أساليب بلاغية

الدكتور أحمد مطلوب

أساليب بلاغية

المؤلف:

الدكتور أحمد مطلوب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: وكالة المطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٣

لقد حاول القدماء أن يضعوا سمات يستدل بها المتكلم أو الكاتب ، وقالوا إنّ توجيه الخطاب بالجملة الاسمية ينقدح فيه معنيان :

الأول : أن تريد أنّ الفاعل قد فعل ذلك الفعل على جهة الاختصاص به دون غيره ، كقوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى. وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا)(١) فصدر الجملة بالضمير دلالة على اختصاصه تعالى بالإماتة والإحياء والإضحاك والإبكاء ، وإنما أورد الضمير وصيّر الجملة اسمية تكذيبا وردّا وانكارا لمن زعم أنه مشارك لله تعالى فى هذه الخصال.

الثانى : التحقق وتمكين المعنى فى نفس السامع بحيث لا يخالجه فيه ريب ، كقوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا ، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ)(٢) فخاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية وشياطينهم بالجملة الاسمية المحققة بـ «إنّ» المشددة ، وإنّما كان الأمر كذلك لأنّهم فى خطابهم لإخوانهم مخبرون عن أنفسهم بالثبات والتصميم على اعتقاد الكفر مصرون على التمادى فى الجحود والإنكار ، فلهذا وجهوه بالجملة المؤكدة الاسمية بخلاف خطابهم للمؤمنين فانما كان عن تكلف وإظهار للايمان خوفا ومداجاة من غير عزم عليه ولا شرح صدرهم به.

أما توجيه الخطاب بالجملة الفعلية فيراد به الإخبار بمطلق العمل مقرونا بالزمان من غير أن يكون هناك مبالغة وتوكيد ، كقوله تعالى : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ)(٣) وقوله : (نَزَّلَ الْكِتابَ)(٤) ، فالغرض الإخبار بهاتين الجملتين بالفعل الماضى فى غير إشعار بمبالغة هناك ، ولمّا أراد المبالغة فى الجملة الأولى قال فى آخرها : (فَهُمْ يُوزَعُونَ)(٥) وقال فى الثانية : (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) ، فإتيانه بالجملتين الاسميتين من آخر الجملتين السابقتين المصدرتين بالفعلين دلالة على المبالغة والتأكيد فى المقصود وهو

__________________

(١) النجم ٤٣ ـ ٤٤.

(٢) البقرة ١٤.

(٣) النمل ١٧.

(٤) الأعراف ١٩٦.

(٥) النمل ١٧. يوزعون : يكفون ويحبسون.

١٤١

التولى للصالحين والإيزاع (١). ولذلك قالوا أن للاسم دلالة على الحقيقة دون زمانها ، وللفعل دلالة على الحقيقة وزمانها ، وقال فخر الدين الرازى : «إن كان الغرض من الإخبار الإثبات المطلق غير المشعر بزمان وجب أن يكون الإخبار بالاسم كقوله تعالى : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ)(٢) لأنّه ليس الغرض إلّا إثبات البسط للكلب ، فأما تعريف زمان ذلك فليس بمقصود. وأما إذا كان الغرض فى الإخبار الإشعار بزمان ذلك الثبوت فالصالح له الفعل كقوله تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ)(٣) فانّ المقصود بتمامه لا يحصل بمجرد كونه معطيا للرزق بل بكونه معطيا للرزق فى كل حين وأوان» (٤).

ويؤتى بالجملة الظرفية ، إذا كان المراد اختصار الجملة الفعلية مثل : «محمد فى الدار» بدل : استقر فيها أو حصل فيها.

فالجملة الاسمية تدل على الاختصاص والتحقق والثبوت والتأكيد ، فى حين تدل الجملة الفعلية على التجدد ، لأنّ الفعل مرتبط بالزمان وتحولاته ، وقد لخص الخطيب القزوينى ذلك بقوله : «وفعليتها لإفادة التجدد ، واسميتها لافادة الثبوت ، فانّ من شأن الفعلية أن تدل على التجدد ، ومن شأن الاسمية أن تدل على الثبوت». (٥) ولذلك لم يكن من العبث صياغة الجملة فى اللغة العربية بأشكال مختلفة ، فلكل صورة هدف ولكل تركيب غاية ، وفى ذلك توسع فى الأساليب ودقة فى الأداء والتعبير.

وتتصل بدراسة المسند والمسند إليه ومتعلقاتهما موضوعات كثيرة ، غير أنّ الأقتصار على أهمها وعلى ماله علاقة بالأساليب المتنوعة أقرب إلى الدراسات البلاغية ، ولذلك سيكون الوقوف على التعريف والتنكير ، والذكر والحذف والتقديم والتأخير ، والقصر.

__________________

(١) الطراز ج ٢ ، ص ٢٥ وما بعدها.

(٢) الكهف ١٨.

(٣) فاطر ٣.

