الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

نكره ، وإذا كانت كناية عن النكرة صارت في حكم النكرة ، كما صارت الهاء في قوله : ربّه رجلا نكرة في المعنى ، لكونها كناية عن نكرة ، قاله بعض النّحويّين ، وضعفه ظاهر.

الثامن : أنّه منصوب على الحال من الضمير في الخبر المحذوف ، والأصل فإذا هو ثابت مثلها ، ثمّ حذف المضاف فانفصل الضمير ، وانتصب في اللفظ على الحال على سبيل النيابة ، كما قالوا : قضية ولا أبا حسن لها ، على إضمار مثل ، قاله ابن الحاجب في أماليه. قال ابن هشام : وهو وجه غريب ، أعني انتصاب الضمير على الحال ، وهو مبنيّ على إجازة الخليل : له صوت صوت الحمار بالرفع صفة لصوت بتقدير مثل ، وأمّا سيبويه فقال : هذا قبيح ضعيف ، وممّن قال بالجواز ابن مالك ، قال : إذا كان المضاف إلى معرفة كلمة مثل ، جاز أن تخلفها المعرفة في التنكير ، فتقول : مررت برجل زهير بالخفض صفة للنكرة ، وهذا زيد زهيرا بالنصب على الحال.

[التنبيه] الثاني : يلزم إذا الفجائية الفاء الداخلة عليها ، واختلف فيها ، فقال المازنيّ وجماعة : هي زائدة للتأكيد ، لأنّ إذا الفجائية فيها معنى الاتباع ، ولذا وقعت في جواب الشرط موقع الفاء. وقال مبرمان : هي عاطفة لجملة إذا ومدخولها على الجملة قبلها ، واختاره الشلوبين ، وأيّده أبو حيّان بوقوع ثمّ موقعها في قوله تعالى : (إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) [الروم / ٢٠] وقال الزجاج : هي للسببيّة المحضة كفاء الجواب.

أم

ص : أم ترد للعطف متّصلة ومنقطعة ، فالمتّصلة المرتبط ما بعدها بما قبلها ، وتقع بعد همزة التسوية والاستفهام ، والمنقطعة كـ «بل» حرف تعريف ، وهي لغة حمير.

ش : الثامنة «أم ترد» على وجهين :

أحدهما : أن تكون «للعطف» منقسمة إلى قسمين «متّصلة ومنقطعة».

«فالمتّصله» هي «المرتبط ما بعدها بما قبلها» ، بحيث لا يستغنى بأحدهما عن الآخر ، لأنّهما مفردان تحقيقا أو تقديرا ، ونسبة الحكم عند المتكلّم إليها معا ، أو إلى أحدهما من غير تعيين ، ولذلك سمّيت متّصلة.

قال الدمامينيّ : وعلى هذا فالاتّصال بين السابق واللاحق ، فاطلق عليها أنّها متّصلة باعتبار متعاطفيها المتّصلين ، فتسميتها بذلك أنّما هو لأمر خارج عنها ، وبعضهم يقول : سمّيت متّصلة ، لأنّها اتّصلت بالهمزة ، حتّى صارتا في إفادة الاستفهام بمثابة كلمة واحدة ، ألا ترى أنّها جميعا بمعنى أي ، فيكون باعتبار هذا المعنى في تسميتها أولى من

٨٤١

الوجه الأوّل ، لأنّ الاتّصال على هذا الوجه راجع إليها نفسها لا إلى أمر خارج عنها ، لكن هذا أنّما يتأتّي في المسبوقة بهمزة الاستفهام لا بهمزة التسوية ، فيرجّح الوجه الأوّل لشموله للنوعين.

وتسمّى أيضا معادلة ، لمهادلتها الهمزة في إفادة التسوية فيما إذا وقعت بعد همزة التسوية ، والاستفهام فيما إذا وقعت بعد همزة الاستفهام. «وتقع بعد همزة التسوية» وقد مرّ معناها نحو : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [المنافقون / ٦] ، «والاستفهام» نحو : أزيد عندك أم عمرو؟ وأ في الدار زيد ، أم في السوق؟ والمراد وقوعها بعدهما على سبيل التناوب ، لا معا كما هو الظاهر. والفرق بين الواقعة بعد همزة التسوية (١) والواقعة بعد همزة الاستفهام من أربعة وجوه :

الأوّل والثاني : أنّ الواقعة بعد همزة التسوية لا تستحقّ جوابا ، لأنّ المعنى معها ليس على الاستفهام ، وأنّ الكلام معها قابل للتصديق والتكذيب ، لأنّه خبر ، وليست تلك كذلك ، لأنّ الاستفهام معها على حقيقته ، ويطلب له وبها التعيين لأحد الشيئين بحكم معلوم الثبوت ، فإذا قيل : أزيد عندك أم عمرو؟ قيل في الجواب : زيد ، أو قيل : عمرو ، ولا يقال : لا ولا نعم ، لعدم التعيين ولا تصديق ولا تكذيب مع وجود الاستفهام ، لأنّه إنشاء.

الثالث والرابع : أنّ الواقعة بعد همزة التسوية لا تقع إلا بين جملتين ، ولا تكون الجملتان معها إلا في تأويل المفردين ، وتكونان فعليتين كما مرّ ، واسميّتين كقوله [من الطويل] :

٩٤٢ ـ ولست أبالي بعد فقدي مالكا

أموتي ناء أم هو الآن واقع (٢)

ومختلفين ، نحو : (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) [الأعراف / ١٩٣] ، والأخري تقع بين المفردين ، وذلك هو الغائب فيها كما مرّ ، وبين جملتين في معنى المفردين ، وتكونان فعليتين كقوله [من البسيط] :

٩٤٣ ـ فقمت للطّيف مرتاعا فأرّقني

فقلت أهي سرت أم عادني حلم (٣)

وذلك على الأرجح في هي من أنّها فاعل محذوف تفسّره سرت ، والتقدير : أهي سارية أم عائد حلمها ، أي أيّ هذين هي ، واسميّتين كقوله [من الطويل] :

__________________

(١) بعد همزة التسوية سقط في «ح».

(٢) هو لمتمم بن نويرة. اللغة : أبالي : المتكلّم من المبالات ، وهو الإكثرات بالشيء ، ناء : اسم فاعل من نأى بمعنى بعد.

(٣) هو لزياد بن منقذ. اللغة : الطيف : الخيال الطائف في المنام ، وأراد به هنا خيال المحبوبة المرئي في النوم ، مرتاعا حال وهو اسم فاعل من الارتياع من الروع بمعنى الخوف ، سرت : سارت ليلا ، الحلم : رؤيا النوم.

٨٤٢

٩٤٤ ـ لعمرك ما أدري وإن كنت داريا

شعيث ابن سهم أم شعيث ابن منقر (١)

الأصل أشعيث بالهمزة في أوّله ، والتنوين في آخره ، فحذفهما للضرورة ، والمعنى ما أدري أي النسبتين هو الصحيح.

ومختلفين ، نحو : (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) [الواقعة / ٥٩] ، وذلك على الأرجح في أنتم من كونه فاعلا ، كأنّه قيل : أيّنا.

تنبيهات : الأوّل : صرحّ ابن الحاجب وجماعة منهم ابن هشام بأنّه يجب في المتّصلة أن يليها أحد الأمرين المطلوب تعيين أحدهما ، ويلي الهمزة المعادل الأخر ، ليفهم السامع من أوّل الأمر الشيء المطلوب تعيينه ، تقول : إذا استفهمت عن تعيين المبتدإ : أزيد قائم أم عمرو؟ وإن شيءت : أزيد أم عمرو قائم؟ والأوّل هو الأكثر ، وتقول إذا استفهمت عن تعيين الخبر : أقائم زيد أم قاعد؟ وإن شئت أقائم أم قاعد زيد.

وفي كتاب سيبويه ما نصّه هذا باب أم ، إذا كان الكلام بها بمترلة أيّهما أو أيّهم ، وذلك قولك : أزيد عندك أم عمرو؟ وأزيدا لقيت أم بشرا؟ ثمّ قال : واعلم أنّك إذا أردت هذا المعنى ، فتقديم الاسم أحسن ، لأنّك لا تسأل عن اللقاء ، وإنّما تسأل عن أحد الاسمين في هذه الحال ، فبدأت بالاسم ، لأنّك تقصد قصد أن تبيّن أي الاسمين ، وجعلت الاسم الأخير عديلا للأوّل ، فصار الّذي لا تسأل عنه بينهما ، ولو قلت : ألقيت زيدا أم عمرا؟ لكان جائزا حسنا ، هذا كلامه ، وهو نصّ في أنّ التقديم في مثله أولويّ لا واجب ، كما قالوه.

