أساليب بلاغية

الدكتور أحمد مطلوب

أساليب بلاغية

المؤلف:

الدكتور أحمد مطلوب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: وكالة المطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٣

الثانى : ضرب يقع فى آخر الكلام ، كقوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ)(١) ، فانه لو اقتصر على وصفهم بالذلّة على المؤمنين لتوهم أنّ ذلتهم لضعفهم ، فلما قال «أعزة على الكافرين» علم أنّها منهم تواضع لهم.

ومنه قول عنترة :

اثنى علىّ بما علمت فانّنى

سهل مخالفتى إذا لم أظلم

فقوله «إذا لم أظلم» احتراس دل به على أنّه قد يخالف فيرجع إلى الحق راضيا ولكنه لا يقبل الظلم.

٨ ـ التتميم : وهو أن يؤتى فى كلام لا يوهم خلاف المقصود بفضلة (٢) تفيد نكتة (٣) ، أو كما قال العلوى : «هو تقييد الكلام بفضلة» (٤).

ويأتى لأغراض :

الأول : المبالغة ، كقوله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ)(٥) ، أى : مع حبه ، والضمير للطعام أى مع اشتهائه والحاجة إليه. ومنه : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ)(٦) ، وقوله : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)(٧)

ومنه قول زهير :

من يلق يوما على علاته هرما

يلق السماحة منه والندى خلقا

فقوله «على علاته» تتميم للمبالغة.

__________________

(١) المائدة ٥٤.

(٢) الفضلة : هى غير المسند والمسند إليه.

(٣) الإيضاح ص ٢٠٥ ، وشروح التلخيص ج ٣ ص ٢٣٥.

(٤) الطراز ج ٣ ص ١٠٤.

(٥) الإنسان ٨.

(٦) البقرة ١٧٧.

(٧) آل عمران ٩٢.

٢٤١

الثانى : الصيانة عن احتمال الخطأ فترد رافعة له. ومنه قول الشاعر :

لئن كان باقى عيشنا مثل ما مضى

فللحبّ إن لم يدخل النار أروح

فقوله «إن لم يدخل النار» معناه سلامة العاقبة ، وقد أتم به المعنى صيانة عن احتمال الخطأ ، فقد أراد أنّ أول الحب لذة وراحة فان كان آخره مثل أوله فهو لا محالة أحمد عاقبة ، لكن أن تكون العاقبة سليمة.

الثالث : استقامة الوزن ، ومنه قول المتنبى :

وخفوق قلب لو رأيت لهيبه

يا جنّتى لرأيت فيه جهنما

فقوله «يا جنتى» أتى بها من أجل استقامة الوزن (١).

٩ ـ الاعتراض : وهو كثير فى الأساليب العربية ، وقد قال ابن جنى : «اعلم أنّ هذا القبيل من هذا العلم كثير قد جاء فى القرآن وفصيح الشعر ومنثور الكلام وهو جار عند العرب مجرى التأكيد فلذلك لا يشنع عليهم ولا يستنكر عندهم» (٢).

وقال القزوينى فى تعريفه : «وهو أن يؤتى فى أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنى ، بجملة أو أكثر لا محلّ لها من الإعراب لنكتة سوى ما ذكر فى تعريف التكميل» (٣). ومنهم من يذهب إلى أنّ الاعتراض هو الحشو (٤) ، وفرّق ابن حجة الحموى بينهما ، وقال : «والفرق بينهما ظاهر ، وهو أنّ الاعتراض يفيد زيادة فى غرض المتكلم والناظم ، والحشو إنّما يأتى لإقامة الوزن لا غير» (٥).

__________________

(١) ينظر الإيضاح ص ٢٠٥ ، والطراز ج ٣ ص ١٠٤ ـ ١٠٦.

(٢) الخصائص ج ١ ص ٣٣٥.

(٣) الإيضاح ص ٢٠٦ ، وينظر شروح التلخيص ج ٣ ص ٢٣٧ ، نهاية الإيجاز ص ١١١ ، المصباح ص ٩٩.

(٤) المثل السائو ج ٢ ص ١٨٣ ، والجامع الكبير ص ١١٨ ، والطراز ج ٢ ص ١٦٧.

(٥) خزانة الأدب ص ٣٦٦.

٢٤٢

وللاطناب بالاعتراض أغراض بلاغية منها :

الأول : التنزيه : كقوله تعالى : «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ ـ سبحانه ـ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ)(١) ، فـ «سبحانه» تضمنت تنزيها لله تعالى عن البنات.