(٤) نهاية الإيجاز ، ص ٤١.

(٥) الإيضاح ، ص ٩٩ ، وينظر دلائل الإعجاز ، ص ١٣٢ وما بعدها.

١٤٢

التعريف والتنكير

المعرفة ما دل على شىء بعينه ، والنكرة ما دل على شىء لا بعينه.

وأقسام المعرفة خمسة ، وأعرفها المضمر ، ثم العلم ، ثم اسم الإشارة ، والموصول ، ثم المعرف بالألف واللام ، ثم المضاف إلى واحد منها إضافة معنوية. وتتفاوت النكرات أيضا فى مراتب التنكير ، وكلما ازدادت النكرة عموما زادت إبهاما فى الوضع (١).

التعريف :

يدخل التعريف على المسند إليه ، لأنّ الأصل فيه أن يكون معرفة لأنّه المحكوم عليه ، والحكم على المجهول لا يقيد ، ولذلك فانه يعرف لتكون الفائدة أتم ، لأنّ احتمال تحقق الحكم متى كان أبعد كانت الفائدة فى الإعلام به أقوى ومتى كان أقرب كانت أضعف.

والتعريف مختلف ويكون بوسائل هى :

الأول : الإضمار ، وذلك :

١ ـ إذا كان المقام مقام التكلم ، كقول بشار :

أنا المرعّث لا أخفى على أحد

ذرّت بى الشمس للقاصى وللدانى (٢)

وقول الشاعر :

أنا الذى يجدونى فى صدورهم

لا أرتقى صدرا منها ولا أرد

__________________

(١) ينظر البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن ص ١٣٣ ، والتبيان فى علم البيان ص ٥٠ ، والطراز ج ٢ ص ١١.

(٢) رعثها ـ بالتضعيف ـ ألبسها الرعثة ـ بالفتح وبالتحريك ـ وهى القرط. ذرت : طلعت.

١٤٣

وقول الآخر :

ونحن التاركون لما سخطنا

ونحن الآخذون لما رضينا

٢ ـ أو كان المقام مقام الخطاب كقول الحماسية أمامة مخاطبة الشاعر الأموى ابن الدمينة :

وأنت الذى أخلفتنى ما وعدتنى

وأشمتّ بى من كان فيك يلوم

وقول الآخر :

أنت الذى تنزل الأيام منزلها

وتمسك الأرض من خسف وزلزال

وقول الآخر :

أنت الذى لم تدع سمعا ولا بصرا

إلّا شفى فأمرّ العيش إمرارا

وأصل الخطاب أن يكون لمعين وقد يترك إلى غير معين كما تقول : «فلان لئيم إن أكرمته أهانك وإن أحسنت إليه أساء إليك» ، فلا تريد مخاطبا بعينه بل تريد : إن أكرم وإن أحسن إليه ، فتخرجه فى صورة الخطاب ليفيد العموم ، أى سوء معاملته غير مختص بواحد دون واحد. وهو فى القرآن الكريم كثير ، كقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)(١) أخرج فى صورة الخطاب لما أريد العموم للقصد إلى تفظيع حالهم وأنها تناهت فى الظهور حتى امتنع اختفاؤها فلا تختص بها رؤية راء مختص به كل من يتأتى منه رؤية داخل فى هذا الخطاب.

٣ ـ أو كان المقام الغيبة ، لكون المسند إليه مذكورا أو فى حكم المذكور لقرينة ، كقوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)(٢) ، أى : العدل ، وقوله : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ)(٣) أى : لأبوى الميت.

ومنه قول الشاعر :

__________________

(١) السجدة ١٢.

(٢) المائدة ٨.

(٣) النساء ١١.

١٤٤

من البيض الوجوه بنى سنان

لو انّك تستضىء بهم أضاءوا

هم حلّوا من الشرف المعلّى

ومن حسب العشيرة حيث شاءوا

وقول الآخر :

هو البحر من أى النواحى أتيته

فلجّته المعروف والبرّ ساحله

وقول الآخر :

هو المهرب المنجى لمن أحدقت به

مكاره دهر ليس عنهنّ مهرب (١)

الثانى : العلمية ، وذلك :

١ ـ لإحضاره بعينه فى ذهن السامع ابتداء باسم مختص به كقوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(٢) ، وقول الشاعر :

أبو مالك قاصر فقره

على نفسه ومشيع غناه

وقول الآخر :

الله يعلم ما تركت قتالهم

حتى علوا فرسى بأشقر مزبد (٣)

وعلمت أنّى إن أقاتل واحدا

أقتل ولا يضرر عدوى مشهدى

٢ ـ أو لتعظيمه أو إهانته كما فى الكنى والألقاب المحمودة والمذمومة.

٣ ـ أو لكناية حيث الاسم صالح لها ، ومما ورد صالحا للكناية من غير باب المسند إليه قوله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ)(٤) ، أى : جهنمى.

