكى «أسلوب الحكيم» وقال عنه : «ولهذا النوع ـ أعنى إخراج الكلام لا على مقتضى

__________________

(١) الأنعام ٥٢.

(٢) البقرة ١٨٧.

(٣) الممتحنة ١٠.

(٤) المدثر ٣.

(٥) الأنبياء ٣٣.

(٦) طه ٩٤.

(٧) الايضاح ص ٧٧.

(٨) ينظر الايضاح ص ٧٦ ، وعروس الأفراح ـ شروح التلخيص ج ١ ص ٤٧٩.

٢٦٤

الظاهر ـ أساليب متفننة إذ ما من مقتضى ظاهرى إلّا ولهذا النوع مدخل فيه بجهة من جهات البلاغة على ما ننبه على ذلك منذ اعتنينا بشأن هذه الصناعة ونرشد إليه تارة بالتصريح وتارة بالفحوى ، ولكل من تلك الأساليب عرق فى البلاغة يتشرب من أفانين سحرها ، ولا كالأسلوب الحكيم فيها» (١).

وللأسلوب الحكيم قسمان :

الأول : تلقى المخاطب ـ بالكسر ـ بغير ما يترقب ، وذلك يكون بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أنّه الأولى بالقصد إليه. كقول القبعثرى للحجاج بن يوسف الثقفى وقد قال له الحجاج متوعدا له بالقتل : «لأحملنّك على الأدهم» : «مثل الأمير من حمل على الأدهم والأشهب». فأراد الحجاج أن يقيده فتلقاه القبعثرى بغير ما يترقبه من فهمه التوعيد بألطف وجه مشيرا إلى أنّ من كان مثله من السلطنة إنما يناسبه أن يجود بأن يحمل على الأدهم والأشهب من الخيل ويكون جديرا بأن يصفد ـ بضم الياء ـ أى يعطى ، لا أن يصفد ـ بفتحها ـ أى يشد ويوثق.

ومنه قول الشاعر :

أتت تشتكى عندى مزاولة القرى

وقد رأت الضيفان ينحون منزلى

فقلت كأنى ما سمعت كلامها

هم الضيف جدّى فى قراهم وعجّلى

الثانى : تلقى السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنّه الأولى بحاله أو المهم له. وذلك كقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)(٢) ، فقالوا : ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يتزايد قليلا قليلا حتى يمتلىء ويستوى ثم لا يزال ينقص حتى يود كما بدا.

__________________

(١) مفتاح العلوم ص ١٥٥.

(٢) البقرة ١٨٩.

٢٦٥

وكقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ؟ قُلْ : ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)(١). سألوا عن بيان ما ينفقون فأجيبوا ببيان المصرف (٢) وللأسلوب الحكيم أثر فى الكلام ، وقد أوضح السكاكى هذا الأثر بقوله : «وإنّ هذا الأسلوب الحكيم لربما صادف المقام فحرك من نشاط السامع ، سلبه حكم الوقور وأبرزه فى معرض المسحور. وهل ألان شكيمة الحجاج لذلك الخارجى وسل سخيمته (٣) حتى آثر أن يحسن على أن يسىء غير أن سحره بهذا الأسلوب اذا توعده الحجاج بالقيد فى قوله «لأحملنك على الأدهم» فقال متغابيا : «مثل الأمير ـ يحمل على الأدهم والأشهب» مبرزا وعيده فى معرض الوعد متوصلا أن يريه بألطف وجه أن امرءا مثله فى مسند الإمرة المطاعة خليق بأن يصفد لا أن يصفد ، وأن يعد لا أن يوعد» (٤).

التغليب :

وهو إعطاء الشىء حكم غيره ، وقيل : ترجيح أحد المغلوبين على الآخر أو إطلاق لفظة عليهما ، إجراء للمختلفين مجرى المتفقين. (٥)

وهو أنواع :

الأول : تغليب المذكر ، كقوله تعالى : (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ)(٦) ، غلب المذكر لأن الواو جامعة ولأن لفظ الفعل مقتض

__________________

(١) البقرة ٢١٥.

(٢) ينظر مفتاح العلوم ص ١٥٥ ، والايضاح ص ٧٥ ، وشروح التلخيص ج ١ ص ٤٧٩.

(٣) السخيمة : الضغينة ، يقال : سللت سخيمته باللطف والترضى ، أى : أخرجت ضغينته من صدره.

