أساليب بلاغية

الدكتور أحمد مطلوب

أساليب بلاغية

المؤلف:

الدكتور أحمد مطلوب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: وكالة المطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٣

قَبْلِهِ الرُّسُلُ» (١) ، وقوله : (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ)(٢) أى : لستم فى دعواكم للرسالة عندنا بين الصدق والكذب كما يكون ظاهر حال المدعى إذا ادعى بل أنتم عندنا كاذبون فيها.

ومنه : «ما محمد إلّا شاعر» ووجه القصر فيه أنّه متى قيل : «ما محمد» توجه النفى إلى صفته لا ذاته لأنّ أنفس الذوات يمتنع نفيها وإنّما تنفى صفاتها ، وحيث لا نزاع فى طوله وقصره وما شاكل ذلك وإنما النزاع فى كونه شاعرا أو كاتبا تناولهما النفى ، فاذا قيل : «إلا شاعر» جاز القصر. وتستعمل «غير» فى القصر استعمال «إلّا».

٢ ـ إنّما : ويكون المقصور عليه مؤخرا وجوبا ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)(٣).

ومنه قول قيس بن الرقيات :

إنّما مصعب شهاب من الله

تجلّت عن وجهه الظّلماء

والدليل على أنّها تفيد القصر أمور :

الأول : كونها متضمنة معنى «ما» و «إلّا» ، لقول المفسرين فى قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ)(٤) ـ بالنصب ـ معناه «ما حرم عليكم إلا الميتة».

الثانى : لقول النحاة إنّ «إنّما» لإثبات ما يذكر بعدها ونفى ما سواه.

الثالث : لصحة انفصال الضمير معها مثل : «إنّما يضرب أنا» ، أى : «ما يضرب إلّا أنا».

__________________

(١) آل عمران ١٤٤.

(٢) يس ١٥.

(٣) فاطر ٢٨.

(٤) البقرة ١٧٣.

١٨١

ومن ذلك قول الفرزدق :

أنا الذائد الحامى الذمار وإنّما

يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلى

وقول عمرو بن معد يكرب :

قد علمت سلمى وجاراتها

ما قطّر الفارس إلّا أنا (١)

٣ ـ العطف بـ «لا» أو «لكن» أو «بل» : فان كان العطف بـ «لا» كان المقصور عليه مقابلا لما بعدها ، وإن كان العطف بـ «لكن» و «بل» كان المقصور عليه ما بعدهما.

ومثال قصر الموصوف على الصفة إفرادا : «محمد شاعر لا كاتب» ، أو «ما محمد كاتب بل شاعر».

ومثال قصر الموصوف على الصفة قلبا : «محمد قائم لا قاعد» ، أو «ما محمد قاعدا بل قائم».

ومثال قصر الصفة على الموصوف إفرادا أو قلبا بحسب المقام : «محمد قائم لا خالد» ، أو «ما خالد قائما بل زيد».

٤ ـ تقديم ما حقه التأخير : وهنا يكون المقصور عليه هو المقدم. فمن قصر الموصوف على الصفة إفرادا «شاعر هو» لمن يعتقده شاعرا أو كاتبا.

ومن قصر الموصوف على الصفة قلبا : «قائم هو» لمن يعتقده قاعدا.

ومثال قصر الصفة على الموصوف إفرادا : «أنا كفيت مهمّك» بمعنى وحدى لمن يعتقد أنّك وغيرك كفيتما مهمّه.

ومثال قصر الصفة على الموصوف قلبا : «أنا كفيت مهمّك» بمعنى لا غيرى لمن يعتقد أنّ غيرك كفى مهمه دونك.

__________________

(١) قطر : صرع.

١٨٢

وهذه الطرق الأربعة تختلف من وجوه :

الأول : أنّ دلالة الثلاثة الأولى بالوضع دون الرابع.

الثانى : انّ الأصل فى العطف أن يدل على المثبت والمنفى جميعا بالنص فلا يترك ذلك إلّا كراهة الإطناب فى مقام الاختصاص كما إذا قيل «محمد يعلم النحو والصرف والعروض والقوافى» أو «محمد يعلم النحو ، وخالد وبكر وعمرو» فتقول فيهما «محمد يعلم النحو لا غير» وفى معناه «ليس إلّا» أى لا غير النحو ولا غير محمد.

وأما الثلاثة الباقية فتدل بالنص على المثبت دون المنفى.

الثالث : أنّ النفى لا يجامع الأول لأنّ شرط المنفى بـ «لا» أن لا يكون منفيا قبلها بغيرها ويجامع الآخرين فيقال : «إنّما زيد كاتب لا شاعر» و «هو يأتينى لا محمد».

الرابع : أنّ أصل النفى والاستثناء أن يكون ما استعمل له مما يجهله المخاطب وينكره كقولك لصاحب وقد رأيت شبحا من بعيد «ما هو إلّا محمد» إذا وجدته يعتقده غير محمد ويصر على الإنكار. وعليه قوله تعالى : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ)(١).

