الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

«و» الخامس : أن تكون «موصولة» ، وقد مرّ الكلام عليها فى باب الموصولات ، وأنّ ثعلب زعم أنّ أيّا لا تكون موصولة أصلا ، فليرجع إليه. «ولا يعرب من» أخواتها «الموصولات سواها» على اختلاف في اللّذان واللّتان وذو الطائفة ، وإنّما أعربت دون أخواتها ، لأنّ شبهها بالحرف في الافتقار معارض بلزومها الإضافة في المعنى ، والإضافة من خواصّ الأسماء ، فبقيت على مقتضى الأصل في الأسماء من الإعراب لسلامته من المعارض ، ولها أربع حالات.

إحداها : أن لا تضاف ، ولا يذكر صدر صلتها ، نحو : أكرم أيّا أكرمك.

الثانية : أن تضاف ، ويذكر صدر صلتها ، نحو : يعجبنى أيّهم هو قائم.

الثالثة : أن لا تضاف ، ويذكر صدر صلتها ، نحو : يعجبنى أيّ هو قائم.

الرابعة : أن تضاف ، ولا يذكر صدر صلتها ، نحو : أعجبنى أيّهم قائم.

وهي في ما عدا الحالة الرابعة معربة عند سيبويه وجمهور البصريّين ، ومبنيّة في الحالة الرابعة عندهم ، وطائفة من البصريّين قالوا بإعرابها مطلقا ، وهو قضية إطلاق المصنّف هنا ، لكن يأباه عدّها في المبنيّات مع أخواتها ، فتأمّل. وقد أسلفنا الكلام على إعرابها وبنائها مستوفيا هنالك (١).

تنبيه : لا تستعمل أيّ مقطوعة عن الإضافة لفظا ومعنى إلا في النداء والحكاية ، يقال : جاءني رجل ، فتقول : أيّ يا هذا ، وجاءني رجلان ، فتقول ، أيّان ، وجاءني رجال ، فتقول : أيّون ، وقطعها عن الإضافة فى غير هذين البابين أنّما هو بحسب اللفظ دون المعنى.

__________________

(١) حول أيّ في الآية الشريفة (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ) هناك خلاف طويل بين النحاة ، وذهب سيبويه إلى أنّه مبنيّ على الضمّ لسقوط صدر الجملة الّتي هي صلته ، حتّى لو جيء به لأعرب. وبعض الكوفيّين يقرؤونها بالنصب «أيهم» وهي لغة جيّدة (الكتاب ١ / ٤٦٥). وابن مالك أيضا يقبل رأي سيبويه ويقول :

أيّ كما وأعربت ما لم تضف

وصدر وصلها ضمير انحذف

(شرح ابن عقيل ١ / ١٦١)

أي أعربت «أيّ» إذا لم تضف في حالة حذف صدر الصلة ، وإذا أضيفت وحذف ضمير صدر الصلة بنيت. وقال الزّجّاج مستنكرا رأي سيبويه : ما تبيّن لي أنّ سيبويه غلط إلا في موضعين ، هذا أحدهما ، فإنّه يسلم أنّها تعرب إذا أفردت ، فكيف يقول ببنائها إذا أضيفت. ويقول الطبرسي في مجمع البيان : إنّ الصلة مثل المضاف إليه ، فكما أنّ المضاف إليه لمّا حذف بني المضاف ، فكذلك لمّا حذف العائد من الصلة إلى الموصول هنا بني (ح ٥ و ٦ ص ٨٨). ويذهب الكسائي ويونس إلى أنّ الفعل معمل في موضع (مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) وكان أيّهم منقطعا من هذا الجملة ، وكانت جملة مستأنفة. وزعم بعض أنّ أيّا في الآية استفهاميّة ، وأنّها مبتدأ ، وأشدّ خبره ، ثمّ اختلفوا في مفعول نترع ، فقال الخليل محذوف ، والتقدير لنترعنّ الّذين ، وقال يونس : المفعول الجملة ، وقال الكسائي والأخفش : المفعول كلّ شيعة.

يبدو أنّه إذا قرئ «أيهم» بالنصب فهي بناء على أنّ أيّ معرب وهي كما قال سيبويه : لغة جيّدة. وابن مالك أيضا يشير إلى إعرابها ، حيث يقول :

وبعضهم أعرب مطلقا وفي

ذا الحذف أيّا غير أيّ يقتفي

(شرح ابن عقيل ١ / ١٦٣)

أي بعض النّحويّين أعرب «أيّا» مطلقا. وإذا قرئ (أَيُّهُمْ) بالضّمّ فالصحيح مذهب سيبويه ، ورأي سائر النحاة لا يناسب ترجمة الآية وتفسيرها ، لأنّ أيّ في موضع مفعول به.

٨٦١

بل

ص : بل حرف عطف ، وتفيد بعد الإثبات صرف الحكم عن المعطوف عليه إلى المعطوف ، وبعد النهي والنفي تقرير حكم الأوّل وإثبات ضدّه للثاني ، أو نقل حكمه إليه عند بعض.

ش : الثانية عشرة «بل» ، وهو «حرف عطف ، وتفيد بعد الإثبات» أى الإيجاب «صرف الحكم عن المعطوف عليه إلى المعطوف» ، نحو : قام زيد بل عمرو ، واضرب زيدا بل عمرا ، فيصرف الحكم بالقيام ، والأمر بالضرب عن زيد إلى عمرو ، ويصير المعطوف عليه مسكوتا عنه ، فلا يحكم عليه بشيء ، كأنّ المتكلّم قال : أحكم على الثاني ، ولا أتعرّض للأوّل ، لأنّه منفيّ عن الحكم عليه قطعا.

وفي كلام ابن الحاجب إنّها تقتضي في نحو : جاءني زيد بل عمرو عدم مجيء زيد قطعا ، أمّا إذا انضمّ إليها لا ، كجاءني زيد لا بل عمرو ، فتفيد عدم مجيء زيد قطعا.

وتفيد «بعد النهي أو النفي تقرير حكم الأوّل» ، وهو المعطوف عليه «إثبات ضدّه للثاني» ، وهو المعطوف ، نحو : ما جاءني زيد لا بل عمرو ، ولا تضرب زيدا بل عمرا ، فتقرّر حكم النفي والنهي لزيد مثبتا ضدّه لعمرو ، كما لو قلت : ما جاءني زيد لكن عمرو ، ولا تضرب زيدا لكن عمرا ، فيستفاد تقرير عدم مجيء زيد والنهي عن الضرب له وإثبات المجيء له والأمر بالضرب لعمرو ، هذا ما ذكره الجمهور ، وقال الرضىّ : ظاهر كلام الأندلسيّ أنّ الأوّل مسكوت عنه كما في الايجاب ، ثمّ استظهره ، وبه جزم المولى سعد الدين [التفتازانيّ].

«أو نقل حكمه» عطف على تقرير الحكم الأوّل ، أي تفيد بعد النفي أو النهي نقل حكم الأوّل «إليه» ، أي إلى الثاني. «عند بعض» أى بعض النحاة ، وهو المبرّد ، وتبعه عبد الوارث (١) ، فأجاز مع موافقها للجمهور فيما تقدّم أن تكون ناقلة حكم متلوّها لتاليها ، كما إذا وقعت بعد الإثبات ، فعلى قولها : يجوز ما زيد قائما بل قاعدا بالنصب ، وما زيد قائما بل قاعد بالرفع ، ويختلف المعنى ، فمع النصب يكون القعود منفيّا على معنى بل ما هو قاعدا ، ومع الرفع يكون مثبتا ، أي بل هو قاعد. قال غير واحد من الأئمة : وما أجازاه مخالف لاستعمال العرب.

__________________

(١) لعلّه أبو المكارم عبد الوارث بن عبد المنعم ، عالم فى النحو واللغة والأدب ، أخذ عن أبى العلاء المعرّي. مغنى اللبيب ، ص ١٥٢.

٨٦٢

تنبيهات : الأوّل : صريح كلامه أنّ بل يعطف بها مطلقا ، سواء كانت بعد الإيجاب أو غيره ، وهو مذهب البصريّين ، منع ذلك الكوفيّون بعد غير النفى وشبهه. قال هشام (١) : محال ضربت زيدا بل إيّاك. قال أبو حيّان : وهذا من الكوفيّين مع كونهم أوسع من البصريّين فى اتّباع شواذّ العرب دليل على أنّه لم يسمع العطف بهما فى الإيجاب أو على قلّته ، ولا يعطف بها بعد الاستفهام وفاقا.

