الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

٩٢٦ ـ ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه

إذا فلا رفعت سوطي إلى يدي (١)

أو اسميّة كقوله [من الوافر] :

٩٢٧ ـ وما إن طبّنا جبن ولكن

منايانا ودولة آخرينا (٢)

وهذه الحالة تكفّ عمل ما الحجازيّة كما في البيت ، وقد تزاد بعد ما الموصولة الاسميّة كقوله [من الوافر] :

٩٢٨ ـ يرجّي المرء ما إن لا يراه

وتعرض دون أبعده الخطوب (٣)

وبعد ما المصدريّة كقوله [من الطويل] :

٩٢٩ ـ ورجّ الفتي للخير ما إن رأيته

على السنّ خيرا لا يزال يزيد (٤)

بعد ألا الاستفتاحيّة كقوله [من الطويل] :

٩٣٠ ـ ألا إن سرى ليلى فبتّ كئيبا

أحاذر أن تنأى النّوى بغضوبا (٥)

وأشار المصنّف إلى هذا الوجه من وجوه إن ، وهو ورودها زائدة بضابط حسن ، وهو قوله : «ومتى اجتمعت إن وما» الحرفيّة «فالمتأخّرة منهما زائدة» فإن في نحو قوله [من البسيط] :

٩٣١ ـ ما إن أتيت بشيء ...

 ... (٦)

هي الزائدة ، وما نافية ، وما في نحو قوله تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ) [الأنفال / ٥٨] ، (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ) [الأعراف / ٢٠٠] هي الزائدة ، وإن شرطيّة ، وسيأتي الكلام على ما الزائدة مستوفيا في محلّه إن شاء الله تعالى.

أنّ

ص : أنّ بالفتح والتّشديد حرف تأكيد ، وتؤوّل مع معموليها بمصدر من لفظ خبرها إن كان مشتقّا ، وبالكون إن كان جامدا ، نحو : بلغني أنّك منطلق ، وأنّ هذا زيد.

__________________

(١) هو للنابغة الذبياني. اللغة : السوط : ما يضرب من الجلد.

(٢) هو لفروة بن مسبك أو لعمرو بن قعاس وينسب للكميت. اللغة : الطب : العادة.

(٣) هو لجابر بن رألان. اللغة : دون أدناه : أقربها عنده حصولا ، الخطوب : جمع خطب : الأمر الشديد.

(٤) هو للمعلوط القريعي. اللغة : رجّ : أمر من باب التفعيل من الرجاء ، وهو ضد اليأس ، السن : العمر.

(٥) لم يسمّ قائله. اللغة : سري : سار ، بتّ : متكلم من البيتوتة ، الكئيب : الحزن والغم ، تنأى : تبعد ، النوي : الجهة الّتي ينوي بها المسافر من قرب أو بعد ، غضوب : اسم حبيبة الشاعر.

(٦) تقدّم برقم ٩٢٦.

٨٢١

ش : الرابعة «أنّ بالفتح والتشديد» ، أي بفتح الهمزة وتشديد النون ، وهي «حرف تأكيد» ينصب الاسم ، ويرفع الخبر ، كما مرّ. واستشكل بعضهم إفادتها للتوكيد ، بأنّك لو صرّحت بالمصدر المنسبك منها لم يفد توكيدا ، قال ابن أمّ قاسم : وليس الاستشكال بشيء.

قال ابن هشام : والأصحّ أنّها فرع عن إنّ المكسورة ، ومن هنا صحّ للزمخشريّ أن يدّعي أنّ أنّما بالفتح يفيد الحصر كإنّما ، وقد اجتمعا في قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [الأنبياء / ١٠٨] ، فالأولى لقصر الصفة على الموصوف ، والثانية بالعكس.

قال الدمامينيّ : وفيه نظر ، إذ لا يلزم من كونها فرعا إفادتها للحصر من حيث إنّ الفرع لا يلزم مساواته للأصل في جميع أحكامه ، نعم الموجب للحصر في إنّما بالكسر عند القائل به قائم في أنّما بالفتح ، وأمّا إنّ السبب في جعل أنّما بالفتح للحصر كون المفتوحة فرعا عن المكسورة فوجه مخدوش ، كما مرّ ، انتهى.