وهناك طرق أخرى للقصر غير أنّ البلاغيين لم يتفقوا عليها كل الاتفاق ولذلك تظل الوجوه الأربعة عمدة هذا الأسلوب (٢)

__________________

(١) آل عمران ٦٢.

(٢) ينظر مفتاح العلوم ص ١٣٨ ، والإيضاح ص ١١٨ ، وشروح التلخيص ج ٢ ص ١٦٦.

١٨٣

الفصل الرابع

الفصل والوصل

قيل للفارسى : ما البلاغة؟ قال : معرفة الفصل من الوصل.

وذهب كثير من بلاغيى العرب إلى ما ذهب إليه الفارسى ، وعدّوا الفصل والوصل فنا عظيما ، صعب المسلك ، دقيق المأخذ لا يحيط علما بكنهه إلا من أوتى فى فهم كلام العرب طبعا سليما ، ورزق فى إدراك أسراره ذوقا صحيحا. ولذلك قصر بعضهم البلاغة على معرفته ، ولكن آخرين كالقزوينى قال : «وما قصرها عليه لأن الأمر كذلك ، وإنما حاول بذلك التنبيه على مزيد غموضه وأنّ أحدا لا يكمل فيه إلّا كمل فى سائر فنونها ، فوجب الاعتناء بتحقيقه على أبلغ وجه فى البيان» (١).

والوصل عطف بعض الجمل على البعض والفصل تركه ، ولذلك نرى أن يبحث هذا الموضوع بعد بحث الجملة لارتباطه بها ؛ ولأنه يخص الجمل ومعانيها حينما تفصل أو تربط لا مشاركة الثانى للأول فى الإعراب وحده. قال العلوى : «ولسنا نريد بتلك الأسرار واللطائف ما يكون متعلقا بعلوم الإعراب من كون الأحرف العاطفة تلحق المعطوف فى الإعراب ، ... بل نريد أمرا أخص من ذلك وأغوص على تحصيل الأسرار الغريبة واللطائف العجيبة» (٢).

تكلم الجاحظ (٣) وغيره من أوائل النقاد على الفصل والوصل ، ووقف عنده أبو هلال العسكرى وقفة طويلة وذكر أقوالا كثيرة تدل على أهمية هذا

__________________

(١) الإيضاح ص ١٤٧.

(٢) الطراز ج ٢ ص ٣٣.

(٣) ينظر البيان والتبيين ج ١ ص ٨٨.

١٨٤

الموضوع من ذلك أن المأمون قال لبعضهم : من أبلغ الناس؟ فقال : من قرب الأمر البعيد المتناول ، والصعب الدرك بالألفاظ اليسيرة.

قال : ما عدل سهمك عن الغرض ، ولكن البليغ من كان كلامه فى مقدار حاجته ، ولا يجيل الفكرة فى اختلاس ما صعب عليه من الألفاظ ، ولا يكره المعانى على إنزالها فى غير منازلها ، ولا يتعمد الغريب الوحشى ، ولا الساقط السوقى ، فان البلاغة إذا اعتزلتها المعرفة بمواضع الفصل والوصل كانت كاللآلى بلا نظام. (١)

وبحث أبو هلال فى هذا الفصل ، ما يتصل بفصول القصيدة ومقاطعها ، وهم يعنون بالفصول والمقاطع أواخر الأبيات التى تقابل مطالعها وابتداءاتها وتطرق إلى فواصل كتاب الله. وقال إنّ من حسن المقطع جودة الفاصلة وحسن موقعها وتمكنها فى موضعها ، وذلك على ثلاثة أضرب :

الأول : أن يضيق على الشاعر موضع القافية فيأتى بلفظ قليل الحروف فيتمم به البيت كقول زهير :

وأعلم ما فى اليوم والأمس قبله

ولكنّنى عن علم ما فى غد عمى

وقول النابغة الذبيانى :

كالأقحوان غداة غبّ سمائه

جفت أعاليه وأسفله ندى (٢)

وقوله :

لا مرحبا بغد ولا أهلا به

إن كان تفريق الأحبة فى غد

أفد الترحّل غير أنّ ركابنا

لما تزل برحالنا وكأن قد

__________________

(١) كتاب الصناعتين ص ٤٣٨.

(٢) غب سمائه : المطر ..

١٨٥

الثانى : أن يضيق به المكان أيضا ويعجز عن إيراد كلمة سالمة تحتاج إلى إعراب ليتم بها البيت ، فيأتى بكلمة معتلة لا تحتاج إلى الإعراب فيتممه به ، مثل قول زهير :

صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو

وأقفر من سلمى التعانيق فالثقل (١)

ثم قال :

وقد كنت من سلمى سنينا ثمانيا

على صير أمر ما يمر وما يحلو (٢)

الثالث : أن تكون الفاصلة لائقة بما تقدمها من ألفاظ الجزء من الرسالة أو البيت من الشعر ، وتكون مستقرة فى قرارها ومتمكنة فى موضعها حتى لا يسد مسدها غيرها وإن لم تكن قصيرة قليلة الحروف كقوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى. وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا. وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى)(٣) وقوله : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى)(٤). فـ «أبكى» مع «أضحك» و «أحيا» مع «أمات» و «الأنثى» مع «الذكر» و «الأولى» مع «الآخرة» و «الرضا» مع «العطية» فى نهاية الجودة وغاية حسن الموقع.