(٤) مفتاح العلوم ص ١٥٦.

(٥) البرهان فى علوم القرآن ج ٣ ص ٣٠٢.

(٦) القيامة ٩.

٢٦٦

ولو أريد العطف امتنع. وقوله : (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ)(١) ، وقوله : (إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ)(٢). والأصل «من القانتات» و «من الغابرات» فعدت الأنثى من المذكر بحكم التغليب.

الثانى : تغليب المتكلم على المخاطب والمخاطب على الغائب ، كقوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)(٣) ، بتاء الخطاب ، غلب جانب «أنتم» على جانب «قوم» والقياس أن يجىء بالياء لأنه وصف القوم ، وقوم اسم غيبة ولكن حسن آخر الخطاب وصفا لـ «قوم» لوقوعه خبرا عن ضمير المخاطبين. ومنه قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ)(٤) ، غلب جانب «أنت» على جانب «من» فأسند إليه الفعل وكان تقديره «فاستقيموا» فغلب الخطاب على الغيبة ، لأنّ حرف العطف فصل بين المسند إليهم الفعل فصار كما نرى.

الثالث : تغليب العاقل على غيره ، وذلك بأن يتقدم لفظ يعم من يعقل ومن لا يعقل فيطلق اللفظ المختص بالعاقل على الجميع. ومنه قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ)(٥) ، لما تقدم لفظ «الدابة» والمراد بها عموم من يعقل ومن لا يعقل غلب من يعقل فقال «فمنهم من يمشى».

وقد يجتمع فى لفظ واحد تغليب المخاطب على الغائب والعقلاء على غيرهم كقوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ)(٦) ، أى : خلق لكم أيّها الناس من جنسكم ذكورا وإناثا وخلق الأنعام أيضا من أنفسها ذكورا وإناثا. يذرؤكم ـ أى ينبتكم ويكثركم أيها

__________________

(١) التحريم ١٢.

(٢) الأعراف ٨٣.

(٣) النمل ٥٥.

(٤) هود ١١٢.

(٥) النور ٤٥.

(٦) الشورى ١١.

٢٦٧

الناس والأنعام فى هذا التدبير والجعل ـ فهو خطاب للجميع ، للناس المحاسبين وللأنعام المذكورة بلفظة الغيبة ، ففيه تغليب المخاطب على الغائب ، وإلّا لما صح ذكر الجميع ـ الناس والأنعام ـ بطريق الخطاب لأنّ الأنعام غيب وفيه تغليب العقلاء على غيرهم ، وإلا لما صح خطاب الجمع بلفظ «كم» المختص بالعقلاء. ففى لفظ «كم» تغليبان ، ولو لا التغليب لكان القياس أن يقال يذرؤكم وإياها.

الرابع : تغليب المتصف بالشىء على ما لم يتصف به ، كقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا)(١) ، قيل : غلب غير المرتابين على المرتابين.

الخامس : تغليب الأكثر على الأقل ، وذلك بأن ينسب إلى الجميع وصف يختص بالأكثر ، كقوله تعالى : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا)(٢) ، وأدخل شعيب فى قوله «لتعودن» بحكم التغليب إذ لم يكن فى ملتهم أصلا حتى يعود إليها.

السادس : تغليب الجنس الكثير الأفراد على فرد من غير هذا الجنس مغمور فيما بينهم بأن يطلق اسم الجنس على الجميع ، كقوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ)(٣) ، وأنه عد منهم مع أنّه كان من الجن تغليبا لكونه جنيا واحدا فيما بينهم ، ولأنّ حمل الاستثناء على الاتصال هو الأصل.

السابع : تغليب الموجود على ما لم يوجد ، كقوله تعالى : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ)(٤) فان المراد المنزل كله ، وإنما عبر عنه بلفظ المضى وإن كان بعضه مترقبا تغليبا للموجود على ما لم يوجد.

__________________

(١) البقرة ٢٣.

(٢) الأعراف ٨٨.

(٣) ص ٧٣ ـ ٧٤.

(٤) البقرة ٤.

٢٦٨

الثامن : تغليب الإسلام ، كقوله تعالى : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ)(١) ، لأنّ الدرجات للعلو ، والدركات للسفل ، فاستعمل الدرجات فى القسمين تغليبا.

التاسع : تغليب ما وقع بوجه مخصوص على ما وقع بغير هذا الوجه ، كقوله تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ)(٢) ، ذكر الأيدى لأنّ أكثر الأعمال تزاول بها فحصل الجمع بالواقع بالأيدى.