الثانى : قضية إطلاقه أنّ بل تعطف الجمل كما تعطف المفردات ، والصحيح أنّ الداخلة على الجملة حرف ابتداء لا عاطفة ، وأنّها لا تكون عاطفة ، إلا إذا تلاها مفرد ، ومعناها الإضراب مطلقا ، فإن تلاها جملة كان معنى الإضراب إمّا الإبطال نحو : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء / ٢٦] أى بل هم عباد ، ونحو : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) [المومنون / ٧٠] وإمّا الانتقال من غرض إلى آخر نحو : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى* بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) [الأعلى / ١٦ و ١٥ و ١٤] ، ونحو : (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ* بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) [المومنون / ٦٣ و ٦٢].

وذكر ابن مالك في شرح كافيته أنّها لا تقع في التتريل إلا على هذا الوجه ، ووهمه في ذلك جماعة بدليل ورودها للإبطال في الأيتين السابقتين. قال الدمامينىّ : ومجمل هذا الكلام عند ابن مالك أنّها لا يقع بيقين في القرآن إلا للتنبيه على انتفاء أمر واستئناف غيره ، فلا يتمّ توهيمه بتينك الآيتين الشريفتين ، إذ ليس الإضراب على وجه الإبطال متعيّنا في شيء منهما لاحتمال أن يكون الإضراب فيهما عن القول لا عن القول المحكيّ ، ولا شكّ أن الإخبار بصدور ذلك منهم ثابت ، لا يتطّرق إليه الإبطال بوجه ، فيكون الإضراب فيهما لمجرّد الانتقال من أمر إلى استئناف آخر ، انتهى. وسبقه إلى ذلك ابن الصائغ في حاشية المغنى.

الثالث : علم ممّا تقرّر أنّ بل تكون للاستدارك كالإضراب. قال ابن هشام في المغنى : والنحويّون يقولون : بل حرف إضراب ، والصواب حرف استدارك وإضراب ، فإنّها بعد النفي والنهي بمترلة لكن سواء.

الرابع : تزاد لا قبل بل لتوكيد الإضراب بعد الإيجاب كقوله [من الخفيف] :

٩٦٥ ـ وجهك البدر لا بل الشّمس لو لم

يقض للشمس كسفه أو أفول (٢)

__________________

(١) لعلّه هشام بن معاوية الضرير أبو عبد الله النحويّ الكوفيّ ، أحد أعيان أصحاب الكسائيّ ، صنّف : مختصر النحو ، الحدود ، القياش ، توفّي سنة ٢٠٩ ه‍ ، بغية الوعاة ٢ / ٣٢٨.

(٢) لم يسمّ قائله. اللغة : الكسفة : فعلة من الكسوف وهو التغيير إلى السواد ، الأفول : الغروب.

٨٦٣

ولتوكيد تقرير ما قبلها بعد النفي والنهي ، ومنعها ابن درستويه بعد النفي ، وزاد ابن العصفور النهي قالا : لأنّه لم يسمع ، وردّ بقوله [من البسيط] :

٩٦٦ ـ وما هجرتك لا بل زادني شغفا

هجر وبعد تراخى لا إلى أجل (١)

وقوله [من الخفيف] :

٩٦٧ ـ لا تملّنّ طاعة الله لا بل

طاعة الله ما حييت استديما (٢)

قاله في الهمع تبعا لابن هشام في المغني ، وما ذكره من أنّها زائدة قبل بل لتوكيد الإضراب بعد الإيجاب محلّ نظر.

وقد قال الرضيّ : إذا ضممت لا إلى بل بعد الإيجاب نحو : قام زيد لا بل عمرو ، واضرب زيدا لا بل عمرا ، فمعنى لا يرجع إلى ذلك الإيجاب والأمر المتقدّم لا إلى ما بعد بل ففي قولك : لا بل عمرو ، نفيت بلا القيام عن زيد ، وأثبتّه لعمرو ، ولو لم تجيء بلا لكان قيام في حكم المسكوت عنه ، يحتمل أن يثبت وأن لا يثبت ، وكذا في اضرب زيدا لا بل عمرا ، أى لا تضرب زيدا ، بل اضرب عمرا ، ولو لا لا المذكورة لاحتمل أن يكون أمرا بضرب زيد ، وأن لا يكون مع الأمر بضرب عمرو ، هذا كلامه ، وهو نصّ في أنّ لا الواقعة قبل بل فيما ذكر ليست بزائدة ، بل أتى بها لتأسيس معنى لم يكن قبل وجودها ، فالقول بزيادتها ليس بشيء ، ومن حاول التقصّي عن ذلك يحمل الزيادة على معنى أنّها ليست للعطف فقد تمحّل.

حاشا

ص : حاشا ترد للاستثناء حرفا جارّا ، أو فعلا جامدا ، وفاعلها مستتر عائدا إلى مصدر ، يصاغ ممّا قبلها ، أو اسم فاعل ، أو بعض مفهوم ضمنا منه ، للتتريه ، نحو : حاشا لله ، وهل هي اسم بمعنى براءة ، أو فعل بمعنى برئت ، أو اسم فعل بمعنى أبرّأ ، خلاف.

ش : الثالثة عشرة «حاشا» ترد «للاستثناء حرفا جارّا» ، فيجرّ المستثنى بعدها كما مرّ في بابه ، «أو فعلا» متعدّيا «جامدا» قاصرا على لفظ الماضى فلا يتصرّف بمضارع ولا أمر لتضمّنه معنى إلا ، فينتصب المستثنى بعده كما مرّ ، و «فاعلها» حينئذ ضمير مستتر عائد إلى مصدر يصاغ ممّا قبلها ، سواء كان ما قبلها فعلا ، نحو : قام القوم حاشا زيدا ، المعنى

__________________

(١) لم يسمّ قائله. اللغة : هجر : ترك ، شغفا : مصدر شغف به وبحبّه بمعنى أحبّه وأولع به ، التراخي : زمان يسير.

(٢) البيت مجهول القائل.

٨٦٤

جانب هو ، أي قيامهم زيدا ، أو كلاما يتصيّد منه مصدر ، يمكن عود الضمير عليه ، نحو : القوم إخوتك حاشا زيدا ، المعنى : جانب هو ، أى انتسابهم إليك بالأخوّة زيدا ، فيفهم من ذلك أنّ زيدا ليس بأخ ، وهو المقصود بالاستثناء ، إذ لو كان أخا للمخاطب لم يتجاوز غيره بانتساب الأخوّة إليه ، وعبارة المصنّف هذه أحسن من عبارة غيره ، حيث قال : عائد إلى مصدر الفعل المتقدّم عليها لشمولها ، ولذلك أورد على تلك العبارة أنّه لا يطّرد فيها ذلك لانتقاضه بما إذا فقد الفعل كالصورة الثانية.

أو عائدا إلى «اسم فاعل مفهوم منه» أى ممّا قبلها ، سواء كان فعلا أو كلاما كما تقدّم ، فالمعنى على الأوّل في نحو : قام القوم حاشا زيدا ، جانب القائم منهم زيدا ، وعلى الثاني في نحو : القوم إخوتك حاشا زيدا ، جانب المنتسب إليك بالأخوّة زيدا ، فهذان قولان في مرجع الضمير ، الأوّل للكوفيّين ، والثاني لسيبويه.

وردّ الأوّل بأنّ فيه تقدير ما لم يلفظ به قطّ ، وذهب جمهور البصريّين إلى أنّه عائد على البعض المفهوم من الكلّ السابق ، فلمعنى في نحو : قام القوم حاشا زيدا ، جانب بعضهم زيدا ، واختاره ابن مالك في متن التسهيل ، ونكل عنه في شرحه ، وضعفه بأنّه يلزم من تقدير البعض أن يراد بالبعض من سوى المستثنى ، فيلزم إطلاق البعض على الكلّ إلا واحدا ، وهذا وإن صحّ ، فلا يحسن لقلّته في الاستعمال ، ثمّ اختار مذهب الكوفيّين. وذهب الفرّاء إلى أنّ حاشا فعل لا فاعل له ك قلّما لما أشربته من معنى إلا ، قال أبو حيان : فيمكن القول في خلا وعدا بذلك.