ومن الشعر قول الحطيئة :

هم القوم الذين إذا ألمّت

من الأيام مظلمة أضاءوا

وقول أبى نواس :

إذا امتحن الدنيا لبيب تكشّفت

له عن عدو فى ثياب صديق

و «الصديق» هنا جيد الموقع ، لأن معنى البيت يقتضيه ، وهو محتاج إليه.

__________________

(١) التعانيق والثقل : واديان.

(٢) صير أمر : منتهاه.

(٣) النجم ٤٣ ـ ٤٥.

(٤) الضحى ٤ ـ ٥.

١٨٦

ودراسة أبى هلال وغيره من البلاغيين والنقاد لهذا الموضوع تختلف عن دراسة البلاغيين المتأخرين ، ولذلك لا نجد فى دراساتهم ما تطرق إليه أبو هلال ولعل عبد القاهر الجرجانى كان من أوائل الذين بحثوه بحثا مفصلا يقوم على التقسيم والتحديد والتعليل والتحليل وربطه بباب العطف عندما ربط البلاغة بمعانى النحو وجعل النظم توخّيا له. وقد أجمل مواضع الفصل والوصل بقوله : «إنّ الجمل على ثلاثة أضرب :

١ ـ جملة حالها مع التى قبلها حال الصفة مع الموصوف والتأكيد مع المؤكد فلا يكون فيها العطف ألبتة لشبه العطف فيها ـ لو عطفت ـ بعطف الشىء على نفسه.

٢ ـ وجملة حالها مع التى قبلها حال الاسم يكون غير الذى قبله إلّا أنه يشاركه فى حكم ويدخل معه فى معنى مثل أن يكون كلا الاسمين فاعلا أو مفعولا أو مضافا إليه فيكون حقها العطف.

٣ ـ وجملة ليست فى شىء من الحالين ، بل سبيلها مع التى قبلها سبيل الاسم مع الاسم لا يكون منه فى شىء فلا يكون إياه ولا مشاركا له فى معنى بل هو شىء إن ذكر لم يذكر إلّا بأمر ينفرد به ويكون ذكر الذى قبله وترك الذكر سواء فى حاله لعدم التعلق بينه وبينه رأسا ، وحق هذا ترك العطف ألبتة.

فترك العطف يكون إمّا للاتصال إلى الغاية ، أو الانفصال إلى الغاية ، والعطف لما هو واسطة بين الأمرين ، وكان له حال بين حالين ، فاعرفه (١)»

وعلى هذا الأساس وضع عبد القاهر أصول بحث الفصل والوصل ، وقوانينه ، وذكر الأمثلة الكثيرة. وجاء علماء البلاغة فاختصروا بحوثه وبوبوها ، وكان تحديدهم أدق ضبطا وقواعدهم أكثر تقييدا. وكان السكاكى من أشهر الذين اتبعوه ولكنه لم يوضح الموضوع ولم يبحثه بحثا جيدا ،

__________________

(١) دلائل الإعجاز ص ١٨٧.

١٨٧

وانصرف إلى الكلام على الجامع وأنواعه ، واستفاد الخطيب القزوينى من الرجلين فكانه بحثه للفصل والوصل يجمع بين تحديد القاعدة والشرح والتعليل أى بين طريقتى عبد القاهر والسكاكى. ثم جاء شراح التلخيص فأولوا هذا الموضوع عناية كبيرة وانتهى إلى صورته الأخيرة التى نجدها فى كتب البلاغة.

مواضع الفصل :

يجب الفصل فى خمسة مواضع :

الأول : أن يكون بين الجملتين اتحاد تام وهو «كمال الاتصال» ، وذلك :

١ ـ أن تكون الجملة الثانية توكيدا للأولى ، والمقتضى للتأكيد دفع توهم التجوز والغلط وهو قسمان :

أحدهما : أن تنزل الثانية من الأولى منزلة التأكيد المعنوى من متبوعه فى إفادة التقرير مع الاختلاف فى المعنى ، كقوله تعالى : (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ)(١) ، فانّ وزان (لا رَيْبَ فِيهِ) وزان نفسه فى «جاءنى محمد نفسه».

وقوله : (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها ، كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً)(٢) ، فالثانى مقرر لما أفاده الأول.

وثانيهما : أن تنزل الثانية من الأولى منزلة التأكيد اللفظى من متبوعه فى اتحاد المعنى ، كقوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)(٣) فان (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) معناه : أنّه فى الهداية بالغ درجة لا يدرك كنهها حتى كأنه هداية محضة.

