أساليب بلاغية

الدكتور أحمد مطلوب

أساليب بلاغية

المؤلف:

الدكتور أحمد مطلوب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: وكالة المطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٣

الأول : أن يكون بين المفردين كمال الانقطاع بلا إيهام غير المراد مثل «زيد عالم قائم» فانه لا جامع بين هذين الخبرين ولذلك يفصلان ، ومثل ذلك الأعداد واحد أثنان ثلاثة أربعة ... ، وحروف الهجاء ألف باء ... ففى مثل هذه الحالة يجب الفصل.

الثانى : أن يكون بينهما كمال الانقطاع وفى الفصل إيهام غير المراد مثل : «ظننت زيدا ضاربا وعالما» فيجب العطف إذ لو لم يعطف لتوهم أن «عالما» «معمول» لـ «ضاربا».

الثالث : كمال الاتصال بأن يكون تأكيدا معنويا ، أو لفظيا ، أو عطف بيان ، أو نعتا ، أو بدلا نحو «جاء زيد نفسه» و «جاء زيد أبو عبد الله» و «جاء زيد القاسم» فلا يعطف شىء من ذلك.

أو يكون فى معنى واحد من هذه الأمور كما فى عطف الجمل أو فصلها أو أن يكونا بمنزلة خبر واحد ، مثل : «هذا حلو حامض» إذا جعلناهما خبرين.

الرابع : شبه كمال الانقطاع بأن يكون للمفرد الأول حكم لا يقصد إعطاؤه للثانى نحو «زيد مجيب إن قصد صالح» إذا أريد الإخبار بأنّه صالح مطلقا فان عطف «صالح» على «مجيب» يوهم أنّه صالح إن قصد ، لأنّ الشرط فى أحد المتعاطفين شرط فى الآخر بخلاف الشرط فى واحد من خبرى المبتدأ. وتارة يكون عطفه على المفرد قبله يوهم عطفه على غيره مثل «كان زيد ضاربا عمرا قائما» فلو قيل : «وقائما» لأوهم أنّه معطوف على «عمرو» المفعول.

الخامس : شبه كمال الاتصال ، مثل «زيد غضبان ناقص الحظ» كأنّ سائلا سأل : لم غضب؟.

السادس : أن يكون بينهما التوسط من كمال الانقطاع وكمال الاتصال مثل «زيد معط مانع» على أن يكونا خبرين ، فإذا أريد جعل الثانى صفة تعين الوصل.

٢٠١

أما العطف بين الجمل والمفردات ، فقد جوّز أكثر النحاة عطف الفعل على الاسم وعطف الاسم على الفعل إذا كان كل منهما فى تقدير الآخر. وقال السهيلى يحسن عطف الفعل على الاسم إذا كان اسم فاعل ، ويقبح عطف الاسم على الفعل. وقال إنّ مثل «مررت برجل يقوم قاعد» ممتنع إلّا على وجه. وجوّزه الزجاج كعطف الفعل على الاسم ، والأكثرون على الجواز (١). قال تعالى : (صافّات ويقبضن) (٢) وقال : (فالمغيرات صبحا. فأثرن به نقعاً) (٣).

__________________

(١) عروس الأفراح ـ شروح التلخيص ج ٣ ص ١١٥.

(٢) الملك ١٩.

(٣) العاديات ٣ ـ ٤.

٢٠٢

الفصل الخامس

الايجاز والاطناب

الايجاز والإطناب والمساواة من الأساليب التى لا تتضح كثيرا إلّا بالحديث عن أنواعها وعرض أمثلتها ، لأنّ الاتفاق على مقياس يلجأ إليه الدارسون من الأمور الصعبة. وكان السكاكى قد ذهب إلى أنّ الذى يحدد هذه الأساليب هو العرف وقد سماه «متعارف الأوساط» ، يقول : «أمّا الإيجاز والإطناب فلكونهما نسبيين لا يتيسر الكلام فيهما إلّا بترك التحقيق والبناء على شىء عرفى مثل جعل كلام الأوساط على مجرى متعارفهم فى التأدية للمعانى فيما بينهم. ولا بدّ من الاعتراف بذلك مقيسا عليه ولنسمّه «متعارف الأوساط» وأنه فى باب البلاغة لا يحمد ولا يذم» (١) ، ولذلك كان الإيجاز أداء المقصود من الكلام بأقل من عبارات متعارف الأوساط ، وكان الإطناب أداءه بأكثر من عباراتهم ، سواء كانت القلة أو الكثرة راجعة إلى الجمل أو إلى غير الجمل.