تنبيه : هذا الخلاف في مرجع الضمير المذكور جاز في الضمير الّذى هو فاعل عدا وخلا وما عدا وما خلا وليس ولا يكون ، وقد تقدّم الوعد في باب الاستثناء بذكره هنا ، إذا ولي حاشا مجرور باللام نحو : حاشا لله ، فليست للاستثناء ، وخرجت عن كونها حرفا بالاجماع ، وإنّما هي تتريهية ، وهل هي حينئذ اسم مصدر بمعنى براءة أي تتريها ، فتكون اسما مرادفا له ، تنتصب انتصاب المصدر الواقع بدلا من اللفظ بفعله فمن قال : حاشا لله ، فكأنّه قال : تتريها لله ، أو فعل ماض بمعنى برئت ، والمعنى في نحو : حاشا لله برئت لله أي لخوفه ومراقبته ، ومثل هذا التأويل لا يأتى فى نحو : (حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً) [يوسف / ٣١] ، لأنّه مقام تعجّب لا تبرئة ، أو اسم فعل بمعنى أبرّأ ، فمعنى حاش لله ، أبرّأ لله كما تقدّم ، فيه «خلاف».

فالأوّل قول جماعة من المحقّقين ، منهم ابن مالك وابن هشام والرضيّ ، واستدلّوه عليه بجواز تنوينها كقراءة أبي سماك (١) : حاشا لله بالتنوين ، فهذا مثل قولهم سقيا لزيد

__________________

(١) لم أجد ترجمة حياته.

٨٦٥

ورعيا لخالد. قرأ ابن مسعود : حاش الله بالاضافة ، فهذا مثل : (سُبْحانَ اللهِ) [يوسف / ١٠٨] و: (مَعاذَ اللهِ) [يوسف / ٢٣]. قال ابن هشام : وليستا جارّا ومجرورا ، كما توهّم ابن عطية ، لأنّها إنّما تجرّ في الاستثناء ، ولتنوينها في القراءة الأخرى ، ولدخولها على اللام في قراءة السبعة ، والجارّ لا يدخل على الجارّ ، انتهى.

وإنّما ترك التنوين في قراءة الجماعة لبنائها من حيث اشبهت حاشا الحرفية لفظا ومعنى ، لأنّ معنى الحرفيّة الاستثناء ومعنى التتريهية الإبعاد عن السوء ، وهما متقاربان ، وإنّما نوّنت في تلك القراءة لإلغاء الشبه المذكور ، فهي معربة كما أنّ بني تميم أعربوا حذام كذلك ، وزعم النبيليّ (١) ، أنّ حرفيّة حاشا لا تتوقّف على الاستثناء ، وردّ على ابن الحاجب تقييد حرفيّتها في باب حرف الجرّ بقوله : وخلا وعدا وحاشا للاستثناء ، وزعم أنّه يقال : حاشا زيد أن يقوم على الابتداء والخبر والتقديم والتأخير كما تقول : على زيد أن تقوم ، وهو خلاف المشهور.

والثانى : قول المبرّد وابن جنىّ والكوفيّين ، لكنّهم قالوا : المعنى في الآية جانب يوسف (ع) المعصية لأجل الله تعالى ، ولم يقولوا : إنّها بمعنى برئت كما قال المصنّف والمعنيان مختلفان ، فتدبّر.

واستدلّوا على فعليّتها بإدخالهم إيّاها على الحرف وتصرّفهم فيها بالحذف ، قال ابن هشام وغيره : هذان الدليلان ينافيان الحرفيّة ، ولا يثبتان الفعليّة أى لأنّ الاسم يشارك الفعل في كلّ منهما.

قال الرضىّ : استدلّ المبرّد على فعليّته بتصريفه ، نحو : حاشيت زيدا أحاشيه ، وما أحاشي من الأقوام من أحد ، وليس بقاطع ، لأنّه يجوز أن يكون مشتقّا من لفظ حاشا حرفا أو اسما كقولهم : لو ليت ، أى قلت : لولا ، ولا ليت ، أى قلت : لا لا ، وسبّحت ، أى قلت : سبحان الله ، ولبيّت ، أى قلت : لبيك ، وهذا هو الظاهر ، لأنّ المشتقّ الّذى هذا حاله بمعنى قول تلك اللفظة الّتى اشتقّ منها ، فالتسبيح قول سبحان الله ، والتسليم قول سلام عليك ، والبسملة قول بسم الله ، وكذا غيره ، ومعنى حاشيت زيدا ، قلت : حاشا زيد ، واستدلاله على فعليّته بالتصريف فيه ، والحذف نحو : حاش لله ليس بقويّ ، لأنّ الحرف الكثير الاستعمال قد يخذف منه ، نحو : سو أفعل في سوف أفعل ، انتهى.

الثالث : قول لبعض النحويّين ، قال ابن هشام : وزعم بعضهم أنّها اسم فعل معناه أتبرّأ ، أو برئت ، وحامله على ذلك بناؤها ، ويرده إعرابها في بعض اللغات ، انتهى.

__________________

(١) لم أجد ترجمة حياته.

٨٦٦

وفيه نظر ، إذ لا يلزم من كون الكلمة مبنيّة كونها اسم فعل ، وقال ابن الحاجب : هي اسم فعل بمعنى برأ الله ، واللام زائدة في الفاعل كما في : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) [المؤمن / ٣٦].

تنبيه : في حاشا التتريهية ثلاث لغات : حاشا بإثبات الألفين ، وحشا بحذف الأولى ، وحاش بحذف الثانية ، وهو الغالب. قال المراديّ : وزاد في التسهيل حاش باسكان الشين. وقد قرئ بالأربع في : (حاشَ لِلَّهِ ،) قرأ أبو عمرو : حاشا ، وقرأ باقي السبعة : (حاشَ لِلَّهِ ،) بحذفها ، وقرأ بعضهم : حاشا لله بحذف الأولى ، وقرأ الحسن : (حاشَ لِلَّهِ ،) وفيه جمع بين ساكنين على غير حدّه. وظاهر كلام ابن مالك في الألفية أن اللغات الثلاث في حاشا الاستثنائية (١) ، وقال غيره : إنّ حاشا لم يستثن بها.

حتّى

ص : حتّى : ترد عاطفة لجزء أقوى أو أضعف ، بمهلة ذهنيّة ، وتختصّ بالظاهر عند بعض. وحرف ابتداء فتدخل على الجمل ، وترد جارّة فتختصّ بالظاهر ، خلافا للمبرّد ، وقد ينتصب بعدها المضارع بأن مضمرة لا بها ، خلافا للكوفيّين.

ش : الرابعة عشرة «حتّى ترد» على ثلاث أوجه :

أحدها : أن تكون «عاطفة لجزء» من المعطوف عليه ، أو لما هو كجزئه ، فالأوّل نحو : أكلت السمكة حتّى رأسها ، والثانى نحو : أعجبتنى الجارية حتّى كلامها ، لأنّ كلامها ليس جزء منها ، لكن لمّا كانت محلّ له نزّلت مترلة الجزء ، فإن عطفت ما يوهم أنّه ليس بجزء أوّل به وجوبا كقوله [من الكامل] :

٩٦٨ ـ ألقى الصّحيفة كى يخفّف رحله

والزّاد حتّى نعله ألقاها (٢)

في رواية من نصب نعله بالعطف على الصحيفة والزاد على تأويل ألقى ما يثقّله حتّى نعله ، فنعله بعض ما يثقّله.

قال ابن هشام : والذى يضبط ذلك أنّها تدخل حيث ى صحّ دخول الاستثناء ، ويمتنع ، ولهذا لا يصحّ : ضربت الرجلين إلا أفضلهما ، انتهى. قيل : يرد عليه الاستثناء من أسماء العدد.

__________________

(١) يقول ابن مالك :

وكخلا حاشا ولا تصحب ما

وقيل حاش وحشا فاحفظهما

(شرح ابن عقيل ١ / ٦٢١)

(٢) هو للمتلمّس أو لأبى مروان النحوىّ. اللغة : ألقى : طرح ، الزاد : طعام المسافر.