ومثّل السكاكى بهذه الآية للمسند إليه على اعتبار أنّ «أبى لهب» مضاف إلى «يدا» وأنكر ذلك بعض شراح التلخيص ، وأوجد بعضهم له عذرا (٥).

__________________

(١) ينظر مفتاح العلوم ص ٨٥ ، والإيضاح ص ٣٤ ، وشروح التلخيص ج ١ ص ٢٨٨.

(٢) الإخلاص ١.

(٣) الأشقر : الدم الذى صار علقا. المزبد : ما علاه الزبد ونحوه من الرغوة.

(٤) المسد ١.

(٥) شروح التلخيص ج ١ ص ٣٠١.

١٤٥

٦ ـ أو لإيهام استلذاذه ، كقول الشاعر :

بالله يا ظبيات القاع قلن لنا

ليلاى منكنّ أم ليلى من البشر

والأصل أن يقول : «أم هى من البشر» ولكنه ذكر اسمها الصريح تلذذا به.

٧ ـ أو التبرك به ، كقولنا : «الله الهادى ومحمد هو الشفيع» عند قول الجاهل :

«هل الله الهادى ومحمد الشفيع؟»

٨ ـ أو التفاؤل مثل : «سعد فى دارك».

٩ ـ أو التطير مثل : «السفاح فى دار صديقك».

١٠ ـ أو التسجيل على السامع أى التحقيق والتثبيت عليه كما يحقق الشىء بالكتابة حتى لا يجد إلى إنكار السامع سبيلا. فاذا قيل لأحد : هل سببت هذا وأهنت؟ فيقول : زيد سببته وأهنته (١).

الثالث : الموصولية ، ويكون ذلك لأسباب منها :

١ ـ عدم علم المخاطب بالأحوال المختصة به سوى الصلة ، كقولك : «الذى كان معنا أمس رجل عالم».

٢ ـ أو لاستهجان التصريح بالاسم ، أما من جهة تركيبه من حروف يستقبح اجتماعها أو لإشعاره فى أصله بمعنى تقع النفرة منه لاستقذاره عرفا.

٣ ـ أو زيادة التقرير ، كقوله تعالى : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ)(٢) ، فانه مسوق لتنزيه يوسف ـ عليه‌السلام ـ عن

__________________

(١) ينظر مفتاح العلوم ص ٨٦ ، والإيضاح ص ٣٥ ، وشروح التلخيص ج ١ ص ٢٩٢.

(٢) يوسف ٢٣.

١٤٦

الفحشاء ، والمذكور أدل عليه من «امرأة العزيز» وغيره ، والعدول عن التصريح باب من البلاغة يصار إليه كثيرا.

٤ ـ أو التفخيم ، كقوله تعالى : (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ)(١) ، وقول أبى نواس :

مضى بها ما مضى من عقل شاربها

وفى الزجاجة باق يطلب الباقى

٥ ـ أو تنبيه المخاطب على غلطه كقول الشاعر :

إنّ الذين ترونهم إخوانكم

يشفى غليل صدورهم أن تصرعوا

٦ ـ أو للايماء إلى وجه بناء الخبر ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ)(٢).

٧ ـ وربما جعل ذريعة إلى التعريض بالتعظيم لشأن الخبر كقول الشاعر :

إنّ الذى سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعزّ وأطول (٣)

أو لشأن غير الخبر كقوله تعالى : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ)(٤) فانّه قصد به تعظيم شأن شعيب ، ويحتمل أن يقال إنّه لبناء الخبر عليه فان تكذيبهم شعيبا مناسب لخسرانهم (٥).

الرابع : الإشارة ، ويؤتى بالمسند إليه اسم إشارة لأحد أمور ، وذلك :

١ ـ أن يقصد تميزه لإحضاره فى ذهن السامع حسا ، فالإشارة أكمل ما يكون من التمييز كقول ابن الرومى. :

هذا أبو الصقر فردا فى محاسنه

من نسل شيبان بين الضّال والسّلم

__________________

(١) طه ٧٨.

(٢) غافر ٦٠. داخرين : صاغرين.

(٣) سمك : رفع.

(٤) الأعراف ٩٢.

(٥) ينظر مفتاح العلوم ص ٨٧ ، والإيضاح ص ٣٥ ، وشروح التلخيص ج ١ ص ٣٠٢.

١٤٧

وقول الآخر :

أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا

وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدّوا

وقول الآخر :

وإذا تأمل شخص ضيف مقبل

متسربل سربال ليل أغبر (١)

أوما إلى الكوماء : هذا طارق

نحرتنى الأعداء إن لم تنحرى

٢ ـ أو للقصد أنّ السامع غبى لا يتميز الشىء عنده إلّا بالحس ، كقول الفرزدق :

أولئك آبائى فجئنى بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

٣ ـ أو أن يقصد بيان حاله فى القرب أو البعد أو التوسط كقولك : «هذا زيد ، وذاك عمرو ، وذاك بشر».