الثانى : التعظيم : كقوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ ـ لَوْ تَعْلَمُونَ ـ عَظِيمٌ)(٢).

الثالث : الدعاء ، كما فى قول عوف بن محلم يشكو كبره :

إنّ الثمانين ـ وبلّغتها ـ

قد أحوجت سمعى إلى ترجمان

وقول المتنبى :

وتحتقر الدنيا احتقار مجرّب

يرى كل ما فيها ـ وحاشاك ـ فانيا

وقوله «حاشاك» دعاء حسن فى موضعه.

الرابع : التنبيه ، كقول الشاعر :

واعلم ـ فعلم المرء ينفعه ـ

أن سوف يأتى كلّ ما قدرا

ومنه قول أبى خراش الهذلى يذكر أخاه عروة :

تقول أراه بعد عروة لاهيا

وذلك رزء ـ لو علمت ـ جليل

فلا تحسبى أنّى تناسيت عهده

ولكنّ صبرى ـ يا أميم ـ جميل

فقوله «لو علمت» و «يا أميم» جملتان اعتراضيتان تفيدان التنبيه على عظم المصاب وعلى تجلده وصبره.

الخامس : المبادرة إلى اللوم ، كقول كثير عزة :

لو انّ الباخلين ـ وأنت منهم ـ

رأوك تعلّموا منك المطالا

__________________

(١) النحل ٥٧.

(٢) الواقعة ٧٥ ـ ٧٦.

٢٤٣

السادس : التحسر ، كقول إبراهيم بن المهدى فى رثاء ابنه :

وإنّى ـ وإن قدّمت قبلى ـ لعالم

بأنّى ـ وقد أخّرت ـ منك قريب

السابع : الاستعطاف ، ومثل له السبكى (١) ببيت المتنبى :

وخفوق قلب لو رأيت لهيبه

ـ يا جنّتى ـ لرأيت فيه جهنما

ووجه حسن الاعتراض «حسن الإفادة مع أنّ مجيئه مجىء مالا معول عليه فى الإفادة فيكون مثله مثل الحسنة تأتيك من حيث لا ترتقبها» (٢)

وهذا هو النوع المفيد من الاعتراض ، أمّا الذى يأتى لغير فائدة فهو على وجهين :

الأول : أن يكون غير مفيد لكنه لا يكسب الكلام حسنا ولا قبحا ، كقول زهير :

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولا ـ لا أبالك ـ يسأم

فقوله «لا بالك» ليس فيه فائدة توكيد ، وليس فيه قبح.

الثانى : أن يكون غير مفيد لكنه يكون قبيحا لخروجه عن قوانين العربية وانحرافه عن أقيستها ، كقول الشاعر :

فقد والشك بيّن لى عناء

بوشك فراقهم صرد يصيح

فـ «الشك» هنا قبيح.

وهذا النوع يكون أقبح فى النثر ولذلك لم يأت فى فصيح كلام العرب وبليغه (٣).

__________________

(١) عروس الأفراح ـ شروح التلخيص ج ٣ ص ٢٤١.

(٢) الإيضاح ص ٢٠٩.

(٣) ينظر الطراز ج ٢ ص ١٧٤.

٢٤٤

المساواة

تلك أساليب الإيجاز والإطناب ، وما عدا ذلك فهو أسلوب المساواة التى عرفها البلاغيون بأنها تساوى اللفظ والمعنى بحيث لا يزيد أحدهما على الآخر (١) أو هى «أن يكون اللفظ بمقدار أصل المراد لا ناقصا عنه بحذف أو غيره ، ولا زائدا عليه بنحو تكرير أو تتميم أو اعتراض» (٢).

ومعرفة أساليب الإيجاز والإطناب تحدد أسلوب المساواة ، ولذلك لم نشر إليها فى مطلع هذا الفصل كما فعل البلاغيون وإن كان تعريف بدر الدين ابن مالك يشير إلى أنّها لا تعرف إلا بعد تحديد الإيجاز والإطناب. يقول : «أما المساواة وهو أن يكون لفظ الكلام بمقدار معناه لا ناقصا عنه بحذف للاختصار ولا زائدا عليه بمثل الاعتراض والتتميم والتكرار» (٣). ومعنى ذلك أنّ معرفتها رهينة بأساليب الإيجاز والإطناب ، فهى تالية لها فى العرض والتحديد. ومن أجل ذلك تأخّر الحديث عنها ليسهل التمييز ويتضح القصد ، أما الاتفاق على متعارف الأوساط فهو أمر من الصعب تحديده ليقاس عليه ، وذلك لاختلاف الناس فى هذا المتعارف وتعدد الأغراض والأهداف التى ترسم الأسلوب الذى يقاس عليه الإيجاز والإطناب.