٨٦٧

قوله : «أقوى أو أضعف» صفتان لجزء ، أي أقوى من سائر أجزاء المعطوف عليه نحو : مات الناس حتّى الانبياء ، أو أضعف منه ، نحو : قدم الحاجّ حتّى المشاة ، وقد اجتمعا فى قوله [من الطويل] :

٩٦٩ ـ قهرناكم حتّى الكماة فكلّكم

يحاذرنا حتّى بنونا الأصاغر (١)

قال ابن يعيش : إذا قلت : ضربت القوم حتّى زيدا ، فلا بدّ أن يكون زيدا أرفعهم أو أدناهم ، ليدلّ بذكره على أنّ الضرب قد انتهى إلى الرفعاء أو الرضعاء ، فإن لم يكن زيد بهذه الصفة لم يكن لذكره فائدة ، إذ كان قولك : ضربت القوم يشتمل على زيد وعمرو وغيرهما ، فلمّا كان ذكر زيد يفيد ما ذكرناه ، وجب أن يكون داخلا في حكم ما قبله وأن يكون بعضا لما قبله ، فيستدلّ بذكره على أنّ الفعل قد عمّ الجميع ، ولذلك لا تقول : ضربت الرجال حتّى النساء ، لأنّ النساء لسن من الرجال ، ولا يتوهّم دخولهنّ ، وإنّما يذكر بعد حتّى ما يشتمل عليه الأوّل ، ويجوز أن لا يقع عليه الفعل لرفعته أو دنائته ، فبيّن بحتّى أنّ الأمر قد انتهى إليه.

«بمهلة ذهنيّة» متعلّق بعاطفة ، أى بحسب الذهن لا بحسب الخارج كما فى ثمّ ، إذ المناسب بحسب الذهن في نحو : مات الناس حتّى الأنبياء ، أن يتعلّق الموت أوّلا بغير الأنبياء ، ويتعلّق بعد التعلّق بهم بالأنبياء ، وإن كان موت الأنبياء بحسب الخارج فى أثناء سائر الناس ، وهكذا المناسب في الذهن تقدّم قدوم ركبان الحاجّ على رحالتهم ، وإن كان فى بعض الأوقات على عكس ذلك ، ومع هذا يصحّ أن يقال : قدم الحاجّ حتّى المشاة ، وظهر بذلك أنّه لا يعتبر فيها الترتيب الخارجىّ أيضا ، بل المعتبر فيها ترتيب أجزاء ما قبلها ذهنا من الأضعف إلى الأقوى أو بالعكس.

وذهب جماعة منهم ابن الحاجب والزمخشرىّ [إلى] أنّها تفيد الترتيب والمهلة كثمّ ، قال ابن مالك : هى دعوى بلا دليل ، ففي الحديث : كلّ شيء بقضاء وقدر حتّى العجز والكيس (٢) ، ليس في القضاء ترتيب ، وإنّما الترتيب في ظهور المقتضيات ، وقال الشاعر [من الطويل] :

٩٧٠ ـ لقومى حتّى الأقدمون ...

 ... (٣)

فعطف الأقدمون ، وهم سابقون.

__________________

(١) لم يذكر قائله ، اللغة : قهر : غلب ، الكماة : جمع كمى ، الشجاع المقدام الجرئ ، الأصاغر : جمع أصغر.

(٢) روي كل شيء بقدر ... ، الموطّأ ، ٢ / ٤٠٠ ، رقم ١٧٠٩.

(٣) تمامه : تمالأوا على كلّ أمر يورث المجد والحمدا» ، وهو مجهول القائل. اللغة : تمالأوا : اجتمعوا وتعاونوا.

٨٦٨

قال : وإنّما هى لمطلق الجمع كالواو ، والحقّ أنّها تفيد الترتيب والمهلة ، لكن ذهنا لا خارجا كما بيّنّاه ، وعليه جماعة من المحقّقين ، وهو كالتوسّط بين القولين.

«وتختصّ» حتّى العاطفة «بالظاهر عند بعض» أى بعض النحويّين ، فلا تعطف المضمر ، فلا يقال : ضربت الناس حتى إيّاك ، وقاموا حتّى أنت ، ذكره ابن هشام الخضراوىّ ، وقال ابن هشام الأنصارىّ فى المغنى : ولم أقف عليه لغيره ، وقال فى شرح اللمحة : هو حقّ حتّى يشهد بصحّته الاستعمال والقياس ، وقد أسلفنا بعض أحكام حتّى هذه فى باب عطف النسق ، فليرجع إليه.

جماعة باسم ابن هشام

فائده : ابن هشام جماعة : الأوّل : عبد الملك بن هشام صاحب السيرة ، والثاني : محمد بن يحيى بن هشام الخضراوىّ ، والثالث : محمد بن أحمد بن هشام اللخميّ ، والرابع : الشيخ جمال الدين عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاريّ الحنبليّ صاحب التصانيف المشهورة ، منها مغنى اللبيب ، قاله فى المزهر.

ولابن هشام الخضراويّ كتاب فى النحو يسمّى بالمغني أيضا ، وكثيرا ما يقول الرضيّ في شرح الكافية : قال ابن هشام في المغني ، فيظنّ من لا علم له أنّه الأنصاريّ ، وليس كذلك ، وإنّما هي الخضراويّ ، إذ لا يصحّ نقل الرضيّ عن مغني ابن هشام الأنصاريّ ، لأنّ الرضيّ أقدم منه زمانا ، فإنّ الرضيّ توفّي سنة ستّ وثمانين وستمائة ، وابن هشام الأنصاريّ ولد سنة ثمان وسبعمائة ، وتوفّي سنة إحدى وستين وسبعمائة. وإنّما نبّهت على ذلك ، لأنّ بعض الناس وقع في هذا الوهم ، فأحببت التنبيه عليه هنا بمناسبة ذكر الخضراويّ والأنصاريّ.

«و» الثانى : أن تكون «حرف ابتداء» أى حرف تبتدئ بعده الجمل ، أى تستأنف ، ولا يكون لها تعلّق بما قبلها من حيث الإعراب ، وإن وجب تعلّقها به من حيث المعنى ، فتدخل على الجملة الاسميّة كقوله [من الطويل] :

٩٧١ ـ ما زالت القتلى تمجّ دماءها

بدجلة حتّى ماء دجلة أشكل (١)

وعلى الفعليّة الّتى فعلها مضارع ، نحو : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) [البقرة / ٢١٤] في قراءة نافع ، والّتى فعلها ماض ، نحو : (حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا) [الأعراف / ٩٥] ، (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ) [آل عمران / ١٥٢] ، وادّعى ابن مالك أنّها جارّه لإذ مضمرة في

__________________

(١) هو لجرير. اللغة : القتلى : جمع قتيل ، تمجّ : من مجّ الماء أو الشراب من فيه أى لفظه ، ورمى به ، الأشكل : الأبيض تخالفه حمرة.

٨٦٩

الأولى ، ولإذا في الثانية ، والأكثرون على خلافه ، وقد دخلت على الجملتين الاسميّة والفعليّة فى قوله [من الطويل] :

٩٧٢ ـ سريت بهم حتّى تكلّ مطيّهم

وحتّى الجياد ما يقدن بأرسان (١)

فيمن راوه برفع تكلّ ، والمعنى حتى كلّت ، لكنّه جاء على حكاية الحال الماضية كقولك : رأيت زيدا أمس ، وهو راكب. ويحتمل أن يكون للحال حقيقة بأن يكون أخبر عن هذا فى حال كلال المطيّة ، كما تقول : سرت إلى المدينة حتّى أدخلها ، وأنت في حال الدخول ، وأمّا من نصب تكلّ ، فهى حتّى الجارّة ، ولا بدّ على النصب من تقدير مضاف ، أى إلى زمان كلال مطيّهم.

الثالث : أن تكون جارّة بمعنى إلى ، وقد تقدّم ذكرها في جملة حروف الجرّ ، فتختصّ بالظاهر كما مرّ ، فلا تجرّ المضمر خلافا للمبرّد والكوفيّين ، وأمّا قوله [من الوافر] :

٩٧٣ ـ أتت حتّاك تقصد كلّ فجّ

ترجّى منك أنّها لا تخيب (٢)

فضرورة ، قال ابن هشام : واختلف فى علّة المنع ، فقيل : هى أنّ مجرورها لا يكون إلا بعضا لما قبلها أو كبعض منه ، فلم يمكن عود ضمير البعض على الكلّ ، قال : ويردّه أنّه قد يكون ضميرا حاضرا كما في البيت ، فلا يعود على ما تقدّم ، وأنّه قد يكون ضميرا غالبا عائدا على ما تقدّم غير الكلّ ، كقولك : زيد ضربت القوم حتّاه ، وقيل : العلّة خشية التباسها بالعاطفة ، قال : ويردّه أنّها لو دخلت عليه لقيل فى العاطفة : قاموا حتّى أنت ، وأكرمتهم حتّى إيّاك بالفصل ، لأنّ الضمير لا يتّصل إلا بعامله ، وفي الخافضة حتّاك بالوصل كما في البيت ، وحينئذ فلا التباس ، ونظيره أنّهم يقولون في توكيد الضمير المنصوب : رأيتك أنت ، وفي البدل : رأيتك إيّاك ، فلم يحصل لبس ، وقيل : لو دخلت عليه قلبت ألفها ياء كما في إلى ، وهي فرع عن إلى ، فلا تحتمل ذلك.