وربما جعل القرب ذريعة إلى التحقير كقوله تعالى : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ، أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ)(٢) ، وقوله : (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ، أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً؟)(٣) ، (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ)(٤).

ومنه قول الشاعر :

تقول ودقّت نحرها بيمينها

أبعلى هذا بالرحا المتقاعس

أو يقصد بالبعد العناية بتميزه وتعيينه ، كقوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٥).

__________________

(١) متسربل : لابس السربال وهو القميص.

(٢) الأنبياء ٣٦.

(٣) الفرقان ٤١.

(٤) العنكبوت ٦٤.

(٥) البقرة ٥.

١٤٨

وربما جعل البعد ذريعة إلى التعظيم كقوله تعالى : (الم. ذلِكَ الْكِتابُ)(١) ذهابا إلى أبعد درجته ، وقوله : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها)(٢).

وقد يجعل ذريعة إلى التحقير كما يقال «ذلك اللعين فعل كذا».

٤ ـ أو للتنبيه إذا ذكر قبل المسند إليه مذكور وعقب بأوصاف على أنّ ما يرد بعد اسم الاشارة فالمذكور جدير باكتسابه من أجل تلك الأوصاف كقول حاتم الطائى.

ولله صعلوك يساور همّه

ويمضى على الأحداث والدّهر مقدما

فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة

ولا شبعة إن نالها عدّ مغنما

اذا ما رأى يوما مكارم أعرضت

تيمّم كبراهنّ ثمّت صمّما

ترى رمحه ونبله ومجنّه

وذا شطب عضب الضريبة مخذما

وأحناء سرج قاتر ولجامه

عتاد أخى هيجا وطرفا مسوّما

فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه

وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمّما (٣)

__________________

(١) البقرة ١ ـ ٢.

(٢) الزخرف ٧٢.

(٣) يساور : يواثب ويغالب. الخمص : الجوع. الترحة : الشقاء والفقر : تيمم. : قصد. المجن : الترس. الشطب : طرائق وخطوط فى متن السيف : العضب : القاطع. الضريبة من السيف : حده. المخذم : القاطع. السرج القاتر : الجيد. الطرف : الجواد الأصيل. المسوم : المعلم لشهرته.

١٤٩

لقد عدد له خصالا حميدة كالمضاء على الأحداث مقدما والصبر على ألم الجوع والأنفة من أن يعد الشبعة مغنما وتيمم كبرى المكرمات ، والتأهب للحرب بأدواتها ، ثم عقب ذلك بقوله : «فذلك» فأفاد أنّه جدير باتصافه بما ذكر من الصفات.

ومنه قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١).

أفاد اسم الإشارة زيادة الدلالة على المقصود من اختصاص المذكورين قبله باستحقاق الهدى من ربحهم والفلاح (٢).

الخامس : التعريف باللام ، والتعريف بالأداة وهى اللام على مذهب ، والألف واللام على مذهب تكون لأحد أمور :

١ ـ أن يشار به إلى معهود بينك وبين مخاطبك كما إذا قال لك قائل : «جاءنى رجل من بلدة كذا» فتقول : ما فعل الرجل؟ وعليه قوله تعالى : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى)(٣) ، أى : وليس الذكر الذى طلبت كالأنثى التى وهبت لها.

٢ ـ أو يراد به نفس الحقيقة ، مثل : «الماء مبدأ كلّ حى» ، وقول المعرى :

والخلّ كالماء يبدى لى ضمائره

مع الصفاء ويخفيها مع الكدر (٤)

السادس : التعريف بالإضافة ، ويكون لأسباب هى :

__________________

(١) البقرة ٥.

(٢) مفتاح العلوم ص ٨٨ ، والإيضاح ص ٣٨ ، وشروح التلخيص ج ١ ص ٣١٣.

(٣) آل عمران ٣٦.

(٤) مفتاح العلوم ص ٨٨ ، والإيضاح ص ٤١ ، وشروح التلخيص ج ١ ص ٣٢٠.

١٥٠

١ ـ أن لا يكون لإحضار المسند إليه فى الذهن طريق أخصر من الاضافة وينبغى أن يقيد بما اذا كان المقام مقام اختصار ، كقول الشاعر :

هواى مع الركب اليمانين مصعد

جنيب وجثمانى بمكة موثق (١)

٢ ـ أو أن تغنى إضافته عن التفصيل المتعذر أو المرجوع لجهة ، كقول الشاعر :

بنو مطر يوم اللقاء كأنّهم

أسود لهم فى غيل خفّان أشبل (٢)

وقول الآخر :

قومى هم قتلوا أميم أخى

فاذا رميت يصيبنى سهمى

٣ ـ أو لتضمنها تعظيما لشأن المضاف إليه أو المضاف أو غيرهما. فتعظيم شأن المضاف كقوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ)(٣) ففيه تعظيم لشأن العباد بأنّهم عباد الله. ومن تعظيم شأن المضاف إليه قولك : «كتابى من أجلّ الكتب» ففيه تعظيم لشأن المضاف إليه بانه صاحب كتاب عظيم.

