الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

قد

ص : قد ترد اسما بمعنى حسب أو يكفي نحو : قدني وقدي درهم ، وحرف تقليل مع المضارع ، وتحقيق مع الماضي غالبا ، قيل : وقد تقرّبه من الحال ، ومن ثمّ التزمت في الحالية المصدّرة به ، وفيه بحث مشهور.

ش : السادسة عشرة «قد ، ترد» على وجهين اسميّة وحرفيّة ، فالاسميّة على وجهين :

أحدهما : أن تكون «اسما بمعنى حسب» ، وتستعمل على وجهين : مبنيّة ، وهو الغالب لشبهها بقد الحرفيّة لفظا ، ولكثير من الحروف وضعا ، ويقال في هذه : قد زيد درهم بالسكون ، وقدني بالنون للمحافظة على بقاء البناء على أصله الّذي هو السكون خشية أن تزول عنه إلى الحركة. قال ابن أمّ قاسم : وقد لا تلحقها النون حينئذ ، فيقال : قدى. ومعربة : وهو قليل ، يقال : قد زيد درهم بالرفع ، كما يقال : حسبه درهم ، وقدي [درهم] ، بغير نون كما يقال : حسبي.

لم يثبت البصريّون إعرابها ، وإنّما هو مذهب كوفيّ ، قيل : وهو مشكل ، لأنّ الشبه الوضعيّ موجود ، وهو كاف في تحتّم البناء ، فما وجه الإعراب؟ فإن قيل : وجهه ملازمتها للإضافة ، ردّ بأنّه لو صحّ دافعا للبناء لم يبن في قد زيد درهم بالسكون ، وهي حالتها الغالبة.

استعمال حسب في العربيّة

تنبيهات : الأوّل : لحسب في العربيّة استعمالان.

أحدهما : أن تكون بمعنى كاف ، فستعمل استعمال الصفات ، فتكون نعتا للنكرة ، كمررت برجل حسبك من رجل ، أى كاف لك عن غيره ، وحالا لمعرفة كهذا عبد الله حسبك من رجل ، واستعمال الأسماء الجامدة ، فترفع على الابتداء ، نحو : (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) [المجادلة / ٨] ، وتنصب اسما ل إنّ ، نحو : فإنّ حسبك الله ، وتجرّ بالحرف ، نحو : بحسبك درهم ، وهذا يردّ على من زعم أنّه اسم فعل ، لأنّ العوامل اللفظيّة لا تدخل على أسماء الأفعال باتّفاق.

والثاني : أن تكون بمعنى لا غير في المعنى ، فتستمعل مفردة ، وهذه هي حسب المتقدّمة ، ولكنّها عند قطعها عن الإضافه تجدّد لها إشرابها هذا المعنى وملازمتها للوصفيّة أو الحاليّة أو الابتداء ، وبناؤها على الضمّ ، تقول في الوصفيّة : رأيت رجلا حسب ، وفي الحاليّة : رأيت زيدا حسب (١) ، قال الجوهريّ : كأنّك قلت : حسبى أو

__________________

(١) سقطت رأيت زيدا حسب في «ح».

٨٨١

حسبك ، فأضمرت ، ولم تنوّن ، انتهى. تقول في الابتداء : قبضت عشرة فحسب ، أي فحسبى ذلك ، فالمعنى في ذلك كلّه رأيت رجلا لا غير ، ورأيت زيدا لا غير ، وقضبت عشرة لا غير ، قاله في التوضيح وشرحه.

الثاني : توافق قد حسب في المعنى ، وفي الاستعمال مبتدأ ، والإضافة إلى الضمير والظاهر كما رأيت ، وتخالفها في أنّها مبنيّة غالبا ، وفي أنّ نون الوقاية تلحقها ، وفي أنّ الباء والناسخ لا يدخلان عليها فيما يظهر ، قال ابن هشام : ولم أر أحدا ذكر ذلك ، قال : وأمّا أنّها تقطع عن الإضافة فعندي فيه نظر.

و [الوجه] الثاني : أن تكون اسم فعل بمعنى يكفي ، وهو مبنيّة على السكون ، وتلزمها نون الوقاية عند الإضافة إلى ياء المتكلّم ، نحو : قدنى درهم ، أي يكفيني درهم ، قد زيدا درهم ، أي يكفي زيدا درهم ، وقوله [من الوافر] :

٩٩١ ـ قدني من نصر الخبيبين قدى

 ... (١)

تحمل قد الأولى أن تكون مرادفة لحسب على لغة البناء ، وأن تكون اسم فعل ، وأمّا الثانية فتحتمل الأوّل (٢) ، وهو واضح ، والثاني على أن تكون النون حذفت للضرورة ، كقوله [من الرجز] :

٩٩٢ ـ ...

إذ ذهب القوم الكرام ليسي (٣)

ويحتمل أنّه اسم فعل لم يذكر مفعوله ، فالياء للإطلاق ، والكسرة للساكنين.

تنبيه : جعل المصنّف قد بمعنى يكفي تبع فيه ابن هشام في المغني. قال شارحه : لا أدري لم جعلها بمعنى المضارع مع أنّ في مجيء اسم الفعل بمعناه كلاما ، وابن الحاجب يأباه ، وقد صرّح ابن أمّ قاسم أنّها بمعنى كفى ، انتهى.

قلت : جعل اسم الفعل بمعنى المضارع وعدمه يبتني على الخلاف في سبب بنائه ، فمن قال هو مشابهته الأمر أو الماضي في المعنى كما ذهب إليه ابن الحاجب لا يجيز جعله بمعنى المضارع ، لأنّه لو كان بمعناه أعرب ، ومن قال : هو مشابهته الحرف بلزوم النيابة عن الفعل وعدم مصاحبته العوامل ، كما ذهب إليه ابن مالك أجاز كونه بمعنى المضارع ، كما فسّروا أوّه وأفّ بمعنى أتضجّر وأتوجّع دون تضجّرت وتوجّعت ، ولعلّ ابن هشام إنّما جعل قد بمعنى يكفى إشارة إلى الرّدّ على من أنكر مجيء اسم الفعل

__________________

(١) بعده «ليس الإمام بالشيح الملحد» ، وهو لحميد بن مالك الأرقط ، أحد شعراء عصر بني أمية. اللغة : أراد بالخبيبين عبد الله بن الزبير ـ وكنيته أبو خبيب ـ ومصعبا أخاه ، قدني : حسبي وكفاني ، الشحيح : البخيل الدني ، الملحد : الجائر المائل عن الحق.

(٢) أي أن تكون مرادفة لحسب ، ولكن على لغة الإعراب لا البناء.

(٣) تقدم برقم ٣٩٠ و ٤٧٠.

٨٨٢

بمعنى المضارع ، فإنّه قال في شرح الشذور بعد إثباته : أنكر بعضهم هذا النوع ، وفسّر أوّه وأفّ بتوجّعت وتضجّرت ، وقال في غيره رادّا على من أنكر ذلك : مجيء اسم الفعل بمعنى المضارع محقّق ، لا شكّ فيه.

والحرفيّة ترد «حرف تقليل مع» الفعل «المضارع» المجرّد من ناصب وجازم وحرف تنفيس ، وهو أعني التقليل ضربان : تقليل وقوع الفعل ، نحو : قد يصدق الكذوب ، وقد يعثر الجواد ، وتقليل متعلّقه ، نحو : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) [النور / ٦٤] ، أي إنّ ما أنتم عليه هو أقلّ معلوماته ، سبحانه ، وزعم بعضهم أنّها في هذه الأمثلة ونحوها للتحقيق ، وأنّ التقليل في المثالين الأوّلين لم يستفد من قد ، بل من قولك : الجواد يعثر ، والكذوب يصدق ، فإنّه إن لم يحمل على أنّ صدور ذلك منها قليل كان فاسدا ، إذ آخر الكلام يناقض أوّله.

وحرف «تحقيق مع» الفعل «الماضي غالبا» ، نحو : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) [الشمس / ٩] ، (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المومنون / ١] ، ومع المضارع قليلا ، كما مرّ أنّ بعضهم حمل عليه قوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ،) قال الزمخشريّ : دخلت قد لتوكيد العلم ، ويرجع ذلك إلى توكيد الوعيد ، وصرّح الرضيّ بأنّ قد إذا دخلت على الماضي أو المضارع فلا بدّ فيها من معنى التحقيق ، ثمّ إنّه يضاف في بعض المواضع إليها معان أخر ، إذا دخلت على الماضي أو المضارع.