ونصّ على ذلك ابن عصفور في المقرّب أيضا ، فقال : والأحسن توسّط الّذي لا يسأل عنه ، ويجوز تقديمه ، ويجوز تأخيره ، وذكر ذلك الرضيّ أيضا ، فقال : إذا ولي المتّصلة مفرد ، فالأولى أن يلي الهمزة قبلها مثل ما وليها ، سواء ليكون أم مع الهمزة بتأويل أي ، والمفردان بعدهما بتأويل المضاف إليه أي فيجوز نحو : أزيد عندك أم عمرو ، بمعنى أيّهما عندك ، وأ في السوق زيد أم في الدار؟ أي في أيّ الموضعين هو ، وتجوز المخالفة بين ما ولياهما ، نحو : أعندك زيد أم عمرو؟ وأ زيد عندك أم في الدار؟ وأ لقيت زيدا أم عمرا؟ جوازا حسنا كما قال سيبويه ، لكن المعادلة أحسن.

الثاني : قال الرضيّ : يجوز أن تأتي بعد سواء ونحوها بأو مجرّدا عن الهمزة ، نحو : سواء على قمت أو قعدت ، ومنع ذلك الفارسيّ ، قال : لأنّه يكون المعنى سواء على أحدهما ، ولا يجوز ذلك يعني أن أو لأحد الشيئين أو الأشياء ، والتسوية تقتضي شيئين فصاعدا ، فما

__________________

(١) هو للأسود بن يغير.

٨٤٣

تقضيه أو مناف لما تقتضيه التسوية ، وتبعه على ذلك ابن هشام في المغني ، فقال : لا يجوز العطف بعد همزه التسوية قياسا ، وقد أولع الفقهاء وغيرهم بأن يقولوا : سواء كان كذا أو كذا ، والصواب الإتيان بأم ، قال : وفي الصحاح تقول : سواء على قمت أو قعدت ، وهو سهو ، وفي الكامل للهذليّ (١) أنّ ابن محيصن (٢) قرأ من طريق الزعفرانيّ (٣) : أولم تنذرهم [البقرة / ٦] ، وهو من الشذوذ بمكان ، انتهى.

قال الرضيّ ، ردّا على الفارسيّ : ويردّ عليه أنّ معنى أم أحد الشيئين أو الأشياء ، فيكون معنى سواء علىّ قمت أم قعدت ، سواء علىّ أيّهما فعلت ، أي الّذي فعلت لتجرّد أي عن معنى الاستفهام ، هذا أيضا ظاهر الفساد ، وإنّما لزمه ذلك في أو وفي أم ، لأنّه جعل سواء خبرا مقدّما ، ما بعده مبتدأ ، والوجه أن يكون سواء خبر مبتدإ محذوف ، تقديره : الأمران سواء علىّ ، ثمّ بيّن الأمرين بقوله : أقمت أم قعدت ، والمعنى إن قمت وإن قعدت ، والجملة الاسميّة المتقدّمة دالّة على جزاء الشرط ، أي إن قمت أو قعدت فالأمران سواء عليّ ، انتهى.

وفي قوله : إنّ معنى أم أحد الشيئين أو الأشياء مسامحة ، إذ هي موضوعة لعطف أحد الشيئين أو الأشياء مرادا به من حيث هو أحدهما أو أحدها وليس معناها نفس أحد الشيئين أو الأشياء.

وفي البديع قال سيبويه : إذا كان بعد سواء همزة الاستفهام ، فلا بدّ من أم ، اسمين كانا أو فعلين ، تقول : سواء علىّ أزيد في الدار أم عمرو ، وسواء علىّ أقمت أم قعدت ، وإذا كان بعدها فعلان بغير ألف الاستفهام ، عطف الثاني بأو ، تقول : سواء علىّ قمت أو قعدت ، فتقديره إن قمت أو قعدت ، فهما علىّ سواء ، فعلى هذا سواء خبر مبتدإ محذوف ، أي الأمران سواء ، والجملة دالّة على جواب الشرط المقدّر ، انتهى. قال الدمامينيّ : بذلك تتبيّن صحّة قول الفقهاء ، وكان ابن هشام توهّم أنّ الهمزة لازمة بعد كلمة سواء في أول جملتيها ، وليس كذلك ، انتهى.

ولا خلاف في جواز (٤) العطف بأو بعد همزة الاستفهام قياسا ، ويكون الجواب عن الاستفهام بنعم أو بلا ، وذلك أنّه إذا قيل : أزيد عندك أو عمر؟ فالمعنى أحدهما عندك أم لا؟ وإن أجبت بالتعيين صحّ ، لأنّه جواب وزيادة ، ويقال : الحسن أو الحسين أفضل أم

__________________

(١) الكامل في القراءات الخمسين ـ لأبي القاسم يوسف بن على بن عبادة الهذليّ المغربيّ المتوفي سنة ٤٦٥ ه‍ وهو مشتمل على خمسين قراءة. كشف الظنون ٢ / ١٣٨١.

(٢) محمد بن عبد الرحمن بن محيصن أعلم قرّاء أهل مكة بالعربية ، انفرد بحروف خالف فيها المصحف ، فترك الناس قراءته ، ولم يلحقوها بالقراءات المشهورة. الأعلام للرزكلي ، ٦ / ١٨٩.

(٣) محمد بن يحيي أبو الحسن الزعفرانيّ النحويّ البصريّ ، قرأ على الفارسيّ الكتاب ، بغية الوعاة ١ / ٢٦٨.

(٤) سقط جواز فى «ح».

٨٤٤

ابن الحنفية؟ فعطف الأوّل بأو ، والثاني بأم ، ويجاب عندنا بقولك : أحدهما وعند الكيسانية (١) بابن الحنفية ، ولا تجوز أن تجيب بقولك : الحسن ، أو بقولك : الحسين ، لأنّه لم يسأل عن الأفضل من الحسن وابن الحنفيّة ، ولا من الحسين وابن الحنفية ، وإنّما جعل واحدا منهما لا بعينه قرينا لابن الحنفيّة ، فكأنّه قال أحدهما أفضل أم ابن الحنفيّة.

الثالث : قد تحذف أم والمعطوف بها كقوله [من الطويل] :

٩٤٥ ـ دعاني إليها القلب إنّي لأمره

سميع فما أدري أرشد طلابها (٢)

أي أم غيّ. قال ابن هشام : ولك أن تقول : لا حاجة إلى تقدير معادل في البيت لصحّة قولك : هل طلالبها رشد ، وامتناع أن يؤتى لهل بمعادل ، وقد يحذف المعطوف عليه بأم كقوله تعالى : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ) [الزمر / ٩] التقدير : الكافر خير أم هو قانت آناء الليل.

أجاز بعضهم حذف معطوفها بدونها ، فقال في قوله تعالى : (أَفَلا تُبْصِرُونَ* أَمْ) [الزخرف / ٥٢ و ٥١] إنّ الوقف هنا وإنّ التقدير أم تبصرون ، ثمّ يبتدأ : (أَنَا خَيْرٌ) [الزخرف / ٥٢] ، وهذا باطل ، إذ لم يسمع حذف معطوف بدون عاطفة ، وإنّما المعطوفة جملة أنا خير ، وأمّا قولهم : أتفعل هذا أم لا؟ فالحذف إنّما وقع بعد لا ، ولم يقع بعد العاطف ، وأحرف الجواب تحذف الجمل بعدها كثيرا ، وتقوم هي في اللفظ مقام تلك الجمل فكأن الجملة هنا مذكورة لوجود ما يغني عنها.

«والمنقطعة» هي الّتي لم يرتبط ما بعدها بما قبلها ، بل كلّ منهما مستقلّ بفائدته ، لأنّهما جملتان ليستا في تقدير المفردين ، لذلك سمّيت منقطعة ، وقد تسمّى منفصلة ، وهي ثلاثة أقسام :

مسبوقة بالخبر المحض ، نحو : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) [السجدة / ٣ و ٢].

ومسبوقة بالهمزة لغير الاستفهام ، نحو : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها) [الأعراف / ١٩٥] ، إذ الهمزة في ذلك للانكار ، فهي بمترلة النفي ، والمتّصلة لا تقع بعده.

ومسبوقة باستفهام بغير الهمزة ، نحو : (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) [الرعد / ١٦].