وكونها فرع المكسورة هو مذهب سيبويه والفرّاء والمبرّد وابن السّراج ، وعليه الجمهور ، قيل : إنّها أصل المكسورة ، وقيل : هما أصلان ، وهو الظاهر من صنع المصنّف هنا وفيما تقدّم.

«وتؤوّل» أي تسبك وتفسّر «مع معموليها» ، وهو الاسم والخبر ، إذ الأصحّ أنّها موصول حرفيّ أيضا «بمصدر من لفظ خبرها ، إن كان الخبر مشتقّا ، وبالكون إن كان جامدا» فالأوّل نحو : بلغني أنّك منطلق ، التقدير بلغي انطلاقك ، ومنه : بلغني أنّك في الدار ، التقدير استقرارك في الدار ، لأنّ الخبر في الحقيقة هو المحذوف من استقرّ ومستقرّ ، «و» الثاني نحو : بلغني «أنّ هذا زيد» تقديره : بلغني كونه زيدا ، لأنّ كلّ خبر جامد يصحّ نسبته إلى المخبر عنه بلفظ الكون ، تقول : هذا زيد ، وإن شيءت قلت : هذا كائن زيدا ، ومعناهما واحد ، قاله ابن هشام وغيره.

وقدّره الرضىّ بقولك : بلغني زيديّته ، فإنّ ياء النسبة إذا لحقت آخر الاسم وبعدها التاء أفادت معنى المصدر ، نحو : الفرسيّة والضاربيّة والمضروبيّة ، ثمّ هذا التأويل إذا كان ما يؤوّل مثبتا ، فإن كان منفيّا أتيت بلفظ عدم بدل أداة النفي ، وأضفته إلى المصدر الّذي تقدّره ، فتقول في نحو : بلغني أنّك لم تنطلق : بلغني عدم انطلاقك ، وفي نحو : بلغني أنّ هذا ليس زيدا ، بلغني عدم كونه زيدا أو عدم زيديّته.

وزعم السهيليّ أنّ الّذي يؤوّل بالمصدر إنّما هو أن الناصبة للفعل ، لأنّها أبدا مع الفعل المتصرّف ، وأنّ المشدّدة أنّما تؤوّل بالحديث ، فإذا قلت : بلغني أنّ زيدا قائم ،

٨٢٢

فالمعنى بلغني هذا الحديث : قال : وهو قول سيبويه ، ويؤيّده أنّ خبرها قد يكون اسما محضا ، نحو : علمت أنّ الليث الأسد ، وهذا لا يشعر بالمصدر ، انتهى. وقد مضي أنّ هذا يقدّر بالكون ، فلا تخرج بذلك عن المصدريّة ، ولك تقديره بالأسديّة ، كما قاله الرضيّ ، فيفيد معنى المصدريّة.

إنّ

ص : إنّ بالكسر والتشديد ترد حرف تأكيد ، تنصب الاسم ، وترفع الخبر ، ونصبهما لغة ، وقد تنصب ضمير شأن مقدّر ، فالجملة خبرها ، وحرف جواب كنعم ، وعدّ المبرّد من ذلك قوله تعالى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ ،) وردّ بامتناع اللّام في خبر المبتدإ.

ش : الخامسة «أنّ بالكسر والتشديد» أي بكسر الهمزة وتشديد النون ترد على وجهين :

أحدهما : أن تكون «حرف تأكيد» وإفادتها للتأكيد بدليل تلقّي القسم بها ، «تنصب الاسم وترفع الخبر» ، كما مرّ في الحديقة الثانية فيما يتعلّق بالأسماء ، «ونصبهما» أي نصبها للاسم والخبر «لغة» لبعض العرب كقوله [من الطويل] :

٩٣٢ ـ إذا اسودّ جنح الليل فلتأت ولتكن

خطاك خفافا إنّ حرّاسنا أسدا (١)

وفي الحديث : إنّ قعر جهنم سبعين خريفا (٢). وهذه اللغة ليست مختصّة بأنّ عند من أثبتها ، بل جارية في جميع الحروف المشبّهة ، نعم خصّها الفرّاء بليت ، والجمهور على إنكارها مطلقا وتاويل شواهدها كما مرّ مستوفيا.

