أساليب بلاغية

الدكتور أحمد مطلوب

أساليب بلاغية

المؤلف:

الدكتور أحمد مطلوب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: وكالة المطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٣

من كلامه حرفا من حروف الهجاء أو جميع الحروف المهملة بشرط عدم التكلف والتعسف (١)» ، وهذا لون من ألوان البديع.

واختلفوا فى الحذف هل هو مجاز؟ ويرى الزركشى أنّه «إن أريد بالمجاز استعمال اللفظ فى غير موضعه فالمحذوف ليس كذلك لعدم استعماله ، وإن أريد بالمجاز إسناد الفعل إلى غيره ـ وهو المجاز العقلى ـ فالحذف كذلك» (٢).

وكان عبد القاهر قد أبدع فى تحليل الجملة وإظهار ما فيها من حذف أو ذكر ، وعقد فصلا فى الحذف قال فيه : «هو باب دقيق المسلك ، لطيف المأخذ ، عجيب الأمر ، شبيه بالسحر ، فانك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر ، والصمت عن الإفادة أزيد للافادة ، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن. وهذه جملة قد تنكرها حتى تخبر وتدفعها حتى تنظر» (٣).

ولا يجوز حذف المسند إليه إلّا إذا دل عليه دليل من اللفظ أو الحال ، ويترجح حذفه إذا كان مبتدأ لدواع منها :

١ ـ الاحتراز عن العبث بترك ما لا ضرورة لذكره ، وذلك يكسب الكلام قوة وجمالا. ويكثر هذا الحذف فى جواب الاستفهام كقوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ. نارٌ حامِيَةٌ)(٤) أى : هى نار حامية. وبعد الفاء المقترنة بالجمل الاسمية الواقعة جوابا للشرط كقوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها)(٥) أى : فعمله لنفسه وإساءتها عليها.

__________________

(١) خزانة الأدب للحموى ص ٤٣٩.

(٢) البرهان فى علوم القرآن ج ٣ ص ١٠٤.

(٣) دلائل الإعجاز ص ١١٢.

(٤) القارعة ١٠ ـ ١١.

(٥) فصلت ٤٦.

١٦١

وبعد القول ، كقوله تعالى : (وَقالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)(١) أى : قالوا القرآن أساطير.

ومن المواضع التى يطرد فيها حذف المبتدأ القطع والاستئناف ، وذلك حين يبدأ المتكلم بذكر شىء ويقدم بعض أمره ثم يدع الكلام الأول ويستأنف كلاما آخر ، وهو حين يفعل ذلك يأتى فى أكثر الأمر بخبر من غير مبتدأ (٢) ومن ذلك قول الشاعر :

وعلمت أنّى يوم ذا

ك منازل كعبا ونهدا

قوم إذا لبسوا الحدي

د تنمّروا حلقا وقدّا (٣)

وقول الآخر :

هم حلّوا من الشرف المعلّى

ومن حسب العشيرة حيث شاءوا

بناة مكارم وأساة كلم

دماؤهم من الكلب الشفاء

ومنه :

سأشكر عمرا إن تراخت منيتى

أيادى لم تمنن وإن هى حلّت

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه

ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلّت

ومنه قول جميل بثينة :

وهل بثينة يا للناس قاضيتى

دينى وفاعلة خيرا فأجزيها

ترنو بعينى مهاة أقصدت بهما

قلبى عشية ترمينى وأرميها

هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة

ريا العظام بلين العيش غاذيها

__________________

(١) الفرقان ٥.

(٢) ينظر دلائل الإعجاز ص ١١٣.

(٣) تنمر : تشبه بالنمر : القد : الجلد وتصنع منه الدروع.

١٦٢

وقول الأقيشر فى ابن عم له موسر سأله فمنعه :

سريع إلى ابن العم يلطم وجهه

وليس إلى داعى النّدى بسريع

حريص على الدنيا مضيع لدينه

وليس لما فى بيته بمضيع

قال عبد القاهر معلقا على هذه الأبيات : «فتأمل الآن هذه الأبيات كلها واستقرها واحدا واحدا وانظر إلى موقعها فى نفسك وإلى ما تجده من اللطف والظرف إذا أنت مررت بموضع الحذف منها ثم قلبت النفس عما تجد وألطفت النظر فيما تحس به. ثم تكلف أن تردّ ما حذف الشاعر وأن تخرجه إلى لفظك وتوقعه فى سمعك فانك تعلم أنّ الذى قلت كما قلت ، وأن ربّ حذف هو قلادة الجيد وقاعدة التجويد» (١).

٢ ـ ضيق المقام عن إطالة الكلام : وذلك للتوجع كقول الشاعر :

قال لى : كيف أنت؟ قلت عليل

سهر دائم وحزن طويل

أى : أنا عليل.