قال الدمامينىّ : ولم يردّ هذا الوجه كما ردّ القولين الأخرين ، كان هذا من قبيل المرتضى عنده. وقد يقال : غايته أن لا يرتكب التغيير بالقلب لأجل الفرعية ، ولا يلزم من ذلك امتناع دخولها على المضمر مع بقاء ألفها بدون قلب ، لكن قال ابن الحاجب : حكمه ترك استعمال المضمر بعد حتّى أنّها لو دخلت عليه فقيل : حتّاه لاثبتوا مع المضمر ألفا فيما غيّرت ألف أمثاله إلى الياء كقولك : إليه وعليه ولديه ، وذلك كلّ

__________________

(١) هو لامرئ القيس. اللغة : تكلّ : تضعف وتتعب ، المطى جمع المطيّة وهى من الدواب ما يمتطى ، الجياد : جمع جواد وهو الفرس الجيد ، يقدن : مجهول من قاد ـ الدابة : مشى أمامها آخذا بمقودها ، الأرسان : جمع رسن وهو ما كان من الأزّمة على الأنف.

(٢) لم يسمّ قائله. اللغة : الفج : الطريق الواسع البعيد. لا تخيب : لا تحرم ولا تمنع.

٨٧٠

ألف آخر حرف أو اسم غير متمكّن اتّصل به مضمر ، ولو قلبوها ياء لخالفوا القاعدة الأصليّة في أنّ المضمر لا يغيّر الكلمة من غير حاجة ، وهنا لا حاجة لاستغنائهم عن حتّى بإلى ، انتهى.

وحاصله أنّه لمّا كان كلّ من قلب الألف وإقرارها مع المضمر ملزوما لمخالفة قاعدة طرحوه ، فلم يدخلوه إلا على الظاهر لكن في تمثيله للاسم غير المتمكّن بلدى نظر ، لأنّه معرب ، وكلّ معرب متمكّن.

«وقد ينتصب» الفعل «المضارع بعدها» ، أى بعد الجارّة «بأن مضمرة» ، نحو : سرت حتّى أدخلها بتقدير حتّى أن أدخلها ، «لا بها» ، أى حتّى نفسها «خلافا للكوفيّين» ، لأنّها قد عملت في الأسماء الجرّ نحو قوله تعالى : (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر / ٥] ، فلو عملت في الأفعال (١) النصب ، لزم أن يكون لنا عامل واحد ، يعمل تارة في الأسماء ، وتارة في الأفعال ، ولا نظير له في العربيّة ، فإن قيل : إذا قلت : أيّ رجل تضرب أضرب ، عملت أيّ الجزم في الفعل والجرّ فى الاسم ، فإنّ خافض المضاف إليه هو المضاف على الصحيح.

أجيب بأنّ المراد ما يعمل في الأسماء لا يعمل في الأفعال من جهة عمله في الأسماء ، وعمل أيّ الجرّ في الأسماء ليس من جهة عملها الجزم في الأفعال ، فإنّ عملها الجرّ في الأسماء من جهة إضافتها ، وعملها الجزم في الأفعال من جهة تضمّنها معنى الشرط ، ثمّ ما ذكر من التعليل في منع كون حتّى هي الناصبة بنفسها لا يتوجه اعتراضا على جميع الكوفيّين ، بل على القائل منهم بأنّها ناصبة بنفسها كان جارّة بنفسها أيضا تشبيها بإلى ، وهو مذهب لبعضهم لا جميعهم.

قال في الهمع : وذهب الفرّاء منهم إلى أنها ناصبة بنفسها ، وليست الجارّة ، وعنده أنّ الجرّ بعدها أنّما هو لنيابتها مناب إلى ، وذهب الكسائيّ ، وهو إمامهم ، إلى أنّها ناصبة بنفسها أيضا ، وأنّها جارّة بإضمار إلى ، وهذا عكس مذهب البصريّين ، ثمّ إنّه جوّز إظهار إلى بعدها ، فقال : الجرّ بعد حتّى يكون بإلى مظهرة ومضمرة ، ومع قول الكوفيّين : إنّها ناصبة بنفسها ، وأجازوا إظهار أن بعدها ، قالوا : لو قلت : لأسيرنّ حتّى أن أصبح القادسيّة ، جاز ، وكان النصب بحتّى ، وأن توكيد كما أجازوا ذلك في لام الجحود. وعلى قول البصريّين لا يظهر ، وقد يظهر في المعطوف على منصوبها ، لأنّ الثواني تحتمل ما لا تحتمله الأوائل كقوله [من البسيط] :

__________________

(١) فى الاسماء «ح».

٨٧١

٩٧٤ ـ حتّى يكون عزيزا من نفوسهم

أو أن يبين جميعا وهو مختار (١)

وفيه دليل لقولهم : إنّ أن مضمرة بعدها.

تنبيه : قد يكون الموضوع صالحا لأقسام حتّى كقولك : أكلت السمكة حتّى رأسها ، فلك أن تنصب رأسها على أنّ حتّى عاطفة ، وأن ترفعه على أنّ حتّى ابتدائيّة ، وأن تجرّها على أنّها جارّة : وقد روى بالأوجه الثلاثه قوله [من البسيط] :

٩٧٥ ـ عممتهم بالندّى حتّى غواتهم

فكنت مالك ذي غيّ وذي رشد (٢)

وقوله [من الكامل] :

٩٧٦ ـ ...

 ... حتّى نعله ألقاها (٣)

إلا أنّ بينها فرقا من وجهين : أحدهما أنّ الرفع في البيت شاذّ ، لكون الخبر غير مذكور ، ففي الرفع تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه ، هذا قول البصريّين ، وأوجبوا إذا قلت : حتّى رأسها بالرفع أن تقول مأكول. والثاني أنّ النصب في البيت الثاني من وجهين : أحدهما : العطف ، والثاني : إضمار العامل على شريطة التفسير ، وفي البيت الأوّل من وجه واحد ، قاله فى المغني.

الفاء

ص : الفاء : ترد رابطة للجواب الممتنع جعله شرطا ، وحصر في ستّة مواضع ، ولربط شبه الجواب ، نحو : الّذي يأتيني فله درهم ، وعاطفة فتفيد التعقيب والترتيب بنوعيه ، فالحقيقيّ ، نحو : قام زيد فعمرو. والذكريّ : نحو : (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) وقد تفيد ترتّب لاحقها على سابقها ، فتسمّى : فاء السّببيّة ، نحو : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ،) وقد تختصّ حينئذ باسم النتيجة والتّفريع ، وقد تنبئ عن محذوف ، فتسمّى فصيحة عند بعض ، نحو : (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً.)

ش : الخامسة عشرة الفاء ، وهى حرف مهمل خلافا للكسائيّ في قوله : إنّها ناصبة في نحو : ما تأتينا فتحدّثنا ، والمبرّد فى قوله : إنّها خافضة فى نحو [من الطويل] :

٩٧٧ ـ فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع

 ... (٤)

__________________

(١) نسب البيت ليزيد بن خمار ، ولعدي بن يزيد. اللغة : يبين : يبعد وينفصل.

(٢) لم يسمّ قائله. اللغة : عمّ : شمل. والندى : الجود ، الغواة : جمع غاو ، وهو الضالّ.

(٣) تقدم برقم ٩٦٨.

(٤) نسب البيت ليزيد بن خمار ، ولعدي بن يزيد. اللغة : يبين : يبعد وينفصل.

٨٧٢

فيمن جرّ مثلا والمعطوف ، والصحيح أنّ النصب بأن ، وأنّ الجرّ بربّ مضمرين كما مرّ.