«قيل : وقد تقرّبه» أي الماضي «من» زمان «الحال» ، إن لم يكن حالا ، ولذلك لا تدخل على نعم وبئس ، لأنّها للحال ، ولا معنى لتقريبه ، تقول : قام زيد ، فيحتمل الماضي القريب والبعيد ، فإذا قلت : قد قام ، اختصّ بالقريب ، «ومن ثمّ» أي ومن أجل أنّها تفيد تقريب الماضي من الحال «التزمت في» الجملة «الحالية المصدّرة به» أي بالماضي لفظا أو تقديرا عند جمهور البصريّين خلافا للأخفش والكوفيّين كما مرّ ، وذلك لأنّ الحال تدلّ على حصول صفة مقارنة لما جعلت الحال قيدا له ، وهو العامل الماضي لا مقارنة فيه للحال ، فإذا كان مع قد ، قرب منها ، فحسن وقوعه حالا ، هكذا قالوا ، «وفيه بحث مشهور».

وهو أنّ قد إنّما تقرّب الماضي من الحال بمعنى الزمان الحاضر الّذي هو زمان التكلّم لا بمعنى ما يبيّن كيفية الفعل ، فإنّ الحال بهذا المعنى الّذي كلامنا فيه على حسب عاملها قد تكون ماضيا ، وقد تكون حالا ، وقد تكون مستقبلا كما لا يخفى ، فما ذكروه غلط ، نشأ من اشتراك لفظ الحال.

٨٨٣

قال السيّد الشريف في شرح المفتاح : والجواب أنّ الأفعال إذا وقعت قيودا لما له الاختصاص بأحد الأزمنة كان مضيّها واستقبالها وحاليّتها بالنسبة إلى ذلك المقيّد لا إلى زمن التكلّم كما إذا وقعت مطلقة مستعملة في معانيها الأصلية ، ولا استبعاد فيما ذكرناه ، فإنّهم صرّحوا بأنّ ما بعد حتّى قد يكون مستقبلا بالقياس إلى ما قبلها وإن كان ماضيا بالنسبة إلى زمان التكلّم ، وعلى هذا فإذا قلت : جاءني زيد ركب ، فهم منه تقدّم الركوب على المجيء ، فلا تقارن الحال عاملها ، وإذا قلت : قد ركب ، قرّبه إلى زمان المجيء ، فيفهم مقارنته إيّاه كان ابتدا الركوب متقدّما ، إلا أنّه قارن المجيء في الدوام ، وإذا قلت : جاءني زيد يركب ، دلّ على تقاربهما ، وحينئذ تظهر صحّة كلام القوم في هذا المقام ، وفي وجوب تجريد الجملة الحاليّة عن علامة الاستقبال كالسين وسوف ولن ، إذ لو صدّرت بها تبادر منها كونها مستقبلة بالقياس إلى عاملها.

وأمّا ما يقال : من أنّهم استبشعوا أن يقع الماضي الصرف حالا بهذا المعنى الّذي نحن بصدده للتنافي بين الماضي والحال بمعنى آخر عن زمان التكلّم فاحتيج إلى إدخال قد المقرّب إلى الحال لتنكسر صورة ذلك التنافي ، فيزول الاستبشاع فممّا لا يلتفت إليه ذو طبع سليم ، إلى هنا كلامه.

قال الدمامينيّ بعد نقل هذا الكلام أقول : أشار بهذا القول الّذي لا يلتفت إليه إلى ما وقع للرضىّ في شرح الكافية ، وأمّا ما قرّره هو وارتضاه ، وإن كان بعضه مأخوذا من كلام التفتازانيّ في حاشية الكشّاف فلي في نظر ، وذلك أنّ ما قاله بعد اللتيا والّتي أنّ قد قرّبت الماضي الواقع قيدا من زمان العامل ففهمت مقارنتة له ، ولم يقم دليلا على فهم المقارنة ، وهى المطلوب ، لا ما ذكره من التقريب المذكور ، وهو لا يدلّ عليه بوجه ، قال : وقد يورد عليه مثل جاء زيد لم يضحك ، إذ مقتضى تقريره أنّ مضيّ هذا الفعل الواقع قيدا بالنسبة إلى المقيّد ، وهو جاء ، فيفهم منه عدم تقدّم الضحك على المجيء ، فلا تقارن الحال عاملها ، وجوابه أنّ النافي في هذا المثال ونحوه وإن دلّ على انتفاء متقدّم ، لكن الأصل استمرار ذلك الانتفاء ، حتّى تظهر قرينة انقطاعه ، نحو : لم يضحك أمس ، ولكنّه ضحك اليوم ، والغرض عدم هذه القرينة ، فإذن الاستمرار الّذي هو الأصل سالم عن المعارض ، فيحصل الدلالة على المقارنة ، فجاز بهذا الاعتبار وقوعه حالا ، وهذا بخلاف الماضي المثبت ، فإنّ وضع الفعل على إفادة التجدّد من غير أن يكون الأصل استمرار ، فلذلك قال من قال يحتاج الى قد المقرّبة من الحال ليفهم المقارنة ، وقد عرفت ما عليه.

٨٨٤

والظاهر ما ذهب إليه الأخفش والكوفيّون في المسالة ، والمقارنة مفهومة بدلالة سياق الكلام على الحالية ، ولا حاجة إلى تكلّف شيء من التعليلات ، فإن قلت : لا شكّ في جواز اقتران الماضي المثبت بقد إجماعا ، وعند وجودها يلزم أن يكون الماضي قريبا من الحال ، فيشكل كلام الكوفيّين ومن وافقهم لوجود التدافع في مثل : جاء زيد وقد ركب ، إذ وقوعه حالا يقتضى مقارنته للعامل الماضي ، وقد يقتضي قرب زمانه منه لاقترانه به. قلت : لا تدافع ، لأنّا لا نسلم أنّ قد حينئذ للتقريب ، بل هي للتحقيق ، سلمنا كونها للتقريب ، لكن لا نسلم التدافع ، إذ لا مانع من أن يكون زمان الركوب المفيد للمجيء الماضي كان قريبا منه بدليل قد ، ثمّ قارنه بدليل تقييده به لوقوعه حالا ، والحاصل أنّه إن وجدت قرينتان لا تضادّ بين مقتضيهما قربت على كلّ واحد ما يقتضيه ، فلا إشكال ، انتهى.

قلت : وفيه نظر ، فإنّ قد في بعض الصور لازمة إجماعا ، فلا تخلو إمّا أن تكون للتحقيق أو للتقريب ، أمّا الأولى فلا وجه للزومها هنا ، وأمّا الثانية فعلى مقتضى ما قرّره ينبغى أن تكون لازمة ، والإجماع على لزومها.

تنبيه : كان المصنّف إنّما أتى بصيغة التمريض في قوله : قيل : وقد تقرّبه من الحال نظرا إلى البحث المذكور ، وليس في محلّه ، فإنّ قد تقرّب الماضي من الحال بالإجماع ، والبحث أنّما يرد على تعليل التزامهم لها في الحاليّة المصدّرة به ، فكان الصواب أن يحكى بقيل قوله : ومن ثمّ ، ليتجه التمريض إلى البحث. وقد ذكرنا في صدر الكتاب لقد ستّة معان ، فلا نطول بالإعادة.

قط

ص : قط ترد اسم فعل بمعنى إنته ، وكثيرا ما تجيء بالفاء ، نحو : قام زيد فقط ، وظرفا لاستغراق الماضي منفيّا ، وفيها خمس لغات ، ولا تجامع مستقبلا.

ش : السابعة عشرة «قط ، ترد على ثلاثة أوجه» :

أحدها : أن تكون «اسم فعل» مبنيّا على السكون ، واختلف في معناها ، فقال الزمخشريّ في المفصّل والتفتازانيّ في المطول ـ وتبعها المصنّف ـ : هو «بمعنى إنته» ، وقال الجمهور : بمعنى يكفي ، كما قالوه في قد ، حتّى اختلفوا ، هل هما كلمتان مستقلّتان ، أو الدّالّ في قد بدل من الطاء ، فذهب إلى كلّ جماعة ، والأوّل أشهر ، ويقال فيها : قطني بنون الوقاية ، «وكثيرا ما تجيء» مقرونة «بالفاء» تزيينا للفظ ، نحو : «قام زيد فقط» ،

٨٨٥

قال التفتازانيّ : وكأنّه جزاء شرط محذوف ، وقدّره في نحو : اضرب زيدا فقط ، إذا ضربت زيدا فانته عن ضرب غيره ، قال : وإنّما قدّرنا الشرط تصحيحا للفاء ، انتهى.