أو للخوف من فوات الفرصة مثل : «حريق» أى : هذه حريق.

٣ ـ تيسير الإنكار عند الحاجة : مثاله أن يذكر شخص فتقول «فاسق» ثم تخشى من غائلة ذلك فتنكره ، فلو قلت : «زيد فاسق» لقامت البينة ولم تستطع الإنكار.

٤ ـ تعجيل المسرة بالمسند : مثل : «أخى» ، أى : هذا أخى.

٥ ـ تكثير الفائدة : كقوله تعالى : (قالَ : بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)(٢) ، أى ، فأمرى صبر جميل ، أو فصبرى صبر جميل.

__________________

(١) دلائل الإعجاز ص ١١٦.

(٢) يوسف ١٨.

١٦٣

وإذا كان المسند إليه فاعلا فانه يترجح حذفه حينما لا يحقق ذكره غرضا معينا فى الكلام كقوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ)(١) أى : بمثل ما عاقبكم المعتدى به. أو للمحافظة على السجع فى النثر ، وعلى الوزن فى الشعر ، أو أنّ الفاعل معلوم كقوله تعالى : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً)(٢) ، أى خلق الله الإنسان. ويحذف للجهل به ، أو للتحقير ، أو الخوف منه ، أو عليه ، وغير ذلك من الدواعى والأسباب التى يقتضيها المقام (٣).

ولا يجوز حذف المسند إلّا إذا دل عليه دليل ، ويترجح حذفه إذا كان خبرا لدواع منها :

١ ـ الاحتراز عن العبث بعدم ذكر ما لا ضرورة لذكره ، إمّا مع ضيق المقام من وزن أو غيره كقول الشاعر :

ومن يك أمسى بالمدينة رحله

فانى وقيّار بها لغريب (٤)

أى : وقيار كذلك.

وقول قيس بن الخطيم :

نحن بما عندنا وأنت بما عن

دك راض والرأى مختلف

أى : نحن بما عندنا راضون. وأما بدون التضييق كقوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)(٥) أى : والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك.

__________________

(١) النحل ١٢٦.

(٢) النساء ٢٨.

(٣) ينظر مفتاح العلوم ص ٨٤ ، والإيضاح ص ٣١ ، وشروح التلخيص ج ١ ص ٢٧٣.

(٤) قيار : اسم فرس الشاعر أو جمله.

(٥) التوبة ٦٢.

١٦٤

ويكثر حذف المسند لهذا السبب إذا كانت الجملة جوابا عن استفهام علم منه الخبر ، مثل : «أبى» جوابا لمن سألك : «من فى الدار؟» أو إذا كانت الجملة بعد «إذا» الفجائية مثل : «خرجت فاذا محمد» ويحتمل أن يكون الخبر «بالباب» أو «حاضر».

أو كانت الجملة معطوفة على جملة اسمية والمبتدآن مشتركان فى الحكم مثل : «أنت مسافر وأخوك» أى : وأخوك مسافر أيضا. ومنه قوله تعالى : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها)(١) أى : وظلها دائم كذلك.

٢ ـ تكثير الفائدة : ومنه قوله تعالى : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)(٢) فقوله : «فصبر جميل» يحتمل أن يكون من حذف المسند إليه أو المسند ، فاذا حذف المسند إليه كان التقدير : «فأمرى صبر جميل» وإذا حذف المسند كان التقدير : «فصبر جميل أجمل».

ويترجح حذف المسند إذا كان فعلا للدواعى التى تقدمت ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ)(٣) أى : خلقهن الله. (٤)

ولا بدّ لحذف المسند من قرينة تميزه ، والقرينة إما :

١ ـ سؤال محقق ، أى واقع ، كقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ)(٥) تقديره : خلقهن الله. والمعنى : يتحقق السؤال ههنا تحققه قبل الجواب لا إنّه محقق الوقوع عند نزول الآية لأنّ فعل الشرط مستقبل المعنى ، بل الاقتصار على لفظ الجلالة الكريمة يستدعى تقدم سؤال استغنى به عن ذكر «خلقهن».

__________________

(١) الرعد ٣٥.

(٢) يوسف ١٨.

(٣) لقمان ٢٥.

(٤) ينظر مفتاح العلوم ص ٨٤ وص ١٠٨ والإيضاح ص ٨٠ ، وشروح التلخيص ج ٢ ص ٢ وما بعدها.

(٥) لقمان ٢٥.

١٦٥

٢ ـ أو سؤال مقدر ، أى غير منطوق به كقول الشاعر :

ليبك يزيدا ضارع لخصومة

ومختبط مما تطيح الطوائح (١)

فانه لما قال «ليبك يزيد» كأنّ سائلا سأله من يبكيه؟ فقال : ضارع.