ترد الفاء على وجهين :

أحدهما : أن تكون «رابطة للجواب» أى جواب الشرط ، بالشرط متعلّق برابطة ، «الممتنع» صفة للجواب ، «جعله شرطا» ، وأمّا غير الممتنع جعله شرطا فلا حاجة فيه إلى رابطة بينه وبين الشرط ، لأنّ بينهما مناسبة لفظيّة من حيث صلاحيّة وقوعه موقعه. وحصر ذلك أى امتناع جعل الجواب شرطا في ستّة مواضع ، مرّ ذكره في حديقة الأفعال ، فليرجع إليه.

فإن قلت : هذا الضابط الّذى ذكر المصنّف ينتقض بنحو : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة / ٩٥] ، لدخول الفاء على الجواب مع صحّة جعله شرطا وبالمضارع المقرون بلا ، فقد جعلوه ممّا يجوز الإتيان بالفاء وتركه كقوله تعالى : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) [فاطر / ١٤] ، قوله تعالى : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) [الجن / ١٣] ، قلت : قد أجابوا عن الأوّل بأنّ الفاء إنّما دخلت لتقدير الجملة الفعليّة خبرا لمبتدإ محذوف ، وحينئذ فالجواب جملة اسميّة ، وهو أحد المواضع الّتي يمتنع جعل الجواب فيها شرطا ، والجواب عن الثاني بأنّ لا تستعمل تارة لنفي المستقبل ، وتارة لمجرّد النفي ، وعلى التقدير الأوّل لا يصحّ مجامعتها لحرف الشرط ، فتجيء الفاء (١) ، وعلى الثاني يمكن مجامعتها لحرف الشرط ، فتمتنع الفاء ، كذا قيل. وقد تقدّم أنّ ابن مالك يقدّر الجملة خبرا لمبتدإ محذوف في كلّ ما لم يمتنع جعله شرطا واقترنه بالفاء ، ولم يفرق بين المضارع المقرون بلا وغيره ، قال : ومن ذلك قوله تعالى : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً ،) ومثله قراءة حمزة : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) [البقرة / ٢٨٢].

«و» كما ترد الفاء لربط جواب الشرط بالشرط ، ترد «لربط شبه الجواب» ، وهو ما كان مضمونه لازما لمذكور يشبه الشرط ، وهو ما كان مضمونه ملزوما لمذكور ، وذلك في المبتدإ إذا كان موصولا بفعل ، نحو : الّذي يأتينى فله درهم ، أو بظرف ، نحو : الّذى في الدار فله درهم ، أو موصوفا بأحدهما ، نحو : رجل يسعى في نجاته فلن يخيب ، ورجل عنده حزم فسعيد ، أو بالموصول بأحدهما ، نحو : الرجل الّذي يأتيني أو في الدار فله

__________________

(٢) في «ط» من على التقدير الأوّل حتّى هنا سقط.

٨٧٣

درهم ، فإنّ الموصول والموصوف حينئذ كاسم الشرط والصلة والصفة كالشرط ، فالخبر كالجزاء الّذي تدخله الفاء ، وظاهر كلام جماعة أنّ دخول الفاء حينئذ واجب ، وصرّح ابن مالك في التسهيل بأنّه جائز ، ونصّ عليه الرضيّ ، فقال : كان حقّ الخبر أن يلزمه الفاء لكونه كالجزاء ، لكن لمّا لم يكن جزاء الشرط حقيقة جاز تجريده منها مع قصد السببيّة ، نحو : الّذي يأتيني له درهم ، انتهى.

فإن قلت : ما الّذى يشعر بالسببيّة المقصودة عند التجريد من الفاء؟ قلت : ترتّب الحكم على الوصف ، قاله الدمامينيّ في التحفة.

«و» الثاني : أن تكون «عاطفة» وقد تقدّم عدّها من حروف العطف «فتفيد التعقيب» ، وهو وقوع المعطوف عقب المعطوف (١) عليه من غير مهلة وتراخ ، لكنّه في كلّ شيء بحسبه ، تقول : تزوّج فلان فولد له ، إذا لم يكن بينهما إلا مدّة الحمل مع لحظة الوطئ ومقدمته ، ودخلت البصرة فالكوفة ، إذا لم تقم فى البصرة ولا بين البلدين.

واعترض بقوله تعالى : (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى * فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) [الأعلى / ٥ و ٤] ، فإنّ إخراج المرعى لا يعقبه جعله غثاء أحوى ، أي يابسا أسود ، وأجيب بوجهين : أحدهما : أنّ جملة (فَجَعَلَهُ غُثاءً) معطوفة على جملة محذوفة ، والتقدير فمضت مدّة ، فجعله غثاء أحوى. الثاني : أنّ الفاء في ذلك نائب عن ثمّ كما جاء عكسه كقوله [من المتقارب] :

٩٧٨ ـ ...

جرى فى الأنابيب ثمّ اضطرب (٢)

أى فاضطرب ، قال بعضهم : والجواب الأوّل لا يدفع الاعتراض ، فإنّ مضىّ المدّة لا تعقب ما قبله.

«و» تفيد «الترتيب بنوعيه» الحقيقيّ والذكريّ. «فالحقيقىّ» هو وقوع المعطوف بعد المعطوف عليه حقيقة في الوجود ، نحو : قام زيد فعمرو ، و (خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ) [الإنفطار / ٧] ، «والذكريّ» هو وقوع المعطوف بعد المعطوف عليه بحسب الذكر لفظا ، لا أنّ معنى الثاني وقع بعد زمان وقوع الأوّل ، وأكثر ما يكون ذلك في عطف مفصّل على مجمل هو في المعنى ، لأنّ موضع ذكر التفضيل بعد ذكر الإجمال «نحو» قوله تعالى : (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) [هود / ٤٥] ، وقوله تعالى : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ

__________________

(١) في «ح» عقب المعطوف محذوف.

(٢) صدره «كهزّ الردينىّ تحت العجاج» ، وهو لأبي دؤاد الإيادى ، أحد وصافي الخيل. اللغة : الردينى : نسبة إلى الردينة اسم امراة تصلح القناة. العجاج : الغبار ، الأنابيب : جمع الأنبوية : ما بين العقدتين في القصبة.

٨٧٤

جَهْرَةً) [النساء / ١٥٣] ، ونحو : توضّأ فغسل وجهه ويديه ، ومسح رأسه ورجليه ، وتقول : أجبته ، فقلت : لبيك.

وكان المصنّف أشار باختيار الأية الأولى للتمثيل دون غيرها إلى عدم الاحتياج إلى ما ارتكبه الزمخشرىّ في الكشاف ، فإنّه قال : أريد بالنداء إرادة النداء ، ولو أريد النداء نفسه لجاء كما جاء قوله تعالى : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا* قالَ رَبِ) [مريم / ٤ و ٣] بغير فاء ، فأشار المصنّف إلى أنّه لا داعي لما ادّعاه من جعل نادى بمعنى أراد النداء ، فإنّ هذا من قبيل عطف المفصّل على المجمل ، وقال صاحب الانتصاف (١) : ويجوز وجه آخر لطيف المأخذ رقيق الحاشية ، وهو أن يكون النداء على بابه ، لكنّ المعطوف عليه مجموع النداء وما بعده ، فليس من عطف الشيء على نفسه ، بل من عطف المجموع على أحد أجزائه ، وهما متغايران ، انتهى.

وقد تكون للترتيب الذكرى في غير ذلك كقوله تعالى : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [غافر / ٧٦] ، وقوله تعالى : (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) [الزمر / ٧٤] ، فإنّ ذكر الشيء أو مدحه يصحّ بعد جري ذكره ، وأنكر الفرّاء إفادتها الترتيب مطلقا. قال غير واحد : وهذا مع قوله : إنّ الواو تفيد الترتيب غريب ، لكن قال العينيّ : وما نسب إلى الفرّاء من أنّ الواو تدلّ على الترتيب غير صحيح ، انتهى.

وسبقه إلى ذلك السيرافيّ ، وقال : ولم أر ذلك فى كتاب الفرّاء ، واحتجّ الفرّاء بقوله تعالى : (أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً) [الأعراف / ٤] ، إذ مجيئ البأس سابق على الإهلاك ، وأجيب بأنّ المعنى أردنا إهلاكها أو هو على القلب ، والأصل جاءها بأسنا فأهلكناها ، وجعلها الرضيّ من قبيل عطف المفصّل على المجمل ، فالفاء للترتيب الذكرى ، قال : لأنّ تبييت البأس تفصيل للإهلاك المجمل.