«وقد تنصب» أي إنّ «ضمير شأن» محذوف «مقدّر» ، فتكون «الجملة» بعدها خبرها ، كقوله (ع) : إن من أشدّ الناس عذابا يوم القيامة المصوّرون (٣). الأصل إنّه أي الشأن ، والجملة خبره ، وخرّجه الكسائيّ على زيادة من في اسم إنّ ، والبصريّون غير الأخفش يأبونه ، لأنّ الكلام إيجاب ، والمجرور معرفة على الأصحّ ، وهم يخالفون في الشقّين ، ويشترطون كون المجرور نكرة ، وكونه بعد نفي أو شبهه ، وصرّح جماعة بأنّ حذف هذا الضمير ضعيف.

__________________

(١) تقدّم برقم ١٤٣.

(٢) تقدّم في ص ٢٢٤.

(٣) تقدّم في ص ٢٢٨ و ٤٧٧.

٨٢٣

قال ابن الحاجب في شرح المفصّل : فلا يجوز في سعة الكلام إن زيد قائم ، لأنّه ضمير منصوب (١) ، فلا يجوز أن يستتر ، وليس الموضع موضع حذف فيحذف. وقد جاء في الشعر محذوفا لا مستترا ، لأنّ الحرف لا يستتر فيه ، وفرق بين المحذوف والمستتر ، انتهى.

وإنّما قال : وليس الموضع موضع حذف لما مرّ من أنّه لا دليل عليه ولعدم ملائمته الاختصار ، إذ المقصود من الكلام المصدّر به التعظيم والتفخيم ، فلو حذف فات المقصود منه ، وخالف الأكثر فأجازوا حذفه في السعة من غير ضعف.

قال الرضيّ (ره) : وإنّما جاز حذف الشأن من دون ضعف لبقاء تفسيره ، وهو الجملة ، ولأنّه ليس معتمد الكلام ، بل المراد به التفخيم فقط ، فهو كالزائد ، وقال ابن مالك : يجوز حذف الاسم المفهوم معناه نظما ونثرا ، سواء كان ضمير شأن أو غيره ، ووقوع ذلك في الشعر أكثر ، وقلّ ما يكون المحذوف إلا ضمير شأن ، انتهى.

وقضية عبارة المصنّف أنّ المحذوف لا يكون إلا ضمير شأن ، وهو مذهب لبعضهم ، ثمّ حذفه ليس مختصّا بأنّ ، بل يجوز في سائر أخواتها كما تقدّم.

«و» الثاني أن تكون «حرف جواب كنعم» ، فيقع تصديقا للمخبر وإعلاما للمستخبر ووعدا للطالب ، فتقول : أنّ ، في جواب من قال : أقام زيد ، ومن قال : أذهب عمرو ، ومن قال : أكرم خالدا ، هذا مذهب سيبويه والجمهور ، وهو الصحيح ، وأنكر أبو عبيدة وقوعها في الكلام كذلك ، وحكى الأندلسيّ عنه أنّه قال في قولهم : إنّ بمعنى نعم ، إنّهم يريدون به التأويل لا أنّه في اللغة موضوع لذلك ، قال ابن مالك : والشواهد العربية قاطعة بثبوتها كقوله [من الطويل] :

٩٣٣ ـ قالوا أخفت فقلت إنّ وخيفتي

ما إن تزال منوطة برجائي (٢)

وكقول ابن الزبير لمن قال له : لعن الله ناقة حملتني إليك ، إنّ وراكبها ، أي نعم لعن الله راكبها. وجعل المبرّد والأخفش من ذلك قوله تعالى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه / ٦٣] ، في قراءة من قرأ بتشديد النون وإثبات الألف في هذان ، وهم من عدا ابن كثير وأبا عمرو وحفصا ، وتبع المبرّد والأخفش على ذلك جماعة ، وردّ بأمور :

أحدها : أنّ مجيء إنّ بمعنى نعم شاذّ ، حتّى قيل : إنّه لم يثبت.

الثاني : امتناع اللام ، أي لام الابتداء في خبر المبتدإ ، وقد دخلت هنا لأنّ قوله : هذان مبتدأ ، وساحران خبره ، وإنّما امتنعت لام الابتداء في الخبر ، لأنّ لها الصدر ، ووقوعها في الخبر المفرد مناف لذلك لخروجها حينئذ عن الصدر ، وأجيب عن هذا بأنّها لام

__________________

(١) سقطت «لأنّه ضمير منصوب» في «ح».