أى : يبكيه ضارع. ومنهم من قدر المحذوف «الباكى» فيكون المحذوف المسند إليه (٢)

ويحذف المفعول به فى الجملة وقد قال عبد القاهر إنّ الحاجة إلى حذفه أمسّ وإنّ اللطائف فيه أكثر (٣) ، ويكون ذلك لأغراض بلاغية منها :

١ ـ البيان بعد الإبهام : كما فى فعل المشيئة إذا لم يكن فى تعلقه بمحذوفه غرابة ، مثل : «لو شئت جئت أو لم أجىء» أى : لو شئت المجىء أو عدم المجىء. فعند النطق بـ «لو شئت» علم السامع أنك علقت المشيئة بشىء فيقع فى نفسه أنّ هنا شيئا تعلقت به مشيئتك بأن يكون أو لا يكون فاذا قلت : «جئت» أو «لم أجىء» عرف ذلك الشىء. ومنه قوله تعالى : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)(٤) ، وقوله : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ)(٥) ، وقوله : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ)(٦).

ومنه قول البحترى :

لو شئت عدت بلاد نجد عودة

فحللت بين عقيقه وزروده (٧)

__________________

(١) المختبط : هو الذى يأتى للمعروف من غير وسيلة. الإطاحة : الإذهاب والإهلاك ، والطوائح : جمع مطيحة على غير القياس كلواقح جمع ملقحة.

(٢) ينظر شروح التلخيص ج ٢ ص ١٣.

(٣) دلائل الإعجاز ص ١١٧.

(٤) الأنعام ١٤٩.

(٥) الشورى ٢٤.

(٦) الأنعام ٣٩.

(٧) العقيق وزرود : موضعان.

١٦٦

ومنه :

ولو شئت أن أبكى دما لبكيته

عليك ولكن ساحة الصّبر أوسع

ـ دفع ما يوهم فى أول الأمر إرادة شىء غير المراد : كقول البحترى :

وكم ذدت عنى من تحامل حادث

وسورة أيام حززن إلى العظم (١)

ولو قال : «حززن اللحم» لجاز أن يتوهم السامع قبل ذكر ما بعده أنّ الحزّ كان فى بعض اللحم ولم ينته إلى العظم فترك ذكر اللحم ليبرئ السامع من هذا الوهم ويصور فى نفسه من أول الأمر أنّ الحزّ مضى فى اللحم حتى لم يرده إلا العظم.

٣ـ تضمن إيقاع الفعل على صريح لفظه إظهارا لكمال العناية بوقوعه عليه كقول البحترى :

قد طلبنا فلم نجد لك فى السّؤ

دد والمجد والمكارم مثلا

أى : قد طلبنا لك مثلا فى السؤدد والمجد والمكارم.

٤ ـ القصد إلى التعميم فى المفعول والامتناع أن يقصره السامع على ما يذكر معه دون غيره مع الاختصار : كقوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ)(٢) ، أى : يدعو كل أحد.

٥ ـ رعاية الفاصلة : كقوله تعالى : (وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى. ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)(٣) ، أى : وما قلاك.

٦ ـ استهجان ذكره : ومنه ما روى عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ أنها قالت : «ما رأيت منه ولا رأى منى» ، تعنى العورة.

٧ ـ الاختصار : كقوله تعالى : (أرني أنظر إليك) (٤) ، أى : أرنى ذاتك (٥).

__________________

(١) سورة الأيام : شدتها وصولتها.

(٢) يونس ٢٥.

(٣) الضحى ١ ـ ٣.

(٤) الأعراف ١٤٣.

(٥) ينظر دلائل الإعجاز ص ١١٨ ، ونهاية الإيجاز ص ١٣٩ ، ومفتاح للعلوم ص ١٠٩ ، والإيضاح ص ١٠٥ ، وشروح التلخيص ج ص ١٣١.

١٦٧

التقديم والتأخير

وهذا الباب تتبارى فيه الأساليب وتظهر المواهب والقدرات ، وهو دلالة على التمكن فى الفصاحة وحسن التصرف فى الكلام ووضعه الوضع الذى يقتضيه المعنى. يقول الزركشى : «هو أحد أساليب البلاغة ، فانهم أتوا به دلالة على تمكنهم فى الفصاحة وملكتهم فى الكلام وانقياده لهم ، وله فى القلوب أحسن موقع وأعذب مذاق» (١)

واختلفوا فى عده من المجاز ، فمنهم من عده منه لأن تقديم ما رتبته التأخير كالمفعول وتأخير ما رتبته التقديم كالفاعل ، نقل كل واحد منهما عن رتبته وحقه. وقال الزركشى : «والصحيح أنه ليس منه ، فان المجاز نقل ما وضع له إلى ما لم يوضع» (٢).