العاشر : تغليب الأشهر ، كقوله تعالى : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ)(٣) أراد المشرق والمغرب فغلب المشرق لأنّه أشهر الجهتين. ومن ذلك قولهم : «أبوان» للأب والأم ، و «قمران» للشمس والقمر ، و «العمران» لأبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضى الله عنهما.

الالتفات :

وهو الفن الأول من محاسن الكلام التى ذكرها ابن المعتز ، وقد قال فى تعريفه : «هو انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار وعن الإخبار إلى المخاطبة وما يشبه ذلك. ومن الالتفات الانصراف عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر» (٤).

وقال قدامة بن جعفر فى تعريفه : «هو أن يكون الشاعر آخذا فى معنى فكأنه يعترضه إمّا شك فيه أو ظن بأن رادّا يرد عليه قوله أو سائلا يسأله عن سببه فيعود راجعا على ما قدمه فإما أن يؤكده أو يذكر سببه أو يحل الشك فيه» (٥).

وفسّره أبو هلال بما يقرب من هذا ، ولكنه قسمه ضربين :

__________________

(١) الأحقاف ١٩.

(٢) آل عمران ١٨٢.

(٣) الزخرف ٣٨.

(٤) البديع ص ٥٨.

(٥) نقد الشعر ص ١٦٧ ، ونقل هذا التعريف ابن أبى الأصبع فى تحرير التحبير ص ١٢٣ ، وبديع القرآن ص ٤٢.

٢٦٩

الأول : أن يفرغ المتكلم من المعنى فاذا ظننت أنه يريد أن يجاوزه يلتفت إليه فيذكره بغير ما تقدم ذكره به ، كقول جرير :

أتنسى إذ تودعنا سليمى

بعود بشامة سقى البشام (١)

ولم يذكر قدامة هذا الضرب فى تعريفه ، وإنّما انصبّ تعريفه على الضرب.

الثانى الذى ذكره أبو هلال نقلا عنه لاتفاق العبارات وهو :

الثانى : أن يكون الشاعر آخذا فى معنى كأنّه يعترضه شك أو ظن أنّ رادّا يرد قوله ، أو سائلا يسأله عن سببه فيعود راجعا إلى ما قدمه فإما أن يؤكده أو يذكر سببه أو يزيل الشك عنه ، كقول المعطل الهذلى :

تبين صلاة الحرب منا ومنهم

إذا ما التقينا والمسالم بادن (٢)

فقوله : «والمسالم بادن» رجوع من المعنى الذى قدمه حتى بين أن علامة صلاة الحرب من غيرهم أن المسالم بادن والمحارب ضامر (٣).

ويسمى بعضهم الالتفات «الصّرف» وهو مصطلح صاحب «البرهان فى وجوه البيان» الذى قال فى تعريفه : «وأما الصرف فانه يصرفون القول من المخاطب إلى الغائب ومن الواحد إلى الجماعة» (٤).

وسماه أسامة بن منقذ «الانصراف» وقال فيه : «هو أن يرجع من الخبر إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الخبر» (٥).

وقال ابن رشيق عنه : «هو الاعتراض عند قوم وسماه آخرون الاستدراك» (٦) ولكن الاعتراض والاستدراك غير الالتفات ، ولعل

__________________

(١) البشام : شجر لا ثمر له.

(٢) تبين : تستبين. صلاة الحرب : الذين يصلونها.

(٣) كتاب الصناعتين ص ٣٩٢.

(٤) البرهان فى وجوه البيان ص ١٥٢.

(٥) البديع فى نقد الشعر ص ٢٠٠.

(٦) العمدة ج ٢ ص ٤٥.

٢٧٠

مصطلح «الانصراف» أو «الالتفات» أقرب إلى الدلالة وقد سار البلاغييون على مصطلح الالتفات ، وأصبح هذا الأسلوب ذا شعب كثيرة تحدث عنها بالتفصيل الزمخشرى فى تفسيره والسكاكى فى مفتاحه والقزوينى فى إيضاحه وابن الأثير فى المثل السائر والزركشى فى البرهان فى علوم القرآن. وكان هؤلاء من أكثر الذين عنوا بدراسة هذا الأسلوب ، وقال الزمخشرى عنه وهو يفسر قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(١) : «فان قلت لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ قلت : هذا يسمّى الالتفات فى البيان ، وقد يكون من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم ، كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ)(٢) ، وقوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ)(٣).