وعلى هذا فالتقدير في نحو : قام زيدا فقط ، إذا علمت قيام زيد ، فانته عن طلب الحكم بقيام غيره. وقضية كلامه في شرح التخليص وكلام المصنّف هنا أنّما تجيء بدون الفاء ، لكنّه قليل ، وصرّح واحد من النحويّين أنّ قطّ في المثال المذكور بمعنى حسب المقطوعة عن الإضافة ، فالمعنى فيه قام زيد لا غير ، وهو الظاهر لقيام حسب مقامها من غير تكلّف.

قال ابن هشام في حواشى التسهيل : ولم يسمع ، يعنى قطّ في نحو المثال المذكور إلا مقرونا بالفاء ، وهي زائدة لازمة عندي ، قال : وكذا أقول في قولهم فحسب : إنّ الفاء زائدة ، انتهى.

قال الدمامينيّ : ولا ينبغى ارتكاب الزيادة ما وجد عنه مندوحة ، وقد قال ابن السيّد في كتاب المسائل : قطّ مفتوحة القاف ساكنة الطاء بمعنى الاكتفاء بالشيء والاجتزاء به هى عند البصريّين مضافة إلى ما بعدها ، كما تضاف حسب في قولك : حسبك درهم ، وفيها معنى القطع كالّتي في ظرف ، والكوفيّون يجيزون ما بعدها النصب ، فيجيزون قطّ عبد الله درهم ، ويقولون : معناه كفى عبد الله درهم ، أو يكفيه ، ولا يعرف ذلك البصريّون ، وقطّ هذه تستعمل بعد الإيجاب والنفي كقولك : أخذت درهما فقط ، وما أخذت درهما فقط ، وهذه هي الّتي تأتي معها الفاء ، لأنّ معنى أخذت درهما فقط ، أخذت درهما فاكتفيت به (١) ، انتهى. قال : فجعل الفاء عاطفة لا زائدة ، كما قال ابن هشام ، ولا جزائية كما قال التفتازانيّ ، والظاهر أنّه خير من قوليهما جميعا ، انتهى ، فتأمّل.

الثاني : أن تكون «ظرفا لاستغراق الماضي» ، أي لاستغراق جميع ما مضى من الأزمنة الماضية حال كون الماضي «منفيّا» ، نحو : ما رأيته قطّ ، أي في جميع الأزمنة الماضية. ونصّ ابن مالك في التسهيل والرضي في شرح الكافية على أنّه يستعمل دون نفي تارة معنى ولفظا وتارة لفظا لا معنى ، فالأوّل كقول بعض الصحابة (ره) قصرنا الصلاة مع رسول الله (ص) ونحن أكثر ما كنّا قط وآمنه. والثاني كما في الحديث أيضا أنّ أبيّا (٢) قال لعبد

__________________

(١) من وهذه هي الّتي حتّى هنا سقط في «ط».

(٢) أبي بن كعب بن قيس بن عبيد ، صحابيّ أنصاريّ ، من كتّاب الوحي ، أمره عثمان بجمع القرآن ، له ١٦٤ حديثا ، مات بالمدينة سنة ٢١ ه‍. الأعلام للزركلي ١ / ٨٢.

٨٨٦

الله (١) كاين تقرأ سورة الاحزاب؟ فقال عبد الله : ثالثا أو سبعين آية ، فقال : قطّ ، أي ما كانت كذا قطّ.

قال في القاموس وفي موضع من البخاريّ : جاء بعد المثبت منها في الكسوف ، أطول صلاة صلّيتها قطّ ، وفي سنن أبي داود ، توضّأ ثلاثا قطّ ، وأثبته ابن مالك في الشواهد لغة ، قال : وهي ممّا خفى على كثير من النحويّين ، انتهى. والجمهور على أنّ كلّ ذلك نادر ، لا يقاس عليه.

«وفيها» أي وفي قطّ الّتي ترد ظرفا لاستغراق الماضي «خمس لغات».

إحداها : قطّ ، بفتح القاف وتشديد الطّاء مضمومة ، وهي أفصحها وأشهرها ، قال ابن السّيّد واشتقاقها من قولك : قططت الشيء ، إذا قطعته ، فإذا قال المتكلّم : ما رأيته قطّ ، فقد قطع عن هذا ، وفصل فيه ، انتهى. وقال في المغني : معنى ما فعلته قطّ ، ما فعلته فيما انقطع من عمري ، لأنّ الماضي منقطع عن الحال والاستقبال.

الثانية : قطّ ، بفتح القاء وتشديد الطاء مكسورة على أصل التقاء الساكنين.

الثالثة : قطّ بضمّ القاف اتّباعا لضمّة الطاء المشدّدة.

الرابعة : قطّ بفتح القاف وتخفيف الطاء مضمومة ، حذفت الطاء الأولى الساكنة ، فبقيت المضمومة.

الخامسة : قط بفتح القاف وسكون الطاء مبالغة في التخفيف ، حذفت الثانية ، فبقيت الأولى الساكنة ، وهي مبنيّة بجميع لغاتها ، قيل : لتضمّنها معنى مذ وإلى ، إذ معنى ما فعلته قط ، مذ أن خلقت إلى الأن ، وقيل : لشبه الحرف في إبهامه لوقوعها على كلّ ما تقدّم من الزمان ، وقيل : لأنّها اشبهت الفعل الماضي ، لأنّها لزمانه ، وبنيت في الأشهر على حركة ، لئلّا يلتقى ساكنان ، وكانت ضمّه تشبيها بقبل وبعد ، أو لأنّه لو فتحت لتوهّم النصب بمقتضى الظرفية ، ولو كسرت لتوهّم الجرّ بمذ المتضمّنة معناها.

«ولا تجامع» فعلا «مستقبلا» ، وأمّا قول العامّة لا أفعله قطّ فلحن ، ولا يلتفت إليهم ، لأنّ استعمالها مع نفي الفعل الماضي قد ثبت عند أهل اللغة ، ولم يثبت مع نفي المضارع عندهم ، ويكفي في ذلك استقراء كلامهم وكتبهم ، ولا يقال : لا يلزم أن يكون خطأ لجواز أن يكون مجازا ، وعدم نقل هذا الاستعمال عن أئمة اللغة لا يمنعه لجواز أن يوجد مع عدم نقله عنهم ، لأنّا نقول : قد ثبت أنّ استعمالها الثاني قول العامّة ، وهو يلحق بأصوات الحيوانات عند أهل البلاغة ، فلا يعتبر أصلا حقيقة أو مجازا ، ولهذا لا يستدلّ بأقوالهم.

__________________

(١) ليس من الواضح من هو قصده.

٨٨٧

والثالث : من وجوه قط أن يكون بمعنى حسب ، وهذه مفتوحة القاف مخفّفة الطاء ، والغالب بنائها على السكون لوضعها على حرفين ، وتضاف إلى الاسم الظاهر وإلى ياء المتكلّم وكاف الخطاب ، نحو : قط زيد درهم وقطي وقطك ثلاثون ، وقد تعرب ، وهو قليل ، يقال : قط زيد درهم ، بالرفع ، كما يقال : حسبه درهم ، ويجوز أن تلحقها نون الوقاية ، إذا أضيفت إلى ياء المتكلّم ، فيقال : قطني ، كما يقال : قدني ، محافظة للبناء على السكون.

فائدة : تقابل قط ظرفا لاستغرق الماضي منفيّا عوض ظرفا لاستغراق المستقبل منفيّا ، تقول في المستقبل : لا أفعله عوض ، كما تقول في الماضي ما فعلته قط ، لكن عوض قد يرد للماضي أيضا كقوله [من الطويل] :

٩٩٣ ـ فلم أر عاما عوض أكثر هالكا

 ... (١)

وهو مبنيّ لشبهه بالحرف في إبهامه ، لأنّه يقع على كلّ ما يأتي من الزمان ، وبناؤه إمّا على الضمّ كقبل وبعد ، أو على الفتح طلبا للخفّة أو على الكسر على أصل التقاء الساكنين ، فإن أضيف إلى العائضين كقولهم : لا أفعله عوض العائضين (٢) ، أي دهر الداهرين ، والعائض الذي يبقى على وجه الدهر ، فكان المعنى ما بقي في الدهر داهر ، أو أضيف إليه كقوله [من الهزج] :

٩٩٤ ـ ولو لا نبل عوض في

خضمّاتي وأوصالي (٣)

أعرب في الحالين لمعارضة الشبه بالإضافة الّتي هي من خصائص الأسماء.

كم

ص : كم ترد خبريّة واستفهاميّة ، وتشتركان في البناء والافتقار إلى التمييز ولزوم التصدير ، وتختصّ الخبريّة بجرّ التمييز مفردا أو مجموعا ، والاستفهاميّة بنصبه ولزوم إفراده.