قال الجرميّ : لا تفيد الفاء الترتيب في البقاع ولا في الامطار بدليل قوله [من الطويل] :

٩٧٩ ـ ...

بسقط اللّوى بين الدخول فحومل (٢)

وقولهم : مطرنا مكان كذا فمكان كذا ، وإن كان وقوع المطر فيهما فى وقت واحد ، وقيل : الفاء هنا بمعنى إلى ، وذهب بعضهم إلى أنّ الفاء تقع تارة بمعنى ثمّ ، و

__________________

(١) الانتصاف فى مسائل الخلاف لأبى سعيد محمد بن يحيى النيسابوريّ المتوفّى سنة ٥٤٨ ه‍. كشف الظنون ، ١ / ١٧٤.

(٢) تقدّم برقم ٥٤٥.

٨٧٥

منه قوله تعالى : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) [المومنون / ١٤] ، فالفاءات في ذلك بمعنى ثمّ لتراخي معطوفها ، وتارة بمعنى الواو كقوله [من الطويل] :

٩٨٠ ـ ...

 ... بين الدخول فحومل (١)

وزعم الأصمعىّ أنّ الصواب روايته بالواو ، لأنّه لا يجوز جلست بين زيد فعمرو ، وأجيب بأنّ التقدير بين مواضع الدخول فمواضع حومل ، كما يجوز جلست بين العلماء فالزهّاد ، وقال بعض البغداديّين : الأصل ما بين ، فحذف ما دون بين ، كما عكس ذلك من قال [من البسيط] :

٩٨١ ـ يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم

 ... (٢)

أصله ما بين قرن ، فحذف بينا وأقام قرنا مقامها ، قال : والفاء نائبة عن إلى ، وصحّت إضافة ما بين إلى الدخول لاشتماله على مواضع ، أو لأنّ التقدير بين مواضع الدخول. قال ابن هشام : وكون الفاء للغاية بمترلة إلى غريب ، وقد يستأنس له عندي بمجيء عكسه في نحو قوله [من الطويل] :

٩٨٢ ـ وأنت الّتي حبّبت شغبا إلى بدا

إلىّ وأوطاني بلاد سواهما (٣)

إذ المعنى شغبا فبدا ، وهما موضعان ، ويدلّ على إرادة الترتيب قوله بعده [من الطويل] :

٩٨٣ ـ حللت بهذا حلّة ثمّ حلّة

بهذا فطاب الواديان كلاهما (٤)

وقال : هذا معنى غريب ، لأنّي لم أر من ذكره.

«وقد تفيد» أي الفاء العاطفة «ترتيب لاحقها» وهو المعطوف «على سابقها» وهو المعطوف عليه أي تسبّبه عنه ، فتسمّي فاء السببيّة ، ويغلب ذلك في العاطفة جملة أو صفة ، فالأوّل نحو قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [الحج / ٦٣] ، فإنّ إصباح الأرض مخضرّة مترتّب على إنزال الماء من السماء ، والثانى نحو قوله تعالى : (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ* فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) [الواقعة / ٥٣ و ٥٢] ، فإنّ ملأ البطون مترتّب على الأكل ، وقيل : الفاء في الآية الأولى بمعنى ثمّ

__________________

(١) تقدم برقم ٥٤٥ و ٩٧٩.

(٢) تمامه «ولا حبال محبّ واصل تصل» ، ولم يسمّ قائله. اللغه : القرن : الخصلة من الشعر ، الحبال : جمع حبل ، والمراد العلاقة.

(٣) هذا البيت ينسب لكثير عزّة ولجميل بثنية. اللغة : الشغب : اسم منهل بين مصر والشام ، بدا : موضع بين طريق مكة والشام.

(٤) اللغة : حللت : مخاطبة من الحلول بمعنى الترول ، الواديان : تثنية الوادي بمعنى كلّ منفرج بين الجبال والتلال والآكام.

٨٧٦

لتراخي معطوفها ، والحقّ أنّها للسببيّة. قال ابن الحاجب : وفاء السببيّة لا تستلزم التعقيب بدليل صحّة قولك : إن يسلم زيد فهو يدخل الجنّة ، ومعلوم ما بينهما من المهلة ، والتحقيق أنّها مستلزمة للتعقيب (١).

وقد مرّ أنّ التعقيب في كلّ شيء بحسبه ، وهو بهذا المعنى متحقّق في الأية. نعم قد تأتي الفاء لمجرّد السببيّة والربط لا غير ، نحو : إن جئتني فأنا أكرمك ، وحينئذ لا يلزمها التعقيب. وقول بعضهم وعلى هذا يحمل قول ابن الحاجب : إنّ الفاء السببيّة لا تستلزم التعقيب منظور فيه ، فإنّه إنّما قال ذلك جوابا عن الأية حيث نقض بها قولهم : إنّ الفاء العاطفة للتعقيب من غير مهلة ، فأجاب بأنّ الفاء فيها للسببيّة ، وهى لا تستلزم التعقيب ، فكيف يصحّ حمل إطلاقه على ذلك ، فتدبّر.

وجعل صاحب البحر (٢) جملة : (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) معطوفة على جملة محذوفة قال : وإذا كان الاخضرار متأخّرا ، فثمّ جمل محذوفة ، أى فتهتزّ وتربو ، يبيّن ذلك قوله تعالى : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) [الحج / ٥] ، وفي حاشية الشمنيّ على المغني : الظاهر أن تصحّ على حقيقة ، فيكون الاخضرار في وقت الصباح من ليلة المطر ، ويحتمل أن يكون بمعنى تصير ، ولا يلزم ذلك ، والأوّل قول عكرمة (٣) ، وهو موجود في مكّة وتهامة ، وقال ابن عطية : وقد شاهدت في السوس الأقصى ، نزل المطر ليلا بعد قحط ، فأصبحت تلك الأرض الرملة الّتي نسفتها الرياح قد اخضرت بنبات ضيعف ، انتهى.

«وقد تختصّ» الفاء المذكورة «حينئذ» أى حين إذ أفادت ترتّب لاحقها على سابقها «باسم النتيجة والتفريع» ، فتسمّي فاء النتيجة وفاء التفريع ، ووجه التسمية ظاهر ، ولا يختصّ ذلك بالعاطفة ، بل فاء السببيّة مطلقا تسمّى بذلك ، إذ لا تلازم بين السببيّة والعطف.

وقد تكون سببيّة ، وهى غير عاطفة كما في الجزاء ، وقد تأتي العاطفة جملة أو صفة لمجرّد الترتيب نحو : (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ* فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) [الذاريات / ٢٧ / ٢٦] ، (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) [ق / ٢٢] ، ونحو (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً* فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) [الصافات / ٣ و ٢].

__________________

(١) مستلزمة للتحقيق «ح».

(٢) لعلّه الشيخ أبو عبد الله محمد بن يوسف المعروف بابن المنيرة المتوفّى سنة ٥٠٣ ، صاحب «بحر النحو» نقص فيه مسائل كثيرة على أصول النحاة. كشف الظنون ١ / ٢٢٧.

(٣) أبو عبد الله عكرمه بن عبد الله ، اجتهد ابن عباس في تعليمه القرآن والسنن ، وهو أحد فقهاء مكّة وتابعيها ، وتوفّى سنة ١٠٧ ه‍. وفيات الأعيان ٣ / ٢٦٥.

٨٧٧

قال الزمخشرىّ : للفاء مع الصفات ثلاثة أحوال :

أحدها : أن تدلّ على ترتيب معانيها فى الوجود كقوله [من السريع] :

٩٨٤ ـ يا لهف زيّابة للحارث

الصّابح فالغانم فالآئب (١)

أي الّذي صبح ، فعنم ، فآب.

والثاني : أن تدلّ على ترتيبها في التفاوت من بعض الوجوه ، نحو قولك : خذ الأكمل فالأفضل ، واعمل الأحسن فالأجمل.

الثالث : أن تدلّ على ترتيب موصوفاتها في ذلك ، نحو : رحم الله المحلّقين فالمقصّرين.