ولكن الخطيب القزوينى رأى الاتفاق على متعارف الأوساط صعبا ، ووجد أنّ بناء التعريف عليه أصعب ، والأقرب أن يقال : «المقبول من طرق التعبير عن المعنى هو تأدية أصل المراد بلفظ مساو له أو ناقص عنه واف ، أو زائد عليه لفائدة» (٢). وهذا التعريف لا يكون دقيقا إن لم تعرض أساليب الإيجاز والإطناب ليبنى عليها أسلوب المساواة ويحدد بدقة ووضوح ، ولذلك قال إنّ المساواة «أن يكون اللفظ بمقدار أصل المراد لا ناقصا عنه بحذف أو غيره ، ولا زائدا عليه بنحو تكريم أو تتميم أو

__________________

(١) مفتاح العلوم ص ١٣٣.

(٢) الإيضاح ص ١١٧.

٢٠٣

اعتراض» ، أى أنّ المساواة لا تتضح إلّا بعد دراسة الأسلوبين الآخرين ومعرفتهما معرفة دقيقة ، ولكنه قدّم الكلام على المساواة لأنّها الأصل المقيس عليه ، وهذا التقديم لا يخدم القياس لأنّ المساواة لا تعرف إلّا بعد معرفة الكلام المحذوف أو الزائد ، وبذلك تكون الكلام الذى ليس فيه حذف أو زيادة.

وميز بين الكلام التام والناقص ولذلك قال إنّ «واف» احتراز عن الإخلال ، وهو أن يكون اللفظ قاصرا عن أداء المعنى ، كقول عروة بن الورد :

عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم

ومقتلهم عند الوغى كان أعذرا

فانه أراد : إذ يقتلون نفوسهم فى السلم.

وقول الحارث بن حلزة :

والعيش خير فى ظلا

ل النّوك ممن عاش كدّا (١)

فانه أراد : العيش الناعم فى ظلال النوك خير من العيش الشاق فى ظلال العقل ، فأخلّ بالمعنى.

واحترز فى الزيادة وقال إنّها لفائدة ، لكى لا يدخل فيها :

١ ـ التطويل : وهو أن لا يتعين الزائد فى الكلام ، كقول عدى بن زيد العبادى :

وقددت الأديم لراهشيه

وألفى قولها كذبا ومينا (٢)

فان الكذب والمين واحد.

٢ ـ الحشو : وهو ما يتعين أنّه الزائد ، وهو نوعان :

__________________

(١) النوك : الحمق. الكد : التعب والمشقة.

(٢) قددت : قطعت. الأديم. الجلد. الراهشان : عرقان فى باطن الذراعين.

٢٠٤

الأول : ما يفسد المعنى ، كقول المتنبى :

ولا فضل فيه للشجاعة والنّدى

وصبر الفتى لو لا لقاء شعوب (١)

فانّ لفظ «الندى» فيه حشو يفسد المعنى ، لأنّ المعنى أنّه لا فضل فى الدنيا للشجاعة والصبر والندى لو لا الموت ، وهذا الحكم صحيح فى الشجاعة دون الندى ، لأنّ الشجاع لو علم أنّه يخلد فى الدنيا لم يخش الهلاك فى الإقدام فلم يكن لشجاعته فضل بخلاف الباذل ماله فإنه إذا علم أنّه يموت هان عليه بذله.

الثانى : ما لا يفسد المعنى ، كقول الشاعر :

ذكرت أخى فعاودنى

صداع الرأس والوصب (٢)

فانّ فى لفظ «الرأس» حشوا لا فائدة فيه لأنّ الصداع لا يستعمل إلّا فى الرأس ، وليس بمفسد للمعنى.

وقول زهير :

وأعلم علم اليوم والأمس قبله

ولكنّنى عن علم ما فى غد عم

فانّ قوله «قبله» مستغنى عنه غير مفسد.

وهذه المقدمة ضرورية فى دراسة هذا الموضوع ، ولكنه لن يتضح إلّا بعد الحديث عن أجزائه وإيضاح أمثلته وأساليبه.

__________________

(١) شعوب : الموت ، المنية.

(٢) الوصب : المرض والوجع الدائم ونحول الجسم ، وقد يطلق على النعب والفتور فى البدن.

٢٠٥

الايجاز

تعريفه :

الايجاز ـ لغة ـ : التقصير ، تقول : أوجزت الكلام ، أى : قصرته وكلام موجز من أوجز.

