أساليب بلاغية

الدكتور أحمد مطلوب

أساليب بلاغية

المؤلف:

الدكتور أحمد مطلوب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: وكالة المطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٣

٨ ـ حذف لو وجوابها ، ومثال حذف «لو» قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ)(١).

وتقديره : لو كان معه آلهة لذهب كل إله بما خلق.

ومنه قول قريط بن أنيف :

لو كنت من مازن لم تستبح إبلى

بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

إذن لقام بنصرى معشر خشن

عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا

والتقدير : إذن لو كنت منهم لقام بنصرى معشر خشن.

ومثال حذف جواب «لو» قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ)(٢) وتقدير جواب لو : لرأيت أمرا عظيما. ومنه قول أبى تمام :

لو يعلم الكفر كم من أعصر كمنت

له العواقب بين السّمر والقضب

والتقدير : لو يعلم الكفر لأخذ أهبة الحذار.

٩ ـ حذف جواب «لو لا» كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا ، لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٣) تقديره ولو لا فضل الله عليكم ورحمته لعجل لكم العذاب.

١٠ ـ حذف جواب «لما» كقوله تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)(٤) ،

__________________

(١) المؤمنون ٩١.

(٢) سبأ ٥١.

(٣) النور ١٩ ـ ٢٠.

(٤) فات ١٠٢ ـ ١٠٥.

٢٢١

وتقديره : فلما أسلما وتلّه للجبين وناديناه أن يا ابراهيم قد صدقت الرؤيا كان ما كان مما ينطق به الحال ولا يحيط به الوصف.

١١ ـ حذف جواب «أما» ، كقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ)(١) ، والتقدير : فيقال لهم أكفرتم بعد إيمانكم ، فحذف القول وأقام المقول مقامه.

١٢ ـ حذف جواب «إذا» كقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ)(٢) ، والتقدير : وإذا قيل لهم اتقوا أعرضوا وأصروا على تكذيبهم ، وقد دل عليه قوله : «إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ».

١٣ ـ حذف المبتدأ والخبر. ولا يكون حذف المبتدأ إلّا مفردا ، والأحسن حذف الخبر لأنّ منه ما يأتى جملة. ومن المواضع التى يحسن فيها حذف المبتدأ على طريق الإيجاز قولهم «الهلال والله» ، أى : هذا الهلال.

ومن المواضع التى يصح فيها حذف الخبر قولنا «لو لا محمد لكان كذا» ومن المواضع التى يحتمل أن يكون المحذوف فيها إمّا المبتدأ وإمّا الخبر قوله تعالى : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)(٣) فيحتمل أن يكون المبتدأ محذوفا وتقديره «فأمرى صبر جميل» ويحتمل أن يكون من باب حذف الخبر وتقديره «فصبر جميل أجمل».

١٤ ـ حذف «لا» من الكلام وهى مرادة ، كقوله تعالى : (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ)(٤) أى : لا تفتأ ، فحذفت «لا» من الكلام وهى مرادة.

__________________

(١) آل عمران ١٠٦.

(٢) يس ٤٥ ـ ٤٦.

(٣) يوسف ٨٥.

(٤) يوسف ٨٥.

٢٢٢

ومنه قول امرئ القيس :

فقلت : يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعّوا رأسى لديك وأوصالى

أى : لا أبرح قاعدا ...

١٥ ـ حذف الواو من الكلام وإثباتها ، وأحسن حذوفها فى المعطوف والمعطوف عليه ، ومنه قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ)(١). أى : لا يألونكم خبالا وودوا ...

١٦ ـ حذف بعض اللفظ وهو سماعى لا يجوز القياس عليه (٢) ، ومنه قول علقمة بن عبدة :

كأنّ إبريقهم ظبى على شرف

مفدّم بسبا الكتّان ملثوم (٣)

فقوله : «بسبا الكتان» يريد بسبائب الكتان.

وهذا وأمثاله مما يقبح ولا يحسن وإن كانت العرب قد استعملته فانه لا يجوز لنا أن نستعمله.

النوع الثانى : حذف الجمل وهو قسمان :

أحدهما : حذف الجمل المفيدة التى تستقل بنفسها كلاما وهذا أحسن المحذوفات وأدلها على الاختصار ولا نكاد نراه إلّا فى كتاب الله تعالى.