__________________

(١) البقرة ١ ـ ٢.

(٢) لقمان ٧. الوقر : الثقل فى الإذن.

(٣) البقرة ٢.

١٨٨

ومن أمثلة كون الجملة الثانية توكيدا للأولى قول المتنبى :

وما الدّهر إلّا من رواة قصائدى

إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا

فالجملة «إذا قلت ...» توكيد للأولى ، لأنّ معنى الجملتين واحد.

ومنه قول الشاعر :

يهوى الثناء مبرز ومقصّر

حبّ الثناء طبيعة الإنسان

فالجملة «حب الثناء ...» توكيد للأولى ، لأنّ معنى الجملتين واحد.

٢ ـ أن تكون الجملة الثانية بدلا من الأولى ، والمقتضى للإبدال كون الأولى غير وافية بتمام المراد بخلاف الثانية والمقام يقتضى اعتناء بشأنه لنكتة ككونه مطلوبا فى نفسه أو فظيعا أو عجيبا أو لطيفا ، وهو ضربان :

أحدهما : أن تنزل الثانية من الأولى منزلة بدل البعض (١) من متبوعه ، كقوله تعالى : (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)(٢) فانه مسوق للتنبيه على نعم الله تعالى عند المخاطبين ، وقوله : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أوفى بتأديته مما قبله لدلالته عليها بالتفصيل من غير إحالة على علمهم مع كونهم معاندين ، والإمداد بما ذكر من الأنعام وغيرها بعض الإمداد بما يعلمون ، ويحتمل الاستئناف.

وثانيهما : أن تنزل الثانية من الأولى منزلة بدل الاشتمال (٣) من متبوعه كقوله تعالى : (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ)(٤) فانّ المراد به حمل المخاطبين على اتباع الرسل ، وقوله :

__________________

(١) بدل البعض : هو بدل الجزء من كله قليلا كان ذلك الجزء أو مساويا للنصف أو أكثر منه. مثل : «جاء الطلاب ربعهم أو نصفهم أو ثلثاهم».

(٢) الشعراء ١٣٢ ـ ١٣٤.

(٣) بدل الاشتمال : هو بدل الشىء مما يشتمل عليه على شرط أن لا يكون جزءا منه. مثل : «نفعنى المعلم علمه» و «أعجبت خالدا شجاعته».

(٤) يس ٢٠ ـ ٢١.

١٨٩

(اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أوفى بتأدية ذلك ، لأنّ معناه : لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم وتربحون صحة دينكم فينظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة.

ومنه قول الشاعر :

أقول له ارحل لا تقيمنّ عندنا

وإلّا فكن فى السّرّ والجهر مسلما

وقد فصل «لا تقيمن» عن «ارحل» لقصد البدل ، لأنّ المقصود من كلامه هذا كمال إظهار الكراهة لاقامته بسبب خلاف سره العلنى ، وقوله : «لا تقيمن عندنا» أو فى بتأدية هذا المقصود من قوله «ارحل» لدلالته عليه بالمطابقة مع التأكيد.

٣ ـ أن تكون الثانية بيانا للأولى ، وذلك بأن تنزل منها منزلة عطف البيان من متبوعه فى إفادة الإيضاح ، والمقتضى للتبيين أن يكون فى الأولى نوع خفاء مع اقتضاء المقام إزالته ، كقوله تعالى : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ ، قالَ : يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى؟)(١) ، فصل جملة «قال» عما قبلها لكونها تفسيرا له وتبيينا.

ومنه قول المعرى :

الناس للناس من بدو ومن حضر

بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم

فالجملة الثانية «بعض لبعض ...» إيضاح للأولى «الناس للناس ...» وهى بيان لها.

الثانى : أن يكون بين الجملتين كمال الانقطاع ، وذلك :

١ ـ أن تختلف الجملتان خبرا وإنشاء لفظا ومعنى ، كقول الشاعر :

وقال رائدهم : ارسوا نزاولها

فكلّ حتف امرىء يجرى بمقدار

__________________

(١) طه ١٢٠.

١٩٠

فالجملة الأولى «ارسوا» إنشاء لفظا ومعنى ، و «نزاولها» خبر لفظا ومعنى ، لأنّ الغرض تعليل الأمر بالإرساء بالمزاولة للحرب أى : «ارسوا السفينة نزاول الحرب».

أو معنى لا لفظا ، مثل : «مات فلان ، رحمه‌الله» فالجملة الأولى خبرية لفظا والثانية إنشائية معنى لا لفظا ، لأن لفظ الفعل خبر لا أمر.

٢ ـ أن لا يكون بين الجملتين جامع أو مناسبة ، بل تكون كل جملة مستقلة بنفسها مثل : «الليل رهيب. أقبل محمد» ، ولا صلة بين الجملتين ، ولذلك ترك العطف بينهما لكمال الانقطاع.