ويرى أبو هلال العسكرى أنّ المساواة هى المذهب المتوسط بين الإيجاز والإطناب ، وإلى ذلك أشار القائل بقوله : «كأنّ ألفاظه قوالب لمعانيه» أى : لا يزيد بعضها على بعض (٤).

__________________

(١) ينظر سر الفصاحة ص ٢٤٣ ، والتبيان فى علم البيان ص ١٨٠ ، وبديع القرآن ص ٧٩ ، وتحرير التحبير ص ١٩٧ ، والمثل السائر ج ٢ ص ٧٨ ، والفوائد ص ١٧٨ ، والطراز ج ٣ ص ٣٢٢ ، وخزانة الأدب ص ٤٥٩.

(٢) الإيضاح ص ١٧٧.

(٣) المصباح ص ٣٥.

(٤) كتلت الصناعتين ص ١٧٧.

٢٤٥

وقال حازم القرطاجنى : «لأن الكلام المتقطع الأجزاء ، المنبتر التراكيب ، غير ملذوذ ولا مستحلى ، وهو يشبه الرشفات المتقطعة التى لا تروى غليلا. والكلام المتناهى فى الطول يشبه استقصاء الجرع المؤدى إلى الغصص ، فلا شفاء مع التقطيع المخل ، ولا راحة مع التطويل الممل ، ولكن خير الأمور أوسطها» (١).

ومن أمثلة المساواة قوله تعالى : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ)(٢)

وقوله : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)(٣)

وقوله : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)(٤)

وقوله : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)(٥)

وقوله : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ)(٦)

وقوله : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ)(٧)

وقوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(٨).

ومنها قول النابغة الذبيانى :

فانك كالليل الذى هو مدركى

وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع

__________________

(١) منهاج البلغاء ص ٦٥.

(٢) الرحمن ٧٢.

(٣) القلم ٩.

(٤) فاطر ٤٣.

(٥) الأنعام ٦٨.

(٦) الرحمن ٦٠.

(٧) سبأ ١٧.

(٨) النحل ٩٠.

٢٤٦

وقول طرفة :

ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

وقول الآخر :

تهدى الأمور بأهل الرأى ما صلحت

فان تأبّت فبالأشرار تنقاد

وقول الآخر :

أهابك إجلالا وما بك قدرة

علىّ ولكن ملء عين حبيبها

وما هجرتك النفس أنّك عندها

قليل ، ولكن قلّ منك نصيبها

وقول زهير :

ومهما يكن عند امرىء من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

وقوله :

إذا أنت لم تقصر عن الجهل والخنا

أصبت حليما أو أصابك جاهل

وفى هذه الأمثلة مساواة بين اللفظ والمعنى ، وهذا الأسلوب لا يستغنى عنه متكلم ، وهو كالإيجاز والإطناب من مقتضيات الأحوال.

٢٤٧

الفصل السادس

الخروج على مقتضى الظاهر

الأصل فى الكلام أن يكون على مقتضى الظاهر ولكنه قد يخرج على خلافه لنكتة أو سبب من الأسباب ، ولهذا الخروج أساليب مختلفة منها :

وضع المضمر موضع المظهر :

والمراد بموضع المظهر أن يتقدم ما يعود عليه ، كقولهم ابتداء من غير جرى ذكر لفظا أو قرينة حال «نعم رجلا زيد وبئس رجلا عمرو» ، فان فى «نعم» ضميرا ، وكان أصله «نعم الرجل» و «زيد» خبر مبتدأ ، أى هو زيد ، أو مبتدأ محذوف خبره أى زيد هو.

ومنه قول الشاعر :

نعم امرءا هرم لم تعر نائبة

إلّا وكان لمرتاع بها وزرا

ومنه قوله تعالى : (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً)(١).

وكما فى ضمير الشأن والقصة كقوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(٢) ، وقوله : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(٣).