وثانيهما : حذف الجمل غير المفيدة.

وجملة هذين النوعين أربعة أضرب :

الضرب الأول : حذف السؤال المقدر ويسمى الاستئناف ويكون على وجهين :

__________________

(١) آل عمران ١١٨.

(٢) ينظر المثل السائر ج ٢ ص ١١٣ ؛ والطراز ج ٢ ص ١١٢.

(٣) الفدام : خرقة تجعل فى فم الإبريق. سبائب الكتان : جمع سبيبة وهى الشقة ، وقيل : الشقة البيضاء.

٢٢٣

١ ـ إعادة الأسماء والصفات ، كقوله تعالى : (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١) ، والاستئناف واقع فى هذا الكلام على «أولئك» لأنه لما قال «الم. ذلك الكتاب» إلى قوله «وبالآخرة هم يوقنون» اتجه السائل أن يقول : ما بال المستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى ، فأجيب بأن أولئك الموصوفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلا وبالفلاح آجلا.

٢ ـ الاستئناف بغير إعادة الأسماء والصفات ، كقوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)(٢). فمخرج هذا القول مخرج الاستئناف ، لأن ذلك من مظان المسألة عن حاله عند لقاء ربه ، وكأنّ قائلا قال : كيف حال هذا الرجل عند لقاء ربه بعد ذلك التصلب فى دينه والتسخى لوجهه بروحه؟ فقيل : قيل ادخل الجنة ولم يقل قيل له لانصباب الغرض إلى المقول لا إلى المقول له مع كونه معلوما ، وكذلك قوله تعالى : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد.

الضرب الثانى : الاكتفاء بالسبب عن المسبب وبالمسبب عن السبب ، فاما الاكتفاء بالسبب عن المسبب فكقوله تعالى : «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ

__________________

(١) البقرة ١ ـ ٥.

(٢) يس ٢٢ ـ ٢٧.

٢٢٤

إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ» (١) ، فذكر الرحمة التى هى السبب فى إرساله إلى الخلق ودل بها على المسبب وهو الإرسال.

وعليه قول المتنبى :

أتى الزمان بنوه فى شبيبته

فسرّهم وأتيناه على الهرم

أى : فساءنا.

وأما حذف الجملة غير المفيدة من هذا الضرب فكقوله تعالى حكاية عن مريم ـ عليها‌السلام ـ (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا. قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا)(٢) ، فقوله : «ولنجعله آية للناس» تعليل معلّله محذوف أى : وإنما فعلنا ذلك لنجعله آية للناس ، فذكر السبب الذى صدر الفعل من أجله ، وهو جعله آية للناس ، ودل به على المسبب الذى هو الفعل.

وأما الاكتفاء بالمسبب عن السبب ، فكقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ)(٣) ، أى : إذا أردت قراءة القرآن. فاكتفى بالمسبب الذى هو القراءة عن السبب الذى هو الإرادة ، والدليل على ذلك أنّ الاستعاذة قبل القراءة والذى دلت عليه أنّها بعد القراءة.

الضرب الثالث : الإضمار على شريطة التفسير ، وهو أن يحذف من صدر الكلام ما يؤتى به فى آخره فيكون الآخر دليلا على الأول. وهو ثلاثة أوجه (٤) :

__________________

(١) القصص ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) مريم ٢٠ ـ ٢١.

(٣) النحل ٩٨.

(٤) ينظر المثل السائر ج ٢ ص ٨٦ ، والجامع الكبير ص ١٢٥ ، والطراز ج ٢ ص ٩٧.

٢٢٥

١ ـ أن يأتى على طريق الاستفهام فتذكر الجملة الأولى دون الثانية ، كقوله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١) ، تقدير الآية : أفمن شرح الله صدره للاسلام كمن أقسى قلبه؟ ويدل على المحذوف قوله «فويل للقاسية قلوبهم».

٢ ـ أن يرد على حد النفى والإثبات ، كقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا)(٢). تقديره : لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ومن أنفق من بعده وقاتل ، ويدل على المحذوف قوله : «أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا».