٤ ـ أو تضمنها تحقير شأن المضاف أو المضاف إليه أو غيرهما مثل «أبو السارق جاء» و «أخو محمد سارق».

٥ ـ أو لتضمنها الاستهزاء كما فى قوله تعالى على لسان فرعون : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)(٤) ، فانّ إضافة ضمير المسند إليه إلى المخاطبين ليس على سبيل الاعتراف برسالة موسى ـ عليه‌السلام ـ ولكن على سبيل الاستهزاء (٥).

__________________

(١) مصعد ، ذاهب مبعد فى الأرض. جنيب : منحى ، مبعد ، أو مقدم يتبعه غيره.

(٢) الغيل : المأسدة. خفان : مأسدة قرب الكوفة.

(٣) الإسراء ٦٥.

(٤) الشعراء ٢٧.

(٥) ينظر مفتاح العلوم ص ٨٩ ، والإيضاح ص ٤٤ ، وشروح التلخيص ج ١ ص ٣٤٥.

١٥١

أمّا تعريف المسند فلإفادة السامع إمّا حكما على أمر معلوم له بطريق من طرق التعريف بأمر آخر معلوم له كذلك ، وإما لازم حكم بين أمرين كذلك وقد شرح القزوينى هذه الافادة بقوله : «تفسير هذا أنّه قد يكون للشىء صفتان التعريف ويكون السامع عالما باتصافه باحداهما دون الأخرى ، فاذا أردت أن تخبره بأنّه متصف بالأخرى تعمد إلى اللفظ الدال على الأولى وتجعله مبتدأ ، وتعمد إلى اللفظ الدال على الثانية وتجعله خبرا فتفيد السامع ما كان يجهله من اتصاف بالثانية كما إذا كان للسامع أخ يسمى زيدا وهو يعرفه بعينه واسمه ولكن لا يعرف أنّه أخوه وأردت أن تعرفه أنّه أخوه فتقول له : «زيد أخوك» سواء عرف أنّ له أخا ولم يعرف أنّ زيدا أخوه أو لم يعرف أنّ له أخا أصلا. وإن عرف أنّ له أخا فى الجملة وأردت أن تعينه عنده قلت : «أخوك زيد». أما إذا لم يعرف أنّ له أخا أصلا فلا يقال ذلك لاقناع الحكم بالتعيين على من لا يعرفه المخاطب أصلا ، فظهر الفرق بين قولنا : «زيد أخوك» وقولنا : «أخوك زيد».

وكذا إذا عرف السامع إنسانا يسمّى زيدا بعينه واسمه ، وعرف أنّه كان من إنسان انطلاق ولم يعرف أنّه كان من زيد أو غيره فأردت أن تعرفه أنّ زيدا هو ذلك المنطلق فتقول : «زيد المنطلق» وإن أردت أن تعرف أنّ ذلك المنطلق هو زيد قلت : «المنطلق زيد».

وكذا إذا عرف السامع إنسانا يسمى زيدا بعينه واسمه ، وهو يعرف معنى جنس المنطلق وأردت أن تعرفه بأنّ زيدا متصف به فتقول : «زيد المنطلق» وإن أردت أن تعين عنده جنس المنطلق قلت : «المنطلق زيد» (١).

وكان عبد القاهر الجرجانى من أحسن الذين ميزوا بين تعريف المسند وتنكيره (٢) وقد أوضح الفروق بين هاتين الجملتين :

__________________

(١) الإيضاح ص ٩٨ ـ ٩٨ ، وينظر شروح التلخيص ج ٢ ص ٩٣ وما بعدها.

(٢) ينظر دلائل الإعجاز ص ١٣٢ وما بعدها.

١٥٢

١ ـ زيد منطلق.

٢ ـ زيد المنطلق.

وقال إنّ فى كل واحد من هذه الأحوال غرضا خاصا وفائدة لا تكون فى الباقى ، فالعبارة الأولى «زيد منطلق» كان الكلام فيها مع من لم يعلم أنّ انطلاقا كان لا من «زيد» ولا من «عمرو» فهى تفيده ذلك ابتداء. والعبارة الثانية «زيد المنطلق» كان الكلام فيها مع من عرف أنّ انطلاقا كان إمّا من «زيد» وإمّا من «عمرو» فهى تعلمه أنّه كان من «زيد» دون غيره.

والنكتة هنا هى أن يثبت المتكلم فى العبارة الأولى «زيد منطلق» فعلا لم يعلم السامع من أصله أنّه كان ، ويثبت فى الثانى «زيد المنطلق» فعلا قد علم السامع به أنّه كان ولكنه لم يعلمه لـ «زيد».