ومعنى أم المنقطعة الإضراب «كبل» ، نحو قوله تعالى : (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ

__________________

(١) الكيسانية : فرقة إسلاميّة منقرضة قالت بإمامة محمد بن الحنفيّة.

(٢) وهو لأبي ذؤيب الهذلي ، اللغة : الرشد : خلاف الغيّ ، الطلاب : مصدر طالب بمعنى الطلب.

٨٤٥

النُّورُ) [الرعد / ١٦] ، أي بل هل ، لا يفارقها هذا المعنى عند الجمهور (١) ، والأكثر اقتصارها مع ذلك استفهاما طلبيّا كقولهم : إنّها لأبل أم شاء ، التقدير : بل أهي شاء ، ومعناه أنّك رأيت أشباحا من بعده ، فقلت : إنّها لأبل على سبيل الجزم ، ثمّ حصل شكّ في ذلك ، فقلت : أم شاء بقصد الإضراب ، واستئناف سؤال عن الشاء ، أو استفهاما إنكاريّا نحو : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) [الطور / ٣٩] ، أي بل أله البنات ، إذ لو قدّرت للإضراب المحض لزم المحال ، وهو الإخبار بنسبة البنات إليه ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، وقد لا تقتضيه ألبتّة ، فيكون للاضراب وحده كما مرّ.

ونقل ابن الشجري عن جميع البصريّين أنّ أم أبدا بمعنى بل والهمزة جميعا ، وأنّ الكوفيّين خالفوهم في ذلك ، قال : والّذي يظهر قولهم إذ المعنى في نحو : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) [الرعد / ١٦] ، ليس على الاستفهام ، ولأنّه يلزم البصريّين دعوي التأكيد في نحو : (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) [الرعد / ١٦] ، (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النمل / ٨٤] ، (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) [الملك / ٢٠].

ووقع للدمامينيّ أنّه أجاب عن الثاني آخذا من كلام السعد التفتازانيّ في حاشية الكشّاف بأنّ أم الداخلة على الاستفهام ليست متّصلة ولا منقطعة ، وردّه بعض الأئمة فقال له : إنّه لا سلف له في ذلك ، وأنّ النحاة متّفقون على أنّ أم لا تخرج عن القسمين ألبتّة.

تنبيهات : الأوّل : قضية كلام المصنّف أنّ بل المنقطعة عاطفة أيضا ، وهو قول ابن جنيّ ، وبه جزم ابن هشام في المغني ، والجمهور على أنّها حرف ابتداء ، وقد مرّ بيانه.

الثاني : قد ترد أم محتملة للاتّصال والانقطاع ، فمن ذلك قوله تعالى : (أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة / ٨٠] ، قال الزمخشريّ : يجوز في أم أن يكون بمعنى أيّ الأمرين كأين على سبيل التقدير لحصول العلم بكون أحدهما ، ويجوز أن تكون منقطعة.

الثالث : ذكر أبو زيد أنّ أم تقع زائدة ، وخرج عليه قوله تعالى : (أَفَلا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَا خَيْرٌ) [الزخرف / ٥٢ و ٥١] ، قال : التقدير أفلا تبصرون أنا خير. قال ابن هشام : والزيادة ظاهرة في قول ساعد بن جؤية (٢) [من البسيط] :

٩٤٦ ـ يا ليت شعري ولا منجي من الهرم

أم هل على العيش بعد الشّيب من ندم (٣)

__________________

(١) عند الجمهور سقط في «ح».

(٢) شاعر هذلي من محضرمي الجاهليه الإسلام.

(٣) اللغة : المنجى : النجاة والخلاص ، الهرم : اقصى الكبر ، الشيب : بياض الشعر.

٨٤٦

والثاني : أن تكون «حرف تعريف» كأل ، «وهي لغة حمير» بكسر الحاء المهملة وسكون الميم وفتح الياء المثنّاه من تحت ، وبعدها راء مهملة ، أبو قبيلة من اليمن ، وهو حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب ، واسم سبأ عبد شمس ، وسبأ لقب له ، وهو يجمع قبائل اليمن عامّة ، والظاهر أنّ المراد بالحمير هنا الجميع على سبيل التغليب ، ونقلت هذه اللغة عن طىّ أيضا ، وهو أبو قبيلة أخرى من اليمن ، وهو طيّ بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ بن حمير. ووقع لبعض الأدباء الغرّ : وهذه اللغة لتميم ، وهو سهو محض فاحذره.

قال ابن مالك : لما كانت اللام تدغم في أربعة عشر حرفا ، فيصير المعرّف بها كأنّه من المضاعف العين الّذي فاؤه همزة ، جعل أهل اليمن ومن داناهم بدلها ميما ، لأنّ الميم لا تدغم إلا في ميم ، انتهى. وأنشدوا على هذه اللغة [من المنسرخ] :

٩٤٧ ـ ذاك خليلي وذو يواصلني

يرمي ورائي بامسهم وامسلمه (١)

وفي الحديث : ليس من امبرّ امصيام في امسفر (٢) ، كذا رواه النصر بن تولب. وقال بعضهم : إنّ هذه اللغة مختصّة بالأسماء الّتي لا تدغم لام التعريف في أوّلها ، نحو : غلام وكتاب ، بخلاف رجل وناس ولباس ، وحكي لنا بعض طلبة اليمن أنّه سمع في بلادهم من يقول : خذ الرمح واركب امفرس ، ولعلّ ذلك لغة لبعضهم ، لا لجميعهم ، ألا ترى إلى البيت السابق ، وأنّها في الحديث دخلت على نوعين ، انتهى.

قلت : وأقمت في اليمن أربعة عشر شهرا ، فلم أر من يفرق بين الأسماء الّتي تدغم في أوّلها لام التعريف وبين غيرها ، بل كلّهم يبدل اللام ميما في جميع الأسماء فيقول : امرجل ، كما يقول : امغلام.

تنبيهات : الأوّل : قال الأندلسيّ وابن يعيش : الراوية في البيت بالسهم بتشديد السين وإدغام اللام فيها وامسلمة بالميم الساكنة بعد الواو نقله عنهما في الفتح القريب (٣) وأقرّه.

الثاني : قال الأزهريّ : الوجه أن لا تثبت الألف في الكتابة : لأنّها ميم جعلت كالالف واللام ، ونقله عنه في الفتح أيضا ، وفيه مخالفة لظاهر كلامهم.

__________________

(١) البيت لبجير بن غنمة الطائي ، وهو جاهليّ مقلّ. اللغة : بأمسهم : أراد بالسهم ، وامسلمة : أراد السلمة ، الواحدة من السلم ، وهي الحجارة الصلبة.

(٢) صحيح البخاري ٣ / ٨١ رقم ٢٠٢.

(٣) الفتح القريب في حواشي مغني اللبيب ، شرح للشيخ جلال الدين عبد الرحمن السيوطيّ على شواهد المغني. كشف الظنون / ١٧٥٣.

٨٤٧

الثالث : ذكر ابن الحاجب في الشافية أنّ هذه اللغة ضعيفة ، وتعقبه بعض الأئمة ، فقال قد تكلّم بها سيد الفصحاء ، فالحكم عليها بالضعف لا يوافق عليه.

أمّا

ص : أمّا بالفتح والتّشديد ، حرف تفصيل غالبا ، وفيها معنى الشّرط للزوم الفاء ، والتزم حذف شرطها ، وعوّض بينهما عن فعلها جزء ممّا في حيّزها ، وفيه أقوال ، وقد تفارق التفضيل ، كالواقعة في أوائل الكتب.

ش : التاسعة «أمّا بالفتح والتشديد» ، أي بفتح الهمزة وتشديد الميم ، وقد تبدل ميمها الأولى ياء ، استثقالا للتضعيف ، كقول عمر بن أبي ربيعة [من الطويل] :

٩٤٨ ـ رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت

فيضحى وأيما بالعشيّ فيخصر (١)

وهي «حرف تفضيل غالبا» ، لا اسم على ما يتوهّم من تفسيرها بمهما يكن من شيء ، وكونها للتفضيل يدلّ عليه استقراء مواردها وعطف مثلها عليها قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) [البقرة / ٢٦] ، (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ* وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) [الضحى / ١٠ و ٩].

قد يترك تكرارها استغناء بذكر أحد القسمين عن الأخر ، بكلام يذكر بعدها في موضع ذلك القسم الآخر ، فالأوّل نحو : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً* فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) [النساء / ١٧٥ و ١٧٤] ، وقسيمه في المعنى وأمّا الّذين كفروا به فلهم كذا وكذا.