٣ ـ أن يرد على غير هذين الوجهين ، فلا يكون استفهاما ولا نفيا وإثباتا كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا ، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ)(٣) فالمعنى فى الآية : والذين يعطون ما أعطوا من الصدقات وسائر القرب الخالصة لوجه الله تعالى (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أى : خائفة من أن ترد عليهم صدقاتهم فحذف قوله : ويخافون أن ترد عليهم هذه النفقات ، ودل عليه بقوله (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) فظاهر الآية أنّهم وجلون من الصدقة وليس من وجلهم لأجل الصدقة ، وإنّما وجلهم لأجل خوف الرد المتصل بالصدقة.

وكقول أبى تمام :

يتجنب الآثام ثم يخافها

فكأنّما حسناته آثام

__________________

(١) الزمر ٢٢.

(٢) الحديد ١٠.

(٣) المؤمنون ٦٠.

٢٢٦

التقدير : أنه يتجنب الآثام فاذا تجنبها فقد أتى بحسنة ثم يخاف أن لا تكون تلك الحسنة مقبولة ، فكأنما حسناته آثام فلم يخف الحسنة لكونها حسنة وإنّما خاف ما يتصل بها من الرد فكأنها مخوفة كما تخاف الآثام.

ومنه قول أبى نواس :

سنّة العشّاق واحدة

فاذا أحببت فاستكن

فحذف الاستكانة من الأول وذكرها فى المصراع الثانى ، لأنّ التقدير : سنة العاشقين واحدة وهى أن يستكينوا ويتضرعوا ، فاذا أحببت فاستكن.

الضرب الرابع : ما ليس بسبب ولا مسبب ، ولا إضمار على شريطة التفسير ، ولا استئناف.

فمن حذف الجمل المفيدة فيه قوله تعالى : (قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ. وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ)(١) ، فانه حذف من هذا الكلام جملة مفيدة تقديرها : فرجع الرسول فأخبرهم بمقالة يوسف فعجبوا لها أو فصدقوه عليها وقال الملك : «ائتونى به».

ومن حذف الجمل غير المفيدة قوله تعالى : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا* قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا* قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً* قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا.

__________________

(١) يوسف ٤٧ ـ ٥٠.

٢٢٧

فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا* يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)(١).

هذا الكلام قد حذف منه جملة دل عليها صدره وهو البشرى بالغلام وتقديرها : ولما جاءه الغلام ونشأ وترعرع قلنا له : يا يحيى خذ الكتاب بقوة ، فالجملة المحذوفة ليست من الجمل المفيدة.

ومما ورد على ذلك شعرا قول المتنبى :

لا أبغض العيس لكّنى وقيت بها

قلبى من الهمّ أو جسمى من السّقم

وفى هذا البيت حذف ، والتقدير : لا أبغض العيس لإنضائى إياها فى الأسفار ولكنى وقيت بها كذا وكذا ، فالثانى دليل على حذف الأول.

ومما يتصل بهذا الضرب حذف ما يجىء بعد «أفعل» مثل : «الله أكبر» أى : أكبر من كل كبير. وعليه ورد قول البحترى :

الله أعطاك المحبّة فى الورى

وحباك بالفضل الذى لا ينكر

ولأنت أملأ فى العيون لديهم

وأجلّ قدرا فى الصدور وأكبر

أى : أنت أملأ فى العيون من غيرك (٢).

__________________

(١) مريم ٧ ـ ١٢.

(٢) ينظر التفصيل فى هذه المسائل المثل السائر ج ٢ ص ٧١ وما بعدها ، والجامع الكبير ص ١٢٢ وما بعدها ، والإيضاح ص ١٨٥ وما بعدها ، والطراز ج ص ٨٨ وما بعدها ، وشروح التلخيص ج ٣ ص ١٨٣ وما بعدها.

٢٢٨

الاطناب

تعريفه :

الإطناب ـ لغة ـ مصدر أطنب فى كلامه إطنابا ، إذا بالغ فيه وطوّل ذيوله لإفادة المعانى. واشتقاقه من قولهم : «أطنب بالمكان» إذا طال مقامه فيه.

والإطناب ـ اصطلاحا ـ زيادة اللفظ على المعنى لفائدة.