الثالث : أن تكون الجملة الثانية جوابا عن سؤال يفهم من الجملة الأولى فتنزل منزلته ويسمى هذا «شبه كمال الاتصال» أو «الاستئناف» والاستئناف ثلاثة أضرب ، لأن السؤال الذى تضمنته الجملة الأولى إما عن :

١ ـ سبب الحكم فيها مطلقا ، كقول الشاعر :

قال لى : كيف أنت؟ قلت عليل

سهر دائم ، وحزن طويل

أى : ما بالك عليلا؟ أو ما سبب علتك.

وقول الآخر :

وقد غرضت من الدنيا فهل زمنى

معط حياتى لغرّ بعد ما غرضا (١)

جرّبت دهرى وأهليه فما تركت

لى التجارب فى ود امرىء غرضا

أى : لم تقول هذا؟ وما الذى اقتضاك أن تطوى عن الحياة إلى هذا الحد ، أى تعرض عنها.

٢ ـ أو عن سبب خاص له كقوله تعالى : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)(٢).

كأنه قيل : هل النفس أمارة بالسوء؟ فقيل : إنّ النفس لأمارة بالسوء.

__________________

(١) غرض : ضجر ومل. الغر : من لا تجربة له.

(٢) يوسف ٥٣.

١٩١

٣ ـ أو عن غير هذين النوعين ، كقوله تعالى : (قالُوا : سَلاماً ، قالَ : سَلامٌ)(١) ، كأنه قيل : فماذا قال إبراهيم عليه‌السلام؟ فقيل : قال سلام.

ومنه قول الشاعر :

زعم العواذل أنّنى فى غمرة

صدقوا ، ولكن غمرتى لا تنجلى (٢)

لما حكى عن العواذل أنّهم قالوا : هو فى غمرة ، وكان ذلك مما يحرك السامع لأن يسأله فيقول : فما قولك فى ذلك وما جوابك عنه؟ أخرج الكلام مخرجه إذا كان ذلك قد قيل له وصار كأنه قال : أقول صدقوا أنا كما قالوا ولكن لا مطمع لهم فى فلاحى ، ولو قال : «زعم العواذل أنّنى فى غمرة وصدقوا» لكان يكون لم يصح فى نفسه أنّه مسؤول وأن كلامه كلام مجيب (٣).

ومنه قول الوليد بن يزيد :

عرّفت المنزل الخالى

عفا من بعد أحوال

عفاه كلّ حنّان

عسوف الويل هطّال (٤)

فانه لما قال : «عفا» وكان العفاء مما لا يحصل للمنزل بنفسه كان مظنة أن يسأل عن الفاعل.

ومثله قول المتنبى :

وما عفت الرياح له محلّا

عفاه من حدا بهم وساقا

فانه لما نفى الفعل الموجود عن الرياح ، كان مظنة أن يسأل عن الفاعل.

__________________

(١) هود ٦٩.

(٢) الغمرة : الشدة.

(٣) ينظر دلائل الإعجاز ص ١٨٢.

(٤) عفاه : محاه. حنان : مصوت ، والمقصود الرعد المصاحب للمطر.

عسوف : شديد. الوبل : المطر الشديد.

١٩٢

وقد يحذف صدر الاستئناف لقيام قرينة ، كقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ. رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ)(١) فيمن قرأ «يسبّح» مبنيا للمفعول ـ للمجهول ـ كأنه قيل : من يسبحه؟ فقيل : رجال.

وقد يحذف الاستئناف كله ويقام ما يدل عليه مقامه ، كقول الشاعر :

زعمتم أنّ إخوتكم قريش

لهم إلف وليس لكم إلاف (٢)

حذف الجواب الذى هو : كذبتم فى زعمكم ، وأقام مقامه «لهم إلف وليس لكم إلاف» مقامه لدلالته عليه. ويجوز أن يقدر قوله : «لهم إلف ...» جوابا لسؤال اقتضاه الجواب المحذوف كأنه لما قال المتكلم : «كذبتم» قالوا : «لم كذبنا؟» فقال : «لهم إلف وليس لكم إلاف» فيكون فى البيت استئنافان.

وقد يحذف ولا يقام شىء مقامه ، كقوله تعالى : (نِعْمَ الْعَبْدُ)(٣) أى : أيوب ، أو هو لدلالة ما قبل الآية وما بعدها عليه (٤).

الرابع : أن يكون بين الجملتين «شبه كمال الانقطاع» ، وذلك بأن تكون الجملة الثانية بمنزلة المنقطعة عن الأولى وينبغى هنا الفصل لأنّ عطفها عليها يوهم لعطفها على غيره ، ويسمى هذا الفصل «قطعا». ومنه قول الشاعر :

وتظنّ سلمى أنّنى أبغى بها

بدلا ، أراها فى الضلال تهيم

لم يعطف «أراها» على «تظن» لئلا يتوهم السامع أنّه معطوف على «أبغى» لقربه منه ، مع أنّه ليس بمراد ، ويحتمل الاستئناف.