ويؤتى بذلك ليتمكن فى ذهن السامع ما يعقبه ، وذلك أنّ السامع متى لم يفهم من الضمير معنى بقى منتظرا لعقبى الكلام كيف تكون فيتمكن المسموع بعده فضل تمكن فى ذهنه ، وهو السر فى التزام تقديمه (٤).

__________________

(١) الكهف ٥٠.

(٢) الإخلاص ١.

(٣) الحج ٤٦.

(٤) ينظر مفتاح العلوم ص ٩٤ ، والإيضاح ص ٦٨ ، وشروح التلخيص ج ١ ص ٤٤٨.

٢٤٨

وضع المظهر موضع المضمر :

فان كان ذلك الظاهر اسم إشارة ففائدته :

١ ـ كمال العناية فى ترك مقتضى الظاهر إلى غيره لاختصاصه بحكم غريب ، كقول ابن الراوندى :

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه

وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذى ترك الأوهام حائرة

وصيّر العالم النحرير زنديقا

فالمشار إليه هو كون العاقل محروما والجاهل مرزوقا ، أو إعياء مذاهب العاقل ورزق الجاهل.

٢ ـ التهكم بالسامع والتعجب من أمره ، كقوله تعالى : (ص ، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ. كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ. وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ، وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ)(١).

فالإتيان باسم الإشارة فى قوله «هذا ساحر كذّاب» إنّما هو للتهكم من الكفار.

٣ ـ التنبيه على كمال بلادة السامع ، كأن يقال : «من الحاكم؟» فيقال فى الجواب «ذلك محمد» بدل «هو محمد».

٤ ـ التنبيه على كمال فطنة السامع ، وذلك أن يكون غير المحسوس عنده كالمحسوس. ومثال ذلك أن يقال «هذه قضية مهمة» بدل «هى قضية مهمة».

٥ ـ ادعاء كمال ظهور المسند إليه عند المتكلم ولو لم يكن ظاهرا فى نفسه ، وذلك أن يقال «هذه مسألة واضحة» بدل «هى مسألة واضحة». وإن كان المظهر غير اسم إشارة فالعدول إليه عن الضمير يأتى لأسباب منها :

__________________

(١) ص ١ ـ ٤.

٢٤٩

١ ـ زيادة تمكين المسند إليه فى ذهن السامع كقوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ)(١)

٢ ـ إدخال الروع والمهابة فى قلب السامع أو تقوية ما يدعو المخاطب إلى الامتثال والطاعة ومثاله «الحاكم يأمرك ، بل أنا آمرك».

٣ ـ الاستعطاف ، كقول الشاعر

إلهى عبدك العاصى أتاكا

مقرا بالذنوب وقد دعاكا

وهذه صور المسند إليه ، أما صور الخروج على مقتضى الظاهر فى غير ذلك فكقول عبد الله ابن الدمينة :

تعاللت كى أشجى وما بك علّة

تريدين قتلى قد ظفرت بذلك

وكان مقتضى الظاهر أن يقول «قد ظفرت به» ولكنه عدل عنه وقال «قد ظفرت بذلك». ومنه قوله تعالى : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ)(٢) وكان مقتضى الظاهر أن يقول «وبه نزل».

وقوله : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)(٣) ، وكان مقتضى الظاهر أن يقول «فتوكل على» (٤)

وليس فى دراسة البلاغيين لهذا الأسلوب غير ما ذكرنا ، أمّا الذين عنوا بعلوم القرآن فكانت نظرتهم أوسع ومسائلهم أكثر تشعبا واستيعابا. ولعل الزركشى من أبرز الذين بحثوا هذا الموضوع ، وقد قال عن وضع الظاهر

__________________

(١) الإخلاص ١ ـ ٢.

(٢) الإسراء ١٠٥.

(٣) آل عمران ١٥٩.

(٤) ينظر مفتاح العلوم ص ٩٤ ، والإيضاح ص ٧٠ ، وشروح التلخيص ج ١ ص ٤٥٢.

٢٥٠

موضع المضمر : «والعجيب أن البيانيين لم يذكروه فى أقسام الإطناب» (١) وذكر أن منه قول النابغة الجعدى :

إذا الوحش ضمّ الوحش فى ظللاتها

سواقط من حرّ وقد كان أظهرا (٢)

ولو أتى على وجهه لقال : «إذا الوحش ضمها».

ومنه قوله تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ) ثم قال : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ)(٣) ولم يقل «يؤذونه» مع ما فى ذلك من التعظيم.