[احوال المعاني]

والمعانى لها فى التقديم خمسة أحوال :

الأولى : تقدم العلة على معلولها عند القائلين بها كتقدم الكون على الكائنية والعلم على العالمية.

الثانية : التقدم بالذات ، كتقدم الواحد على الاثنين ، على معنى أن الوحدة لا يمكن تحقق الاثنينية إلا بعد سبقها.

الثالثة : التقدم بالشرف كتقدم الأنبياء على الأتباع والعلماء على الجهال.

الرابعة : التقدم بالمكان كتقدم الإمام على المأموم وتقدم من يقرب إلى الحائط دون من تأخر عنه.

الخامسة : التقدم بالزمان ، كتقدم الشيخ على الشباب والأب على الابن. (٣)

__________________

(١) البرهان فى علوم القرآن ج ٣ ص ٢٣٣.

(٢) البرهان ج ٣ ص ٢٣٣ ، وينظر الفوائد ص ٨٢.

(٣) الطراز ج ٢ ص ٥٦.

١٦٨

وهذه المعانى ثابتة معروفة عقلا ، ولذلك لا يقع فيها تفاوت أو تفنن فى التعبير.

وتقديم الشىء على وجهين :

الأول : تقديم على نية التأخير ، وذلك فى كل شىء أقر مع التقديم على حكمه الذى كان عليه وفى جنسه الذى كان فيه ، كخبر المبتدأ إذا قدّم على المبتدأ ، والمفعول إذا قدم على الفاعل. والتقديم لا يخرج الخبر أو المفعول عما كانا عليه قبل التقديم.

الثانى : تقديم لا على نية التأخير ، ولكن على أن ينقل الشىء عن حكم إلى حكم ويجعل بابا غير بابه وإعرابه غير إعرابه ، وذلك أن يعمد إلى اسمين يحتمل كل واحد منهما أن يكون مبتدأ ويكون الآخر خبرا له فيقدم هذا تارة على ذاك وأخرى ذاك على هذا. ومثاله : «زيد المنطلق» و «المنطلق زيد» فالتقديم والتأخير يؤثران فى معنى الجملة ، لأنّ ما يقدم هو المبتدأ أو المسند إليه وما يؤخر هو الخبر أو المسند ، وكذلك «ضربت محمدا» و «محمد ضربته» فـ «محمد» فى الجملة الأولى مفعول به ، وفى الثانية «مبتدأ». وهذا يختلف عن النوع الأول الذى لا يتغير فيه حكم المتقدم أو المتأخر ، ففى «منطلق زيد» و «زيد منطلق» ظل «زيد» مسندا إليه و «منطلق» مسندا ، وفى «ضرب زيد عمرا» و «ضرب عمرا زيد» بقى «زيد» مسندا إليه ـ فاعلا ـ و «عمرو» مفعولا به. (١)

وباب التقديم والتأخير واسع لأنّه يشمل كثيرا من أجزاء الكلام ، فالمسند إليه يقدم لأغراض بلاغية منها :

١ ـ أنّه الأصل ولا مقتضى للعدول عنه كتقديم الفاعل على المفعول ، والمبتدأ على الخبر ، وصاحب الحال عليها.

__________________

(١) ينظر تفصيل ذلك فى دلائل الإعجاز ص ٨٣ وما بعدها.

١٦٩

٢ ـ أن يتمكن الخبر فى ذهن السامع لأنّ فى المبتدأ تشويقا إليه ، كقول المعرى :

والذى حارت البرية فيه

حيوان مستحدث من جماد

٣ ـ أن يقصد تعجيل المسرة إن كان فى ذكر المسند إليه تفاؤل مثل : «سعد فى دارك» أو المساءة إن كان فيه ما يتطير به مثل «السفاح فى دار صديقك».

٤ ـ إيهام أنّ المسند إليه لا يزول عن الخاطر مثل : «الله ربى».

٥ ـ إيهام التلذذ بذكره ، كقول الشاعر :

بالله يا ظبيات القاع قلن لنا

ليلاى منكنّ أم ليلى من البشر

٦ ـ تخصيص المسند إليه بالخبر الفعلى إن ولى حرف النفى مثل : «ما أنا قلت هذا» ، وقول المتنبى :

وما أنا أسقمت جسمى به

ولا أنا أضرمت فى القلب نارا

٧ ـ تقوية الحكم وتقريره : كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ)(١) ومما يدخل فى هذا الحكم تقديم «مثل» و «غير» ، وقد قال عبد القاهر : ومما يرى تقديم الاسم فيه كاللازم «مثل» و «غير» فى نحو قوله :

مثلك يثنى المزن عن صوبه

ويستردّ الدمع عن غربه

وكذلك حكم «غير» إذا سلك به هذا المسلك» (٢) ، ومنه قول المتنبى :

غيرى بأكثر هذا الناس ينخدع

إن قاتلوا جبنوا أو حدثوا شجعوا

وقال القزوينى : «واستعمال «مثل» و «غير» هكذا مركوز فى الطباع وإذا تصفحت الكلام وجدتهما يقدمان أبدا على الفعل إذا نحى بهما نحو ما ذكرناه

__________________

(١) المؤمنون ٥٩.