__________________

(١) النور ٣٦ ـ ٣٧.

(٢) الإلف والإيلاف : العهد.

(٣) ص ٤٤.

(٤) تبدأ الآية بقوله تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ ...)

١٩٣

الخامس : أن تكون الجملتان متوسطتين بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع مع قيام المانع من الوصل كأن يكون للأولى حكم لم يقصد إعطاؤه للثانية ، كقوله تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)(١). فجملة (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) لا يصح عطفها على جملة «قالوا ...» لئلا يلزم من ذلك اختصاص استهزاء الله بهم بوقت خلوهم إلى شياطينهم ، والواقع أنّ استهزاء الله بهم غير مقيد بوقت من الأوقات. ولا يصح أن تعطف جملة «الله يستهزىء بهم» على جملة «إنّا معكم» لئلا يلزم أن تكون من مقول المنافقين مع أنّها من مقول الله تعالى.

مواضع الوصل :

يجب الوصل فى ثلاثة مواضع :

الأول : أن يكون بين الجملتين كمال الانقطاع مع الإيهام ، وذلك بأن تكون إحداهما خبرية والأخرى إنشائية ولو فصلت لأوهم الفصل خلاف المقصود. ومنه قول البلغاء : «لا ، وأيدك الله» ، ومثل : «لا ، ولطف الله» و «لا ، وحفظك الله».

الثانى : أن تكون الجملتان متفقتين خبرا وإنشاء لفظا ومعنى كقوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)(٢) ، وقوله : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ)(٣) ، وقوله : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ)(٤) ، وقوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا)(٥) أو أن تكونا متفقتين خبرا وإنشاء معنى لا لفظا كقوله تعالى : «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ، لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ ، وَبِالْوالِدَيْنِ

__________________

(١) البقرة ١٤ ـ ١٥.

(٢) الانفطار ١٣ ـ ١٤.

(٣) الروم ١٩.

(٤) النساء ١٤٢.

(٥) الأعراف ٢١.

١٩٤

إِحْساناً ، وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ ، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» (١) ، عطف قوله «قولوا» على قوله «لا تعبدون» لأنّه بمعنى : لا تعبدوا.

الثالث : أن يكون للجملة الأولى محل من الإعراب وقصد إشراك الجملة الثانية لها فى الحكم الإعرابى ، وهذا كعطف المفرد على المفرد ، لأنّ الجملة لا يكون لها محل من الإعراب حتى تكون واقعة موقع المفرد. وينبغى هنا أن تكون مناسبة بين الجملتين كقوله تعالى : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها ، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ)(٢) وقوله : (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٣).

ولذلك عيب على أبى تمام :

لا والذى هو عالم أنّ النوى

صبر ، وأنّ أبا الحسين كريم

إذ لا مناسبة بين كرم أبى الحسين ـ محمد بن الهيثم ـ ومرارة النوى ، ولا تعلق لأحدهما بالآخر.

ومن إشراك الجملة الثانية بالأولى فى الحكم الإعرابى قول المتنبى :

وللسرّ منى موضع لا يناله

نديم ولا يفضى إليه شراب

فجملة «لا يناله نديم» صفة لـ «موضع» ولذلك جاز أن يعطف عليها جملة «ولا يفضى إليه شراب».

وذكر عبد القاهر الجرجانى لونا من الوصل (٤) ، وهو أن يؤتى بالجملة فلا يعطف على ما يليها ولكن تعطف على جملة بينها وبين هذه التى تعطف جملة أو جملتان ، مثال ذلك قول المتنبى :

تولّوا بغتة فكأنّ بينا

تهيّبنى ففاجأنى اغتيالا

فكان مسير عيسهم ذميلا

وسير الدمع إثرهم انهمالا

__________________

(١) البقرة ٨٣.

(٢) سبأ ٢.

(٣) البقرة ٢٤٥.

(٤) ينظر دلائل الإعجاز ص ١٨٨.

١٩٥

قوله : «فكان مسير عيسهم» معطوف على «تولوا بغتة» دون ما يليه من قوله : «ففاجأنى» ، لأنّا إن عطفناه على هذا الذى يليه أفسدنا المعنى من حيث إنه يدخل فى معنى «كأنّ» وذلك يؤدى إلى أن لا يكون «مسير عيسهم» حقيقة ويكون متوهما كما كان تهيب البين كذلك ، وهذا أصل كبير. والسبب فى ذلك أن الجملة المتوسطة بين هذه المعطوفة أخيرا وبين المعطوف عليها الأولى ترتبط فى معناها بتلك الأولى كالذى ترى أنّ قوله «فكأنّ بينا تهيبنى» مرتبط بقوله «تولوا بغتة» وذلك أن الثانية مسبب والأولى سبب. ألا ترى أنّ المعنى «تولوا بغتة فتوهمت أن بينا تهيبنى» ولا شك أنّ هذا التوهم كان بسبب أن كان التولى بغتة ، وإذا كان كذلك كانت مع الأولى كالشىء الواحد ، وكانت منزلتها منها منزلة المفعول والظرف وسائر ما يجىء بعد تمام الجملة من معمولات الفعل مما لا يمكن إفراده على الجملة وأن يعتد كلاما على حدته.