ومن الفرق بين الجملتين أنّه إذا نكر الخبر جاز أن يؤتى بمبتدأ ثان على أن يشرك بحرف العطف فى المعنى الذى أخبر به عن الأول ، وإذا عرّف الخبر ـ المسند ـ لم يجز ؛ ولذلك يقال : «زيد منطلق وعمرو» أى : «وعمرو منطلق أيضا» ولا يصح «زيد المنطلق وعمرو» لأنّ المعنى مع التعريف على على إرادة إثبات انطلاق مخصوص قد كان من واحد ، فاذا أثبت لـ «زيد» لم يصح إثباته لـ «عمرو». ثم إن كان ذلك الانطلاق من الاثنين وجب الجمع بينهما فى الخبر فيقال : «زيد وعمرو هما المنطلقان» لا أن يفرقا فيثبت أولا لـ «زيد» ثم لـ «عمرو» بعد ذلك. وربما كانت الألف واللام فى المسند على معنى الجنس ثم يكون لها فى ذلك وجوه :

الأول : قصر جنس المعنى على المخبر للمبالغة مثل «زيد هو الجواد وعمرو هو الشجاع» أى : إنّه الكامل إلّا أنّ الكلام خرج فى صورة توهم أنّ الجود أو الشجاعة لم توجد إلّا فيه. ولا يجوز فى هذه الحالة العطف عليه للاشراك ، ولو قيل «زيد هو الجواد وعمرو» كان خلفا من القول.

الثانى : قصر جنس المعنى الذى يفاد بالخبر على المخبر عنه لا على معنى المبالغة وترك الاعتداد بوجوده فى غير المخبر عنه بل على دعوى أنّه لا يوجد

١٥٣

إلّا منه ، ولا يكون ذلك إلّا إذا قيد المعنى بشئ يخصصه ويجعله فى حكم نوع برأسه ، وذلك كنحو أن يقيد بالحال والوقت مثل : «هو الوفى حين لا تظن نفس بنفس خيرا». وهكذا إذا كان الخبر بمعنى يتعدى ثم اشترط له مفعول مخصوص كقول الأعشى :

هو الواهب المائة المصطفا

ة إمّا مخاضا وإما عشارا

فقد جعل الوفاء فى الوقت الذى لا يفى فيه أحد نوعا خاصا من الوفاء ، وكذلك جعلت «هبة المائة من الإبل» نوعا خاصا ، أى أنّ المقصور هو الوفاء فى هذا الوقت لا الوفاء مطلقا ، وأنّ المقصور هبة المائة من الإبل فى إحدى الحالتين ـ إمّا مخاضا وإمّا عشارا ـ لاهبتها مطلقا ولا الهبة مطلقا.

الثالث : أن لا يقصد قصر المعنى فى جنسه على المذكور كما فى الوجهين السابقين وإنما لغير ذلك ، كما فى قول الخنساء :

إذا قبح البكاء على قتيل

رأيت بكاءك الحسن الجميلا

لم ترد الشاعرة أنّ ما عدا البكاء عليه فليس بحسن ولا جميل ولم تقيد الحسن بشىء فيتصور أن يقصر على البكاء كما قصر الأعشى «هبة المائة» على الممدوح ، ولكنها أرادت أن تقره فى جنس ما حسنه الحسن الظاهر الذى لا ينكره أحد ولا يشك فيه شاكّ. ومثله قول حسان :

وإنّ سنام المجد من آل هاشم

بنو بنت مخزوم ووالدك العبد

أراد أن يثبت العبودية ثم يجعله ظاهرا لأمر فيها ومعروفا بها ، ولو قال : «ووالدك عبد» لم يكن قد جعل حاله فى العبودية حالة ظاهرة متعارفة. وعلى ذلك قول الآخر :

أسود إذا ما أبدت الحرب نابها

وفى سائر الدهر الغيوث المواطر

ولتعريف المسند ـ الخبر ـ بالألف واللام نكات أخرى ذكرها عبد القاهر الجرجانى ومن ذلك أن يقال : «هو البطل المحامى وهو المتقى

١٥٤

المرتجى» ولا يقصد بهذه الجملة شىء مما مضى ، فهى لا تشير إلى معنى قد علم المخاطب أنه كان ولم يعلم أنّه ممن كان كما فى «زيد هو المنطلق» ، ولا تريد قصر معنى عليه على معنى أنه لم يحصل لغيره على الكمال كما فى «زيد هو الشجاع» ، ولا أن تدل على أنّه ظاهر بهذه الصفة كما فى «ووالدك العبد» وإنّما تريد أن تقول هذه العبارة للسامع : «هل سمعت بالبطل المحامى؟ وهل حصلت معنى هذه الصفة؟ وكيف ينبغى أن يكون الرجل حتى يستحق أن يقال ذلك له وفيه؟ فاذا كنت قتلته علما وتصورته حقّ تصوره فعليك صاحبك واشدد به يدك فهو ضالتك وعنده بغيتك».