والايجاز ـ اصطلاحا ـ أن يكون اللفظ أقل من المعنى ، مع الوفاء به وإلّا كان إخلالا يفسد الكلام.

وهذا الأسلوب من أهم خصائص اللغة العربية فى القديم ، فقد كان العرب لا يميلون إلى الاطالة والشرح والإسهاب ، وكانوا يعدون الإيجاز هو البلاغة ، فأكثم بن صيفى يرى أنّ البلاغة هى الايجاز ، وكان جعفر بن يحيى يقول لكتّابه : «إن قدرتم أن تجعلوا كتبكم توقيعات فافعلوا» (١). وفعلوا مثل ذلك فى القصائد ، وقد قيل لبعضهم : مالك لا تزيد على أربعة واثنين؟ قال : هنّ بالقلوب أوقع وإلى الحفظ أسرع وبالألسن أعلق ، وللمعانى أجمع وصاحبها أبلغ وأوجز. وقيل لآخر : ألا تطيل القصائد ، فقال :

أبى لى أن أطيل الشعر قصدى

إلى المعنى وعلمى بالصواب

وإيجازى بمختصر قريب

حذفت به الفضول من الجواب

فأبعثهنّ أربعة وستا

مثقفة بألفاظ عذاب

خوالد ماحدا ليل نهارا

وما حسن الصبا بأخى الشباب

وهنّ إذا وسمت بهن قوما

كأطواق الحمائم فى الرّقاب

وكنّ إذا أقمت مسافرات

تهاداها الرواة مع الركاب (٢)

__________________

(١) البيان والتبيين ج ١ ص ٨٦ ، وكتاب الصناعتين ص ١٧٣.

(٢) كتاب الصناعتين ص ١٧٤.

٢٠٦

وفى هذه الأبيات خلاصة لأغراض الإيجاز ، فبه يصل المتكلم إلى هدفه من غير تمهيد أو زيادة لا يقتضيها المعنى ، وبه يأتى الكلام قصيرا يسهل حفظه وروايته ، وهذا ما يبدو واضحا فى الأمثال والخطب والشعر ، وبهذا الأسلوب أيضا تصل المعانى إلى القلب فى أسرع ما يكون وتؤثر فيه فيهتز طربا إن كان الكلام مما يسر ، وينفعل ويتجهم إن كان مما لا يسر.

وكان لهذه الصفة التى أولع بها العرب أن اهتم البلاغيون والنقاد بأسلوب الايجاز ، ووضعوا له حدودا وأقساما ، وبينوا مواضعه ، لأنّه ليس بمحمود فى كل موضع ولا بمختار فى كل كتاب بل لكل مقام مقال ، وإلى ذلك أشار ابن قتيبة بقوله : «ولو كان الإيجاز محمودا فى كل الأحوال لجرّده الله تعالى فى القرآن ، ولم يفعل الله ذلك ولكنه أطال تارة للتوكيد ، وحذف تارة للايجاز ، وكرر تارة للافهام» (١).

وقال ابن جنى إنّ الإطالة والإيجاز هما فى كل كلام مقيد مستقل بنفسه ولو بلغ الإيجاز غايته لم يكن له بدّ من أن يعطيك تمامه وفائدته مع أنّه لا بد فيه من تركيب الجملة فان نقصت عن ذلك لم يكن هناك استحسان ولا استعذاب.

وقال إنّ العرب إلى «الايجاز أقبل وعن الإكثار أبعد» ، وضرب مثلا بالقرآن الكريم وما فيه من الحذف الذى يجعل الكلام موجزا (٢). ومعنى ذلك أنّ هذا الأسلوب ضرورى كغيره إذا أراد المتكلم أن يكون مطابقا لمقتضى الحال ولذلك يقول أبو هلال العسكرى : «إنّ الإيجاز والإطناب يحتاج إليهما فى جميع الكلام وكل نوع منه ، ولكل واحد منهما موضع ، فالحاجة إلى الإيجاز فى موضعه كالحاجة إلى الإطناب فى مكانه فمن أزال التدبير فى ذلك عن جهته ، واستعمل الإطناب فى موضع الإيجاز واستعمل الإيجاز فى موضع الإطناب أخطأ» (٣).

__________________

(١) أدب الكاتب ص ١٥.

(٢) ينظر الخصائص ج ١ ص ٣٩ ، ٨٣ ، ٨٦.

(٣) كتاب الصناعتين ص ١٩٠.

٢٠٧

وتحدث ابن رشيق عن الإيجاز وذكر تعريف الرمانى وهو : «الإيجاز هو العبارة عن الغرض بأقل ما يمكن من الحروف» وقسّمه إلى نوعيه المعروفين (١).