وقد التفت امرؤ القيس ثلاث التفاتات فى ثلاثة أبيات :

تطاول ليلك بالإثمد

ونام الخلىّ ولم ترقد

وبات وباتت له ليلة

كليلة ذى العائر الأرمد

وذلك من نبأ جاءنى

وخبرّته عن أبى الأسود

وذلك على عادة افتتانهم فى الكلام وتصرفهم فيه ، ولأنّ الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع وإيقاظا للاصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد. وقد تختص مواقعه بفوائد ، ومما اختص به هذا الموضع أنه لما ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه تلك الصفات العظام تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة فى المهمات فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل : إياك من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة لا نعبد غيرك ولا نستعينه ليكون الخطاب أدل على أنّ العبادة له ، لذلك التميز الذى لا تحق العبادة إلّا به» (٤).

__________________

(١) الفاتحة ٥.

(٢) يونس ٢٢.

(٣) فاطر ٩.

(٤) الكشاف ج ١ ص ١١ ـ ١٢.

٢٧١

وكلام السكاكى لا يخرج عما ذكره الزمخشرى إلّا ما أضاف من أمثلة وشواهد شعرية ، كقول ربيعة بن مقروم :

بانت سعاد فأمسى القلب معمودا

وأخلفتك ابنة الحرّ المواعيدا (١)

فالتفت حيث لم يقل «وأخلفتنى» ، ثم قال :

ما لم ألاق امرءا جزلا مواهبه

سهل الفناء ، رحيب الباع محمودا

وقد سمعت بقوم يحمدون فلم

أسمع بمثلك لا حلما ولا جودا

فالتفت حيث لم يقل «بمثله».

وقال السكاكى بعد هذه الأمثلة وغيرها : «وأمثال ما ذكر أكثر من أن يضبطها القلم ، وهذا النوع قد يختص مواقعه بلطائف معان قلما تتضح إلّا لأفراد بلغائهم أو للحذاق المهرة فى هذا الفن والعلماء النحارير. ومتى اختص موقعه بشىء من ذلك كساه فضل بهاء ورونق وأورث السامع زيادة هزة ونشاط ووجد عنده من القبول أرفع منزلة ومحل إن كان ممن يسمع ويعقل» (٢)

وهذا أمر طبيعى فالزمخشرى لم يرد أن يبحث الالتفات ، وإنما تكلم عليه حينما جاء فى الآية الكريمة ، أما السكاكى فهدفه البحث فى هذا الأسلوب لا تفسير الآيات وما فيها من فنون بلاغية. والاتفاق بين الرجلين هو فى تحديد معناه وتعريفه ، وقد اتفقا على أنه نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب فمن الغيبة إلى الخطاب ، ومن الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى المتكلم. واتفقا على أنّ نقل الكلام من أسلوب إلى آخر أدخل فى القبول عند السامع وأحسن تطرية لنشاطه. ولكنه مع ذلك خالفه فى أمر واحد ، وهو أنه أدخل الالتفات فى علم المعانى وقال : «ويسمّى هذا النقل التفاتا عند علماء المعانى ، والعرب يستكثرون منه ويرون الكلام إذا انتقل من أسلوب إلى أسلوب أدخل فى القبول عند السامع وأحسن تطرية لنشاطه وأملأ باستدرار إصغائه.

__________________

(١) المعمود : الموجع.

(٢) مفتاح العلوم ص ٩٦.

٢٧٢

وهم أحرياء بذلك ، أليس قرى الأضياف سجيتهم ، ونحر العشار دأبهم وهجيراهم ـ لا مزقت أيدى الأدوار لهم أديما ، ولا أباحت لهم حريما ـ أفتراهم يحسنون قرى الأشباح فيخالفون فيه بين لون ولون وطعم وطعم ، ولا يحسنون قرى الأرواح فلا يخالفون فيه بين أسلوب وأسلوب وإيراد وإيراد ، فان الكلام المفيد عند الانسان لكن بالمعنى لا بالصورة أشهى غذاء لروحه وأطيب قرى لها» (١).