وقد شغل هذا الأسلوب النقاد منذ عهد مبكر وعرض له الجاحظ ، وعقد له البلاغيون فصولا ضافية ، من ذلك ما فعله أبو هلال العسكرى الذى ذكر فى مطلع البحث حجة أصحاب الإطناب ، فقد قالوا : «المنطق إنّما هو بيان ، والبيان لا يكون إلّا بالإشباع ، والشفاء لا يقع إلّا بالإقناع ، وأفضل الكلام أبينه ، وأبينه أشده إحاطة بالمعانى ، ولا يحاط بالمعانى إحاطة تامة إلّا بالاستقصاء ، والإيجاز للخواص ، والإطناب مشترك فيه الخاصة والعامة ، والغبى والفطن ، والريض والمرتاض ، ولمعنى ما أطيلت الكتب السلطانية فى إفهام الرعايا» (١). ولكن أبا هلال يرى أنّ الإيجاز والإطناب يحتاج إليهما فى الكلام ، وهذا هو الصحيح لتتم المطابقة لمقتضى الحال.

وكان ابن الأثير من أكثر البلاغيين اهتماما بهذا الأسلوب ، وقد عرّفه بقوله : «هو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة» (٢).

وعرفه ابن قيم الجوزية بقوله : «هو زيادة فى اللفظ لتقوية المعنى» (٣) ويتفق هذا التعريف مع التعريفات الأخرى التى لا تكاد تخرج عن هذا المعنى

__________________

(١) كتاب الصناعتين ص ١٩٠.

(٢) المثل السائر ج ٢ ص ١٢٨ ، وينظر الجامع الكبير ص ١٤٦.

(٣) الفوائد ص ٩٠٧.

٢٢٩

وهو أنّ الإطناب زيادة اللفظ لغرض يقصد إليه المتكلم ، وإلّا كان إطالة لا يقتضيها المقام.

والتطويل من المصطلحات التى تتردد ، وقد ذم بعضهم هذا الأسلوب وميّز بينه وبين الإطناب فقال أبو هلال : «فالإطناب بلاغة والتطويل عى ، لأنّ التطويل بمنزلة سلوك ما يبعد جهلا بما يقرب ، والإطناب بمنزلة سلوك طريق بعيد نزه يحتوى على زيادة فائدة» (١).

وفرّق ابن الأثير بينهما فقال فى التطويل إنّه «يدل على المعنى بلفظ يكفيك بعضه فى الدلالة عليه» (٢). وقال عنه : «هو زيادة اللفظ عن المعنى لغير فائدة» (٣) ، فى حين قال عن الإطناب إنه «زيادة اللفظ على المعنى لفائدة» (٤) ، واذا حذفت منه الزيادة المؤكدة للمعنى تغير ذلك المعنى وزال ذلك التأكيد عنه وذهبت فائدة التصوير والتخييل التى تفيد السامع ما لم يكن إلّا بها ، فقوله تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(٥) لا يسمى إيجازا لأنه أتى فيه بزيادة لفظ هى «الصدور» ولا يسمى تطويلا لأن التطويل لا فائدة فيه أصلا وهذا فيه فائدة ولذلك سمى إطنابا ، وليس كذلك التطويل فالبيت :

طلوع الثنايا بالمطايا وسابق

إلى غاية من يبتدرها يقدّم

فيه تطويل لأنّ لفظة «المطايا» فضلة لا حاجة إليها (٦)

__________________

(١) كتاب الصناعتين ص ١٩١.

(٢) المثل السائر ج ٢ ص ٧٤.

(٣) المثل السائر ج ٢ ص ١٢٩.

(٤) المثل السائر ج ٢ ص ١٢٨.

(٥) الحج ٤٦.

(٦) ينظر المثل السائر ج ٢ ص ٧٤ وص ١٥٧.

٢٣٠

وفرّق الخطيب القزوينى بين الإطناب والتطويل ولكنه قال عن الثانى : «وهو ألا يتعين الزائد فى الكلام» (١) وسمّى الذى يتعين فيه الزائد حشوا.