ش : الثامنة عشرة «كم» على وجهين : «خبريّة» بمعنى كثير ، «واستفهاميّة» بمعنى أيّ عدد ، وهي بسيطة بوجهيها خلافا للكسائيّ والفرّاء في زعمهما أنّها بوجهيها مركّبة من كاف التشبيه وما الاستفهاميّة ، حذف ألفها ، كما تحذف مع سائر حرف الجرّ ، نحو :

__________________

(١) تمامه «ووجه غلام يشتري وغلامه» ، ولم يسمّ قائله.

(٢) مجمع الأمثال ٢ / ١٧٩.

(٣) هو للفند الزماني. اللغة : خضمات : جمع خضمّة وهو ما غلظ من الساق والذراع ، الأوصال : جمع وصل ، وهو المفصل.

٨٨٨

بم ولم وعمّ ، وكثر الاستعمال لها ، فاسكنت للتخفيف ، وحدث لها بالتركيب معنى غير الّذي كان لكلّ واحد من مفرديها ، كما قاله النحويّون في لو لا وهلّا (١).

«وتشتركان» أى الخبريّة والاستفهاميّة في ثمانية أمور :

أحدها : «البناء» ، أمّا بناء الاستفهاميّة ، فلتضمّنها معنى همزة الاستفهام ، فإنّ قولنا :

كم رجلا عندك؟ معناه : أعشرون رجلا عندك؟ وأمّا بناء الخبريّة فلشبهها بالاستفهاميّة لفظا ومعنى ، أمّا لفظا فظاهر ، وأمّا معنى فمن جهة أنّ كلّا منهما لعدد مبهم ، وإن شئت قلت : بنيت بوجهيها لشبههما بالحرف وضعا ، وهو الأقرب.

«و» الثاني «الافتقار إلى التمييز» ، لمكان وضعهما على الإبهام ، ولشدّة افتقارهما إليه لم يحذف إلا لدليل ، كما إذا جرى ذكر العبيد ، فقلت : كم عندك؟ أى كم عبدا عندك؟ بالنصب في الاستفهاميّة ، وكم عبد عندك! بالجرّ في الخبريّة بحسب ما يقتضيه المقام بخلاف غيرهما من الأعداد ، فإنّها تدلّ على كميّة معيّنة ، فيجوز أن لا يؤتى لها بتمييز ألبتة ، لأنّ فيها فائدة من جهة الدلالة على الكميّة المعيّنة ، وإن جهل جنسها.

الثالث : «لزوم التصدير» على غير الجارّ ، حرفا كان أو اسما ، لأنّ ما قبلها إذا كان مضافا أو حرف جرّ يعمل فيهما ، واغتفر ذلك ، لأنّ تأخّر الجارّ عن مجروره ممتنع لضعف عمله ، فجوّز تقديم الجارّ عليهما على أن يجعل الجارّ اسما كان أو حرفا مع المجرور ككلمة واحدة مستحقّة للتصدير ، حتّى لا يسقط المجرور عن رتبته ، تقول : بكم رجل مررت! وغلام كم رجل ملكت! ويكون إعراب المضاف كإعراب كم ، لو لم يكن مضافا إليه ، وإنّما الّذي لا يعمل فيهما متقدّما الفعل أو شبهه لاستحقاقهما الصدر ، لأنّ كلتيهما للإنشاء ، وكلّ ما تضمّن معنى الإنشاء لزم تصديره ، لأنّه يغيّر الكلام من نوع إلى نوع ، فوجب تقديمه ، ليعلم من أوّل الأمر نوع الكلام ، ويتفرّع ذهن السامع ، لتفهمه ، وإلا فلو تأخّر لم يعلم هل الإنشاء راجع إلى ما مضى أو إلى شيء ، فيشوّش فكره.

وكون كم الاستفهاميّة للانشاء ظاهر ، وأمّا الخبريّ فلتضمّنها معنى إنشاء التكثير ، والإنشاء أنّما يؤدّي بالحروف غالبا ، فتكون متضمّنة لحرف دالّ على التكثير ، إمّا محقّق الوضع ، وهو من الاستغراقيّة أو ربّ ، إن قلنا بدلالتها على التكثير ، وإمّا مقدّر الوضع ، إن سلم عدم دلالة هذين الحرفين على التكثير ، فمن هذه الحيثيّة لزمت كم الخبريّة التصدير ، فإن قيل : كيف يتأتّى أن يكون في الخبريّة معنى إنشاء التكثير مع ما بين الخبر و

__________________

(١) قول الكسائيّ والفرّاء وسائر الكوفيّين بأنّ «كم» مركّبة من الكاف وما باطل ، بدليل دخول حرف الجرّ عليها ، نحو : بكم ريال اشتريت الكتاب؟ فالعقيدة الصحيحة هي أنّ «كم» اسم بسيط.

٨٨٩

الإنشاء من التنافي؟ فالجواب أنّ الإنشاء في كم من جهة التكثير القائم بنفس المتكلّم ، ولا وجود له في الخارج حتّى يقال باعتباره : إن طابق فصدق ، وإلا فكذب ، والإخبار في الكلام الّذي هي فيه ، وهو الّذي قيل له بسببه خبريّة أنّما هو باعتبار الكثرة لا باعتبار التكثير ، والكثرة أمر له ووجود في الخارج ، فإن طابق الكلام ذلك الأمر الواقع في الخارج كان صدقا ، وإن لم يطابق كان كذبا ، فإذا قلت : كم رجال عندى! فله جهتان : إحداهما التكثير الّذى قام بذهنك ، ولا وجود له في الخارج ، وبهذا الاعتبار تكون كم إنشائيّة ، والأخرى كثرة الرجال المخبر عنها بالعنديّة ، ولها وجود في الخارج ، وبهذا الاعتبار تكون كم الخبريّة ، هذا معنى ما قرّره ابن الحاجب ، وقد تقدّم نظيره في باب أفعال المدح والذم ، ومرّ نزاع الرضي له في ذلك ، فليرجع إليه.

الرابع : من الأمور الّتي تشترك فيه كم الخبريّة والاستفهاميّة الاسميّة ، خلافا لمن زعم أنّ الخبريّة حرف التكثير ، والدليل على اسميّتها دخول حرف الجرّ عليها ، نحو : بكم درهم اشتريت! وبكم شيء أحسنت إليك! والإضافه إليها ، نحو : غلام كم رجل ملكت! ووصل كم حبيب ظفرت! ووقوعها مسندا إليها لفظا ومعنى في نحو : كم رجلا جاءك! وكم ملك أحسن إليك! ومعنى لا لفظا نحو! كم عبدا أعتقت! وكم حرّا اعتقت! فإنّ المفعول به مسند إليه بحسب المعنى ، إذ قولك : ضربت زيدا في معنى زيد ضربته ، ولا معنى لاستبعاد ذلك أو إنكاره مع أنّه قد يكون نائبا عن الفاعل ، نحو : ضرب زيد ، فيكون مسندا إليه لفظا ومعنى ، وذلك لا يخرجه عن كونه مفعولا به على ما صرّح به ابن الحاجب.

الخامس : الإبهام ، وهو ظاهر ، لأنّهما وضعا كذلك.

السادس : جواز حذف تمييزهما بدليل كما مرّ ، خلافا لمن منع حذف تمييز الخبريّة.

السابع : الاختصاص بالنكرات كما صرّح في الرضيّ ، قال : أمّا الاستفهاميّة فلوجوب تنكير المميّز المنصوب ، وأمّا الخبريّة فلأنّها كناية عن عدد مبهم عند المخاطب ، ومعدود كذلك ، والغرض من إتيان المميّز بيان جنس ذلك العدد المبهم فقط ، وذلك يحصل بالنكرة فلو عرّف بقي التعريف ضائعا.

الثامن : امتناع كون مميّزهما منفيّا ، لا يقال : كم لا رجلا جاءك؟ ولا كم لا رجل صحبت! خلافا لمن أجازه ، نصّ عليه سيبويه.

«وتختصّ» كم «الخبريّة ب» وجوب «جرّ التمييز» ، أي مميّزها ، بإضافتها إليه كما في عشرة ومائة ، لا بمن مقدّرة خلافا للفرّاء ، وقيل : الكوفيّين قاطبة بدليل أنّه متى فصل كان منصوبا حملا على كم الاستفهاميّة ، كقوله [من البسيط] :

٨٩٠

٩٩٥ ـ كم نالنى منهم فضلا على عدم

إذا لا أكاد من الإقتار أحتمل (١)

«مفردا» كان مميّزها «أو مجموعا» ، تقول : كم عبد ملكت! أو كم عبيد ملكت! ، قال [من مجزوء المديد] :

٩٩٦ ـ كم ملوك باد ملكهم

ونعيم سوقة بادوا (٢)

وكونه مفردا أكثر في الاستعمال وأبلغ في المعنى ، حتّى ادّعى بعضهم أنّ الجمع على نيّة معنى الواحد ، فكم رجال على معنى كم جماعة من الرجال ، ودخل في المفرد ما يؤدّى معنى الجمع ، نحو : كم قوم صدقوني ، قاله في التصريح.