ويزداد هذا المعنى ظهورا بأن تكون الصفة التى يراد الإخبار بها عن المبتدأ مجراة على موصوف كقول ابن الرومى :

هو الرجل المشروك فى جلّ ماله

ولكنه بالمجد والحمد مفرد

وقول الآخر :

أنا الرجل المدعوّ عاشق فقره

إذا لم تكارمنى صروف زمانى

وفى هذه الدراسة تتضح قدرة عبد القاهر على التحليل وتؤكد أنّ لاختلاف الصيغ وللتعريف والتنكير دلالات لم تعن بها كتب النحو المتأخرة ، ولا نجدها إلّا فى كتب البلاغة وفى مقدمتها «دلائل الإعجاز» وكان حقها أن تدرس فى كتب النحو لتفهم الأساليب العربية وتعرف المقاصد والأغراض.

التنكير :

للتنكير دلالة غير ما نراه فى التعريف ، «وقد يظن ظان أنّ المعرفة أجلى فهى من النكرة أولى ، ويخفى عليه أنّ الإبهام فى مواطن خليق وأنّ سلوك الايضاح ليس بسلوك للطريق خصوصا فى موارد الوعد والوعيد والمدح والذم اللذين من شأنهما التشييد. وعلة ذلك أن مطامح الفكر متعددة المصادر بتعدد الموارد ، والنكرة متكثرة الأشخاص يتقاذف الذهن من مطالعها إلى مغاربها وينظرها بالبصيرة من منسمها إلى غاربها فيحصل فى النفس لها فخامة وتكتسى

١٥٥

منها وسامة. وهذا فيما ليس لمفرده مقدار محصور بخلاف المعرفة فانّه لواحد بعينه يثبت الذهن عنده ويسكن إليه» (١) ، فالتنكير يجىء لفائدة يقصر عن إفادتها العلم.

وينكر المسند إليه لأغراض منها :

١ ـ الإفراد : كقوله تعالى : (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى) (٢) ، أى : فرد من أشخاص الرجال.

٢ ـ النوعية : كقوله تعالى : (وعلى أبصارهم غشاوة) (٣) ، أى : نوع من الأغطية ، وهو غطاء التعامى عن آيات الله.

٣ ـ التعظيم : كقوله تعالى : (ولكم في القصاص حياة) (٤) ، أى : حياة عظيمة.

٤ ـ التحقير : كقول الشاعر :

له حاجب عن كلّ شىء يشينُه

وليس له عن طالب العرف حاجب

فتنكير «حاجب» الأولى للتعظيم ، وتنكير «حاجب» الثانية للتحقير ، لأنّ مقام المدح يقتضى أنّ الحاجب ـ أى المانع ـ عن كل ما يشين ـ أى يعيب ـ الممدوح عظيم ، والحاجب عن المعروف والإحسان ينسلب حقيره فمن باب أجرى عظيمه ، وذلك لما فى معنى التنكير من الإيماء إلى أنّ هذا الأمر لا يعرف لبلوغه الدرجة العليا فى الرفعة أو فى الدقة فمن شأنه أن ينكر ولا يعرف لكونه لا يدرك.

ومثال التعظيم والتحقير أيضا قول الشاعر :

ولله منى جانب لا أضيعه

وللهو منى والخلاعة جانب

__________________

(١) البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن ص ١٣٦.

(٢) القصص ٢٠.

(٣) البقرة ٧.

(٤) البقرة ١٧٩.

١٥٦

٥ ـ التكثير : بمعنى أنّ ذلك الشىء كثير حتى أنّه لا يحتاج إلى تعريف ، مثل : «إنّ له لمالا» وحمل الزمخشرى التنكير فى قوله تعالى : (قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً)(١) عليه.

٦ ـ التقليل : كقوله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ)(٢) أى : رضوان قليل أكبر.

٧ ـ وقد يكون التنكير لمانع من التعريف ، كقول الشاعر :

إذا سئمت مهنده يمين

لطول الحمل بدّله شمالا

فالشاعر لم يقل «يمينه» تحاشيا من نسبة السآمة إلى يمين الممدوح.

٨ ـ وقد يكون لقصد النكارة والجهل بالمسمى كقوله تعالى : (أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً)(٣) ، أى : منكورة مجهولة.

٩ ـ وقد يكون تنكيره لإخفاء الاسم أو الشىء لسبب من الأسباب كالخوف عليه أو الخوف منه أو صونا له. (٤)

وينكر المسند لأغراض منها :

١ ـ إرادة إفادة عدم الحصر والعهد : مثل «زيد كاتب وعمرو شاعر» حيث يراد إفادة الإخبار بمجرد الكتابة والشعر لا حصر الكتابة فى «زيد» والشعر فى «عمرو» ولا أحدهما معهودا.