أقسامه :

يأتى الإطناب على أشكال مختلفة منها :

١ ـ الإيضاح بعد الإبهام : ويأتى لأغراض :

الأول : ليرى المعنى فى صورتين مختلفتين.

الثانى : ليتمكن فى النفس فضل تمكن ، فان المعنى إذا ألقى على سبيل الإجمال والإبهام تشوّقت نفس السامع إلى معرفته على سبيل التفصيل والإيضاح.

الثالث : لتكمل اللذة بالعلم به ، فانّ الشئ إذا حصل كمال العلم به دفعة لم يتقدم حصول اللذة به ألم وإذا حصل الشعور به من وجه دون وجه تشوقت النفس إلى العلم بالمجهول فيحصل لها بسبب المعلوم لذة.

الرابع : لتفخيم الأمر وتعظيمه.

ومثال هذا الأسلوب قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ)(٢) ، فان «أنّ دابر هؤلاء مقطوع مصبحين» إيضاح للإبهام الذى تضمنه لفظ «الأمر» وفيه تفخيم للأمر وتعظيم له.

ومنه قوله تعالى : (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي)(٣) ، فان قوله «اشرح لى» يفيد طلب شرح لشىء ما ، وقوله «صدرى» يفيد تفسيره وبيانه ، وكذلك قوله : (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) والمقام مقتض للتأكيد.

__________________

(١) الإيضاح ص ١٧٧.

(٢) الحجر ٦٦.

(٣) طه ٢٥ ـ ٢٦.

٢٣١

ومن الإيضاح بعد الإبهام باب «نعم وبئس» إذ لو لم يقصد الإطناب لقيل «نعم محمد» و «بئس زيد».

ومنه «التوشيع» وهو أن يؤتى فى عجز الكلام بمثنى مفسر باسمين أحدهما معطوف على الآخر ، كما جاء فى الخبر : «يشيب ابن آدم وتشب معه خصلتان : الحرص وطول الأمل».

ومنه قول الشاعر :

سقتنى فى ليل شبيه بشعرها

شبيهة خديها بغير رقيب

فما زلت فى ليلين : شعر وظلمة

وشمسين : من خمر ، ووجه حبيب

ومنه قول ابن الرومى :

إذا أبو قاسم جادت لنا يده

لم يحمد الأجودان : البحر والمطر

وإن أضاءت لنا أنوار غرّته

تضاءل النيرّان : الشّمس والقمر

وإن نضا حدّه أوسلّ عزمته

تأخر الماضيان : السيف والقدر

من لم يبت حذرا من سطو صولته

لم يدر ما المزعجان : الخوف والحذر

ينال بالظن ما يعيى العيان به

والشاهدان عليه : العين والأثر

٢٣٢

وقول البحترى :

لما مشين بذى الأراك تشابهت

أعطاف قضبان به وقدود

فى حلّتى حبر وروض فالتقى

وشيان : وشى ربى ووشى برود

وسفرن فامتلأت عيون راقها

وردان : ورد جنى وورد خدود (١)

٢ ـ ذكر الخاص بعد العام : ويؤتى به للتنبيه على فضل الخاص حتى كأنه ليس من جنس العام تنزيلا للتقارير فى الوصف منزلة التقارير فى الذات ، كقوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ ، وَالصَّلاةِ الْوُسْطى)(٢) وقد خصّ «الصلاة الوسطى» ـ وهى صلاة العصر ـ بالذكر لزيادة فضلها.

ومنه قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ)(٣) و «جبريل» و «ميكائيل» من الملائكة.

وقوله : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(٤) ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر داخل فى الخير ولكنه تعالى خصهما.

ومنه قول المتنبى :

فان تفق الأنام وأنت منهم

فان المسك بعض دم الغزال

__________________

(١) ينظر الإيضاح ص ١٩٥ ـ ١٩٦ ، وخزانة الأدب ص ١٦٩ ، والبرهان فى علوم القرآن ج ٢ ص ٤٧٧ ، وشروح التلخيص ج ٣ ص ٢١٥.

(٢) البقرة ٩٣٨.

(٣) البقرة ٩٨.

(٤) آل عمران ١٠٤.