وقرر الزركشى أنّ الأصل فى الأسماء أن تكون ظاهرة وأصل المحدث عنه كذلك ، والأصل أنّه إذا ذكر ثانيا أن يذكر مضمرا للاستغناء عنه بالظاهر السابق كما أنّ الأصل فى الأسماء الإعراب وفى الأفعال البناء ، وإذا جرى المضارع مجرى الاسم أعرب كقوله تعالى : (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٤) ، وقوله : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)(٥) ، وقوله : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً)(٦).

وللخروج على خلاف الأصل أسباب :

أحدها : قصد التعظيم ، كقوله تعالى : «وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ

__________________

(١) البرهان فى علوم القرآن ج ٢ ص ٤٨٢.

(٢) يصف الشاعر سيره فى الهاجرة إذا استكن الوحش من حر الشمس واحتدامها. الظللات : جمع ظلة ، وهو ما يستظل به.

(٣) التوبة ٦١.

(٤) العنكبوت ١٧.

(٥) الشورى ٤٠.

(٦) النصر ٣.

٢٥١

وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (١) ، وقوله : (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٢).

الثانى : قصد الإهانة والتحقير ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(٣) ، وقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ، إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً)(٤).

ومنه قول الشاعر :

فما للنّوى لا بارك الله فى النوى

وعهد النوى عند الفراق ذميم

الثالث : الاستلذاذ بذكره ، كقوله تعالى : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ)(٥) إن كان الحق الثانى هو الأول.

وقوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً)(٦) ، وقوله : (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ)(٧) ، ولم يقل «منها» ولهذا عدل عن ذكر الأرض إلى الجنة وإن كان المراد بالأرض الجنة.

الرابع : زيادة التقدير ، كقوله تعالى : (اللهُ الصَّمَدُ) بعد قوله (اللهُ أَحَدٌ)(٨) ويدل على إرادة التقدير سبب نزولها ، وهو ما نقل عن ابن عباس أنّ قريشا قالت : يا محمد صف لنا ربك الذى تدعوننا إليه فنزل «الله أحد» معناه أنّ الذى سألتمونى وصفه هو الله ، ثم لما أريد تقدير كونه «الله» أعيد بلفظ الظاهر دون ضميره.

__________________

(١) البقرة ٢٨٢.

(٢) المجادلة ٢٢.

(٣) النور ٩١.

(٤) الإسراء ٥٣.

(٥) الإسراء ١٠٥.

(٦) فاطر ١٠.

(٧) الزمر ٧٤.

(٨) الإخلاص ١ ـ ٢.

٢٥٢

ومنه قوله تعالى : (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ)(١).

الخامس : إزالة اللبس حيث يكون الضمير يوهم أنّه غير المراد كقوله تعالى (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ)(٢) ، لو قال «تؤتيه» لأوهم أنه الأول.

ومنه قوله تعالى : (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ ، عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ)(٣) كرر «السوء» لأنه لو قال «عليهم دائرته» لالتبس بأن يكون الضمير عائدا إلى الله تعالى.

السادس : أن يكون القصد تربية المهابة وإدخال الروعة فى ضمير السامع بذكر الاسم المقتضى لذلك كما يقول الحاكم لمن يأمره بأمر «الحاكم يأمرك بكذا» مكان «أنا آمرك بكذا». ومنه قوله تعالى : (الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ)(٤) وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ)(٥) ، ولم يقل «لخزنتها».

السابع : قصد تقوية داعية المأمور ، كقوله تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(٦) ، ولم يقل «علىّ» ، وحين قال «على الله» لم يقل «إنه يحب» أو «إنى أحب» تقوية لداعى المأمور بالتوكل بالتصريح باسم المتوكل عليه.

الثامن : تعظيم الأمر ، كقوله تعالى : «أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ. قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا

__________________

(١) آل عمران ٧٨.

(٢) آل عمران ٢٦.

(٣) الفتح ٦.

(٤) الحاقة ١ ـ ٢.

(٥) غافر ٤٩.

(٦) آل عمران ١٥٩.

٢٥٣

كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ» (١) ، وقوله : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً. إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ)(٢) ، ولم يقل «خلقناه» للتنبيه على عظم خلقه للانسان.

ومنه قوله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً)(٣) فإنما أعيد لفظ «الجبال» والقياس الاضمار لتقدم ذكرها ، ولو لم يذكر «الجبال» لاحتمل عود الضمير إلى الأرض.