والثاني نحو : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) [آل عمران / ٧] ، وقسيمه في المعنى ، وأمّا غيرهم فيؤمنون به ويكلون معناه إلى ربّهم بدليل قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) [آل عمران / ٧] ، أي كلّ من المتشابه والمحكم من عند الله ، والإيمان بهما واجب ، فكأنّه قيل : وأمّا الراسخون في العلم فيقولون.

__________________

(١) اللغة : عارضت : غدت في عرض السماء ، يضحي : يبرز للشمس ، يخصر : يبرد ، والبيت كناية عن مواصلة السفر في النهار وفي العشي.

٨٤٨

«وفيها» أي في مفهوم أمّا «معنى الشرط للزوم الفاء» بعدها كما مرّ ، ولا جائز أن تكون الفاء للعطف لدخولها على الخبر ، ولا يعطف الخبر على مبتدائه ولا زائدة ، إذ لا يصحّ الاستغناء عنها ، فتعيّن أنّها فاء الجزاء. وقال أبو حيّان : هذه الفاء جاءت في اللفظ خارجة عن قياسها ، لأنّها لم تجئ رابطة بين جملتين ولا عاطفة مفردا على مثله ، والتعليل بكون أمّا في معنى الشرط ليس بجيّد ، لأنّ معنى أمّا كما قالوا مهما يكن من شيء ، وجواب مهما يكن من شيء لا يلزم فيه الفاء ، إذا كان صالحا لأداة الشرط ، والفاء لازمة بعد أمّا ، سواء كان ما دخلت عليه صالحا لها أم لم يكن ، ألا ترى أنّه يقال : مهما يكن من شيء لم أبال به ، ويمتنع ذلك في أمّا ، ويجب ذكر الفاء ، فدلّ على لزوم الفاء ليس لأجل ذلك ، انتهى.

وقد تحذف الفاء للضرورة كقوله [من الطويل] :

٩٤٩ ـ فأمّا القتال لا قتال لديكم

ولكنّ سيرا في عراض المواكب (١)

ويجوز حذفها في سعة الكلام إذا كان هناك قول محذوف كقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ) [آل عمران / ١٠٦] ، الأصل فيقال : لهم أكفرتم ، فحذف القول استغناء عنه بالمقول فتبعته الفاء في الحذف ، وربّ شيء يصحّ تبعا ، ولا يصحّ استقلالا ، هذا قول الجمهور ، قال ابن هشام : وزعم بعض المتأخّرين أنّ فاء جواب أمّا لا تحذف في غير الضرورة أصلا ، وأنّ الجواب في الآية : (فَذُوقُوا الْعَذابَ) [آل عمران / ١٠٦] ، والأصل فيقال لهم : ذوقوا ، فحذف القول ، وانتقلت الفاء للمقول ، وإنّ ما بينهما اعتراض ، وكذا قال في الآية الجاثية : (أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) [الجاثية / ٣١] ، قال : أصله فيقال : ألم تكن آياتي ، ثمّ حذف القول ، وتأخّرت الفاء عن الهمزة.

تنبيه : لم يذكر المصنّف معنى التوكيد لأمّا ، وقلّ من ذكره ، وقد أثبته جماعة من المتأخّرين ، وأحسن من قرّره الزمخشريّ ، فإنّه قال : فائدة أمّا في الكلام أن تعطيه فضل توكيد ، تقول : زيد ذاهب ، فإذا قصدت توكيد ذلك ، وأنّه لا محالة ذاهب ، وأنّه بصدد الذهاب ، وأنّه منه عزيمة ، قلت : أمّا زيد فذاهب ، ولذلك قال سيبويه في تفسيره : مهما يكن من شيء فزيد ذاهب ، هذا التفسير مدلّ بفائدتين : بيان كونه توكيدا ، وأنّه في معنى الشرط ، انتهى.

__________________

(١) هو للحارث بن خالد المخزومي ، اللغة : العراض : جمع عرض بمعنى الناحية ، المواكب : جمع موكب ، بمعنى الجماعة ركبانا أو مشاة.

٨٤٩

أمّا كونه في معنى الشرط فظاهر ، وأمّا وجه التوكيد فإنّه بمترلة التعليق بوجود شيء ما ، لأنّ معنى مهما يكن من شيء أن يقع هذا أو ذاك إلى ما لا يحصى ، وما دامت الدنيا باقية ، فلا بدّ من وقوع شيء فيها ، فيكون المعنى أنّ ذهاب زيد ثابت ألبتّة وعلى كلّ حال. قال الرضيّ : وليس مراد سيبويه من تفسير أمّا بمهما أنّها بمعناها ، وكيف وأمّا حرف ، ومهما اسم ، بل قصده إلى معنى البحت ، وأمّا بمعنى أنّ ، وأصل أمّا زيد فقائم ، أمّا يكن من شيء فزيد قائم ، أي إن يقع شيء في الدنيا يقع قيام زيد ، انتهى.

والتزموا حذف فعل أمّا الّذي هو الشرط لجريه على طريقة واحدة ، وهو يكن أو نحوه ، كما التزموا حذف متعلّق الظرف إذا وقع خبرا مثلا ، وللتنبيه على أنّ المقصود بأمّا حكم الاسم الواقع بعدها لا الفعل.

«وعوّض» ما «بينهما» أي بين أمّا والفاء اللازمة لما بعدها «عن فعلها» المحذوف لزوما «جزء ممّا في حيّزها» ، أي حيّز أمّا كراهة دخول حرف الشرط على فاء الجواب ، ونبّه بقوله : جزء على أنّه لا يعوّض أكثر من واحد لارتفاع الاستكراه بواحد.

«وفيه» أي في الجزء والمذكور «أقوال» ثلاثة.

أحدها : أنّه جزء من جزائها الواقع بعد الفاء ، وهو إمّا مبتدأ نحو : أمّا زيد فمنطلق ، وإمّا معمول لما وقع بعد الفاء ، سواء كان ما بعدها ما يمنع التقديم مع قطع النظر عن الفاء ، نحو : أمّا زيدا فإنّي ضارب أو لم يكن ، نحو : أمّا يوم الجمعة فزيد منطلق ، وذلك لأنّ لأمّا خاصّة في تصحيح التقديم لما يمتنع تقديمه ، وهذا القول عزاه بعضهم لسيبويه وليس بقوله ، وأنّما هو قول المبرّد وابن درستويه والفرّاء ، واختاره ابن الحاجب وابن مالك.

قال أبو حيان : قد رجع المبرّد عن هذا القول إلى قول سيبويه فيما حكاه ابن ولّاد (١) عنه ، قال الزجاجّ : رجوعه مكتوب عندى بخطّه ، فإن قلت : هذا القول لا تشمله عبارة المصنّف ، لأنّ ما وقع عوضا بين أمّا والفاء على هذا القول جزء ممّا في حيّز الجزاء لا ممّا في حيّز أمّا نفسها ، قلت : ما في حيّز الجزاء في حيّز أمّا أيضا.

الثانى : أنّه معمول الفعل المحذوف مطلقا ، أى سواء كان ما بعد الفاء ما يمنع التقديم ، أو لم يكن ، إذ العمل للمحذوف المقدّر في محلّه ، ولا عمل لما بعد الفاء ، فلا أثر لكونه ممّا يمنع التقديم أولا ، فإذا قلت : أمّا زيد فمنطلق ، فالتقدير مهما يذكر زيد فهو منطلق ، وإذا قلت : أمّا يوم الجمعة فزيد منطلق ، فالتقدير مهما تذكر يوم الجمعة فزيد منطلق ، وردّ

__________________

(١) أحمد بن محمد بن ولاد النحوىّ ، كان بصيرا بالنحو أستاذا ، صنّف المقصور والممدود ، مات سنة ٣٣٢ ه‍. بغية الوعاة ١ / ٣٨٦.

٨٥٠

بأنّه لو كان كذلك لجاز النصب في الأوّل بتقدير يحصل أو يذكر بالبناء للفاعل ، والرفع في الثانى بتقدير يحصل أو يذكر بالبناء للمفعول ، ولم يجز اتّفاقا.

وأمّا ما سمع من قول بعضهم : أمّا العبيد فذو عبيد ، وأمّا قريشا فإنّا أفضلها بالنصب في الموضعين ، فقال سيبويه : هى لغة خبيثة قليلة ، قال : ومع ذلك فلا يجوز هذا النصب الضعيف في المعرّف ، إلا إذا كان غير معيّن ، ليكون في موضع الحال كما في الجماء الغفير ، وأمّا إذا أردت بالعبيد عبيدا معينة ، فلا يجوز فيه إلا الرفع ، كما في قولك : أمّا البصرة فلا بصرة لك ، أمّا أبوك فلا أبا لك.