٢٣٣

وقول ابن الرومى :

كم من أب قد علا بابن ذرا شرف

كما علت برسول الله عدنان (١)

٣ ـ ذكر العام بعد الخاص : ويؤتى به لإفادة العموم مع العناية بشأن الخاص. قال الزركشى : «وهذا أنكر بعض الناس وجوده ، وليس بصحيح» (٢) ومثّل له بقوله تعالى : (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي)(٣) ، والنسك العبادة ، فهو أعم من الصلاة.

ومنه قوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ، وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)(٤).

٤ ـ التكرير : وهو أن يأتى المتكلم بلفظ ثم يعيده بعينه سواء كان اللفظ متفق المعنى أم مختلفا ، أو يأتى بمعنى ثم يعيده (٥).

ويؤتى به لأغراض :

الأول : التأكيد ، كقوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ)(٦) ، وفى «ثم» دلالة على أنّ الإنذار الثانى أبلغ وأشد.

الثانى : زيادة التنبيه على ما ينفى التهمة ليكمل تلقى الكلام بالقبول ، ومنه قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ : يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ. يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ)(٧) ، فانه كرر فيه النداء لذلك.

__________________

(١) الإيضاح ص ١٩٧ ، وشروح التلخيص ج ٣ ص ٢١٦ ، والبرهان فى علوم القرآن ج ٢ ص ٤٦٤.

(٢) البرهان فى علوم القرآن ج ٢ ص ٤٧١.

(٣) الأنعام ١٦٢.

(٤) التوبة ٧٨.

(٥) ينظر الفوائد ص ١١١ ، والمثل السائر ج ٢ ص ١٢٩ ، ١٥٧ ، والجامع الكبير ص ٢٠٤ ، وخزانة الأدب ص ١٦٤ ، والمصباح ص ١٠٥.

(٦) التكاثر ٣ ـ ٤.

(٧) غافر ٣٨ ـ ٣٩.

٢٣٤

الثالث : إذا طال الكلام وخشى تناسى الأول أعيد ثانيا تطرية له وتجديدا لعهده ، كقوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ، ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا ، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(١).

الرابع : فى مقام التعظيم والتهويل ، كقوله تعالى : (الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ)(٢) وقوله : (الْقارِعَةُ. مَا الْقارِعَةُ)(٣) ، وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ)(٤).

الخامس : التعجب ، كقوله تعالى : (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ)(٥) فأعيد تعجبا من تقديره وإصابته الغرض.

السادس : لتعدد المتعلق ، كما كرّره تعالى من قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فى سورة الرحمن ، فانها وإن تعددت فكل واحد منها متعلق بما قبله.

السابع : الترغيب فى قبول النصح ، كقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ : يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ. يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ)(٦) ، فقد كرر «يا قوم» لتعطيف قلوبهم.

الثامن : التلذذ بذكر المكرر ، كقول الشاعر :

سقى الله نجدا والسلام على نجد

ويا حبّذا نجد على القرب والبعد

التاسع : إظهار التحسر كقول الحسين بن مطير يرثى معن بن زائدة :

__________________

(١) النحل ١١٩.

(٢) الحاقة ١ ـ ٢.

(٣) القارعة ١ ـ ٢.

(٤) القدر ١ ـ ٢.

(٥) المدثر ١٩ ـ ٩٠.

(٦) غافر ٣٨ ـ ٣٩.

٢٣٥

فيا قبر معن أنت أوّل حفرة

من الأرض خطّت للسماحة موضعا

ويا قبر معن كيف واريت جوده

وقد كان منه البرّ والبحر مترعا

ويؤتى لغير ذلك من الأغراض التى يحددها المقام (١).

٥ ـ الإيغال : واختلف فى معناه ، فقيل : هو ختم البيت بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها ، كزيادة المبالغة فى قول الخنساء :

وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به

كأنّه علم فى رأسه نار

فهى لم تقف عند تشبيهه بالجبل المرتفع بل أضافت النار فى رأسه.

وقيل إنّه لا يختص بالنظم ، ومن ذلك قوله تعالى (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ)(٢).

ولذلك فتعريفه بأنه «الإتيان فى مقطع البيت وعجزه أو فى الفقرة الواحدة بنعت لما قبله مفيد للتأكيد والزيادة» (٣) يجمع النوعين.