(٢) لم يسمّ قائله. اللغة : المنوطة : المربوطة ، المعلّقة.

٨٢٤

زائدة ، وليست للابتداء ، أو بأنّها داخلة على المبتدإ المحذوف ، أي لهما ساحران ، أو بأنّها دخلت بعد إن هذه لشبهها بأنّ المؤكدة لفظا كما قال [من الطويل] :

٩٣٤ ـ ورجّ الفتى للخير ما إن رأيته

 ... (١)

فزاد إن بعد ما المصدريّة لشبهها في اللفظ بما النافية ، قال ابن هشام : ويضعف الأوّل أنّ زيادة اللام في الخبر خاصّة في الشعر ، والثاني أنّ الجمع بين لام التوكيد وحذف المبتدأ كالجمع بين المتنافيين.

الثالث من الأمور : أنّ ما قبل إنّ المذكورة لا يقتضي أن يكون جوابه نعم ، إذ لا يصحّ أن يكون جوابا لقول موسى : (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) [طه / ٦١] ، ولا يكون جوابا لقوله : (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) [طه / ٦٢] ، وهذا الردّ حكاه بعضهم عن أبي على الفارسيّ.

قال الدمامينيّ : وهو حسن ، وتعقّبه الشمنيّ بأنّه لا حسن فيه ، فإنّه على هذا الحمل جواب لإخبار بعضهم بعضا ، أو لاستخبار بعضهم عند إسرارهم النجوي كما حكاه الله تعالى لنا ، فليتأمّل ، فإنّه من المحاسن ، ويؤيّده قول صاحب الكشّاف : والظاهر أنهم تشاوروا في السّرّ ، وتجاذبوا أهداب (٢) القول ثمّ : (قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه / ٦٣] ، فكانت نجواهم فى تلفيق هذا الكلام وتزويره خوفا من غلبتهما وتثبيطا للناس عن اتّباعها ، انتهى.

وقد مرّ لتأويل هذه القراءة وجوه أخر في باب أسماء الإشارة ، واستوفينا الكلام عليها هناك ، فليرجع إليه.

__________________

(١) تقدم برقم ٩٢٩.

(٢) أهداب : (ج) الهدب : الطرف.

٨٢٥

إذ

ص : إذ ، ترد ظرفا للماضي ، فتدخل على الجملتين ، وقد يضاف إليها اسم زمان ، نحو : حينئذ ويومئذ ، وللمفاجاة بعد «بينما» أو «بينا» ، وهل هي حينئذ حرف أو ظرف؟ خلاف.

ش : السادسة «إذ ، ترد ظرفا» للزمن «الماضي» ، ولا تقع للاستقبال عند الجمهور ، قال جماعة منهم ابن مالك : إنّها تخرج عن المعنى إلى الاستقبال ، واستدلّوا بقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) [الزلزال / ٤] ، والجمهور يجعلون الآيه ونحوها من باب : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) [الكهف / ٩٩] ، أعني من تتريل المستقبل الواجب الوقوع مترلة ما وقع ، وقال ابن هشام : وقد يحتجّ لغيرهم بقوله تعالى : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ* إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) [غافر / ٧١ و ٧٠] ، فإنّ يعلمون مستقبل لفظا ومعنى لدخول حرف التنفيس عليه ، وقد عمل في إذ ، فيلزم أن يكون بمترلة إذا. قال الدمامينيّ : وفيه نظر ، إذ لا مانع من أن يتأوّل هذا بما تأوّل به الجمهور الآية السابقة ، فيقال : هذا من باب : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ،) حرف التنفيس ليس بضادّ عن ذلك.

و «تدخل» إذ «على الجملتين» الاسميّة والفعلية لا معا ، بل على سبيل التناوب ، ودخولها على إحداهما واجب ، إذ لا تخلو عن الإضافة إلى الجملة لفظا أو تقديرا بتعويض التنوين عن الجملة المحذوفة كما مرّ.