«وقد تنبئ» أي الفاء السببية «عن محذوف» ، وهو السبب لما بعدها «فتسمّى فصيحة عند بعض» ، أى بعض أهل العربيّة لإفصاحها عن ذلك المحذوف ، بحيث لو ذكر لم تكن بذلك الحسن مع حسن موقع ذوقيّ ، لا يمكن التعبير عنه نحو قوله تعالى : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) [البقرة / ٦٠] ، أى فضرب فانفجرت ، هكذا قدّره المصنّف في عين الحياة (٢) ، واقتصر عليه تبعا للسكاكيّ في المفتاح ، ثمّ قال : وحذف المعطوف عليه للدلالة على سرعة تحقّق الانفجار ، كأنّه حصل عقيب هذا الأمر ، وهذا التقدير هو الّذي يقتضيه سياق كلامه هنا أيضا ، وقدّره صاحب الكشّاف بتقديرين ، فقال : أى فضرب ، فانفجرت ، أو فإن ضرب فقد انفجرت. قال صاحب الكشف (٣) : ويرجّح الأوّل أنّه أقلّ تقديرا ، وأنّ الثاني يحتاج إلى إضمار قد ، وهو ضعيف ، انتهى.

وهل تسميتها فصيحة على التقدير الأوّل فحسب ، أو على الثاني فقط ، أو عليها معا ، ذهب إلى الأوّل جماعة ، قالوا : لأنّها على تقدير الشرط تكون جزائية لا فصيحة ، وعرّفوها بأنّها الفاء الّتي دلّت على محذوف غير شرط هو سبب لما بعد الفاء ، وهو ظاهر كلام صاحب المفتاح والمصنّف في عين الحياة ، وكلامه هنا كالصريح في ذلك ، إذ الضمير في قوله : وقد تنبئ عن محذوف عائد على الفاء السببيّة العاطفة لا مطلق السببيّة ، فتدبّر.

وكلام الزمخشرىّ في الكشّاف ظاهر في الثاني ، حيث قال : الفاء في فانفجرت متعلّق بمحذوف ، أي فضرب فانفجرت ، أو فإن ضرب فقد انفجرت ، كما قلنا في :

__________________

(١) هو لابن زيابة. اللغة : الصابح : المغير صباحا ، الغانم : آخذ الغنم والفئ ، آئب : راجع.

(٢) عين الحياة في التفسير من مؤلفات الشيخ البهائي.

(٣) لعلّه كشف المشكل في النحو لعلي بن سليمان اليمنىّ المتوفّى سنة ٥٩٩ ه‍ ، أو كشف النقاب عن غيمة الإعراب لإبراهيم بن أحمد بن الملا الحلبي المتوفّى بعد سنة ١٠٣٠ ه‍ ، كشف الظنون ٢ / ١٤٩٥ و ١٢١٠.

٨٧٨

(فَتابَ عَلَيْكُمْ) [البقرة / ٥٤] ، وهى على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ ، قال الطيبىّ وغيره : هى على هذا فصيحة ، ظاهره أنّ الفاء على التقدير الثاني فصيحة ، ثمّ قال : ولا يبعد أن يقال : إنّ المراد من قوله على هذا أي على أنّها محتملة لهذين المعنيين ، انتهى.

والأكثرون على الثالث : وهو أنّ تسميتها فصيحة على التقديرين ، وهو الّذي حققّه العلّامة التفتازانيّ في شرح المفتاح ، قال : وجعلت فصيحة (١) على الوجهين لإفصاحها عن المحذوف أو وصفا لها بوصف صاحبها كالكتاب الحكيم ، أو لكونها فصيحة لما فيه من تقليل الحذف. وتوهّم بعضهم أنّ تسميتها فصيحة أنّما هو على التقدير الأوّل ، إذ على تقدير الشرط تكون جزائية لا فصيحة ، وذهب عليه أنّ كونها فصيحة بناء على إفادة المعنى البديع ، والوقوع بذلك موقع الحسن لا ينافى كونها جزائية في أصلها ، كما لا ينافي كونها عاطفة ، وأنّ المشهور فيما بينهم في الفاء الفصيحة ما يقع هذا الموقع من الجزاء ، حتّى جعلوا العلم فى ذلك قول الشاعر [من البسيط] :

٩٨٥ ـ قالوا خراسان أقضى ما يراد بنا

ثمّ القفول فقد جئنا خراسانا (٢)

أى إن كان أقصى المراد بنا خراسان فقد جئناها ، فلو ادّعى أنّ الفصيحة إنّما هي هذه لم يبعد ، انتهى.

ولا يلزم تقدير إن مع الشرط المحذوف ، بل يجوز تقدير إذا الشرطية أيضا ، بل هو الغائب ، تقول : زيد فاضل فأكرمه ، أي إذا كان كذا فأكرمه ، وفي التتريل : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* قالَ فَاخْرُجْ) [ص / ٧٧ و ٧٦] ، أي إذا كان عندك هذا الكبر (فَاخْرُجْ ، قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) [ص / ٧٩] ، أي إذا كنت لعنتني فانظرني ، و: (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) [ص / ٨٠] ، أى إذا اخترت الدنيا على الآخرة : (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ، قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ) [ص / ٨٢] ، أى إذا أعطيتني هذا المراد فبعزّتك لأغوينهم ، ومثله كثير في القرآن المجيد وغيره.

تنبيه : قد تكون فاء السببيّة بمعنى اللام السببيّة كقوله تعالى : (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) [ص / ٧٧] ، وتقول : أكرم زيدا فإنّه فاضل ، وهذا تدخل على ما هو الشرط في المعنى ، كما أنّ الفصيحة دخلت على ما هو الجزاء في المعنى في نحو : زيد فاضل فأكرمه ، إذ المعنى كما مرّ : إذا كان كذا فأكرمه ، وتعكسه هنا فتقول : أكرم زيدا فإنّه فاضل.

__________________

(١) من أن تسميتها حتّى هنا فى «ح» سقط.

(٢) هو للعباس بن الأحنف. اللغة : القفول : الرجوع.

٨٧٩

تتمة : ذهب بعضهم إلى أنّ الفاء ترد زائدة ، دخولها فى الكلام كخروجه كقوله [من الطويل] :

٩٨٦ ـ يموت أناس أو يشيب فتاهم

ويحدث ناس والصغير فيكبر (١)

وقوله [من الطويل] :

٩٨٧ ـ أراني إذا ما بتّ بتّ على هوى

فثمّ إذا أصبحت أصبحت غاديا (٢)

وهذا لم يثبته سيبويه ، وأجاز الأخفش زيادتها في الخبر مطلقا ، وحكى : أخوك فوجد ، وقيّد الفرّاء والأعلم الجواز بكون الخبر أمرا كقوله [من الطويل] :

٩٨٨ ـ وقائلة خولان فانكح فتاتهم

 ... (٣)

أو نهيا ، نحو : زيد فلا تضربه ، والمانعون يؤوّلون ذلك بتقدير هذه خولان في البيت ، وتقدير أمّا في المثال ، وما لا يحتمل التأويل فضرورة.

قيل : وترد الفاء للاستئناف كقوله [من الطويل] :

٩٨٩ ـ ألم تسأل الرّبع القواء فينطق

 ... (٤)

أى فهو ينطق ، لأنّها لو كانت عاطفة جزم ما بعدها ، أو سببيّة نصب ، ومنه : (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران / ٤٧] بالرفع ، أى فهو يكون ، وقوله [من الرجز] :

٩٩٠ ـ ...

يريد أن يعربه فيعجمه (٥)

أى فهو يعجمه ، ولا يجوز نصبه بالعطف ، لأنّه لا يريد أن يعجمه ، وقد مرّ عن ابن هشام أنّ التحقيق أنّ الفاء في ذلك كلّه للعطف ، وأنّ المعتمد بالعطف الجملة لا الفعل ، وإنّما يقدّر النحويّون كلمة هو ليبيّنوا أنّ الفعل ليس المعتمد بالعطف.

__________________

(١) لم يسمّ قائله.

(٢) هو لزهير.

(٣) تمامه «وأكرومة الحيين خلو كما هيا» ، لم يسمّ قائله. اللغة : خولان : اسم قبيلة ، الأكرومه : الّتي تثبت لها الكرم ، الخلو : الخالية عن الزوج.

(٤) تمامه «وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق» ، هو لجميل بثنية. اللغة : القواء : الخرب ، السملق : الأرض غير المنبتة.

(٥) صدره «زلّت به إلى الحضيض قدمه» ، وهو للحطيئة. اللغة : الحضيض : ما سفل من الأرض.

٨٨٠