وأدخله ثانية فى علم البديع وعده من المحسنات المعنوية ، ولكنه لم يبحثه واكتفى بقوله : «وقد سبق ذكره فى علم المعانى» (٢). أما الزمخشرى فقد عدّه من البيان وإن كان لا يقصد به علم البيان الذى ضبطه السكاكى بتعريفه وإنما يريد به البيان بمعناه العام ، ولعل هذا الموقف أسلم من موقف السكاكى الذى تردد فيه فأدخله فى علم المعانى مرة وفى علم البديع تارة أخرى. وقد علل ابن يعقوب المغربى هذا التردد وبيّن مكان الالتفات فى كل علم بقوله : «فان قلت : لأى وجه خصص تسميته بعلماء المعانى مع أنّ عدّ الالتفات من البديع أقرب ، لأنّ حاصل ما فيه أنه يفيد الكلام ظرافة وحسن تطرية فيصغى إليه لظرافته وابتداعه ولا يكون الكلام به مطابقا لمقتضى الحال فلا يكون من علم المعانى فضلا عن كونه يختص بهم فيسمونه به دون أهل البديع؟.

قلت : أما كونه من الأحوال التى تذكر فى علم المعانى فصحيح كما إذا اقتضى المقام فائدته من طلب مزيد الاصغاء لكون الكلام سؤالا أو مدحا أو إقامه حجة أو غير ذلك ، فهو من هذا الوجه من علم المعانى. ومن جهة كونه شيئا ظريفا مستبدعا يكون من علم البديع. وكثيرا ما يوجد فى المعانى مثل هذا فليفهم ، وأما تخصيص علماء المعانى بالتسمية فلا حجر فيه ، والله أعلم» (٣).

__________________

(١) مفتاح العلوم ص ٩٥.

(٢) مفتاح العلوم ص ٢٠٢.

(٣) مواهب الفتاح ـ شروح التلخيص ج ١ ص ٤٦٤.

٢٧٣

ولو لا تقسيم السكاكى البلاغة إلى أقسامها وحصر كل قسم بتعريف منطقى جامع مانع لما احتاج ابن يعقوب المغربى وغيره إلى هذا التمحل والإغراق فى التأويل ، وإلّا فهل يمكن استعمال أسلوب الالتفات من غير أن يؤدى معنى فيكون مطابقا لمقتضى الحال وتكون فيه ظرافة وطلاوة؟ إنّ الانتقال من أسلوب إلى آخر لا يكون إلا إذا اقتضى الحال وأريد به نوع من الإبداع والمتعة الفنية. ولذلك ينطبق عليه تعريفا علم المعانى وعلم البديع ولا نرى مبررا التفريق فى عدّه من المعانى مرة ومن البديع تارة أخرى على الوجه الذى يذهب إليه البلاغيون.

ولما كان الالتفات ضربا من فنون البلاغة له أسلوبه وجماله فليس من الدقة أن يبقى مترددا فيكون فى علم المعانى إذا اقتضى المقام فائدته ، ويكون فى علم البديع إذا أريد به الطرافة ، وإنما يفرد له باب كما فعل ابن الأثير الذى لم ينظر إليه هذه النظرة الجامدة ، (١) وقد أدخلناه فى علم المعانى لأننا نبحث البلاغة كما تركها القدماء ، ولأننا لا نريد هنا إبداء وجهة النظر ، فذلك أمر مجاله غير هذه المحاضرات التى أخذت نسيجها من القدماء. ولم يخرج الخطيب القزوينى على السكاكى فى بحث الالتفات ونقل كلامه وأمثلته غير أنه قارن بينه وبين الجمهور ، فالسكاكى قال : «واعلم أن هذا النوع اعنى نقل الكلام عن الحكاية إلى الغيبة لا يختص المسند إليه ولا هذا القدر بل الحكاية والخطاب والغيبة ثلاثتها ينقل كل واحد منها إلى الآخر ويسمى هذا النقل التفاتا» (٢). والمشهور عند الجمهور أن الالتفات هو التعبير عن معنى بطريق من الطرق الثلاثة بعد التعبير عنه بطريق آخر منها. وهذا أخص من تفسير السكاكى لأنه أراد بالنقل أن يعبر بطريق من هذه الطرق عما عبر عنه بغيره ، أو كان مقتضى الظاهر أن يعبر عنه بغيره منها. ولذلك فكل التفات عندهم التفات عنده وليس العكس صحيحا (٣).

__________________

(١) ينظر البلاغة عند السكاكى ص ١٣٦ ـ ١٣٨ وص ٢٣٥ وما بعدها.