وإنّما كان مميّز الخبريّة مجرورا مفردا ، لأنّها كانت للتكثير ، وصار تمييزها كتمييز العدد الكثير ، وهو المائة والألف ، وجاز الجمع فيه ، ولم يجز في العدد الصريح ، لأنّ في لفظ العدد الكثير ما ينبئ عن كميّة الكثرة صريحا ، وكم الخبريّة ليست مثله في التصريح ، فجعل جمعه كأنّه نائب عن معنى التصريح في مثله ، وحكي عن تميم نصبه مطلقا ، وروي قول الفرزدق [من الكامل] :

٩٩٧ ـ كم عمة لك يا جرير وخالة

فدعاء قد حلبت عليّ عشارى (٣)

بالنصب إمّا حملا على هذه اللغة التميميّة ، وإمّا على تقديرها استفهاميّة استفهام تهكّم ، أي أخبرني بعدد عمّاتك وخالاتك اللّاتي كنّ يخدمنني ، فقد نسيته وعليهما فكم مبتدأ ، وخبره قد حلبت ، وإفراد الضمير حملا على لفظ كم ، أو على أنّه عائد على مجموع من تقدّم ، كما في قولك : النساء فعلت ، ويروى بالجرّ على قياس تمييز الخبريّة ، وبالرفع على أنّه مبتدأ.

وإن كان نكرة لكونه وصفا بلك وبفدعاء محذوفة مدلولا عليها بالمذكورة ، إذ ليس المراد تخصيص الحالة بوصفها بالفدع ، كما حذفت لك من صفة خالة استدلالا عليها ، بل الأولى ، والخبر قد حلبت ، ولا بدّ من تقدير قد حلبت أخرى ، لأنّ المخبر عنه فى هذا الوجه متعدّد لفظا ومعنى ، ونظيره : زينب هند قامت ، وكم على هذا الوجه ظرف أو مصدر ، والتمييز محذوف ، أي كم وقت أو حلبة ، وإذا نصب التمييز بفصل أو بغير فصل جاز كونه أيضا مفردا أو جمعا ، كما إذا جرّ.

__________________

(١) هو للقطامى ، اللغة : على عدم : مع عدم ، والعدم بمعنى الفقر والاحتياج ، الإقتار : مصدر أقتر بمعنى افتقر وضاق عيشه.

(٢) لم يذكر قائله. اللغة : باد : هلك ، سوقة : الرعية وما دون الملك.

(٣) اللغة : فدعاء : المرأة الّتى اعوجت إصبعها من كثرة حلبها ، يقال : الفدعاء هي الّتي أصاب رجلها الفدع من كثرة مشيها وراء الإبل ، العشار : جمع عشراء ، الناقة الّتي أتي عليها من وضعها عشره أشهر.

٨٩١

هذا مذهب الجمهور ، وذهب أبو علي والشلوبين وابن هشام الخضراويّ إلى التزام الإفراد ، لأنّ العرب التزمته في كلّ تمييز منصوب عن عدد أو كناية ككم الاستفهاميّة وكأيّن وكذا ، وردّ بأنّ ذلك فيما يجب نصبه ، لا فيما يجوز نصبه وجرّه. وهل يجوز جرّه مع الفصل بظرف أو مجرور؟ مذاهب ، أصحّها لا ، لما فيه من الفصل بين المتضايفين ، وذلك ممنوع إلا في ضرورة كقوله [من الرمل] :

٩٩٨ ـ كم بجود مقرف نال العلى

وكريم بخله قد وضعه (١)

الثاني : نعم ، وعليه يونس ، بناء على رأيه من جواز الفصل بين المتضايفين في السعة بذلك ، والكوفيّون بناء على رأيهم أنّ الجرّ بمن مقدّرة ، وإنّما جوّزوا عمل الجارّ المقدّر هاهنا ، وإن كان في غير هذا الموضع نادرا ، لكثرة دخول من على مميّز الخبريّة ، نحو : (كَمْ مِنْ مَلَكٍ) [النجم / ٢٦] ، (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ) [الأعراف / ٤] ، والشيء إذا عرف في موضع جاز تركه لقوّة الدلالة عليه (٢).

والثالث : الجواز ، إن كان الظرف أو المجرور (٣) ناقصا ، وهو ما لا يفهم بمجرّد ذكره وذكر معموله ما يتعلّق به ، نحو : كم بك مأخوذ أتاني! وكم اليوم جائع جاءني! والمنع إن كان تامّا. وعزا الأندلسيّ هذا القول إلى يونس ، وردّ بأنّ العرب لم تفرق بين الظرف التامّ والناقص في الفصل ، بل تجريهما مجرى واحدا ، ومن الفصل بالمجرور التّامّ قوله [من الكامل] :

٩٩٩ ـ كم في بني سعد بن بكر سيّد

ضخم الدّسيعة ماجد نفّاع (٤)

فإن كان الفصل بجملة لم يجز الجرّ في كلام ولا شعر عند البصريّين ، لأنّ الفصل بالجملة بين المتضايفين لا يجوز ألبتّة ، وجوّزه الكوفيّون بناء على أنّ الجرّ بمن لا بالاضافة ، وجوّزه المبرّد في الشعر فقط ، وروي قوله [من البسيط] :

١٠٠٠ ـ كم نالنى منهم فضل على عدم

 ... (٥)

__________________

(١) البيت لأنس بن زنيم. اللغة : المفرف : النّذل اللئيم الأب.

(٢) يذهب البصريّون إلى أنّ كم الخبريّة هي العاملة فيما بعدها الجرّ ، أي تضاف إلى مميّزها ، والكوفيّون إلى أنّ جرّ المميّز بمن المقدّرة ، يقول أبو البركات الأنباري : والّذي يدلّ على فساد ما ذهب الكوفيّون إليه أنّ حرف الجرّ لا يجوز أن يعمل مع الحذف ، إلا ربّ بعد الواو والفاء وبل. الإنصاف في مسائل الخلاف ، ١ / ٣٠٧. ويقول الزمخشريّ : والخبريّة مضافة إلى مميّزها ، عاملة فيه عمل كلّ مضاف في المضاف إليه ، فإذا وقعت بعدها «من» ، وذلك كثير في استعمالهم ، منه قوله تعالى ، (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ)(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ ،) كانت منوّنة في التقدير ، كقولك : كثير من القري ومن الملائكة ، وهي عند بعضهم منوّنة أبدا ، والمجرور بعدها بإضمار «من». المفصّل في صنعة الإعراب ص ٢٢١.

(٣) إن كان الظرف أو المجرور سقط فى «ط».

(٤) هو للفرزدق اللغة : الدسيعة : العطية أو الجفنة ، النفّاع : صيغة مبالغة من النفع.

(٥) تقدم برقم ٩٩٥.

٨٩٢

بالجرّ. وإذا فصل بين كم الخبريّة ومميّزها بفعل متعدّ وجب الإتيان بمن لئلّا يلتبس المميّز بمفعول ذلك المتعدّي ، نحو قوله تعالى : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الدخان / ٢٥] ، (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) [القصص / ٥٨].

«و» تختصّ كم «الاستفهاميّة» بوجوب «نصبه» أي تمييزها ، وظاهره أنّه لا يجوز جرّه مطلقا ، وهو قول لبعضهم ، وذهب الفرّاء والزجّاج وابن السّراج وآخرون إلى جواز جرّه مطلقا حملا لها على الخبريّة ، وفصّل قوم ، فقالوا : إن جرّت هي بحرف جرّ نحو : بكم درهم اشتريت؟ جاز الجرّ ، وإلا فلا ، ومع ذلك فالنصب هو الكثير ، ثمّ الجرّ حينئذ بمن مقدّرة حذفت تخفيفا ، وصار حرف الجرّ الداخل على كم عوضا منها ، هذا مذهب الخليل وسيبويه والفرّاء والجماعة ، وخالف الزجاجّ فقال : إنّه بإضافة كم لا بإضمار من ، وردّه أبو الحسن بأنّهم حين خفضوا بعدها لم يخفضوا إلا بعد تقدّم حرف جرّ ، فكونهم لم يتعدّوا هذا دليل لقول الجماعة.