وعقد ابن سنان له بحثا وسمّاه «الإشارة» وقال عنه : «هو أن يكون المعنى زائدا على اللفظ ، أى أنّه لفظ موجز يدل على معنى طويل على وجه الإشارة واللمحة» (٢). والمختار عنده فى الفصاحة والدال على البلاغة هو أن يكون المعنى مساويا للفظ أو زائدا عليه ، أى أن يكون اللفظ القليل يدل على الكثير دلالة واضحة ظاهرة لا أن تكون الألفاظ لفرط إيجازها قد ألبست المعنى وأغمضته حتى يحتاج فى استنباطه إلى طرف من التأمل ودقيق الفكر.

وعرّف الرازى الإيجاز بقوله : «وحده أنّه العبارة عن الغرض بأقل ما يمكن من الحروف من غير إخلال» (٣).

وقال السكاكى إنّ الإيجاز والإطناب ـ كما سبق ـ من الأمور النسبية كالأبوة والبنوة وهى التى يتوقف تعقلها على تعقل غيرها ، فإنّ الكلام الموجز إنّما يدرك من حيث وصفه بالإيجاز بالقياس إلى كلام آخر أكثر منه ، وكذلك المطنب إنّما يدرك من حيث وصفه بالإطناب إلى كلام آخر يكون أقل منه.

وتحدث عنه ابن الأثير وعقد له فصلا فى «المثل السائر» وفصلا فى «الجامع الكبير» وقال فى تعريفه : «هو حذف زيادات الألفاظ» (٤) ، وهذا النوع من الأساليب شريف لا يتعلق به إلّا فرسان البلاغة ، وذلك لعلو منزلته وبعد مناله. ثم قال بعد أن مهد لبحثه : «حد الإيجاز هو دلالة اللفظ

__________________

(١) العمدة ج ١ ص ٢٢١.

(٢) سر الفصاحة ص ٢٤٣.

(٣) نهاية الإيجاز ص ١٤٥.

(٤) المثل السائر ج ٢ ص ٧١ ، والجامع الكبير ص ١٢٢.

٢٠٨

على المعنى من غير أن يزيد عليه ، والتطويل هو ضد ذلك ، وهو أن يدل على المعنى بلفظ يكفيك بعضه فى الدلالة عليه» (١).

وسماه ابن الزملكانى «الإشارة» وقال : «هو إثبات المعانى المتكثرة باللفظ القليل» (٢).

وقال العلوى : «وهو فى مصطلح أهل هذه الصناعة عبارة عن تأدية المقصود من الكلام بأقل عبارة متعارف عليها» (٣).

وهذه التعريفات لا تخرج عن القول بأنّ الإيجاز هو التعبير عن المعانى بألفاظ قليلة تدل عليها لا دلالة تحتاج إلى تأمل دقيق.

أقسامه :

الإيجاز ضربان :

الأول : إيجاز القصر : وهو تقليل الألفاظ وتكثير المعانى ويرى ابن الأثير أنّ التنبه لهذا النوع عسر ، لأنّه يحتاج إلى فضل تأمل (٤) ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ)(٥). وتتبين قيمة هذه الآية الكريمة حينما تقارن بقولهم : «القتل أنفى للقتل» ، ويتضح ذلك فى وجوه :

أحدها : أنّ عدة حروف ما يناظره منه وهو (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) عشرة فى التلفظ وعدة حروفه أربعة عشر.

وثانيها : ما فيه من التصريح بالمطلوب الذى هو الحياة بالنص عليها فيكون أزجر عن القتل بغير حق لكونه أدعى إلى الاقتصاص.

__________________

(١) المثل السائر ج ٢ ص ٧٤.

(٢) التبيان فى علم البيان ص ١١٠ ، وينظر البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن ص ٢٣٢.

(٣) الطراز ج ٣ ص ٣١٦.

(٤) المثل السائر ج ٢ ص ٧٨.

(٥) البقرة ١٧٩.

٢٠٩

وثالثها : ما يفيده تنكير «حياة» من التعظيم أو النوعية.

ورابعها : اطراده بخلاف قولهم ، فانّ القتل الذى ينفى القتل هو ما كان على وجه القصاص لا غيره.

وخامسها : سلامته من التكرار الذى هو من عيوب الكلام بخلاف قولهم.

وسادسها : استغناؤه عن تقدير محذوف بخلاف قولهم ، فان تقديره : القتل أنفى للقتل من تركه.