(٢) مفتاح العلوم ص ٩٥.

(٣) ينظر الايضاح ص ٧١.

٢٧٤

ونظر ابن الأثير إلى هذا الأسلوب نظرة أعمق وقال عنه : «وهذا النوع وما يليه هو خلاصة علم البيان التى حولها يدندن وإليها تستند البلاغة وعنها يعنعن. وحقيقته مأخوذة من التفات الإنسان عن يمينه وشماله فهو يقبل بوجهه تارة كذا وتارة كذا ، وكذلك يكون هذا النوع من الكلام خاصة لأنه ينتقل فيه من صيغة كالانتقال من خطاب حاضر إلى غائب ، أو من خطاب غائب إلى حاضر ، أو من فعل ماض إلى مستقبل ، أو من مستقبل إلى ماض ، أو غير ذلك. ويسمى أيضا «شجاعة العربية» ، وإنما سمى بذلك لأن الشجاعة هى الإقدام ، وذاك أنّ الرجل الشجاع يركب ما لا يستطيعه غيره ويتورد ما لا يتورده سواه ، وكذا هذا الالتفات فى الكلام فان اللغة العربية تختص به دون غيرها من اللغات» (١).

وقسمه إلى ثلاثة أقسام :

الأول : الرجوع من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة.

الثانى : الرجوع من الفعل المستقبل إلى فعل الأمر ومن الفعل الماضى إلى فعل الأمر.

الثالث : الإخبار عن الفعل الماضى بالمستقبل وعن المستقبل بالماضى.

وأحسن ما فى بحثه الأمثلة الكثيرة التى وشح بها كلامه ، وردّه رأى الزمخشرى ومن تابعه فى فائدة أسلوب الالتفات. وقد وضح ابن الأثير رأيه بقوله : «وقال الزمخشرى ـ رحمه‌الله ـ إنّ الرجوع من الغيبة إلى الخطاب إنّما يستعمل للتفنن فى الكلام والانتقال من أسلوب إلى أسلوب تطرية لنشاط السامع وإيقاظا للاصغاء إليه. وليس الأمر كما ذكره ، لأنّ الانتقال فى الكلام من أسلوب إلى أسلوب إن لم يكن إلّا تطرية لنشاط السامع وإيقاظا للاصغاء إليه ، فان ذلك دليل على أنّ السامع يمل من أسلوب واحد فينتقل إلى غيره ليجد نشاطا للاستماع ، وهذا قدح فى الكلام لا وصف له ، لأنه لو

__________________

(١) المثل السائر ج ٢ ص ٤ ، وينظر الجامع الكبير ص ٩٨.

٢٧٥

كان حسنا لما مل ، ولو سلّمنا إلى الزمخشرى ما ذهب إليه لكان إنما يوجد ذلك فى الكلام المطول ، ونحن نرى الأمر بخلاف ذلك ، لأنّه قد ورد الانتقال من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة فى مواضع كثيرة من القرآن الكريم ويكون مجموع الجانبين معا يبلغ عشرة ألفاظ أو أقل من ذلك. ومفهوم قول الزمخشرى فى الانتقال من أسلوب إلى أسلوب إنّما يستعمل قصدا للمخالفة بين المنتقل عنه والمنتقل إليه لا قصدا لاستعمال الأحسن. وعلى هذا فاذا وجدنا كلاما قد استعمل فى جميعه الإيجاز ولم ينتقل عنه أو استعمل فيه جميعه الإطناب ولم ينتقل عنه ، وكان كلا الطرفين واقعا فى موقعه قلنا : هذا ليس بحسن إذ لم ينتقل فيه من أسلوب إلى أسلوب وهذا قول فيه ما فيه ، وما أعلم كيف ذهب على مثل الزمخشرى مع معرفته بفن الفصاحة والبلاغة».