وما وقع لابن هشام في المغنى من قوله : وفي ذلك دليل على أنّه لا يلزم أن يقدّر مهما يكن من شيء ، بل يقدّر غيره ممّا يليق بالمحلّ ، إذ التقدير هاهنا مهما ذكرت فليس بشيء ، لأنّ هذا المسموع الّذي استند إليه لغة خبيثة بنصّ سيبويه ، فكيف يبنى عليه جواز التراكيب العربية ، هذا مع أنّها محتملة للتخريج على خلاف ما ادّعاه.

واستشكل الرضيّ مذهب سيبويه في نصبه على الحال ، وقال : بل هو مفعول به لما بعد الفاء ، لأنّ معنى ذو عبيد أي تملكهم ، وذلك كما روى الكسائىّ أمّا قريشا فإنّا أفضلهم ، أى أغلبهم فى الفضل.

القول الثالث : أنّه لم يكن ما بعد الفاء ما يمنع التقديم ، فهو جزء ممّا في حيّز جزائها ، نحو : أمّا يوم الجمعة فأنا مسافر ، وإن كان نحو : أمّا اليوم فإنّي جالس ، فهو معمول للفعل المحذوف ، لأنّ أن لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، هذا قول سيبويه والمازنىّ والجمهور.

وردّ بأنّ الفاء للجزاء ، وهى مانعة من عمل ما بعدها في ما قبلها ، فالباب كلّه من هذا القبيل ، فلا معنى للتفضيل ، ولا يخفى أنّهم لا يخالفون في أنّ ما بعد فاء الجزاء لا يعمل فيما قبلها ، لكنّهم أجازوه مع الفاء هنا دون غيرها من الموانع لما قاله سيبويه : إنّ ما جاز عمله بعد حذف أمّا والفاعل فيما قبل وإلا فلا ، ألا ترى أنّك لو حذفت أمّا والفاء في قوله تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) [الضحى / ٩] ، وقلت : اليتيم فلا تقهر ، لكان جائزا بخلاف نحو : أمّا زيدا فإنّي ضارب ، إذ لو حذفت أمّا والفاء وقلت : زيدا أنّى ضارب لم يجز ، لأنّه لا يجوز تقديم معمول خبر أنّ عليها ، وكذا لا يجوز أمّا درهما فعندي عشرون ، إذ المميّز لا يعمل فيما قبله.

قال ابن الحاجب : والصحيح من هذه الأقوال الثلاثة هو الأوّل ، وهو أنّ الواقع بعد أمّا والفاء جزء من الجملة الواقعة بعد الفاء ، قدّم عليها لغرض العوضيّة ، وذلك لأنّ وضعها لتفضيل الأنواع ، وما ذكر بعدها أحد الأنواع المتعدّدة ، وذكره باعتبار ما

٨٥١

يتعلّق به من الجملة الواقعة بعد الفاء ، والغرض من التقديم الدلالة على أنّه هو النوع المراد تفضيل جنسه ، وكان قياسه أن يقع مرفوعا على الابتداء ، لأنّ الغرض الحكم عليه بحسب ما بعد الفاء ، لكنّهم خالفوا الابتداء إيذانا من أوّل الأمر بأنّ تفصيله باعتبار الصفة الّتي هو عليها في الجملة الواقعة بعد الفاء من كونه مفعولا به أو ظرفا أو مصدرا أو غير ذلك ، ألا ترى أنّك تفرق بين يوم الجمعة من قولك : يوم الجمعة ضربت فيه ، وقولك : ضربت في يوم الجمعة ، وإن كان في الموضعين مضروبا فيه ، إلا أنّه ذكر في الأوّل ليدلّ على أنّه حكم عليه ، ولمّا كان الحكم بوقوع الضرب فيه علم أنّ الضرب واقع فيه ، وفي الثانى ذكر ليدلّ على أنّه الذى وقع الضرب فيه من أوّل الأمر.

فلمّا كان كذلك قصد أن يكون الواقع بعد أمّا من أوّل الأمر على حسب ما هو عليه في جملته ، ولزم أن يكون على معناه وإعرابه الّذى كان له ، وبطل القول بكونه معمول الفعل المحذوف مطلقا ، أو بشرط أن لا يكون هناك مانع ، وتبيّن وجه ما قيل : إنّ لأمّا خاصّة في تصحيح التقديم لما يمتنع تقديمه ، وحاصله التنبيه على أنّ الواقع بعدها هو المقصود بالتفضيل والتخصيص من بين ما في الجملة الواقعة بعد الفاء.

تنبيه : قد يقع بعد أمّا جملة شرطيّة بعدها جواب مقرون بالفاء كقوله تعالى : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ* فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) [الواقعة / ٨٩ و ٨٨] ، واختلف في هذا الجواب لأىّ الأداتين هو ، قال أبو حيان : الصحيح أنّه جواب أمّا ، وأداة الشرط جوابها محذوف لدلالة جواب أمّا عليه ، ولذلك لزم أن يكون فعل الشرط بعد إن ماضيا ، ولا يلزم مضيّه إلا عند حذف الجواب ، كأنّه قيل : مهما يكن من شيء فروح ، إن كان من المقرّبين ، فالفاء جواب الشرط الذى تقدّم ، وجواب إن محذوف ، وهذا مذهب سيبويه.

قال الرضىّ : والدليل على أنّه ليس جواب إن عدم جواز أمّا إن جئتنى أكرمك بالجزم ، ووجوب أمّا إن جئتنى فأكرمك ، مع أنّ نحو : إن ضربتنى أكرمك بالجزم أكثر من نحو : إن ضربتني فاكرمك ، انتهى.

وزعم الأخفش أنّ الجواب المذكور لأمّا وإن معا ، فالأصل عنده مهما يكن من شيء فإن كان من المقرّبين فروح ، ثمّ أنيب أمّا مناب مهما والفعل الذى بعدها ، فصار أمّا إن كان من المقرّبين فروح ، ثمّ قدّمت إن والفعل الّذى بعدها على الفاء ، فصار أمّا إن كان من المقرّبين ، فالتقت الفاءان ، فأغنت إحدهما عن الأخرى فصار فروح ، وقال أبو حيان : كلّها تقادير عجيبه ، ومع ذلك هى باطلة.

وقد أبطل أبو على ظاهر كلام الأخفش بأنّا لم نجد ألفا تكون جوابا لشيئين ، وتأوّل كلامه بأنّها لما كانت لأحدهما ، وأغنت عن الثاني ، صارت كأنّهما جواب

٨٥٢

شرطين ، قال : واضطرب قول أبى علي ، فمرّة قال : لا يفصل بين أمّا والفاء إلا بمفرد ، فالجواب المذكور لإن ، وجواب أمّا محذوف ، وهذا لا يصحّ ، لأنّه متى اجتمع طالبا جواب ، كان الجواب للأوّل منهما ، ومرّة قال بقول سيبويه ، وقال : الجملة إذا لم تستقلّ صارت بمترلة مفرد ، قال : وهذا هو الصحيح. فإذن في المسالة ثلاثة مذاهب : مذهب سيبويه ، ومذهب الأخفش ، مذهب أبي علي في أحد قوليه.

«وقد تفارق» أمّا «التفضيل» فتأتى مجرّدة عنه ، فتكون للاستئناف ، وهذا غير الغائب الّذى فهم من قوله : إنّها حرف تفضيل غالبا «كأمّا الواقعة في أوائل الكتب» والخطب ، وهى المفصول بينها وبين فائها ب بعد مقطوعا عن الإضافة غالبا ، نحو : أمّا بعد فكذا ، واختلف في أوّل من قالها ، فقيل : داود على نبينا وآله وعليه السّلام ، وقيل : يعرب بن قحطان ، وقيل : قس بن ساعدة ، وقيل : سحبان بن وائل ، وهو المشهور ، وهو القائل [من الطويل] :

٩٥٠ ـ لقد علم الحىّ اليمانون أنّنى

إذا قلت أمّا بعد إنّي خطيبها

قال الرضىّ : وقد التزم بعضهم لزوم التفضيل في أمّا وجواز السكوت على قولك : أمّا زيد فقائم ، يدفع دعوى لزوم التفضيل ، وفي حواشى التسهيل لابن هشام : والظاهر أنّ أمّا زيد فقائم ، لا يقال إلا إذا وقع تردّد في شخصين نسباهما أو أحدهما إلى ذلك ، فهي على هذا التفضيل أي ، وأمّا غيره فليس كذلك ، وهذا مقتضى إطلاق المصنّف ، يعنى ابن مالك وغيره أنّها للتفضيل ، نعم الذى هو غير لازم التكرار ، انتهى.