(٢) دلائل الإعجاز ، ص ١٠٦.

١٧٠

ولا يستقيم المعنى فيهما إذا لم يقدما. والسر فى ذلك أنّ تقديمهما يفيد تقوى الحكم» (١).

٨ ـ إفادة العموم : مثل : «كل إنسان لم يقم» فيقدم ليفيد نفى القيام عن كل واحد من الناس. (٢)

ويقدم المسند لأغراض منها :

١ ـ تخصيص المسند بالمسند إليه : كقوله تعالى : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٣) وقوله : («لَكُمْ دِينُكُمْ * وَلِيَ دِينِ)(٤).

٢ ـ التنبيه من أول الأمر على أنّه خبر لانعت ، كقول حسان بن ثابت يمدح النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ :

له همم لا منتهى لكبارها

وهمّته الصّغرى أجلّ من الدهر

له راحة لو أنّ معشار جودها

على البرّ كان البرّ أندى من البحر

٣ ـ التفاؤل بتقديم ما يسر : مثل : «عليه من الرحمن ما يستحقه».

٤ ـ التشويق إلى ذكر المسند إليه : كقول محمد بن وهيب :

ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها

شمس الضحى وأبو إسحق والقمر

وقول المعرى :

وكالنار الحياة فمن رماد

أواخرها ، وأولها دخان (٥)

__________________

(١) الإيضاح ، ص ٦٤.

(٢) ينظر مفتاح العلوم ، ص ٩٣ ، والإيضاح ص ٥٢ ، وشروح التلخيص ج ١ ، ص ٣٨٩.

(٣) آل عمران ١٨٩.

(٤) الكافرون ٦.

(٥) مفتاح العلوم ، ص ١٠٥ ، والإيضاح ص ١٠١ ، وشرح التلخيص ج ٢ ، ص ١٠٩.

١٧١

ومن التقديم : تقديم تعلقات الفعل عليه كالمفعول والجار والمجرور والحال ، ويكون ذلك لأغراض منها :

١ ـ الاختصاص : كقوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(١)

٢ ـ الاهتمام بالمتقدم : كقوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)(٢)

٣ ـ التبرك : مثل «قرآنا قرأت».

٤ ـ ضرورة الشعر ، وهو كثير لا يحصره حدّ.

٥ ـ رعاية الفاصلة : كقوله تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ)(٣) وهذه الأغراض كثيرة ، وقد ذكر الزمخشرى أنّ تقديم هذه الأنواع للاختصاص ، غير أن ابن الأثير يرجع ذلك إلى وجهين :

الأول : الاختصاص ، كقوله تعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ. وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ. بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)(٤) فانه إنما قيل «بل الله فاعبد» ولم يقل «بل اعبد الله» لأنه إذا تقدم وجب اختصاص العبادة به دون غيره ، ولو قال «بل اعبد» لجاز إيقاع الفعل على أى مفعول شاء.

الثانى : يختص بنظم الكلام ، كقوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وقد ذكر الزمخشرى فى تفسيره أنّ التقديم فى هذا الموضع قصد به الاختصاص وليس كذلك فانّه لم يقدم المفعول فيه على الفعل للاختصاص ، وإنّما قدّم

__________________

(١) الفاتحة ٥.

(٢) الإنعام ١٦٤.

(٣) الضحى ٩ ـ ١٠.

(٤) الزمر ٦٤ ـ ٦٦.

١٧٢

لمكان نظم الكلام ، لأنه لو قال : نعبدك ونستعينك لم يكن له من الحسن ما لقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.) ألا ترى أنّه تقدّم قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» (١) ، فجاء بعد ذلك قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وذاك لمراعاة حسن النظام السجعى الذى هو على حرف النون ، ولو قال «نعبدك ونستعينك» لذهبت تلك الطلاوة وزال ذلك الحسن ، وهذا غير خاف على أحد من الناس فضلا عن أرباب علم البيان» (٢).

وهناك أنواع كثيرة من التقديم لا ترجع إلى المسند إليه والمسند ولا إلى متعلقات الفعل عليه وإنما ترجع إلى أمور كثيرة ، بحثها الزركشى (٣) فى أنواع التقديم والتأخير ، وقسمها إلى ما قدم والمعنى عليه ، وما قدم والنية به التأخير ، والقسم الأول واسع فسيح ومقتضياته كثيرة ذكر منها خمسة وعشرين لونا ، وأهمها :

١ ـ السبق : كقوله تعالى : (وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى)(٤).