«و» تختصّ بوجوب «لزوم إفراده» ، أى إفراد تمييزها ، خلافا للكوفيّين في جواز جمعه ، وما أوهمه يحمل على الحال ، ويجعل التمييز محذوفا ، فإذا قلت : كم لك غلمانا؟ فالتقدير كم نفسا استقرّوا لك غلمانا ، فحذف المميّز ، والجمع المنصوب حال من ضمير الظرف المستقرّ ، والعامل فيه الظرف ، أو عامله المحذوف ، فلو قلت كم غلمانا لك؟ لم يتمشّ هذا التخريج إلا على رأي الأخفش في تجويز تقديم الحال على عاملها المعنوىّ في مثل ذلك ، وذهب الأخفش إلى جواز جمعه إن كان السؤال عن الجماعات ، نحو : كم غلمانا لك؟ إذا أردت أصنافا من الغلمان ، قالوا : وإنّما كان مميّز الاستفهاميّة مفردا منصوبا ، لأنّها لما كانت كناية عن العدد جعلت عبارة عن وسط العدد ، وهو من أحد عشر إلى مائة ، وجعل مميّزها كمميّزه ، لأنّها لو جعلت كناية عن أحد الطرفين كان تحكّما وترجيحا من غير مرحّج لتساويهما في الظرفيّة بخلاف الوسطيّة ، إذ لا تساوى شيئا منهما.

كيف

ص : كيف : ترد شرطيّة ، فتجزم الفعلين عند الكوفيّين ، واستفهاميّة ، فتقع خبرا ، فى نحو : كيف زيد؟ وكيف أنت؟ ومفعولا ، في نحو : كيف ظننت زيدا؟ وحالا ، في نحو : كيف جاء زيد؟

ش : التاسعة عشرة كيف ، ويقال فيها : كي ، كما يقال في سوف : سو ، قال [من البسيط] :

٨٩٣

١٠٠١ ـ كي تجنحون إلى سلم وما ثئرت

قتلاكم ولظى الهيجاء تضطرم (١)

وهى اسم لدخول الجارّ عليها بلا تأويل في قولهم : على كيف تبيع الأحمرين؟ أي اللحم والخمر ، ولإبدال اسم الصريح منها كيف أنت؟ أصحيح أم سقيم؟ والإخبار بها مع مباشرة الفعل ، نحو : كيف كنت؟ فبالإخبار بها انتفت الحرفيّة ، وبمباشرة الفعل انتفت الفعليّة. وترد على وجهين :

أحدهما : أن تكون شرطيّة ، فيقتضي فعلين متّفقي اللفظ والمعنى ، نحو : كيف تصنع أصنع ، ولا يجوز : كيف تجلس أذهب باتّفاق ، وتجزم فعلين عند النّحاة الكوفيّين وقطرب من البصريّين مطلقا ، وقيل : بشرط اقترانها بما ، نحو : كيفما تكن أكن. قالوا : ومن ورودها شرطيّة قوله تعالى : (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) [المائدة / ٦٤] ، (يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) [آل عمران / ٦] (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) [الروم / ٤٨] ، وجوابها في ذلك كلّه محذوف لدلالة ما قبلها. قال ابن هشام : وهذا يشكل على اطلاقهم أنّ جوابها يجب مماثلثه لشرطها ، انتهى.

قيل : ولقائل أن يقول : لا إشكال ، لأنّا لا نقدّر الجواب فعلا مثل الّذى قبلها ، وإنّما نقدّره فعلا مضارعا من المشيئة متعلّقا بالحدث الّذى قبلها ، والتقدير كيف يشاء الأمور يشاء الاتّفاق ، أى لا فرق بين الشيئين إلا بالتعلّق ، فصدق أنّ شرطها مماثل لجوابها ، وأنّ جوابها محذوف لدلالة ما قبلها ، لأنّ ما قبلها فعل اختياريّ ، والأفعال الاختياريّة لها دلالة على المشيئة واستلزام لها ، وكثيرا ما تطلق وتراد هي منها كقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة / ٦] ، أى أردتم القيام لها.

والثاني : أن تكون استفهاميّة ، وهو الغالب فيها ، ويستفهم بها عن حال الشيء لا عن ذاته. قال الراغب (٢) : وإنّما يسأل بها عمّا يصحّ أن يقال فيه : شبيه وغير شبيه ، ولهذا لا يصحّ أن يقال في الله تعالى : كيف ، قال : وكلّما أخبر الله بلفظ كيف عن نفسه ، فهو استخبار على طريقة التنبيه للمخاطب أو التوبيخ له ، نحو : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) [البقرة / ٢٨] ، (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً) [آل عمران / ٨٦] ، انتهى.

قال في المغني : الاستفهام بها إمّا حقيقىّ ، نحو : كيف زيد؟ أو غيره ، نحو : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) الآية ، فإنّه أخرج مخرج التعجّب.

__________________

(١) لم يسمّ قائله : اللغة : تجنحون : تميلون ، السلم : الصلح ، ثئرت : مجهول من ثار دمه ، أى طلب دمه وقاتل قاتله ، القتلى : جمع قتيل ، اللظى : النار ، الهيجاء : الحرب ، تضطرم : تشتعل.

(٢) الراغب الإصفهاني (الحسين بن محمّد) (ت ٥٠٢ ه‍) إمام من حكماء العلماء ، اشتهر بالتفسير واللغة ، من آثاره «المفردات في غريب القرآن». المنجد فى الأعلام ص ٢٦٠.

٨٩٤

وتقع كيف الاستفهاميّة خبرا في نحو : كيف زيد؟ وكيف كنت؟ فكيف في الأوّل خبر المبتدإ ، وفي الثاني خبر كان ، قدّم فيهما للزومه الصدر ، وتقع مفعولا في نحو : كيف ظننت زيدا؟ وكيف أعملته فرسك؟ فهي في الأوّل مفعول ثان لظنّ ، وفي الثاني مفعول ثالث لأعلم (١).

ومنهم من جعل هذا من قبيل الخبر أيضا ، لأنّ ثاني مفعول ظنّ وثالث مفعولات أعلم خبران في الأصل ، والمراد بنحو ذلك في النوعين أن تقع قبل ما لا يستغنى به عنها ، وهو ما لا يستقلّ بدونها كلاما كما في الأمثلة.

وتقع حالا في نحو : كيف جاء زيد؟ فكيف حال من زيد. والمراد بنحوه أن تقع قبل ما لا يستغنى به عنها ، أي يستقلّ بدونها كلاما ، لأنّه يصحّ أن يقال : جاء زيد ، ثمّ ادخلت كيف استفهاما عن هيئة مجيئه ، أي على حالة جاء زيد ، قال ابن هشام : وعندي أنّها تأتي في هذا النوع مفعولا مطلقا أيضا ، وأنّ منه : (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ) [الفيل / ١] ، ولا يتّجه فيه أن يكون حالا من الفاعل ، انتهى. أي لأنّ في ذلك وصفه تعالى بالكيفية ، وهو ممتنع.

تنبيهات : الأوّل : عن سيبويه أنّ كيف ظرف ، وأنكره الأخفش والسيرافيّ ، وقالا : هي اسم غير ظرف ، ورتّبوا على الخلاف أمورا أحدها : أن موضعها عند سيبويه نصب دائما ، وعندهما رفع مع المبتدإ ونصب مع غيره. الثاني : أنّ تقديرها عند سيبويه في أيّ حال ، أو على أيّ حال ، وعندهما تقديرها في نحو : كيف زيد؟ أصحيح زيد؟ وفي كيف جاء زيد؟ أراكبا جاء زيد؟ ونحوه. الثالث : الجواب المطابق عند سيبويه أن يقال على خبر ونحوه ، هذا إن أجيب على اللفظ ، وإن أجيب على المعنى دون اللفظ ، قيل : صحيح أو سقيم ، أو عندهما على العكس.

وقال ابن مالك : لم يقل أحد إنّ كيف ظرف ، إذ ليست زمانا ولا مكانا ، ولكنّها لما كانت تفسّر بقولك : على أىّ حال لكونها سوالا عن الأحوال العامّة سمّيت ظرفا ، لأنّها في تأويل الجارّ والمجرور ، واسم الظرف يطلق عليها مجازا ، انتهى.

قال ابن هشام : وهو حسن ، ويؤيّده الإجماع على أنّه يقال : في البدل كيف أنت؟ أصحيح أم سقيم؟ بالرفع ، ولا يبدل المرفوع من المنصوب.

الثانى : زعم قوم أنّ كيف تأتي عاطفة ، وممّن زعم ذلك عيسى بن موهب (٢) في كتاب العلل ، وأنشد عليه [من الطويل] :

__________________

(١) سقطت هذه الفقرة في «ح».