ثم قال : «وههنا شىء آخر دقيق ، وهو أنّك إذا نظرت إلى قوله : «فكان مسير عيسهم ذميلا» وجدته لم يعطف هو وحده على ما عطف عليه ولكن تجد العطف قد تناول جملة البيت مربوطا آخره بأوله ، ألا ترى أنّ الغرض من هذا الكلام أن يجعل توليهم بغتة وعلى الوجه الذى توهم من أجله أنّ البين تهيبه مستدعيا بكاءه وموجبا أن ينهمل دمعه فلم يعنه أن يذكر ذملان العيسى إلّا ليذكر هملان الدمع وأن يوفق بينهما ، وكذلك الحكم فى الأول. فنحن وإن كنا قلنا إنّ العطف على «تولوا بغتة» فانا لا نعنى أنّ العطف عليه وحده مقطوعا عما بعده بل العطف عليه مضموما إليه ما بعده إلى آخره ، وإنما أردنا بقولنا : إنّ العطف عليه ، أن نعلمك أنّه الأصل والقاعدة وأن نصرفك عن أن تطرحه وتجعل العطف على ما يلى هذا الذى تعطفه فتزعم أنّ قوله «فكان مسير عيسهم» معطوف على «فاجأنى» فتقع فى الخطأ كالذى أريناك فأمر العطف إذن موضوع على أنّك تعطف تارة جملة على جملة وتعمد أخرى إلى جملتين أو جمل فتعطف بعضا على بعض ثم تعطف مجموع هذى على مجموع تلك» (١).

__________________

(١) دلائل الإعجاز ص ١٨٩.

١٩٦

اقتران الجملة الحالية بالواو :

ويتصل بالفصل والوصل اقتران الجملة الحالية بالواو وعدم اقترانها بها وقد ألحقه البلاغيون بهذا المبحث ، وعقد له الرازى وعبد القاهر والسكاكى والقزوينى فصولا (١) فى كتبهم وألحقوه بباب الفصل والوصل. ولكن دراسة عبد القاهر كانت أعمق هذه الدراسات ولذلك فسيكون تلخيصها هنا شرحا للموضوع وتبيانا له.

تجىء الحال تارة مع الواو وأخرى بغير الواو ، وفى تمييز ما يقتضى الواو مما لا يقتضيه صعوبة والقول فى ذلك :

١ ـ أنّ الجملة إذا كانت من مبتدأ وخبر فالغالب عليها أن تجىء مع الواو ، مثل : «جاء محمد وعمرو أمامه». ومنه قول امرئ القيس :

أيقتلنى والمشرفىّ مضاجعى

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

ومثال خلوها من الواو قولهم «كلّمته فوه إلى فىّ» و «رجع عود على بدئه».

٢ ـ إن كان المبتدأ من الجملة ضمير ذى الحال لم يصلح بغير الواو ، مثل : «جاء محمد وهو راكب».

٣ ـ إن كان الخبر فى الجملة من المبتدأ والخبر ظرفا ثم كان قد قدم على المبتدأ ، مثل : «عليه معطف» كثر فيها أن تجىء بغير واو. ومنه قول بشار :

إذا أنكرتنى بلدة أو نكرتها

خرجت مع البازى علىّ سواد

٤ ـ وإن كانت الجملة من فعل وفاعل والفعل مضارع مثبت غير منفى لم يكد يجىء بالواو مثل : «جاء محمد يسعى أخوه بين يديه» أو «جاء محمد

__________________

(١) ينظر نهاية الإيجاز ص ١٣٧ ، ودلائل الإعجاز ص ١٥٦ ، ومفتاح العلوم ص ١٣١ ، والإيضاح ١٦٥.

١٩٧

يسعى» ، وعليه التنزيل والكلام ، ومثاله قوله تعالى : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)(١) ، وقوله : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى. الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى)(٢) وقوله : (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(٣).

٥ ـ فان دخل حرف نفى على المضارع تغير الحكم فجاء بالواو وبتركها كثيرا ، كقول مسكين الدارمى :

أكسبته الورق البيض أبا

ولقد كان ولا يدعى لأب

وقول مالك بن رفيع وكان جنى جناية فطلبه مصعب بن الزبير :

أتانى مصعب وبنو بنيه

فأين أحيد عنهم لا أحيد

أقادوا من دمى وتوّعدونى

وكنت وما ينهنهنى الوعيد (٤)

وقول الشاعر :

مضوا لا يريدون الرواح وغالهم

من الدهر أسباب جرين على قدر

وقول أعشى همدان :

أتينا أصبهان فهزّلتنا

وكنا قبل ذلك فى نعيم

وكان سفاهة منى وجهلا

مسيرى لا أسير إلى حميم

ففى المثالين الأولين اقترنت بالواو ، وفى المثالين الأخيرين لم تقترن.