__________________

(١) الأعراف ١١٣.

(٢) التوبة ٧٢.

(٣) يوسف ٩.

(٤) ينظر مفتاح العلوم ص ٩١ ، والإيضاح ص ٤٥ ، وشروح التلخيص ج ١ ص ٣٤٧.

١٥٧

٢ ـ إرادة التفخيم والتعظيم ، كقوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)(١) ، فالتنكير هنا جاء للدلالة على فخامة هداية الكتاب وكمالها.

٣ ـ إرادة التحقير : مثل : «الحاصل لى من هذا المال شىء» ، أى : حقير (٢). وفى هذه الأنواع وأمثلتها إيضاح لأسلوب التعريف والتنكير الذى هو فى أدق الأساليب لما فيه من معان تختلف باختلاف تعريفها باحدى الوسائل أو تنكيرها.

__________________

(١) البقرة ٢.

(٢) ينظر مفتاح العلوم ص ١٠٠ ، والإيضاح ص ٩٧ ، وشروح التلخيص ج ٢ ص ٩١.

١٥٨

الذكر والحذف

فى كتب النحو حديث عن الذكر والحذف ولكن النحاة يهتمون بالواجب منهما ، ويشيرون إلى الجواز إشارة عابرة ، وهو الأولى بالرعاية والاهتمام لأنّ فيه تتضح الأساليب وتظهر المواهب. وكان علماء البلاغة أحرص من غيرهم على هذه الجوانب فأولوها عناية كبيرة وأوضحوا ما فى الذكر والحذف من أغراض :

الذكر : المسند إليه والمسند وغيرهما تذكر فى العبارة لسبب من الأسباب ومن أغراض ذكر المسند إليه :

١ ـ أنّه الأصل ولا مقتضى للحذف ، فاذا حذف ذهب المعنى.

٢ ـ ضعف التعويل على القرينة ، وذلك إذا ذكر المسند إليه فى الكلام وطال عهد السامع به ، أو ذكر معه كلام فى شأن غيره مما يوقع فى اللبس إن لم يذكر.

٣ ـ التنبيه على غباوة السامع حتى أنّه لا يفهم إلّا بالتصريح.

٤ ـ زيادة الإيضاح والتقرير : كقوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١) ، ففى تكرير اسم الاشارة زيادة إيضاح وتقرير لتميزهم على غيرهم.

٥ ـ إظهار التعظيم بالذكر : مثل : «القهار يصون عباده» لعظم هذا الاسم. أو إظهار الإهانة : مثل : «اللعين إبليس».

٦ ـ التبرك باسمه : مثل : «محمد رسول الله خير الخلق».

٧ ـ الاستلذاذ بذكره : مثل : «الله خالق كل شىء ورازق كل حى».

__________________

(١) البقرة ٥.

١٥٩

٨ ـ بسط الكلام حيث يقصد الإصغاء : كقوله تعالى حكاية عن موسى ـ عليه‌السلام ـ : (هِيَ عَصايَ)(١) ، ولذلك زاد على الجواب بقوله : «أتوكأ عليها».

وذكر السكاكى أنّ المسند إليه يذكر لكون الخبر عام النسبة إلى كل مسند إليه (٢) ، كقول الشاعر :

الله أنجح ما طلبت به

والبرّ خير حقيبة الرحل

وقول أبى ذؤيب الهذلى :

النفس راغبة إذا رغّبتها

وإذا تردّ إلى قليل تقنع

ولكن القزوينى قال : «وفيه نظر ، لأنّه إن قامت قرينة تدل عليه إن حذف فعموم الخبر وإرادة تخصيصه بمعين وحدهما لا يقتضيان ذكره وإلّا فيكون ذكره واجبا» (٣).

أما ذكر المسند فللأسباب التى تقدمت فى المسند إليه كزيادة التقرير ، والتعريض بغباوة السامع ، والاستلذاذ ، والتعظيم ، والإهانة ، وبسط الكلام. أو ليتعين كونه اسما فيستفاد منه الثبوت ، أو كونه فعلا فيستفاد منه لتجدد ، أو كونه ظرفا فيورث احتمال الثبوت والتجدد (٤).

الحذف :

الحذف ـ لغة ـ الإسقاط ، واصطلاحا إسقاط بعض الكلام أو كله لدليل (٥) والحذف عند البديعيين غير ما نراه عند علماء المعانى ، فهو «أن يحذف المتكلم

__________________

(١) طه ١٨.

(٢) مفتاح العلوم ص ٨٥.

(٣) الإيضاح ص ٣٤ ، وينظر شروح التلخيص ج ١ ص ٢٨٢ وما بعدها.

(٤) مفتاح العلوم ص ٩٩ ، والإيضاح ص ٨٦ ، وشروح التلخيص ج ٢ ص ١٩.

(٥) البرهان فى علوم القرآن ج ٣ ص ١٠٢.

١٦٠