(٢) لم أجد ترجمة حياته.

٨٩٥

١٠٠٢ ـ إذا قلّ مال المرء لانت قناته

وهان على الأدنى فكيف الأباعد (١)

وهذا خطأ ، لاقترانها بالفاء ، وإنّما هي هنا اسم مرفوع المحلّ على الخبريّة ، ثمّ يحتمل أنّ الأباعد مجرور بإضافة مبتدإ محذوف ، أي فكيف حال الأباعد ، فحذف المبتدأ على قراءة ابن جماز (٢) : (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [الأنفال / ٦٩] ، أو بتقدير فكيف الهوان على الأباعد؟ فحذف المبتدأ والجارّ ، أو هو مجرور بالعطف بالفاء ، وكيف مقحمة بين العاطف والمعطوف لإفادة الأولويّة بالحكم ، فلا يكون لها محلّ.

لو

ص : لو رد شرطيّة ، فتقتضي امتناع شرطها واستلزامه لجوابها ، وتختصّ بالماضي ولو مؤوّلا ، وبمعنى إن الشّرطيّة ، وليست جازمة خلافا لبعضهم ، وبمعنى ليت ، نحو : (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ ،) ومصدريّة ، وقد مضت.

ش : العشرون لو ، ترد على أربعة أوجه :

أحدها : أن تكون «شرطيّة» امتناعية ، «فتقتضي» شرطا وجوابا ، وتفيد في نحو : لو جاءني زيد لأكرمته ، ثلاثة أمور :

أحدها : الشرطيّة ، أعني عقد السببيّة والمسببيّة بين الجملتين.

الثاني : تقييد الشرطيّة بالزمان الماضي ، وبهذا الوجه والذى بعده فارقت إن ، فإنّ تلك لعقد السببيّة والمسببيّة في المستقبل ، لهذا قالوا : الشرط بإن سابق على الشرط بلو ، ذلك لأنّ الزمان المستقبل سابق على الزمان الماضي ، ألا ترى أنّك تقول : إن جئتني غدا أكرمتك ، فإذا انقضى الغد ، ولم يجئ قلت : لو جئتني أمس أكرمتك. قال في التصريح : وفي الأسبق من الأزمنة خلاف ، قال الرازيّ : والحقّ قول الزّجاج : إنّ المقدّم هو المستقبل ، فإذا وجد صار حاضرا ، فإذا انقضى صار ماضيا ، انتهى.

الثالث : الامتناع ، واختلف النحاة في إفادتها له وكيفيّة إفادتها إيّاه على أقوال :

أحدها : أنّه لا تفيده بوجه ، وهو قول الشلوبين وابن هشام الخضراويّ ، زعما أنّها لا تدلّ على امتناع الشرط ولا على امتناع الجواب ، بل على التعليق في الماضي ، كما دلّت إن على التعليق في المستقبل ، ولم تدلّ بالإجماع على امتناع ولا ثبوت.

__________________

(١) لم يسمّ قائله : اللغة : لان : سهل وانقاد ، القناه : الرمح ، هان : ذل ، الأباعد : جمع أبعد وهو ضدّ الأدنى.

(٢) هو سليمان بن مسلم بن جماز (مات نحو ١٧٠ ه‍) ، وكان قارئا ضابطا من راوة أبي جعفر القارئ المدني. مغني اللبيب ص ٢٧٣.

٨٩٦

قال ابن هشام الأنصاريّ : وهذا الّذي قالاه كإنكار الضروريات ، إذ فهم الامتناع منها كالبديهىّ ، فإنّ كلّ من سمع : لو فعل ، فهم عدم وقوع الفعل من غير تردّد ، ولهذا جاز استداركه ، فتقول : لو جاءني زيد لأكرمته ، لكنّه لم يجئ.

الثاني : أنّها تفيد الشرط وامتناع الجواب جميعا ، وهو القول المشهور الجاري على ألسنة المعربين ، وعباراتهم لو حرف امتناع لامتناع ، أي امتناع الجواب لامتناع الشرط ، وردّ بعدم امتناع الجواب في مواضع كثيرة كقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان / ٢٧] وقول عمر : نعم العبد صهيب (١) لو لم يخف الله لم يعصه ، فإنّ عدم النفاد محكوم به ، سواء وجد الخوف أم لا ، وأجيب بأنّ انتفاء الشرط والجواب هو الأصل فيها ، فلا ينافيه بقاء الجواب فيها مع انتفاء الشرط في بعض المواضع.

الثالث : وهو مختار المصنّف وفاقا لابن مالك ، واختاره جماعة من محقّقي المتأخّرين أيضا ، إنّها تفيد امتناع شرطها دائما مثبتا كان أو منفيّا ، واستلزامه أي شرطها لجوابها من غير تعرّض لامتناع الجواب ولا ثبوته ، فإذا قلت : لو قام زيد قام عمرو ، فقيام زيد محكوم بانتفائه فيما مضى ، وبكونه مستلزما ثبوته لثبوت قيام من عمرو ، وهل لعمرو قيام آخر غير اللازم عن قيام زيد؟ أو ليس له ، لا تعرّض في الكلام لذلك ، وعبارة ابن مالك في التسهيل : لو حرف شرط ، يقتضي امتناع ما يليه استلزامه لتاليه.

قال ابن هشام : وهذه أجود العبارات ، ثمّ الجواب إن لم يكن له سبب غير ذلك الشرط بحيث لم يخلفه غيره لزم امتناعه أيضا لملازمته له شرعا أو عقلا أو عادة ، فالأوّل نحو قوله تعالى في بلعم بن باعورا : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) [الأعراف / ١٧٦] ، فلو هنا دالّة على أنّ مشيئة الله تعالى لرفع هذا المنسلخ منفيّة ، ويلزم من نفيها أن يكون رفع المنسلخ منفيّا ، إذ لا سبب للرفع إلا المشيئة ، وقد انتفت ، فيكون منفيّا ، لأنّ انتفاء السبب يستلزم انتفاء المسبّب ضرورة ، كما أنّ ثبوت السبب يستلزم ثبوت المسبّب كذلك لما بينهما من التلازم الشرعيّ.

والثاني : كقولك : لو كانت الشمس طالعة ، كان النهار موجودا ، فطلوع الشمس سبب لوجود النهار ، وقد انتفى بدخول لو عليه ، فينتفي وجود النهار ، لأنّ وجود

__________________

(١) صهيب بن سنان (ت / ٣٨ ه‍) صحابي ، أحد السابقين إلى الإسلام ، هاجر إلى المدينة ، وتوفّي بها. المنجد في الأعلام ص ٣٤٩.

٨٩٧

النهار (١) ليس له سبب غير طلوع الشمس ، وقد انتفى ، فيكون منفيّا ، لأنّ انتفاء السبب المساوي يستلزم انتفاء المسبّب لما بينهما من التلازم العقليّ.

والثالث : كقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء / ٢٢] ، أي السموات والأرض ، ففسادهما وهو خروجهما عن نظامها المشاهد مناسب لتعدّد الآلهة للزومه له على وفق العادة عند تعدّد الحاكم من التمانع في الشيء وعدم الاتّفاق عليه ، ولم يخلف التعدّد غيره فينتفي الفساد بانتفاء التعدّد المفاد بلو نظرا إلى الأصل فيها ، وإن كان القصد من الآية العكس ، لأنّها إنّما سيقت لإثبات الوحدانيّة ونفي التعدّد ، فوجب أن يقال : إنّ معناها انتفاء التّعدّد لانتفاء الفساد لما بينهما من التلازم العادي ، وإن كان للجواب سبب غير الشرط لم يلزم امتناعه ولا ثبوته ، إذ لا تعرّض لها إلى امتناع الجواب ولا ثبوته.

ثمّ تارة يكون ثبوته بالأولى نحو قول عمر : لو لم يخف الله لم يعصه ، فإنّه لا يلزم من انتفاء لم يخف انتفاء لم يعص ، حتّى يكون قد خاف وعصى ، لأنّ انتفاء العصيان ليس سببه الخوف فقط ، بل له سبب آخر ، وهو الحياء والمهابة والإجلال ، والأوّل وظيفة العوام ، والثاني وظيفة الخواصّ ، والمراد أنّ صهيبا من قسم الخواصّ ، وأنّه لو قدّر خلوّه من الخوف لم تقع منه معصية ، فكيف والخوف حاصل له ، وإنّما لم تدلّ لو على انتفاء الجواب هاهنا ، لأنّ دلالتها على ذلك أنّما هو من باب مفهوم المخالفة ، وفي هذا الأثر دلّ مفهوم الموافقة على عدم المعصية ، لأنّه إذا انتفت المعصية عند عدم الخوف فعند الخوف (٢) أولى ، وإذا تعارض هذان المفهومان قدّم مفهوم الموافقة.