وسابعها : أنّ القصاص ضد الحياة ، فالجمع بينهما طباق.

وثامنها : جعل القصاص كالمنبع والمعدن للحياة بادخال «فى» عليه (١).

ومن القصر قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ)(٢) وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ)(٣) وقوله : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)(٤).

ومنه قول الشريف الرضى :

مالوا إلى شعب الرّحال وأسندوا

أيدى الطعان إلى قلوب تخفق

فانه لما أراد أن يصفهم بالشجاعة فى أثناء وصفهم بالغرام عبّر عن ذلك بقوله «أيدى الطعان».

وهذا مفهوم الإيجاز بالقصر عند البلاغيين ، غير أنّ ابن الأثير (٥) يعدّه فرعا من الإيجاز الذى لا يحذف منه شىء ، لأنّه يقسم الإيجاز إلى قسمين :

__________________

(١) الإيضاح ص ١٨٢ ، وينظر كتاب الصناعتين ص ١٧٥ ، والمثل السائر ج ٢ ص ١٢٥ وبديع القرآن ص ١٩٢ ، ونهاية الإيجاز ص ١٤٥.

(٢) المؤمنون ٩١.

(٣) يونس ٢٣.

(٤) فاطر ٤٣.

(٥) المثل السائر ج ٢ ص ١١٤ ، وينظر الطراز ج ٢ ص ١١٩ وما بعدها.

٢١٠

١ ـ الايجاز بالحذف : وهو ما يحذف منه المفرد والجملة.

٢ ـ ما لا يحذف منه شىء ، وهو ضربان :

الأول : ما ساوى لفظه معناه ويسمى التقدير.

الثانى : ما زاد معناه على لفظه ويسمى الإيجاز بالقصر.

وقسم الإيجاز بالقصر إلى نوعين :

أحدهما ما دل لفظه على محتملات متعددة ، ويمكن التعبير عنه بمثل ألفاظه وفى عدتها. ومنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى. فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ. وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى)(١). فقوله : (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) من جوامع الكلم التى يستدل على قلتها بالمعانى الكثيرة ، أى غشيهم من الأمور الهائلة والخطوب الفادحة ما لا يعلم كنهه إلّا الله ولا يحيط به غيره. ومنه قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)(٢) ، فجمع فى الآية جميع مكارم الأخلاق ، لأنّ فى الأمر بالمعروف صلة الرحم ومنع اللسان عن الغيبة وعن الكذب ، وغضّ الطّرف عن المحرمات وغير ذلك ، وفى الإعراض عن الجاهلين الصبر والحلم وغيرهما.

ومثاله قول السموأل :

وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها

فليس إلى حسن الثناء سبيل

فانّ هذا البيت قد اشتمل على مكارم الأخلاق جميعها من سماحة وشجاعة وعفة وتواضع وحلم وصبر وغير ذلك ، فانّ هذه الأخلاق كلها ضيم النفس لأنّها تجد بحملها ضيما أى : مشقة وعناء.

__________________

(١) طه ٧٧ ـ ٧٩.

(٢) الأعراف ١٩٩.

٢١١

وثانيهما : ما دل لفظه على محتملات متعددة ، ولا يمكن التعبير عنه بمثل ألفاظه وفى عدتها ، بل يستحيل ذلك وهو أعلى طبقات الإيجاز مكانا ، ومنه قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) الذى فاق كل كلام وفضل غيره من كلام العرب.

الثانى : إيجاز الحذف : وهو ما يكون بحذف كلمة أو جملة أو أكثر مع قرينة تعين المحذوف. أو هو كما قال ابن الأثير : «ما يحذف منه المفرد والجملة لدلالة فحوى الكلام على المحذوف ، ولا يكون إلّا فيما زاد معناه على لفظه» (١). وقال عن هذا الأسلوب : «أما الإيجاز بالحذف فانه عجيب الأمر شبيه بالسحر ، وذاك أنّك ترى فيه ترك الذكر أفصح من الذكر والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة ، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق ، وأتم ما تكون مبينا إذا لم تبيّن ، وهذه جملة تنكرها حتى تخبر وتدفعها حتى تنظر. والأصل فى المحذوفات جميعا على اختلاف ضروبها أن يكون فى الكلام ما يدل على المحذوف ، فان لم يكن هناك دليل على المحذوف فانه لغو من الحديث لا يجوز بوجه ولا سبب. ومن شرط المحذوف فى حكم البلاغة أنّه متى أظهر صار الكلام إلى شىء غث لا يناسب ما كان عليه أولا من الطلاوة والحسن» (٢).