ثم يبيّن رأيه بقوله : «والذى عندى فى ذلك أنّ الانتقال من الخطاب إلى الغيبة أو من الغيبة إلى الخطاب ، لا يكون إلّا لفائدة اقتضته ، وتلك الفائدة أمر وراء الانتقال من أسلوب إلى أسلوب ، غير أنها لا تحدّ بحدّ ولا تضبط بضابط ، لكن يشار إلى مواضع منها ليقاس عليها غيرها ، فانا قد رأينا الانتقال من الغيبة إلى الخطاب قد استعمل لتعظيم شأن المخاطب ، ثم رأينا ذلك بعينه وهو ضد الأول قد استعمل فى الانتقال من الخطاب إلى الغيبة ، فعلمنا حينئذ أنّ الغرض الموجب لاستعمال هذا النوع من الكلام لا يجرى على وتيرة واحدة وإنما هو مقصور على العناية بالمعنى المقصود ، وذلك المعنى يتشعب شعبا كثيرة لا تنحصر ، وإنما يؤتى بها على حسب الموضع الذى ترد فيه» (١).

وكانت طريقته فى إظهار روعة أسلوب الالتفات ضرب الأمثلة والتعليق عليها والوقوف على ما فيها من جمال وتأثير. وهذه الطريقة أنفع فى معالجة البلاغة ولكن لا يمنع أن تكون هناك قواعد عامة تهدى ، وقد حصر المتأخرون أسباب الالتفات فى فوائد عامة وخاصة (٢) ، فمن الفوائد العامه التفنن والانتقال من أسلوب إلى آخر ، لما فى ذلك من تنشيط السامع ، واستجلاب

__________________

(١) المثل السائر ج ٢ ص ٤ ـ ٥.

(٢) ينظر البرهان فى علوم القرآن ج ٣ ص ٣٢٥.

٢٧٦

صفائه ، واتساع مجارى الكلام ، وتسهيل الوزن والقافية ، وهذا ما أشار إليه البلاغيون المتقدمون ورفضه ابن الأثير.

وأما الفوائد الخاصة فتختلف باختلاف محاله ومواقع الكلام فيه على ما يقصده المتكلم ، ومنها :

١ ـ قصد تعظيم شأن المخاطب ، كما فى قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١) فان العبد إذا افتتح حمد مولاه بقوله «الحمد لله» الدالّ على اختصاصه بالحمد وجد من نفسه التحرك للاقبال عليه سبحانه ، فاذا انتقل إلى قوله : (رَبِّ الْعالَمِينَ) الدال على ربوبيته لجميعهم قوى تحركه ، فاذا قال : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) الدال على أنه منعم بأنواع النعم جليلها وحقيرها تزايد التحرك عنده ، فاذا وصل إلى (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وهو خاتمة الصفات الدالة على أنّه مالك الأمر يوم الجزاء فيتأهب قربه ، ويتقن الإقبال عليه بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة فى المهمات. ثم انتقل من خطاب الغائب إلى الحاضر فقال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لينسب إلى التعظيم حال المخاطبة والمواجهة على ما هو أعلى رتبة وذلك عن طريق التأدب. وعلى نحو من ذلك جاء آخر السورة فقال : (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) مصرحا بذكر المنعم وإسناد الإنعام إليه لفظا ، ولم يقل «صراط المنعم عليهم» فلما صار إلى ذكر الغضب روى عنه لفظ الغضب فى النسبة إليه لفظا وجاء باللفظ متحرفا عن ذكر الغاضب فلم يقل «غير المغضوب غضبت عليهم» تفاديا عن نسبة الغضب فى اللفظ حال المواجهة.

٢ ـ التنبيه على ما حق الكلام أن يكون واردا عليه ، كقوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٢) ، أصل الكلام «وما لكم لا تعبدون الذى فطركم» ولكنه أبرز الكلام فى معرض المناصحة

__________________

(١) الفاتحة ١.

(٢) يس ٢٢.

٢٧٧

لنفسه ، وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويريهم أنّه لا يريد لهم إلّا ما يريد لنفسه ثم انقضى غرضه من ذلك قال : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ليدل على ما كان من أصل الكلام ومقتضيا له ، ثم ساقه هذا المساق إلى أن قال : (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ)(١).

٣ ـ أن يكون الغرض به التتميم لمعنى مقصود للمتكلم فيأتى به محافظة على تتميم ما قصد إليه من المعنى المطلوب ، كقوله تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٢).

أصل الكلام «إنا كنا مرسلين رحمة منا» ولكنه وضع الظاهر موضع المضمر للانذار بأنّ الربوبية تقتضى الرحمة للمربوبين للقدرة عليهم ، أو لتخصيص النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالذكر أو الإشارة إلى أن الكتاب إنما هو إليه دون غيره ، ثم التفت باعادة الضمير إلى الرب الموضوع موضع المضمر للمعنى المقصود من تتميم المعنى.