وتارة يكون بالمساوي كقوله (ص) في درّة بنت أمّ سلمة ، لمّا بلغه تحدّث النساء أنّه يريد أن ينكحها : إنّها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلّت لي ، إنّها لابنة أخي من الرضاعة (٣). فإنّ حلّها له عليه (ع) منتف من وجهين ، لو انفرد كلّ منهما حرمت له (ص) : كونها ربيبته ، وكونها ابنة أخيه من الرضاعة ، وهما متساويان في منع الحدّ. وتارة يكون بالأدون كقولك فيمن عرض عليك نكاحها : لو انتفت أخوة الرضاع ما حلّت لي للنسب ، فإنّ حلّها منتف من وجهين ، لو انفرد كلّ منهما حرمت له أخوة الرضاع والنسب ، إلا أنّ حرمة الرضاع أدون من حرمة النسب.

__________________

(١) لأنّ وجود النهار سقط فى «ط».

(٢) في «ح» فعند عدم الخوف.

(٣) صحيح بخاري ، ٤ / ١٧ ، رقم ٣٩. وروي : لو أنّها.

٨٩٨

تنبيه : اشتهر في كتب العربيّة نسبة هذا الكلام وهو : نعم العبد صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه ، إلى عمر بن الخطاب ، قال القاضي بهاء الدين السبكيّ في شرح التلخيص : وقد نسب الخطيبيّ (١) هذا الكلام إلى النبيّ (ص) ، ولم أره في شيء من كتب الحديث لا مرفوعا ولا موقوفا ، لا عن النبيّ (ص) ولا عن عمر مع شدّة الفحص. قال الدمامينيّ في التحفة : كذا نسبه القرافيّ (٢) في الفروق إلى النبي (ص) ، وقد سألت عن ذلك بعض حفّاظ العصر ، فأخبرني أنّه بحث عن ذلك فلم يقف عليه ، ثمّ وقفت في الحلية لأبي نعيم الحافظ (٣) في ترجمة سالم مولى أبي حذيفة (٤) على حديث رفعه من طريق عمر بن الخطاب ، قال : سمعت رسول الله (ص) يقول : إنّ سالما شديد الحبّ لله عزّ وجلّ لو كان لا يخاف الله ما عصاه (٥).

«وتختصّ» لو «بالماضي» ، لأنّها إنّما تفيد الشرط فيه ، فلا يكون الشرط والجزاء معها إلا ماضين ، فمن حقّها أن لا تدخل إلا على الماضي ، «ولو» كان «مؤوّلا» كقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ) [السجدة / ١٢] ، لأنّه لصدوره عمّن لا يكذب متحقّق الوقوع ، فالمضارع عنده بمترلة الماضي ، فهذا مستقبل في التحقيق ماض بحسب التأويل ، كأنّه قيل : قد انقضى هذا الأمر ، لكنّك ما رأيته ، ولو رأيته لرأيت أمرا فظيعا عجيبا.

تنبيه : اختلف في عدّ لو المذكورة من حروف الشرط. قال الزمخشريّ وابن مالك لو حرف شرط ، وأبى قوم تسميتها حرف شرط ، لأنّ حقيقة الشرط أنّما يكون في الاستقبال ، ولو إنّما هي للتحقيق في المضي ، فليست من أدوات الشرط ، قاله المراديّ في الجنى الداني ، والأوّل هو المشهور ، ولذا سمّاها المصنّف شرطيّة.

الثاني من وجوه لو أن تكون حرف شرط في المستقبل بمعنى «إن الشرطيّة» ، إلا أنّها لا تجزم على المشهور كقوله [من الطويل] :

١٠٠٣ ـ ولو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا

ومن دون رمسينا من الأرض سبسب

لظّل صدى صوتي وإن كنت رمّة

لصوت صدى ليلى يهشّ ويطرب (٦)

__________________

(١) لم أجد ترجمة حياته.

(٢) أحمد بن إدريس القرافيّ ، من علماء المالكيّة ، له مصنّفات منها «أنوار البروق في أنوار الفروق» «الخصائص» في قواعد العربية ، مات سنة ٦٤٨ ه‍. الأعلام للزركلي ، ١ / ٩٠.

(٣) أحمد بن عبد الله أبو نعيم حافظ ، مؤرخ ، من الثقات في الحفظ والرواية ، من تصانيفه «حلية الأولياء وطبقات الأصفياء» و «معرفه الصحابة» مات سنة ٤٣٠ ه‍. المصدر السابق ، ١ / ١٥.

(٤) أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، صحابي ، هاجر إلى الحبشة شهد بدرا وأحدا والخندق ، وقتل يوم اليمامة سنة ١٢ ه‍. المصدر السابق ، ٢ / ١٨٠.

(٥) ما وجدت عنوان الحديث.

(٦) هما لأبي صخر الهذلي. اللغة : الاصداء : جمع صدى ، وهو الّذي يجيبك بمثل صوتك في الجبال وغيرها ، الرمس : تراب القبر ، السبسب : المفارة ، الرمّة : العظام البالية ، يهش : من الهشاشة ، وهى الارتياح والخفة للشيء.

٨٩٩

قوله [من الكامل] :

١٠٠٤ ـ لا يلفك الراجيك إلا مظهرا

خلق الكرام ولو تكون عديما (١)

وإذا وليها حينئذ ماض أوّل بالمستقبل ، نحو : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا) [النساء / ٩] ، وقيل قول توبة [من الطويل] :

١٠٠٥ ـ ولو أنّ ليلى الأخيليه سلّمت

عليّ ودوني جندل وصفائح

لسلّمت تسليم البشاشة أوزقا

إليها صدى من جانب القبر صائح (٢)

زقا بزاء وقاف : صاح ، والصدى هنا طائر يخرج من رأس المقتول ، إذا بلى بزعم الجاهلية ، ويتصحّف على كثير زقا برقا براء مهملة ، والصواب ما ذكرناه ، من غريب ما يحكى أنّ ليلى الأخيلية هذه مرّت بقبر توبة صاحب هذا الشعر فوقفت عليه ، وسلّمت ، وقالت : لم أعهدك يا توبة كاذبا ألست القائل [من الطويل] :

١٠٠٦ ـ ولو أنّ ليلى الأخيليّه سلّمت

 ... (٣)

وقد سلّمت فأين ما قلت؟ فبينا هي كذلك إذا طائر كان هناك فأحسّ بالبعير ففرّ طائرا يصيح ، فنفر البعير ، فسقطت ليلى من عليه ميتة ، ودفنت إلى جانبه.

وأنكر ابن الحاج مجيئها للتعليق في المستقبل ، قال في نقده على المقرّب : والقاطع بذلك أنّك لا تقول : لو يقوم زيد فعمرو منطلق ، كما تقول : إن يقم زيد فعمرو منطلق.

وقال بدر الدين بن مالك : عندي أنّها لا تكون لغير الشرط في الماضي ، وما تمسّكوا به من نحو قوله تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا) [النساء / ٩] وقول الشاعر [من الطويل] :

١٠٠٧ ـ ولو أنّ ليلى الأخيلية سلّمت

 ... (٤)

لا حجّة فيه لصحّة حمله على المعنى ، وردّ بأنّ الحمل على المعنى ممكن في بعض المواضع دون بعض ، فممّا أمكن فيه قوله تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا) إذ لا يستحيل أن يقال : لو شارفت فيما مضى إنّك تخلف ذريّة ضعافا لخفت عليهم ، لكنّك لم تشارف ذلك فيما مضى ، وممّا لا يمكن فيه ذلك قوله : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) [يوسف / ١٧] ، لاستحالة أن يراد ولو كنّا صادقين فيما مضى ، ما أنت بمصدّق لنا لكنّا لم نصدّق.

__________________

(١) لم يسمّ قائله. اللغة : يلفك : من ألفى إذا وجد ، العديم : المعدم الّذي لا يملك شيئا.

(٢) هما لتوبة بن الحمير : اللغة : الجندل : الحجر ، الصفائح : الحجارة العريضة الّتي تكون على القبر ، البشاشه : طلاقه الوجه ، زقا : صاح ، الصدى : ذكر البوم ، أو هو ما تسمعه في الجبال كترديد لصوتك.

(٣) تقدم برقم ١٠٠٥.

(٤) تقدم برقم ١٠٠٥ و ١٠٠٦.

٩٠٠