٢ ـ الذات : كقوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ)(٥).

٣ ـ العلة والسببية : كقوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(٦) لأن العبادة سبب حصول الإعانة.

٤ ـ المرتبة : كقوله تعالى : (غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٧) ، لأنّ المغفرة سلامة والرحمة غنيمة ، والسلامة مطلوبة قبل الغنيمة.

__________________

(١) الفاتحة ٢ ـ ٤.

(٢) المثل السائر ج ٢ ص ٣٩ ، وينظر الطراز ج ٢ ص ٦٦.

(٣) البرهان فى علوم القرآن ج ٣ ص ٢٣٩.

(٤) الأحزاب ٧.

(٥) المجادلة ٧.

(٦) الفاتحة ٥.

(٧) البقرة ١٧٣ ، وآيات كثيرة.

١٧٣

٥ ـ التعظيم : كقوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ)(١).

٦ ـ الغلبة والكثرة : كقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ)(٢)

٧ ـ الاهتمام عند المخاطب : كقوله تعالى : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها)(٣)

٨ ـ مراعاة الافراد : كقوله تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ)(٤) ، فان المفرد سابق على الجمع.

٩ ـ قصد الترتيب.

١٠ ـ خفة اللفظ.

١١ ـ رعاية الفاصلة : كقوله تعالى : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ)(٥).

وهذه الأنواع التى ذكرها الزركشى لم يتطرق لها البلاغيون إلّا من خلال الجملة ، ولذلك كانت دراستهم لها قاصرة ، أما الذين عنوا بأسلوب القرآن الكريم فقد تجاوزوا هذه المرحلة ونظروا إلى التقديم والتأخير نظرة أوسع وأكثر عمقا فجاءت مادتهم أغزر ودراساتهم أخصب ، ولا يكاد يستثنى من ذلك إلّا عبد القاهر الذى أبدع فى تحليل الأساليب البلاغية ، ونقل النحو من الإعراب والبناء إلى المعانى التى تحتملها العبارات ، وكانت نظريته فى «النظم» من أحسن ما عرف النقد القديم.

__________________

(١) النساء ٦٩.

(٢) فاطر ٣٢.

(٣) النساء ٨٦.

(٤) الكهف ٤٦.

(٥) الحاقة ٣٠ ـ ٣١.

١٧٤

ومن أمثلة تحليله للتقديم والتأخير قوله فى النكرة إذا قدمت على الفعل أو قدم الفعل عليها : «إذا قلت : «أجاءك رجل؟» فأنت تريد أن تسأله : هل كان مجىء من أحد من الرجال إليه. فان قدمت الاسم فقلت : «أرجل جاءك؟» فأنت تسأله على جنس ما جاءه أرجل هو أم امرأة؟ ويكون هذا منك إذا كنت علمت أنّه قد أتاه آت ولكنك لم تعلم جنس ذلك الآتى ، فسبيلك فى ذلك سبيلك إذا أردت أن تعرف عين الآتى فقلت : «أزيد جاءك أم عمرو؟» ولا يجوز تقديم الاسم فى المسألة الأولى ، لأنّ تقديم الاسم يكون إذا كان السؤال عن الفاعل ، والسؤال عن الفاعل يكون إمّا عن عينه أو عن جنسه ولا ثالث. وإذا كان كذلك كان محالا أن تقدم الاسم النكرة وأنت لا تريد السؤال عن الجنس لأنّه لا يكون لسؤالك حينئذ متعلق من حيث لا يبقى بعد الجنس إلا العين. والنكرة لا تدل على عين شىء فيسأل بها عنه. فان قلت : «أرجل طويل جاءك أم قصير؟» كان السؤال عن أن الجائى من جنس طوال الرجال أم قصارهم؟ فان وصفت النكرة بالجملة فقلت : أرجل كنت عرفته من قبل أعطاك هذا أم رجل لم تعرفه؟ كان السؤال عن المعطى أكان ممن عرفه قبل أم كان إنسانا لم تتقدم منه معرفة.

وإذ قد عرفت الحكم فى الابتداء بالنكرة فى الاستفهام فابن الخبر عليه فاذا قلت : «رجل جاءنى» لم يصلح حتى تريد أن تعلمه أنّ الذى جاءك رجل لا امرأة ، ويكون كلامك مع من قد عرف أن قد أتاك آت. فان لم ترد ذاك كان الواجب أن تقول : «جاءنى رجل» فتقدم الفعل (١).

وهذه قيمة التقديم والتأخير فى اللغة العربية ، وليس من العبث أن يشغل البلاغيون ـ وعلى رأسهم عبد القاهر ـ أنفسهم بهذه المسألة أو غيرها من المسائل الأخرى المتصلة بالأساليب لو لا أنّ لكل تعبير معناه ، ولكل وضع هدفه ومغزاه. وفى ذلك اتساع فى القول وقدرة على التعبير.