والحق ما ذهب إليه المصنّف ، وعليه جماعة من المحقّقين ، أنّها للتفضيل غالبا ، وقد تفارقه ، إذ لا معنى لتقدير تكرارها مع أمّا الواقعة في أوائل الكتب.

تنبيه : قد تحذف أمّا لكثرة الاستعمال ، نحو قوله تعالى : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) [المدّثر / ٤ و ٣ و ٢] ، (هذا فَلْيَذُوقُوهُ) [ص / ٥٧] ، (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس / ٥٨]. وإنّما يطّرد ذلك إذا كان ما بعد الفاء أمرا أو نهيا ، وما قبلها منصوبا به أو بمفسّر به ، فلا يقال : زيدا فضربت ، ولا زيدا فضربته ، بتقدير أمّا ، وأمّا قولك : وزيد فوجد ، فالفاء زائدة ، وإنّما جاز تقدير أمّا بالقيد المذكور ، لأنّ الأمر لإلزام الفعل لفاعله ، والنهي لإلزام ترك الفعل لفاعله ، فناسبا إلزام الفعل وتركه للمفعول ، وذلك بأن تقدّر أمّا قبل المنصوب ، وتدخل فائها على الأمر والنهي ، فإنّ ما قبل أمّا ملزوم لما بعدها ، قاله الرضيّ.

٨٥٣

إمّا

ص : إمّا بالكسر والتشديد ، حرف عطف على المشهور ، وترد للتفصيل ، نحو : (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ،) وللإبهام والشّكّ وللتّخيير والاباحة ، وإمّا لازمة قبل المعطوف عليه بها ، ولا تنفكّ عن الواو غالبا.

ش : إمّا بالكسر والتشديد ، أي بكسر الهمزة وتشديد الميم وفتح همزتها لغة تميم وقيس وأسد ، وأنشد قطرب [من المتقارب] :

٩٥١ ـ سأحمل نفسي على آلة

فإمّا عليها وإمّا لها (١)

بالفتح ، وقد تبدل مى مها الأولى ياء مع كسرة الهمزة كقوله [من البسى ط] :

٩٥٢ ـ يا ليتما أمّنا شالت نعامتها

إيما إلى جنّة وإيما إلى النار (٢)

ومع فتحها كقول الآخر [من الطويل] :

٩٥٣ ـ تلقّحها أمّا شمال عريّة

وأمّا صبا جنح العشيّ هبوب (٣)

رواه الفرّاء بالياء وفتح الهمزة ، وهى مركّبة عند سيبويه من إن وما ، وقد تحذف ما كقوله [من الوافر] :

٩٥٤ ـ لقد كذبتك نفسك فأكذبنها

فإن جزعا وإن إجمال صبر (٤)

أي فإمّا جزعا وإمّا إجمال صبر. وقيل : هى بسيطه ، واختاره أبو حيان ، لأنّ الأصل البساطة لا التركيب ، ولا دليل في البيت لجواز كون إن فيه شرطيّة ، والجواب محذوف ، والتقدير : وإن كنت ذا جزع فلا جزع ، وإن كنت ذا إجمال صبر فاجمل.

وهي «حرف عطف على» القول «المشهور» ، والمراد إمّا الثانية في نحو قولك : جاءني إمّا زيد وإمّا عمرو ، وأنكر يونس والفارسيّ وابن كيسان كونها عاطفة ، ووافقهم ابن مالك لملازمتها الواو العاطفة غالبا ، ولا يدخل عاطف على عاطف ، قال : ولأنّ وقوعها بعد الواو مسبوغة بمثلها شبية بوقوع لا بعد الواو مسبوقة بمثلها في لا زيد ولا عمرو فيها ، ولا هذه غير عاطفة بإجماع ، فلتكن إمّا كذلك بل أولى.

وفى شرح المفصّل لابن الحاجب إنّ مجموع قولنا : وإمّا هو العاطف فى جاء إمّا زيد وإمّا عمرو ، قال : ولا يبعد أن يكون صورة الحرف مستقلّة حرفا في موضع وبعض حرف في موضع آخر كيا مع أيا ، وعلى هذا فلا يرد شيء ممّا احتجوا به ، فتأمّل.

__________________

(١) هو للخنساء. اللغة : الآلة : الحالة.

(٢) البيت للأحوص أو لسعد بن قرط. اللغة : شالت : ارتفعت ، النعامة : باطن القدم.

(٣) هو لأبي القمقام الأسدي. اللغة : الشمال : الريح الّتى تهب من ناحية القطب. عريّة : باردة ، الصبا : ريح معروفة.

(٤) هو لدريد بن الصمة.

٨٥٤

وزعم بعضهم أنّ إمّا عطفت الاسم على الاسم ، والواو عطفت إمّا على إمّا ، حكاه ابن الحاجب وجوّزه ، وقال : إنّه لا يبعد. قال ابن هشام : وعطف الحرف على الحرف غريب أي غير موجود ، وأورد عليه أيضا أنّ إمّا الأولى إذا لم تكن للعطف فكيف يصحّ عطف الثانية عليها بالواو المفيدة للجمع المستلزم لشركة المعطوف مع المعطوف عليه في الحكم ، انتهى.

ولا خلاف في أنّ إمّا الأولى غير عاطفة لاعتراضها بين العامل والمعمول في نحو :

قام إمّا زيد وإمّا عمرو بين أحد معمولى العامل ومعموله الآخر ، نحو : رأيت إمّا زيدا وإمّا عمرا ، وبين المبدل منه وبدله نحو قوله تعالى : (إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ) [مريم / ٧٥] ، فإنّ ما بعد الأولى بدل ممّا قبلها ، وادّعى ابن عصفور الإجماع على أنّ إمّا الثانية غير عاطفة أيضا كالأولى ، قال : وإنّما ذكروها في باب العطف لمصاحبتها لحرفه ، انتهى.

ولم يعدّها المصنّف في باب العطف من حروفه. قال الجرجانيّ : عدّها من حروف العطف سهو ظاهر.

«وترد» إمّا «للتفضيل» ، نحو قوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان / ٣] ، والظاهر أنّ انتصابها على الحال من الهاء في هديناه ، والمعنى ـ والله أعلم ـ بيّنا له الطريق ، وأوضحناه ، فالحال مقدّرة ، لأنّ المراد بالشكر العمل بما بيّن له ، وبالكفر عدم العمل به ، والعمل بذلك وعدمه ليس مقارنا للتبيين ، فاحتيج إلى الحكم بكون الحال مقدّرة. قال الزمخشرىّ : ويجوز أن يكونا حالين من السبيل ، أى إمّا سبيلا شاكرا وإمّا سبيلا كفورا ، كقوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد / ١٠] ، فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازا. وأجاز الكوفيّون كون إمّا هذه هي إن الشرطيّة وما الزائدة. قال مكي (١) : لا يجيز البصريّون أن يلى الاسم أداة الشرط ، حتّى يكون بعدها فعل يفسّره ، نحو : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ) [النساء / ١٢٨] ، وردّ عليه ابن الشجريّ بأنّ المضمر هنا كان بمترلة قوله [من البسيط] :

٩٥٥ ـ قد قيل ذلك إن حقّا وإن كذبا

 ... (٢)

وترد «للابهام» على السامع ، وهو الّذى يعبّرون عنه بالتشكيك ، كقوله تعالى : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) [التوبة / ١٠٦] ، فإن الله

__________________

(١) مكي بن أبي طالب صاحب الإعراب ولد سنة ٣٥٥ ه‍ ، كان من أهل التبحّر في علوم القرآن والعربية ، صنف : إعراب القرآن ، الموجز في القراءات ، الهداية في التفسير ، ومات سنة ٤٣٧ ه‍. بغية الوعاة. ٢ / ٢٩٨.

(٢) تمامه «فما اعتذارك عن شيء إذا قيلا» ، وهو للنعمان بن منذر.

٨٥٥

تعالى عالم بحقيقة حالهم ، وما يؤول إليهم ، ولكن أنزل الكلام في قالب لا يجزم السامع معه بأحد الأمرين معيّنا ، ولكنّه يشكّ ، والشكّ كقولك : جاءني إمّا زيد وإمّا عمرو ، إذا لم تعلم الجائي منهما.