التاسع : أن يقصد التوصل بالظاهر إلى الوصف ، كقوله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ)(٤) بعد قوله فى صدر الآية (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ...) دون «فآمنوا بالله وبى» ليتمكن من إجراء الصفات التى ذكرها من النبى الأمى الذى يؤمن بالله ، فانه لو قال «وبى» لم يتمكن من ذلك لأنّ الضمير لا يوصف ليعلم أنّ الذى وجب الإيمان به والاتباع له هو من وصف بهذه الكلمات كائنا من كان أنا أو غيرى إظهارا للنصفة وبعدا من التعصب لنفسه.

العاشر : التنبيه على علة الحكم ، كقوله تعالى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ)(٥) ، وقوله : (فَإِنَّ اللهَ)(٦) دون «فانه».

الحادى عشر : قصد العموم ، كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها)(٧) ولم يقل «استطعمهم» للاشعار بتأكيد العموم وأنهما

__________________

(١) العنكبوت ١٩ ـ ٢٠.

(٢) الانسان ١ ـ ٢.

(٣) المزمل ١٤.

(٤) الأعراف ١٥٨.

(٥) البقرة ٥٩.

(٦) البقرة ٩٨ ، والآية : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ).

(٧) الكهف ٧٧.

٢٥٤

لم يتركا أحدا من أهلها إلّا استطعماه وأبى ، ومع ذلك قابلهم بأحسن الجزاء ، وفيه التنبيه على محاسن الأخلاق ودفع السيئة بالحسنة.

ومنه قوله تعالى : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)(١) فإنه لو قيل : «إنّها لأمارة» لاقتضى تخصيص ذلك فأتى بالظاهر ليدل على أنّ المراد التعميم مع أنه برىء من ذلك بقوله بعده «إلا ما رحم ربى» وقوله (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) ولم يقل «إنّه» إما للتعظيم وإما للاستلذاذ.

الثانى عشر : قصد الخصوص ، كقوله تعالى : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ)(٢) ولم يقل «لك» لأنه لو أتى بالضمير لأخذ جوازه لغيره كما فى قوله تعالى : (وَبَناتِ عَمِّكَ) فعدل عنه إلى الظاهر للتنبيه على الخصوصية وإنه ليس لغيره ذلك.

الثالث عشر : مراعاة التجنيس كقوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلهِ النَّاسِ. مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)(٣).

الرابع عشر : أن يتحمل ضميرا لا بدّ منه ، كقوله تعالى : (أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها)(٤).

الخامس عشر : كونه أهم من الضمير ، كقوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى)(٥) وقال بعضهم إن أعيدت «إحداهما» لتعادل الكلم وتوازن الألفاظ فى التركيب ، وهو المعنى فى الترصيع البديعى بل هذا أبلغ من الترصيع فان الترصيع توازن الألفاظ من حيث صيغها وهذا من حيث تركيبها فكأنه ترصيع معنوى. والآية متضمنة لقسمين : قسم

__________________

(١) يوسف ٥٣.

(٢) الأحزاب ٥٠.

(٣) سورة الناس ـ.

(٤) الكهف ٧٧.

(٥) البقرة ٢٨٢.

٢٥٥

الضلال وقسم التذكير فأسند الفعل الثانى إلى ظاهر حيث أسند الأول ولم يوصل بضمير مفصول لكون الأول لازما فأتى بالثانى على صورته من التجرد عن المفعول ثم أتى به خبرا بعد اعتدال الكلام وحصول التماثل فى تركيبه.

السادس عشر : كون ما يصلح للعود ولم يسق الكلام له ، كقوله تعالى : (رُسُلُ اللهِ ، اللهُ أَعْلَمُ)(١).

السابع عشر : الإشارة إلى عدم دخول الجملة فى حكم الأولى ، كقوله تعالى : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ)(٢) ، فان «يمحو» استئناف وليس عطفا على الجواب ، لأن المعلق على الشرط عدم قبل وجوده.

ولم يذكر البلاغيون إلّا بعض هذه الدواعى والأسباب الكثيرة التى وردت فى كتاب الله تعالى.