__________________

(١) دلائل الإعجاز ص ١٠٩ ـ ١١٠.

١٧٥

القصر

تعريفه :

القصر ـ فى اللغة ـ الحبس ، قال تعالى : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ)(١) أى : محبوسة فيها. وأمّا معناه فى الاصطلاح فهو تخصيص شىء بشىء بطريق مخصوص. وذلك كتخصيص المبتدأ بالخبر بطريق النفى فى قوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ)(٢) ، وتخصيص الخبر بالمبتدأ مثل : «ما شاعر إلّا المتنبى».

طرفاه :

وللقصر طرفان :

ـ المقصور ، وهو الشىء المخصص.

ـ المقصور عليه ، وهو الشىء المخصص به.

ففى الآية السابقة (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) خصصنا الغرور بمتاع الدنيا ، وفى (لا يَعْلَمُ ....... الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) خصصنا علم الغيب بالله تعالى. فـ «الحياة الدنيا» مقصور عليه ، و «الغرور» مقصور ، و (عِلْمُ الْغَيْبِ) مقصور ولفظ الجلالة مقصور عليه.

ويقع القصربين :

١ ـ المبتدأ والخبر : كقوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)(٣). و «ما أديب إلّا علىّ».

٢ ـ بين الفعل والفاعل مثل : «لا ينجح إلّا محمد» ، و «ما قام إلّا أنا».

__________________

(١) الرحمن ٧٢.

(٢) الحديد ٢٠.

(٣) آل عمران ١٤٤.

١٧٦

٣ ـ بين الفاعل والمفعول مثل : «ما شاهد خالد إلّا الحديقة» ، فى قصر الفاعل على المفعول ، أما قصر المفعول على الفاعل فمثل : «ما شاهد الحديقة إلّا خالد».

٤ ـ بين المفعولين مثل : ما أعطيت محمدا إلّا كتابا» فى قصر المفعول الأول على الثانى ، أمّا قصر المفعول الثانى على الأول فمثل «ما أعطيت كتابا إلّا محمدا».

٥ ـ بين الحال وصاحبها ، مثل : «ما جاء راكضا إلّا محمد» فى قصر الحال على صاحبها ، أما قصر صاحب الحال عليها فمثل : «ما جاء محمد إلّا راكضا» ومثل ذلك كل متعلقات الفعل ، فان القصر يجرى فيها ما عدا اثنين :

الأول : المصدر المؤكد ، فلا يقع القصر بينه وبين الفعل ولذلك لا يجوز أن نقول : «ما ضربت إلّا ضربا» ، وأما قوله تعالى : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا)(١) فتقديره : ظنا ضعيفا.

الثانى : المفعول معه ، فانه لا يجىء بعد «إلا» ، ولذلك لا يقال : «ما سرت إلّا والحائط».

أنواعه :

وينقسم القصر بحسب الحقيقة والإضافة إلى :

١ ـ قصر حقيقى : وهو أن يختص المقصور بالمقصور عليه بحسب الحقيقة لا يتعداه إلى غيره أصلا ، كقوله تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٢) فالتذكر صفة لا تتجاوز إلى غيرهم من سائر الناس فى الحقيقة والواقع. ومنه : «ما خاتم الأنبياء والرسل إلّا محمد» فخاتم الأنبياء والرسل وهو المقصور مختص بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو المقصور عليه لا يتجاوزه إلى غيره.

__________________

(١) الجاثية ٣٢.

(٢) الرعد ١٩.

١٧٧

٢ ـ قصر إضافى : وهو غير الحقيقى وذلك بأن يكون القصر فيه بالإضافة إلى شىء مخصوص لا إلى جميع ما عدا المقصور عليه. ومنه قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ)(١) ، فـ «محمد» مقصور على الرسالة بالإضافة إلى شىء آخر ، وليس المقصود أنّ الرسالة مختصة به وحده.

ومنه قولنا : «ما محمد إلّا كاتب» فليس المقصود أنّ محمدا مقصور على الكتابة وحدها بحيث لا يتعداها إلى شىء آخر ، لأن الحقيقة والواقع خلاف ذلك ، وإنّما المقصود أنّه مقصور على الكتابة بالإضافة إلى شىء آخر معين كالشعر أو الرسم أو غيرهما.

وينقسم القصر باعتبار طرفيه : المقصور والمقصور عليه إلى :

١ ـ قصر موصوف على صفة : كقوله تعالى : (ما نعبدهم إلّا ليقربونا إلى الله زلفى) (٢) ، فقد قصرت العبادة على التقريب قصر موصوف على صفة.