٤ ـ قصد المبالغة : كقوله تعالى (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ)(٣) كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليتعجب منها ويستدعى منه الإنكار والتقبيح لها ، إشارة منه إلى سبيل المبالغة إلى أن ما يعتمدونه بعد الإنجاء من البغى فى الأرض بغير الحق مما ينكر ويقبح.

٥ ـ قصد الدلالة على الاختصاص : كقوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ)(٤) ، فانه لما كان سوق السحاب إلى البلد الميت وإحياء الأرض بعد موتها بالمطر دالا على القدرة الباهرة التى لا يقدر عليها غيره ، عدل عن لفظ الغيبة إلى التكلم لأنه أدخل فى الاختصاص وأدل عليه «سقنا» و «أحيينا».

__________________

(١) يس ٢٥.

(٢) الدخان ٤ ـ ٦.

(٣) يونس ٢٢.

(٤) فاطر ٩.

٢٧٨

٦ ـ قصد الاهتمام : كقوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ، وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)(١). فعدل عن الغيبة فى «قضاهن» و «أوحى» إلى التكلم فى «وزينا السماء الدنيا» للاهتمام بالإخبار عن نفسه ، فانه تعالى جعل الكواكب فى سماء الدنيا للزينة والحفظ ، وذلك لأنّ طائفة اعتقدت فى النجوم أنّها ليست فى سماء الدنيا وأنها ليست حفظا ولا رجوما فعدل إلى التكلم والإخبار عن ذلك لكونه مهما من مهمات الاعتقاد ولتكذيب الفرقة المعتقدة بطلانه.

٧ ـ قصد التوبيخ : كقوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا)(٢). عدل عن الغيبة إلى الخطاب للدلالة على أنّ قائل مثل قولهم ينبغى أن يكون موبخا ومنكرا عليه ، ولما أراد توبيخهم على هذا أخبر عنه بالحضور فقال : «لقد جئتم» ، لأنّ توبيخ الحاضر أبلغ فى الإهانة له.

وللالتفات أقسام كثيرة ذكرها البلاغيون والذين اهتموا بعلوم القرآن ، ويمكن تلخيصها فيما يأتى :

١ ـ الالتفات من التكلم إلى الخطاب :

ووجهه حثّ السامع وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه ، وأنّه أعطاه فضل عناية وتخصيص بالمواجهة ، كقوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٣). الأصل : «وإليه أرجع» فالتفت من التكلم إلى الخطاب. وفائدته أنّه أخرج الكلام فى معرض مناصحته لنفسه وهو يريد نصح قومه تلطفا وإعلاما أنه يريد لهم ما يريده لنفسه ثم التفت إليهم لكونه

__________________

(١) فصلت ١١ ـ ١٢.

(٢) مريم ٨٨ ـ ٨٩.

(٣) يس ٢٢.

٢٧٩

فى مقام تخويفهم ودعوتهم إلى الله. ثم إنّ قومه لمّا أنكروا عليه عبادته لله أخرج الكلام معهم بحسب حالهم فاحتج عليهم بأنّه يقبح منه أنّه لا يعبد فاطره ومبدعه ثم حذرهم بقوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

٢ ـ الالتفات من التكلم إلى الغيبة :

ووجهه أن يفهم السامع أنّ هذا نمط المتكلم وقصده من السامع حضر أو غاب ، وأنه فى كلامه ليس ممن يتلون ويتوجه فيكون فى المضمر ونحوه ذا لونين ، وأراد بالانتقال إلى الغيبة الإبقاء على المخاطب ، فالغيبة أروح له ، كقوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)(١) ، حيث لم يقل «لنا» تحريضا على فعل الصلاة لحق الربوبية.

ومنه قوله تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٢). فقد قال سبحانه : (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) ثم انتقل إلى خطاب الغيبة فقال : (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

٣ ـ الالتفات من الخطاب إلى التكلم :

ومنه قوله تعالى : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا)(٣) ، فقد التفت من الخطاب «فاقض ما أنت قاض» إلى التكلم «إنا آمنا بربنا».

٤ ـ الالتفات من الخطاب إلى الغيبة :

ومنه قوله تعالى : «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ، وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ

__________________

(١) الكوثر ١ ـ ٢.

(٢) الدخان ٤ ـ ٦.

(٣) طه ٧٢ ـ ٧٣.

٢٨٠