وقد تخرج عن الظرفيّة ، فتقع اسما يضاف إليها اسم زمان ، وهو نوعان : غير صالح للاستغناء عنه ، نحو : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) [آل عمران / ٨] ، فالظرف هنا وهو بعد لا يصلح للاستغناء عنه ، فيحذف لعدم ما يدلّ عليه ، ولو ترك مع أنّه مقصود وصالح للاستغناء عنه «فيحذف لعدم ما يدلّ عليه ، ولو ترك مع أنّه مقصود وصالح للاستغناء عنه «نحو حينئذ ويومئذ» ، تقول : أكرمتني فأثنيت عليك حينئذ ويومئذ ، واليوم والحين صالحان للاستغناء عنهما ، إذ يجوز أن تقول : فأثنيت عليك إذ أكرمتني ، والمعنى بحاله ، والإضافة في مثل هذا التركيب ، قال ابن مالك : من إضافة الموكّد إلى التأكيد ، والظاهر أنّها من إضافة الأعمّ إلى الأخصّ كشجر أراك (١) ، وذلك لأنّ إذ مضاف إلى جملة محذوفه ، فإذا قلت : جاء زيد وأكرمته حينئذ ، فالمعنى حين إذ جاء.

والثاني مخصّص بالإضافة إلى المجيء ، والأوّل عار من ذلك ، فهو أعمّ منه ، فلا يكون مؤكّدا له ، نعم يكون مفسّرا له ومبيّنا للمراد به ، كما يبيّن الأعمّ بالأخصّ ، فالإضافة فيه بيانيّة ، أي وأكرمته حينا ، وهو حين مجيئه ، فتأمّله.

__________________

(١) الاراك : شجر المسواك.

٨٢٦

تنبيه : الجمهور على أنّ إذ لا تكون إلا ظرفا أو مضافا إليها كما هو قضية اقتصار المصنّف على ذلك ، وذهب جماعة إلى أنّها قد تكون مفعولا به ، وهي المذكورة بعد فعل الأمر في أوائل القصص مثل : (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) [الأعراف / ٨٦] ، ويقدّرون اذكر حيث لا يذكر ، نحو : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) [البقرة / ٣٠] ، (إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) [البقرة / ٥٠] ، قالوا : يقع بدلا من المفعول به نحو : (اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ) [مريم / ١٦] ، فإذ بدل اشتمال من مريم ، والجمهور يخرّجون الأوّل على أنّه ظرف لمفعول محذوف ، نحو : واذكروا نعمة الله إذ كنتم قليلا ، والثاني على أنّه ظرف لمضاف مفعول محذوف ، أي واذكروا قصة مريم ، ويؤيّد هذا القول التصريح بالمفعول في : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً) [آل عمران / ١٠٣].

ووقع للزمخشريّ في قراءة بعضهم : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [آل عمران / ١٦٤] ، أنّه يجوز أن يكون التقدير منه : إذ بعث ، ويجوز كون إذ في محلّ رفع كإذا في قول : أخطب ما يكون الأمير قائما ، أي لمن منّ الله على المؤمنين وقت بعثه. قال ابن هشام : فمقتضي هذا الوجه أنّ إذ مبتدأ ، ولا نعلم بذلك قائلا.

«و» ترد إذ «للمفاجاة» ، نصّ عليه سيبويه ، وهي الواقعة «بعد بينما أو بينا» كقوله [من البسيط] :

٩٣٥ ـ استقدر الله خيرا وارضينّ به

فبينما العسر إذ دارت مياسير (١)

وكقوله [من الطويل] :

٩٣٦ ـ وكنت كفيء الغصن بينا يظلّني

ويعجبني إذ زعرعته الأعاصر (٢)

وأنكر بعضهم وقوع إذ بعد بينا خاصّة دون بينما ، وجعله الحريريّ من الأوهام في درّة الغواص ، وليس كذلك. قال ابن مالك : ترك إذ بعد بينا وبينما أقيس من ذكرها ، وكلاهما عربيّ.

وقال الأصمعيّ : وقوع إذ وإذا في جواب بينا وبينما عربيّ ، قال الرضيّ : وكان الأصمعيّ لا يستفصح (٣) إلا تركهما في جوابهما لكثرة مجئ جوابها بدونهما ، والكثرة لا تدلّ على أنّ الكثور غير فصيح ، بل على أنّ الأكثر أفصح ، ألا ترى إلى قول أمير

__________________

(١) نسبوا هذا البيت إلى عنبر بن لبيد وإلى حريث بن جبلة. اللغة : استقدر الله خيرا : اطلب القدرة على الخير من الله ، المياسير : جمع ميسور ، وهو بمعنى اليسر خلاف العسر.