القلب :

وهو الخروج على مقتضى الظاهر ، وذلك أن يجعل أحد أجزاء الكلام مكان الآخر والآخر مكانه على وجه يثبت حكم كل منهما للآخر (٣)

وفى كونه من أساليب البلاغة خلاف ، وتتضح فيه ثلاثة آراء :

الأول : إنكاره ، ومن أوائل الذين ذهبوا إلى ذلك سيبويه الذى يرد القلب إذا جاء فى الكلام ويصفه بالرداءة والبعد عن الجودة ، يقول : «وأما قوله» أدخل فوه الحجر «فهذا جرى على سعة الكلام والجيد «أدخل فاه الحجر» كما قال : «أدخلت فى رأسى القلنسوة» والجيد أدخلت فى القلنسوة رأسى». قال الشاعر :

__________________

(١) الأنعام ١٢٤.

(٢) الشورى ٢٤.

(٣) شروح التلخيص ج ١ ص ٤٨٦.

٢٥٦

ترى الثور فيها مدخل الظّل رأسه

وسائره باد إلى الشّمس أجمع

فوجه الكلام فيه هذا كراهية الانفصال» (١). والأصل أن يقول : مدخل رأسه الظل ، لأنّ الرأس هو الداخل فى الظل ، والظل هو موضع الدخول.

ووقف الآمدى هذا الموقف من القلب فقال إنّ المتأخر لا يرخص له فى القلب ، «لأنّ القلب إنّما جاء فى كلام العرب على السهو ، والمتأخر إنّما يحتذى على أمثلتهم ويقتدى بهم وليس ينبغى أن يتبعهم فيما سهوا فيه» (٢). وذكر رأى الذين يذهبون إلى أنّ القلب جاء فى كتاب الله كقوله : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ)(٣) ، وقال إنّ هذا ليس بقلب وإنّما هو صحيح مستقيم ، وإنما أراد الله تعالى : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) أى : تميلها من ثقلها ، ذكر ذلك الفراء وغيره وقالوا إنّما المعنى «لتنوء العصبة».

وانتهى الآمدى إلى أنّ القلب القبيح لا يجوز فى الشعر ولا فى القرآن ، وهو ما جاء فى كلام العرب على سبيل الغلط ، وقال معقبا على بيت الفرزدق يصف ذئبا :

وأطلس عسّال وما كان صاحبا

رفعت لنارى موهنا فأتانى (٤)

وإنما أراد رفعها للذئب وأنشده المبرد وقال : «القلب جائز للاختصار إذا لم يدخل الكلام لبس» كأنه يجيز ذلك للعرب الأوائل دون المتأخرين.

__________________

(١) كتاب سيبويه ج ١ ص ٩٢.

(٢) الموازنة ج ١ ص ٢٠٧.

(٣) القصص ٧٦.

(٤) الأطلس : الأغبر. عسال : نسبه إلى مشيته ، يقال : مر الذئب يعسل ، وهو مشى خفيف كالهرولة. الوهن والموهن من الليل : نحو منتصفه أو بعد ساعة منه.

٢٥٧

وما علمت أحدا قال «للاختصار» غيره ، فلو قال : لإصلاح الوزن أو للضرورة كما قال غيره كان ذلك أشبه. ويجوز أن يكون الفرزدق فى هذا البيت سها أو اضطر لإصلاح الوزن» (١).

وتحدث ابن سنان الخفاجى عن هذا الأسلوب وقال : ومن وضع الألفاظ موضعها أن لا يكون الكلام مقلوبا فيفسد المعنى ويصرفه عن وجهه» (٢) ولذلك أمثلة مذكورة منها قول عروة بن الورد العبسى :

فلو أنّى شهدت أبا سعاد

غداة غدا لمهجته يفوق

فديت بنفسه نفسى ومالى

وما آلوك إلّا ما أطيق

يريد أن يقول : فديت نفسه بنفسى.

وكذلك بيت الفرزدق السابق فى وصف الذئب ، وإنما النار هى المرفوعة للذئب. وحمل بعضهم على المقلوب قول المتنبى :

وعذلت أهل العشق حتى ذقته

فعجبت كيف يموت من لا يعشق

وتقديره : كيف لا يموت من يعشق.

وقال بعضهم إنّ الكلام جار على طريقته ، والمراد به : كيف تكون المنية غير العشق ، أى أن الأمر الذى يقدر فى النفوس أنه فى أعلى مراتب الشدة هو الموت ، ولما ذقت العشق فعرفت شدته عجبت كيف يكون هذا الأمر الصعب المتفق على شدته غير العشق ، وكيف يجوز أن لا تعم علته حتى تكون منايا الناس كلهم به. وكان هذا أشبه بمراد المتنبى من حمل الكلام على القلب.