٦ ـ ومما يجىء بالواو وغير الواو الماضى ، وهو لا يقع حالا إلّا مع «قد» مظهرة أو مقدرة مثل : «أتانى وقد جهده السير». ومثال ما جاء بغير واو :

فآبوا بالرماح مكسّرات

وأبنا بالسيوف قد انحنينا

__________________

(١) المدثر ٦.

(٢) الليل ١٧ ـ ١٨.

(٣) الأعراف ١٨٦.

(٤) أى جعلوا من دمى قودا ، وهى الدية.

١٩٨

محسنات الوصل :

من محسنات الوصل تناسب الجملتين فى الاسمية والفعلية ، وتناسب الجملتين الفعليتين فى المضى والمضارعة ، وفى الإطلاق والتقييد ، ولا يعدل عن ذلك إلّا لغرض أو لمانع ، كما إذا أريد بإحداهما التجدد وبالأخرى الثبوت مثل : «قام محمد وعمرو قاعد» إذا أريد أن قيام محمد متجدد وقعود عمرو ثابت مستمر. أو أن يراد حكاية الحال الماضية واستحضار الصورة فى الذهن كقوله تعالى : (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)(١).

أو أن يراد الإطلاق فى إحداهما والتقييد فى الأخرى كقوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ، وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ)(٢) ، والجملة الأولى مطلقة ، والثانية مقيدة ؛ لأنّ الشرط مقيد للجواب (٣).

الفصل والوصل فى المفردات :

لم يتعرض البلاغيون إلّا للجمل حينما ترتبط أو تنفصل ، أمّا المفردات فلم يتعرضوا لها ، ولعل السبب وضوح هذه المسألة أو أن الحكم يعلم من الجملتين.

وكان عبد القاهر الجرجانى قد اتخذ من الحديث عن عطف المفردات سبيلا للحديث عن عطف الجمل ، ولكنه لم يعقد لهذا القسم دراسة لأنّه مما يتحدث عنه النحاة ولا يقع فيه الإشكال (٤). وأشار السكاكى إلى أنّ الفصل والوصل بين الجمل هو الأصل فى هذا الفن (٥) ،

__________________

(١) البقرة ٨٧.

(٢) الأنعام ٨.

(٣) ينظر مفتاح العلوم ص ١٣١ ، والإيضاح ص ١٦٥ ، وشروح التلخيص ج ٣ ص ١٠٩.

(٤) دلائل الإعجاز ص ١٧١ وما بعدها.

(٥) مفتاح العلوم ص ١٢٠.

١٩٩

وظن الخطيب القزوينى أنّ غير ذلك متروك ولذلك عرف هذا الأسلوب بقوله : «الوصل عطف بعض الجمل على بعض والفصل تركه» (١) ، وعلى ذلك سار شراح تلخيصه غير أنّ العصام يعقب على كلام التفتازانى بقوله : «وعبارته بأنّ الفصل والوصل مختصان اصطلاحا بالجمل والمقتضيات لهما جارية فى المفردات أيضا. فلا ينبغى التخصيص اصطلاحا ونحن نفهم من عبارة المفتاح عدم اختصاصها بها ، وإنما هو الأصل فى الجمل حيث قال : «تمييز موضع العطف عن غير موضعه فى الجمل هو الأصل فى هذا الفن» (٢). «واحفظها فى المفردات أيضا لئلا يكون بمعزل عن البلاغة ، وكيف يظن أنّ عطف الجمل التى هى أخبار المبتدأ ، أو أحوال لصاحب ، أو صفات لمنعوت ، وتركه مبنيات على أحوال دون ما فى المفردات» (٣).

ولعل بهاء الدين السبكى شارح تلخيص القزوينى ، كان من أحسن الذين تعرضوا لهذا البحث ، وقال إنّ الأصل فى المفرد فصله مما قبله ، لأنّ ما قبله (٤) :

١ ـ إمّا عامل فيه مثل «زيد قائم» فلا يعطف المعمول على عامله.

٢ ـ أو معمول فلا يعطف العامل على معموله.

٣ ـ أو كلاهما معمول والفعل يطلبهما طلبا واحدا فلا يمكن عطفه لأنّه يلزم قطع العامل عن الثانى مثل : «علمت زيدا قائما».

وإذا اجتمع مفردان وأمكن من جهة الصناعة عطف أحدهما على الآخر فان كان بينهما جامع تم الوصل وإلّا كان الفصل هو الأساس.

وسار بهاء الدين السبكى فى بحث هذا النوع على منهجه فى الجمل ، وهو أقسام :

__________________

(١) الإيضاح ص ١٤٧.

(٢) هذه عبارة السكاكى فى المفتاح ص ١٢٠.

(٣) الشرح الأطول ج ٢ ص ٢.

(٤) عروس الأفراح ، شروح التلخيص ج ٣ ص ١١٣ وما بعدها.

٢٠٠