٦ ـ التذييل : قال ابن سنان : «هو أن يكون اللفظ زائدا على المعنى وفاضلا عنه» (٤) ، ويفهم من هذا التعريف أنّه يريد «التطويل» ، أو الإطناب ، لأنّه قسّم دلالة الألفاظ على المعانى ثلاثة أقسام : المساواة والتذييل والإشارة ، وليس كذلك تعريف المتأخرين ، فهو «تعقيب الجملة بجملة تشتمل على

__________________

(١) ينظر الإيضاح ص ١٩٧ ، وشروح التلخيص ج ٣ ص ٢١٨ ، والبرهان فى علوم القرآن ج ٤ ص ١١.

(٢) يس ٢١.

(٣) الطراز ج ٣ ص ١٣١ ، وينظر سر الفصاحة ص ١٨١ ، وكتاب الصناعتين ص ٣٨٠ ، والجامع الكبير ص ٢٤١ ، والمصباح ص ١٠٤ ، وبديع القرآن ص ٩١ ، وتحرير التحبير ص ٢٣٢ ، ٢٤١ ، وخزانة الأدب ص ٢٣٤ ؛ والإيضاح ص ١٩٩ وشروح التلخيص ج ٣ ص ٢٢٠.

(٤) سر الفصاحة ص ٢٤٣ ، ٢٥٦.

٢٣٦

معناها للتوكيد» (١). وقد قال أبو هلال عن هذا الأسلوب : «فأما التذييل فهو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى بعينه حتى يظهر لمن لم يفهمه ويتوكد عند من فهمه ، وهو ضد الإشارة والتعريض. وينبغى أن يستعمل فى المواطن الجامعة والمواقف الحافلة ، لأن تلك المواطن تجمع البطىء الفهم ، والبعيد الذهن ، والثاقب القريحة ، والجيد الخاطر ، فاذا تكررت الألفاظ على المعنى الواحد توكد عند الذهن اللقن وصحّ للكليل البليد» (٢).

والتذييل ضربان :

الأول : لا يخرج مخرج المثل لعدم استقلاله بافادة المراد وتوقفه على ما قبله كقوله تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ)(٣) أى : هل نجازى ذلك الجزاء الذى يستحقه الكفور إلّا الكفور ، فان جعلنا الجزاء عاما كان الثانى مفيدا فائدة زائدة.

ومنه قول الشاعر :

فدعوا نزال فكنت أول نازل

وعلام أركبه إذا لم أنزل

فالشطر الثانى تذييل ولكنه غير مستقل عن الأول.

وقول المتنبى :

وما حاجة الأضعان حولك فى الدجى

إلى قمر؟ ما واجد لك عادمه (٤)

فقوله «ما واجد لك عادمه» تذييل.

__________________

(١) الإيضاح ص ٢٠٠ ، والمصباح ص ٩٨ ، الفوائد ص ١٢١ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٢٢٥ الطراز ج ٣ ص ١١١ ، البرهان فى علوم القرآن ج ٣ ص ٦٨ ، خزانة الأدب ص ١١٠.

(٢) كتاب الصناعتين ص ٣٧٣.

(٣) سبأ ١٧.

(٤) أى لا يعدم القمر من يجدك.

٢٣٧

وقول ابن نباتة السعدى :

لم يبق جودك لى شيئا أؤمله

تركتنى أصحب الدنيا بلا أمل

فقوله : «تركتنى أصحب الدنيا بلا أمل» تذييل غير مستقل عن الجملة السابقة.

الثانى يخرج مخرج المثل لاستقلاله بنفسه ، كقوله تعالى : (وَقُلْ : جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)(١) ، فقوله : «إنّ الباطل كان زهوقا» تذييل وهو مستقل عن السابق ولذلك يخرج مخرج المثل.

ومنه قوله تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ. كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ)(٢) ، فقوله «كل نفس ذائقة الموت» مستقلة ويضرب بها المثل. ويصحّ أن يكون قوله «أفإن متّ فهم الخالدون» من الضرب الأول أيضا. وقوله : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)(٣) ، فقوله «إنّ النفس لامّارة بالسوء» تذييل يضرب به المثل.