__________________

(١) الموازنة ج ١ ص ٢٠٩ ـ ٢١٠.

(٢) سر الفصاحة ص ١٢٩.

٢٥٨

وقال ابن سنان عن قوله تعالى : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ)(١) ، إنّه ليس من القلب ، وإنّما المراد أنّ المفاتيح تنوء بالعصبة ، أى : تميلها من ثقلها. وكذلك قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)(٢) ليس ـ على ما يزعم بعضهم ـ المراد به : وإنّ حبه للخير لشديد ، بل المقصود به أنّه لحب المال لبخيل ، والشدة : البخل ، أى : من حبه للمال يبخل.

وحمل ابن جنى على المقلوب قول المتنبى :

نحن ركب ملجنّ فى زى ناس

فوق طير لها شخوص الجمال

وقال إنّ تقديره : نحن ركب من الإنس فى زى الجن فوق جمال لها شخوص طير. وقال ابن سنان معقبا على هذا التفسير : «وهذا عندى تعسف من أبى الفتح لا تقود إليه الضرورة. ومراد أبى الطيب المبالغة على حسب ما جرت به عادة الشعراء فيقول : نحن قوم من الجن لجوبنا الفلاة والمهامه والقفار التى لا تسلك وقلة فرقنا فيها ، إلّا أنّنا فى زى الإنس ، وهم على الحقيقة كذلك ونحن فوق طير من سرعة إبلنا إلّا أنّ شخوصها شخوص الجمال ، ولا شك أيضا فى ذلك (٣)».

وقال عن بيت قطرى بن الفجاءة :

ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب

جذع البصيرة قارح الإقدام

«حملوه على المقلوب وقالوا : يريد قارح البصيرة جذع الإقدام ، كما يقال غرور أى مجرب. وقد كان أبو العلاء صاعد بن عيسى الكاتب أجازنى فى بعض الأيام هذا البيت وقال : ما المانع من أن يكون مقصوده : لم أصب

__________________

(١) القصص ٧٦.

(٢) العاديات ٨.

(٣) سر الفصاحة ص ١٣٢ ، وينظر عروس الأفراح ـ شروح التلخيص ج ١ ص ٤٩١.

٢٥٩

أى لم ألف على هذه الحال بل وجدت على خلافها جذع الإقدام قارح البصيرة ويكون الكلام على جهته غير مقلوب. وتمكن الدلالة على أنّ قوله «لم أصب» فى البيت بمعنى «لم ألف» دون ما يقولون من أنّ مراده به لم أجرح بقوله ، قبله :

لا يركنن أحد إلى الإحجام

يوم الوغى متخوفا لحمام

فلقد أرانى للرماح دريئة

من عن يمينى تارة وأمامى

حتى خضبت بما تحدّر من دمى

أكناف سرجى أو عنان لجامى

فكيف يكون لم يصب وقد خضب هذا بدمه؟ فأما قولهم : إنّه أراد من دمى أى من دم قومى وبنى عمى فمبالغة منهم فى التعسف والعدول عن وجه الكلام ليستمر لهم أن يكون فاسدا غير صحيح.

وهذا الذى ذكره أبو العلاء وسبق إليه ، له وجه يجب تقبله واتباعه فيه وفحوى كلام قطرى يدل على أنّه أراد أنّه جرح ولم يمت ، إعلاما أن الإقدام غير علة فى الحمام ، وحثا على الشجاعة ، ونهيا عن الفرار» (١). وقال بعد ذلك كله «ومن طريف التفسير للشعر أن يتأول ليقع الفساد فيه ، ولو حمل على ظاهره كان صوابا صحيحا» (٢) ، ومعنى ذلك أنّ ابن سنان لا يميل إلى القلب والتأويل لئلا يخرج الكلام على مقتضى الظاهر فيفسد ويبعد عن الهدف الذى رمى إليه قائله.

وأنكر القلب حازم القرطاجنى وقال إنّه مما يجب أن ينزه كتاب الله عنه لأنّ العرب إذا صدر ذلك منهم فيقصد العبث أو التهكم أو المحاكاة أو حال الاضطرار ، والله منزّه عن ذلك. وقال : «فكل كلام يمكن حمله على غير القلب بتأويل لا يبعد معناه فليس يجب حمله على القلب. وأما ما لا يمكن

__________________

(١) سر الفصاحة ص ١٣٢ ـ ١٣٣.

(٢) سر الفصاحة ص ١١٣.

٢٦٠