أدلة الحذف :

أدلة الحذف كثيرة منها :

١ ـ أن يدل العقل على الحذف ، والمقصود الأظهر على تعيين المحذوف ، كقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ)(٣) ، فانّ العقل يدل على الحذف ، والمقصود الأظهر يرشد إلى أنّ التقدير : حرّم عليكم تناول الميتة والدم ولحم الخنزير ، لأنّ الغرض الأظهر منها تناولها.

__________________

(١) المثل السائر ج ٢ ص ٧٨.

(٢) المثل السائر ج ٢ ص ٨٢.

(٣) المائدة ٣.

٢١٢

٢ ـ أن يدل العقل على الحذف والتعيين ، كقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ)(١) أى : أمر ربك أو عذابه أو بأسه.

٣ ـ أن يدل العقل على الحذف ، والعادة على التعيين ، كقوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ)(٢) ، دل العقل على الحذف فيه ، لأنّ الإنسان إنّما يلام على كسبه فيحتمل أن يكون التقدير فى حبه لقوله (قَدْ شَغَفَها حُبًّا)(٣) ، وأن يكون فى مراودته لقوله : (تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ)(٤) ، وأن يكون فى شأنه وأمره فيشملهما. والعادة دلت على تعيين المراودة ، لأنّ الحب المفرط لا يلام الانسان عليه فى العادة لقهره صاحبه وغلبته إياه ، وإنّما يلام على المراودة الداخلة تحت كسبه التى يقدر أن يدفعها عن نفسه.

٤ ـ أن تدل العادة على الحذف والتعيين ، كقوله تعالى : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ)(٥) مع أنّهم كانوا أخبر الناس بالحرب ، فكيف يقولون بأنّهم لا يعرفونها؟ فلا بد من حذف ، وتقديره «مكان قتال» أى : إنكم تقاتلون فى موضع لا يصلح للقتال ويخشى عليكم منه ، ويدل على أنّهم أشاروا على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن لا يخرج من المدينة وأنّ الحزم البقاء فيها.

٥ ـ الشروع فى الفعل ، كقول المؤمن : «بسم الله الرحمن الرحيم» عند الشروع فى القراءة أو أى عمل ، فانه لا يفيد أنّ المراد «بسم الله أقرأ». والمحذوف يقدر ما جعلت التسمية مبدأ له.

__________________

(١) الفجر ٢٢.

(٢) يوسف ٣٢.

(٣) يوسف ٣٠.

(٤) يوسف ٣٠.

(٥) آل عمران ١٦٧.

٢١٣

٦ـ اقتران الكلام بالفعل ، فإنه يفيد تقديره ، كقولنا لمن أعرس «بالرفاء والبنين» (١) ، فإنه يفيد بالرفاء والبنين أعرست (٢).

والمحذوف ـ كما تقدم ـ نوعان :

النوع الأول : حذف جزء جملة ، وهو حذف المفردات ويكون على صور مختلفة :

١ ـ حذف الفاعل والاكتفاء فى الدلالة عليه بذكر الفعل ، كقول العرب «أرسلت» وهم يريدون المطر ولا يذكرون السماء. ومنه قوله تعالى : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ. وَقِيلَ مَنْ راقٍ)(٣) ، والضمير فى «بلغت» للنفس ولم يجر لها ذكر. ومنه قول حاتم الطائى :

أماوىّ ما يغنى الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر

يريد النفس ، ولم يجر لها ذكر :

٢ ـ حذف الفعل وجوابه ، وهو نوعان :

أحدهما : يظهر بدلالة المفعول عليه كقوله تعالى : (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها)(٤) ، أى : احذروا.

ومنه قول المتنبى :

ولو لا أنّ أكثر ما تمنّى

معاودة لقلت ولا مناكا

فقوله «ولا مناكا» فيه محذوف تقديره : ولا صاحبت مناكا.

__________________

(١) الرفاء ـ بالكسر ـ : الاتفاق والتلاحم.

(٢) الإيضاح ص ١٩٣ ، وتنظر شروح التلخيص ج ٣ ص ٢٠٣.

(٣) القيامة ٢٦ ـ ٢٧.

(٤) الشمس ١٣.

٢١٤

وقوله :

ولا إلّا بأن يصغى وأحكى

فليتك لا يتيّمه هواكا

فقوله «ولا إلّا بأن يصغى وأحكى» فيه محذوف تقديره : ولا أرضى إلّا بأن يصغى وأحكى.