ومنه قول النابغة الذبيانى :

ولست بمستبق أخا لا تلمّه

على شعث أىّ الرجال المهذّب

فقوله «أىّ الرجال المهذب» تذييل وهو مستقل عما قبله ولذلك يضرب به المثل.

وقول أبى نواس :

عرم الزمان على الذين عهدتهم

بك قاطنين ، وللزمان عرام (٤)

فقوله «وللزمان عرام» تذييل وهو مثل.

__________________

(١) الإسراء ٨١.

(٢) الأنبياء ٣٤ ـ ٣٥.

(٣) يوسف ٥٣.

(٤) العرام : الشدة والشراسة والأذى.

٢٣٨

ومنه قول إبراهيم بن المهدى فى رثاء ولده :

تبدّل دارا غير دار وجيرة

سواى ، وأحداث الزمان تنوب

فقوله «وأحداث الزمان تنوب» مثل ، وهو مستغن عما قبله.

والتذييل :

١ ـ إما لتأكيد منطوق كلام ، كقوله تعالى : «وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً».

٢ ـ وإما لتأكيد مفهومه كبيت النابغة :

ولست بمستبق أخا لا تلمّه

على شعث أىّ الرجال المهذّب

٧ ـ التكميل : وهو الاحتراس ، غير أنّ بدر الدين بن مالك يذكر فى كتابه «المصباح» (١) نوعين هما :

الأول : الاحتراس : وهو أن تأتى فى المدح أو غيره بكلام فتراه مدخولا بعيب من جهة دلالة منطوقه أو فحواه فتردفه بكلام آخر لتصونه عن احتمال الخطأ. ومنه قول الخنساء :

ولو لا كثرة الباكين حولى

على إخوانهم لقتلت نفسى

ففطنت لتوجه أن يقال لها قد ساويت أخاك بالهالكين من إخوان الناس فلم فرطت فى الجزع عليه ، فاحترست بقولها :

وما يبكون مثل أخى ولكن

أعزّى النّفس عنه بالتأسى

الثانى : التكميل : وهو أن تأتى فى شىء من الفنون بكلام فتراه ناقصا لكونه مدخولا بعيب من جهة دلالة مفهومه فتكمله بجملة ترفع عنه النقص. ومنه قول السموأل :

__________________

(١) المصباح ص ٩٧ ـ ٩٨.

٢٣٩

وما مات منا سيّد فى فراشه

ولا طلّ منا حيث كان قتيل (١)

فرأى أنّه وصف قومه بالصبر على القتل دون الانتصار من قاتليهم فكمله بالشطر الثانى.

وجمع معظم البلاغيين بين المصطلحين وقال القزوينى : «وأما التكميل ويسمى الاحتراس أيضا وهو أن يؤتى فى كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه» (٢) ، أى يدفع ذلك التوهم. وهو ضربان :

الأول : ضرب يتوسط الكلام ، كقول طرفة :

فسقى ديارك ـ غير مفسدها ـ

صوب الربيع وديمة تهمى

فقوله «غير مفسدها» احتراس عن أن تذهب معالمها.

وقول الآخر :

لو أن عزّة خاصمت شمس الضّحى

فى الحسن عند موفّق لقضى لها

فقوله «عند موفق» تكميل واحتراس من أنّها تقاضى الشمس عند حاكم غير موفق.

وقول ابن المعتز :

صببنا عليها ـ ظالمين ـ سياطنا

فطارت بها أيد سراع وأرجل

فقوله «ظالمين» احتراس وتكميل ، ولو حذفها الشاعر لفهم أن فرسه بطيئة تستحق الضرب.

__________________

(١) يقول فى الشطر الأول أنهم شجعان أهل حرب لا يموت أحدهم موتا طبيعيا وإنما يموتون بجراحات المعركة. وطل الرجل : أهدر دمه. ومعناه : أنهم لا يفوتهم ثأر قتيل من قتلاهم ، فهم أقوياء.

(٢) الإيضاح ص ٢٠٢ ، وينظر شروح التلخيص ج ٣ ص ٢٣١ ، والبرهان فى علوم القرآن ج ٣ ص ٦٨ ، والطراز ج ٣ ص ١٠٨ وسماه «الإكمال».

٢٤٠