٢ ـ قصر صفة على موصوف : مثل : «ما فى الدار إلّا محمد» فقد قصر الوجود فى الدار على «محمد» قصر صفة على موصوف.

والمراد بالصفة فى أسلوب القصر الصفة المعنوية لا النعت الذى بذكره النحاة ، لأنّ الاستثناء لا يقع بين الصفة والموصوف.

وينقسم القصر بحسب الحقيقة والادعاء إلى :

١ ـ قصر حقيقى على سبيل الحقيقة.

٢ ـ قصر إضافى على سبيل الحقيقة.

وهذا النوعان هما اللذان يقصدان عند إطلاق القصر الحقيقى والقصر الإضافى كما سبق.

__________________

(١) آل عمران ١٤٤.

(٢) الزمر.

١٧٨

٣ ـ قصر حقيقى على سبيل الادعاء والمبالغة : ومثال قصر الصفة على الموصوف : «لا شاعر فى العرب إلّا المتنبى» إذا كان هناك فى العالم شعراء غير المتنبى ولكن لا نريد الاعتراف بهم مبالغة فى إضفاء الشاعرية على المتنبى.

ومثال قصر الموصوف على الصفة : «ما حاتم إلّا جواد» أى أنّ حاتما لا يتصف بغير الجود من الصفات مبالغة فى كمال الجود فيه.

٤ ـ قصر إضافى على سبيل الادعاء والمبالغة : ومثال قصر الصفة على الموصوف : «ما عالم إلّا محمد» وذلك إذا أريد قصر العلم على محمد بالنسبة إلى خالد إذا كان عالما أيضا.

ومثال قصر الموصوف على الصفة : «ما محمد إلّا كاتب» إذا قصر «محمد» على الكتابة بالنسبة إلى صفة الشعر أو الرسم ، ويراد بذلك انتفاء صفة الشعر أو الرسم منه.

وينقسم القصر الإضافى فقط بحسب حال المخاطب إلى ثلاثة أقسام :

١ ـ قصر إفراد : وذلك إذا اعتقد المخاطب الشركة فى الحكم بين المقصور عليه وغيره.

٢ ـ قصر قلب : وذلك إذا اعتقد المخاطب عكس الحكم الذى يثبت بالقصر.

٣ ـ قصر تعيين : وذلك إذا كان المخاطب مترددا فى الحكم بين المقصور عليه وغيره.

فاذا قيل فى قصر الصفة على الموصوف : «الأديب محمد لا خالد» وكان المخاطب يعتقد اشتراك محمد وخالد فى صفة الأدب كان القصر قصر إفراد.

وإذا كان المخاطب يعتقد غير ذلك كان القصر قصر قلب.

وإذا كان المخاطب مترددا لا يدرى أيهما الأديب كان القصر قصر تعيين.

وإذا قيل فى قصر الموصوف على الصفة : «ما محمد إلّا مدرس» وكان المخاطب يعتقد اتصاف محمد بمهنة التدريس والإدارة كان القصر قصر إفراد.

١٧٩

وإذا كان المخاطب يعتقد اتصاف محمد بالتدريس لا بالادارة كان القصر قصر قلب.

وإذا كان المخاطب مترددا لا يدرى أى الصفتين هى صفة محمد كان القصر قصر تعيين.

ولا يجرى هذا التقسيم فى القصر الحقيقى ، لأنّ القصر فى ذلك النوع قصر بالنسبة إلى ما عدا المقصور عليه على الإطلاق فلا يمكن أن يتصور فى الشركة أو العكس أو التردد على ما نراه فى القصر الإضافى الذى يجرى فيه القصر بالنسبة إلى شىء محدود.

شروطه :

وشروط قصر الموصوف على الصفة إفرادا عدم تنافى الصفتين حتى تكون المنفية فى قولنا : «ما زيد إلّا شاعر» كونه كاتبا ، لا كونه مفحما لا يقول الشعر ليتصور اعتقاد المخاطب اجتماعهما.

وشرط قصره قلبا تحقق تنافيهما حتى تكون المنفية فى قولنا «ما زيد إلّا قائم» كونه قاعدا أو جالسا ، لا كونه أسود أو أبيض ، ليكون إثباتها مشعرا بانتفاء غيرها.

وقصر التعيين أعم ، لأنّ اعتقاد كون الشىء موصوفا بأحد أمرين معينين على الإطلاق لا يقتضى جواز اتصافه بهما معا ولا امتناعه. وبهذا علم أنّ كل ما يصلح أن يكون مثالا لقصر الإفراد أو قصر القلب يصلح أن يكون مثالا لقصر التعيين من غير عكس.

طرقه :

أهم طرق القصر أربعة :

١ ـ النفى والاستثناء : ويكون المقصور عليه فى هذه الطريق بعد أداة الاستثناء ، كقوله تعالى : «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ

١٨٠