وثانيهما : لا يظهر فيه قسم الفعل لأنّه لا يكون هناك منصوب يدل عليه ، وإنّما يظهر بالنظر إلى ملاءمة الكلام. كقوله تعالى : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)(١) ، فقوله «لقد جئتمونا» يحتاج إلى إضمار فعل أى : فقيل لهم لقد جئتمونا ، أو فقلنا لهم.

ومن هذا الضرب إيقاع الفعل على شيئين وهو لأحدهما ، كقوله تعالى : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ)(٢) وهو لـ «أمركم» وحده ، وإنّما المراد أجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم.

ومن حذف الفعل باب يسمى «باب إقامة المصدر مقام الفعل» ويؤتى به لضرب من المبالغة والتوكيد كقوله تعالى : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ)(٣) قوله «ضرب الرقاب» أصله : فاضربوا الرقاب ضربا فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه وفى ذلك اختصار وتوكيد.

وأما حذف جواب الفعل فانه لا يكون فى الأمر المحتوم كقوله تعالى : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا)(٤) فجزم «يخوضوا ويلعبوا» لأنّهما جواب أمر «فذرهم» وحذف الجواب فى هذا لا يدخل فى باب الإيجاز.

١ ـ حذف المفعول به ، كقوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى. وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا)(٥) ، فبعد كل فعل مفعول به محذوف.

__________________

(١) الكهف ٤٨.

(٢) يونس ٧١.

(٣) محمد ٤.

(٤) الزخرف ٨٣.

(٥) النجم ٤٣ ـ ٤٤.

٢١٥

ويكون ذلك لأغراض :

أحدها : أن يكون غرض المتكلم بيان حال الفعل والفاعل فقط كقوله تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ : ما خَطْبُكُما؟ قالَتا : لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ. فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ : رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)(١). وقد حذف المفعول به من أربعة مواضع لأنّ الغرض الحديث عن موسى لا عن كون المسقى غنما ، أو إبلا ، أو غير ذلك.

وثانيها : أن يكون غرض المتكلم ذكره ولكنه يحذفه ليوهم أنّه لم يقصده كقول البحترى :

شجو حسّاده وغيظ عداه

أن يرى مبصر ويسمع واع

والمعنى : أن يرى مبصر محاسنه ، ويسمع واع أخباره ، ولكنه تغاضى عن ذلك.

وثالثها : أن يحذف المفعول لأنّه معلوم ، ويأتى هذا بعد فعل المشيئة كقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)(٢) ، وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ)(٣) ، أى : لو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها.

ومما جاء على مثال ذلك شعرا قول البحترى :

لو شئت لم تفسد سماحة حاتم

كرما ولم تهدم مآثر خالد

__________________

(١) القصص ٢٣ ـ ٢٤.

(٢) النحل ٩.

(٣) البقرة ٢٠.

٢١٦

الأصل فى ذلك : لو شئت ألّا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها فحذف ذلك من الأول استغناء بدلالته عليه فى الثانى (١).

٤ ـ حذف المضاف إليه وإقامة كل واحد منهما مقام الآخر.

فمن حذف المضاف قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٢) ، أى أهلها.

وقول الشاعر :

إذا لاقيت قومى فاسأليهم

كفى قوما بصاحبهم خبيرا

هل اعفو عن أصول الحقّ فيهم

إذا عسرت وأقتطع الصدورا

أراد أنه يقتطع ما فى الصدور من الضغائن ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

ومن حذف المضاف إليه قوله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ)(٣) ، أى من قبل ذلك ومن بعده. وهذا النوع قليل الاستعمال لأنّ المضاف يكتسى منه تعريفا وتخصيصا فحذفه يخلّ بالكلام لإذهاب فائدته بخلاف المضاف نفسه ، فانّه لا يخل حذفه من جهة أنّ المضاف إليه يذهب بفائدته ويقوم مقامه.

وربما حذف المضاف والمضاف إليه وهذا نادر كقوله تعالى : (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ)(٤) ، أى من أثر حافر فرس الرسول ـ صلى الله الله عليه وسلم ـ وقد قال العلوى عنه : «ولا يكاد يوجد إلّا حيث دلالة الكلام عليه» (٥) وسماه ابن الأثير «حذف المضاف مكررا» (٦).

__________________

(١) ينظر المثل السائر ج ٢ ص ٩٧ ، وبديع القرآن ص ١٨٥ ، والطراز ج ٢ ص ١٠٤.

(٢) يوسف ٨٢.

(٣) الروم ٤.

(٤) طه ٩٦.