و «التخيير» كقوله تعالى : (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) [الكهف / ٨٦] ، فخيّر بين تعذيبهم بالقتل على كفرهم ، وبين اتّخاذ الحسن فيهم بإرشادهم وتعليمهم الشرائع ، ويجوز أن يكون المراد بالتعذيب القتل ، وباتّخاذ الحسن الأسر ، لأنّه بالنظر إلى القتل إحسان ، لما فيه من بقاء الحياة مدّة ، والأوّل أولى ، والمشهور أنّه لا بدّ للّتى للتخيير أن تكون واقعة بعد الطلب ، فيكون التقدير في الآية ـ والله أعلم ـ (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) افعل (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ) [الكهف / ٨٦] ، فأن وصلتها بعد أمّا الأوّلى في محلّ نصب على المفعوليّة بالفعل المحذوف ، وما بعد إمّا الثانية معطوف على الأوّل ، أى إمّا تعذيبهم ، وإمّا اتّخاذ الحسن فيهم.

«والاباحة» ، نحو : تعلّم إمّا فقها وإمّا نحوا ، وجالس إمّا الحسن وإمّا ابن سيرين. قال ابن هشام : ونازع في ثبوت هذا المعنى لـ «إمّا» جماعة مع إثباتهم إيّاه ل ـ «أو».

تنبيهات : الأوّل : هذه المعاني الخمسة ترد لـ «أو» أيضا كما تقدّم إلا أنّ إمّا يبنى الكلام معها من أوّل الأمر على ما جيء به لأجله من شكّ وغيره ، ولذلك وجب تكرارها في غير ندور ، و «أو» يفتتح الكلام معها على الجزم ، ثمّ يطرأ الشكّ أو غيره ، قاله في المعنى.

وفيه بحث ، قال الرضىّ : مبنى الكلام مع إمّا على أحد الشيئين أو الأشياء ، وأمّا أو فإن تقدّم إمّا على المعطوف عليه نحو : جاءني إمّا زيد أو عمرو ، فالكلام مبنىّ على ذلك ، وإن لم يتقدّم جاز أن يعرض للمتكلّم معنى أحد الشيئين بعد ذكر المعطوف عليه ، تقول مثلا : قام زيد قاطعا بقيامه ، ثمّ يعرض الشكّ أو يقصد الإبهام ، فتقول : أو عمرو ، ويجوز أن يكون شاكّا أو مبهما من أوّل الأمر ، وإن لم تأت بحرف دالّ عليه كما تقول مثلا : جاءني القوم ، وأنت عازم من أوّل الأمر على الاستثناء بقولك : إلا زيدا ، انتهى.

وهو صريح في عدم تعيين افتتاح الكلام مع أو على الجزم ، وقد يجاب بأنّ معنى افتتاح الكلام معها على الجزم أنّ ذلك بحسب الصورة الظاهرة مع أنّه قد يكون في الواقع كذلك ، وقد لا يكون ، ومعنى طروء الشكّ طروء الدالّ عليه لا أن يكون المتكلّم بها لا بدّ أن يكون جازما ثم يشكّ ، فتأمّله.

الثاني : التحقيق أنّ إمّا إنّما هي لأحد الشيئين أو الاشياء ، والمعاني المذكوره ليست مستفادة من نفس إمّا ، وإنّما يستفاد من غيرها باعتبار محلّ الكلام ، كما قالوا : ذلك في

٨٥٦

أو «وإمّا لازمه قبل المعطوف عليه بها» ، أى بإمّا العاطفة ، أي يلزم أن يكون قبل المعطوف عليه بها إمّا أخرى ، تقول : قام إمّا زيد وإمّا عمرو ، إيذانا من الأوّل الأمر بما بني عليه الكلام من شكّ أو غيره ، وقد سمع ترك إمّا الأولى كقوله [من الطويل] :

٩٥٦ ـ تلمّ بدار قد تقادم عهدها

وإمّا بأموات ألمّ خيالها (١)

والفرّاء يقيسه ، فيجيز : زيد يقوم وإمّا يقعد ، ويجريها مجرى أو ، والبصريّون لا يجيزون فيها إلا التكرير ، وما سمع منها بغير تكرير فنادر ، ولا يقاس عليه.

«ولا تنفكّ» أمّا الثانية «عن الواو غالبا» والمشهور أنّ هذه الواو زائدة لتأكيد العطف ورفع الالتباس بغير العاطفة على المشهور من أنّ إمّا عاطفة ، وقد علمت أنّ منهم من ذهب إلى أنّها هي العاطفة. وقضية كلام ابن الحاجب في شرح المفصّل أنّها من نسخ الكلمة لا زائدة ولا عاطفة ، ومن مجيئها بدون الواو في غير الغالب قوله [من الرجزء المجزوء] :

٩٥٧ ـ لا تفسدوا آبالكم

أيما لنا أيما لكم (٢)

بفتح الهمزة وإبدال الميم ياء وقوله [من البسيط] :

٩٥٨ ـ ...

أيما إلى جنة أيما الى النار (٣)

وقد يستغنى عن إمّا الثانيه بـ «وإلا» ، نحو : إمّا أن تتكلّم بخير وإلا فاسكت ، وقول المثقب العبدى (٤) [من الوافر] :

٩٥٩ ـ فإمّا أن تكون أخي بصدق

فأعرف منك غثي من سميني

وإلا فاطّرحني واتّخذني

عدوّا أتقيك وتتّقيني (٥)

وبأو كقوله [من الطويل] :

٩٦٠ ـ وقد شفّني أن لا يزال يروعني

خيالك إمّا طارقا أو مغاديا (٦)

تنبيه : ليس من أقسام إمّا الّتي فى قوله تعالى : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) [مريم / ٢٦] بل هذه إن الشرطيّة ، وما الزائدة ، ولذلك أكّد الفعل بالنون ، وجوابها قوله تعالى : (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) [مريم / ٢٦] وهو ظاهر.

__________________

(١) نسبت البيت لذي الرمة وللفرزدق. اللغة : ألّم به وعليه : أتاه فترل به وزاره.

(٢) لم يسمّ قائله. اللغة : الآبال : جمع إبل.

(٣) تقدم برقم ٩٥٢.

(٤) هو العائذ بن محصن شاعر جاهلي من ربيعة ، اتصل بعمرو بن والنعمان بن منذر.

(٥) اللغة : الغث : النحيف ، خلاف السمين ، أتّقى : من الاتقاء بمعنى الاجتناب.

(٦) نسب البيت الى الأخطل. اللغة : شفّني : ضمّرني وأرّقني ، يروعني : يفزعني ، طارقا : من طرق : جاء ليلا ، مغاديا : ذاهبا أوّل النهار.

٨٥٧

أيّ

ص : أيّ ، بالفتح والتّشديد ، ترد اسم شرط نحو : (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ،) واسم استفهام ، نحو : أيّ الرّجلين قام ، ودالّة على معنى الكمال ، نحو : مررت برجل أيّ رجل ، ووصلة لنداء ذي اللّام ، نحو : يا أيّها الرجل ، وموصولة ، ولا يعرب من الموصولات سواها ، نحو : أكرم أيّا اكرمك.

ش : الحادية عشر «أيّ بالفتح والتشديد» ، أي بفتح الهمزة وتشديد الياء ، ترد على خمسة أوجه :

أحدها : أن تكون «اسم شرط» ، نحو قوله تعالى : (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الإسراء / ١١٠] ، بدليل جزم تدعوا ، أو إدخال فاء الرابطة على الجملة الاسمية ، وهى الجواب ، وقول الشاعر [من الخفيف] :

٩٦١ ـ أيّ حين تلمّ بي تلق ما شئ

 ... ت من الخير فاتّخذني خليلا (١)

والثانى : أن تكون اسم استفهام ، ويستفهم بها عمّا يميّز أحد الشيئين المتشاركين أو الأشياء المتشاركة في أمر هو مضمون ما أضيفت إليه ، نحو : أيّ الرجلين قام ، فالاستفهام هنا عمّا يميّز أحد المتشاركين في الرجلية. قال صاحب المفتاح : يقول القائل : عندى ثياب ، فتقول : أيّ الثياب ، فتطلب منها وصفا يميّزها عمّا يشاركها فى الثوبيّة ، انتهى.

وقد تخفّف ياء أيّ هذه كقوله [من الطويل] :

٩٦٢ ـ تنظّرت نصرا والسّماكين أيهما

عليّ من الغيث استهلّت مواطره (٢)

تنبيه : أيّ الشرطيّة والاستفهاميّة بمترلة كلّ مع النكرة وبمترلة بعض مع المعرفة ، تقول : أيّ غلام أتى؟ وأيّ غلامين أتيا؟ وأيّ غلمان أتوا؟ وأيّ رجل تضرب أضربه ، وأيّ رجلين تضرب أضربهما ، وأيّ رجال تضرب أضربهم ، كما إذا صرّح بلفظ كلّ مضافا إلى النكرة ، تقول : أيّ الغلامين أتى ، وأيّ الغلمان أتى ، وأيّ الرجلين تضرب أضربه ، وأيّ الرّجال تضرب أضربه ، كما تقول ذلك عند التصريح بلفظ بعض.

ويضافان إلى نكرة بلا شرط ، نحو : أيّ رجل عندك؟ وأيّ رجل تضرب أضربه ، وإلى المعرفة بشرط إفهام تثنية أو جمع أو قصد أجزاء أو تكريرها معطوفة بالواو ، نحو :

__________________

(١) لم يذكر قائله. اللغة : تلمّ بي : تأتيني.

(٢) هو للفرزدق. اللغة : تنظّره : تأمّله بعينه ، نصر : هو نصر بن سيّار ، السماكين : تثنية سماك ، وهما نجمان نيران في منازل القمر ، الغيث : المطر ، استهلت : صبّت ، المواطر : جمع ماطره ، أي صاحبة المطر ، وهي صفة للسحاب أي صبّت سحائبه المواطر.

٨٥٨

أيّ الرجلين عندك؟ وأيّهما عندك؟ وأيّ الغلامين أو أيّهما جاءك فأكرمه ، وأيّ الرجال أو أيّهم عندك؟ وأيّ الرجال جاءك فأكرمه ، وأيّ زيد أحسن؟ أي أيّ أجزائه ، وأيّ زيد رأيت أعجبني ، تقديره أيّ أجزاءه ، وأيّ زيد وأيّ عمرو جاءك؟ وأيّ بكر وأيّ خالد جاءك فأكرمه ، لأنّ المعنى حينئذ أيّهما جاءك ، كلّ ذلك يصحّ فيها معنى البعضيّة.

«و» الثالث : أن تكون «دالّة على معنى الكمال» ، فيقع صفة لنكرة مذكورة غالبة ، ويلزم إضافتها لفظا ومعنى إلى ما يماثل موصوفها لفظا ومعنى ، «نحو : مررت برجل أيّ رجل». قال ابن المالك : أو معنى لا لفظا ، نحو : مررت برجل أيّ انسان ، قيل : وإنّما قاله بمحض القياس ، ولا يعلم له فيه سماع. قال الفارسىّ : إذا قلت : مررت برجل أيّ رجل ، فرجل الأوّل غير الثانى ، لأنّ الأوّل واحد ، والثانى جنس ، لأنّ أيّا بعض ما يضاف إليه ، انتهى.

ودلالتها على معنى الكمال باعتبار ما تضاف إليه ، فإن أضيفت إلى مشتقّ من صفة يمكن المدح بها كقولك : مررت بفارس أيّ فارس ، فهي للكمال في الفروسيّة ، والثناء على الموصف خاصّ بهذه الجهة ، وإن أضيفت إلى غير مشتقّ كما في قولك : مررت برجل أيّ رجل ، فهى للكمال في الرجوليّة والثناء على الموصوف بكلّ ما يمدح به الرجل.

وفى شرح الحاجبيّة لنجم الدين سعيد معنى قولك : مررت برجل أيّ رجل ، وصف الرجل بكمال الرجوليّة ، قيل : فيه معنى التعجّب ، لأنّ المتعجّب إنّما يتعجّب من شيء خارج عن حدّ أشكاله ، فإذا خرج عن حدّها فقد استبهم أمره ، فيؤتى بكلمة الإبهام ، ومعناه برجل قد انتهى في كماله في الرجوليّة إلى حدّ يجب أن يستفهم عنه لخفاء سببه ، قال : وعبارتهم في تقرير معناه تدلّ على أنّ أيّا استفهاميّة ، لكن الاستفهام لا يجامع الوصف ، فالوجه أن يحمل على أنّها فى الأصل استفهاميّة ، لا أنّها الآن استفهاميّة ، واشترط أن تضاف إلى مثل المنعوت ، لأنّ المراد بها بيان كماله في الخصلة الدالّ هو عليها من الرجوليّة ونحوها ، فلا يجوز : جاء رجل أيّ عالم ، انتهى.

وإنّما لم يوصف بها المعرفة ، لأنّها لو أضيفت إلى معرفة كانت بعضا ممّا تضاف إليه ، وذلك لا يتصوّر في الصفة ، وقد يحذف موصوفها النكرة كقوله [من الطويل] :

٩٦٣ ـ إذا حارب الحجّاج أيّ منافق

 ... (١)

__________________

(١) تمامه «علاه بسيف كلّما هزّ يقطع» ، وهو للفرزدق. اللغة : هزّ : حرّك.

٨٥٩

أى منافقا أىّ منافق ، وهذا في غاية الندور ، لأنّ المقصود بالوصف بأيّ التعظيم ، والحذف مناف لذلك.

وذكر ابن مالك أنّ أيّا عند دلالتها على الكمال تقع حالا بعد المعرفة ، كقوله [من الطويل] :

٩٦٤ ـ فأومأت إيماء خفيّا لحبتر

ولله عينا حبتر أيّما فتى (١)

أنشده بنصب أيّ على الحال. قال أبو حيّان : ولم يذكر أصحابنا وقوعها حالا ، وأنشدوا البيت برفع أيّما على الابتداء ، والخبر محذوف ، والتقدير أيّ فتى هو. وأجاز الأخفش وقوعها نكرة موصوفة قياسا على من وما ، نحو : مررت بأيّ ، والجمهور على منعه لعدم ورود السماع به.

«و» الرابع : أن تكون «وصلة لنداء ذي اللام» ، نحو : يا أيّها الرجل ، وذلك أنّهم استكرهوا اجتماع أداتي تعريف ، وإن كان في إحداهما من الفائدة ما ليس في الأخرى كما تقدّم ، فحاولوا أن يفصلوا بينهما باسم مبهم يحتاج إلى ما يزيل إبهامه ، فيصير المنادى في الظاهر ذلك المبهم ، وفي الحقيقة ذلك المخصّص الّذى يزيل الإبهام ، ويعيّن الماهية ، فوجدوا ذلك الاسم أيّا ، إذا قطع عن الإضافة ، واسم الاشاره ، حيث وضعا مبهمين مشروطا إزالة إبهامها ، إلا أنّ أيّا أجدر بهذا الغرض ، لأنّها أحوج إلى الوصف من اسم الإشارة ، لأنّها وضعت مبهمة ، وإنّما يزال إبهامها باسم بعدها بخلاف اسم الإشارة ، فإنّ إبهامه كما يزال بالوصف يزال بالإشارة الحسيّة أيضا ، فلهذا جاز يا هذا ، ولم يجز يا أيّ ، والتزموا بعدها هاء التنبيه تنبيها على أنّ المنادى الحقيقيّ ما بعدها.

قيل : وللتعويض عن مضافها المحذوف ، وحكمها الفتح عند أكثر العرب ، ويجوز ضمّها فى لغة بني أسد (٢) وقرئ بالسبع : (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) [الزخرف / ٤٩] ، وقيل : إنّ هاء التنبيه فى يا أيّها الرجل ، ليست متّصلة بأيّ ، بل منقولة من اسم الإشارة ، والأصل يا أيّهذا الرجل ، فأيّ منادى ، ليس بموصوف ، وهذا الرجل استئناف بتقدير هو لبيان إبهامه وحذف ذا اكتفاء بها منها لدلالة الرجل عليها ، وعليه الكوفيّون.

وزعم الأخفش أنّ أيّا لا يكون وصلة ، وأنّ هذه موصولة ، حذف صدر صلتها ، وهو العائد ، والمعنى يا من هو الرجل. قال ابن هشام : ويردّه أنّه ليس لنا عائد يجب حذفه ، ولا موصول التزم كون صلته جملة اسميّة ، وله أن يجيب عنها بأنّ ما في قولهم : لا سيّما زيد بالرفع كذلك ، انتهى.

__________________

(١) هو للراعي النميرىّ. اللغة : أومأت : أشرت باليد أو بالحاجب أو نحوهما.

(٢) قبيلة من ربيعة من عرب الشمال أو العدنانيون.

٨٦٠