(٥) الطراز ج ٢ ص ١٠٧.

(٦) المثل السائر ج ٢ ص ٩٩.

٢١٧

٥ ـ حذف الموصوف والصفة وإقامة كل واحد منهما مقام الآخر ، فمن حذف الموصوف قوله تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً)(١) أى : آية مبصرة ، ولم يرد الناقة فانها لا معنى لوصفها بالبصر. ومنه قول الشاعر :

أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا

متى أضع العمامة تعرفونى

أى : انا ابن رجل جلا.

وقول البحترى :

وإذا ما رأيت صورة إنطا

كيّة ارتعت بين روم وفرس

والمنايا مواثل وأنو شر

وان يزجى الصفوف تحت الدّرفس

فى اخضرار من اللباس على أص

فر يختال فى صبيغة ورس

فقوله «على أصفر» أى على فرس أصفر ، وهذا مفهوم من قرينة الحال لأنّه لما قال «على أصفر» علم بذلك أنه أراد فرسا أصفر.

ومن حذف الصفة قوله تعالى : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً)(٢) أى : كل سفينة صحيحة أو صالحة.

٦ ـ حذف الشرط وجوابه : ومثال حذف الشرط قوله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)(٣) ، فالفاء فى قوله «فاعبدون» جواب شرط محذوف ، والمعنى : إنّ أرضى واسعة فان لم تخلصوا لى العبادة فى أرض فأخلصوها فى غيرها. ومنه قوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)(٤) ، أى : فأفطر فعدة من أيام أخر.

__________________

(١) الإسراء ٥٩.

(٢) الكهف ٧٩.

(٣) العنكبوت ٥٦.

(٤) البقرة ١٨٤.

٢١٨

ومن حذف الشرط قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ، كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ. قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١)

يقول : إن كنتم منكرين للبعث فهذا يوم البعث ، أى : قد تبين بطلان قولكم.

ومنه قول الشاعر :

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا

ثم القفول فقد جئنا خراسانا

كأنه قال : إن صحّ ما قلتم إن خراسان أقصى ما يراد بنا فقد جئنا خراسان وآن لنا أن نخلص.

وأما حذف جواب الشرط فكقوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(٢) ، فان جواب الشرط هنا محذوف تقديره : إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين؟ ويدل على المحذوف قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

ويحذف جواب الشرط :

١ ـ لمجرد الاختصار ، كالآية السابقة ، وكقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ ، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى)(٣) ، أى : لكان هذا القرآن.

٢ ـ للدلالة على أنّه شىء لا يحيط به الوصف ، أو لتذهب نفس السامع كل مذهب ، كقوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً

__________________

(١) الروم ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) الأحقاف ١٠.

(٣) الرعد ٣١.

٢١٩

حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها : سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ» (١) وقد حذف جواب الشرط لعظمة المشهد ولكى تذهب النفس فى تصوره كل مذهب (٢).

ولهذا المعنى حذفت الصلة من قولهم : «جاء بعد اللتيا والتى» (٣) أى المشار إليه بهما وهى المحنة والشدائد قد بلغت شدتها وفظاعة شأنها مبلغا يبهت الواصف معه حتى لا يحير بنت شفة (٤).

٣ ـ لعلم المخبر بوضع الكلام ، وقد سأل سيبويه أستاذه الخليل عن قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها)(٥) أين جوابها؟ وعن قوله تعالى : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ)(٦)(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ)(٧) ، فقال : «إنّ العرب قد تترك فى مثل هذا الخبر الجواب فى كلامهم لعلم المخبر لأى شىء وضع هذا الكلام» (٨).

٧ ـ حذف القسم وجوابه ، ومثال حذف القسم «لأفعلن» أى : والله لأفعلن.

ومثال حذف جوابه قوله تعالى : (وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ * هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ* أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ* إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ)(٩) ، فجواب القسم هنا محذوف تقديره : ليعذبن أو نحوه.

__________________

(١) الزمر ٧٣.

(٢) ينظر الإيضاح ص ١٨٧ ، وشروح التلخيص ج ٣ ص ١٩٣.

(٣) اللتيا : تصغير التى.

(٤) مفتاح العلوم ص ١٣٤ ـ ١٣٥ ، والإيضاح ص ١٨٨.

(٥) الزمر ٧٣.

(٦) البقرة ١٦٥.

(٧) الأنعام ٢٧.

(٨) كتاب سيبويه ج ١ ص ٤٥٣.

(٩) الفجر ١ ـ ٨.

٢٢٠