(٢) هو ليزيد بن الطثرية. اللغة : الفيء : الظلّ ، زعرعته : حركته بشدّة ، الأعاصر : جمع الاعصار : ريح تهبّ بشدة.

(٣) في «ح» لا يستقبح ، وفي شرح الرضيّ «لا يستفصح» الكافية في النحو ، لابن الحاجب ، شرحه رضي الدين الأسترآبادي ، لاط ، المجلّد الثاني ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ١٤٠٥ ه‍ ، ص ١١٣.

٨٢٧

المؤمنين علي (ع) وهو من الفصاحة : بحيث هو بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته (١) ، انتهى.

قلت : وهذه الفقرة الّتي استشهد بها ، من خطبته الشقشقيه (ع) ، وكثير من المعاندين ينكر هذه الخطبة ، ويقول : إنّها من كلام السّيّد الرضي جامع نهج البلاغة ، وليست من كلام علي (ع) ، بل قال بعضهم : إنّ جميع نهج البلاغه وضعه السّيّد الرضيّ ، ونسبه إلى علي (ع) وأنّه ليس من كلامه ، ذكر ذلك ابن خلّكان في تاريخه ، وهذا لا يقوله إلا عنيد جاهل أو متجاهل ، فإنّ كثيرا من خطبه المذكورة في ذلك الكتاب بل جميعها مذكور في كتب السير ، ولكنّ المعاند يقول ما شاء.

وأمّا هذه الخطبة الشقشقية فقال ابن أبي الحديد في شرحه نقلا عن ابن الخشاب : إنّه قال : والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنّفت قبل أن يخلق الرضيّ بمأتي سنة ، ولقد وجدتها مسطورة في كتب أعرفها ، وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضيّ ، ثمّ ذكر ابن أبي الحديد عن نفسه أنّه وجدها في تصانيف جماعة ذكرهم كانوا قبل أن يخلق الرضيّ (ره) (٢).

تنبيه : أصل بينا وبينما بين ، وأصله أن يكون مصدرا بمعنى الفراق ، تقول : بان عنّي زيد بينا ، أي فارقني فراقا ، ومعنى جلست بينكما ، أي مكان فراقكما ، وفعلت بين خروجك ودخولك ، فعلت زمان فراق خروجك ودخولك ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه. فبين ـ كما تبيّن ـ مستعمل في الزمان والمكان ، وهو إذ ذاك لازم للإضافة إلى المفرد ، فلمّا قصدوا إضافته إلى الجملة ، والإضافه إليها كلا إضافة ، لأنّ الإضافة في المعنى ليست إليها بل إلى المصدر الّذي تضمّنته ، زادوا عليه ما الكافة ، لأنّها الّتي تكفّ المقتضى عن الاقتضاء ، واشبعوا الفتحة ، فتولّدت ألف ، لتكون الألف دليل عدم اقتضائه للمضاف إليه ، لأنّه كان قد وقف عليه ، والألف فد يؤتي به للوقف كما في أنا و: (الظُّنُونَا) [الأحزاب / ١٠] ، وتعيّن حينئذ أن لا يكون إلا للزمان لما تقرّر من أنّه لا يضاف إلى الجمل من المكان إلا حيث ، وبين في الحقيقة مضاف إلى زمان مضاف إلى الجملة ، فحذف الزمان المضاف لقيام القرينة عليه ، وهي غلبة إضافة الأزمنة إلى الجمل دون الأمكنة وغيرها ، فيتبادر الفهم في كلّ مضاف إليها إلى الزمان ، فإذا قلت : بينا زيد قائم أقبل عمرو ، فالتقدير بين أوقات زيد قائم ، أي بين أوقات قيام زيد أقبل عمرو ، هكذا قرّره الرضيّ ، وهو مذهب الفارسيّ وابن جني ، واختاره ابن الباذش.

__________________

(١) في نهج البلاغة بترجمة جعفر الشهيدي «فيا عجبا بينا هو ...» خطبة الشقشقية ، ص ١٠.

(٢) سقطت هذه الفقرة في «ح».

٨٢٨

والجمهور على أنّ الجملة بعد بينا وبينما مضاف إليها نفسها دون حذف مضاف ، وأنّها في موضع جرّ ، ومقتضاه أنّ ما غير كافّة عن الإضافة وكذا الألف. وذهب قوم إلى أنّ ما والألف كافّتان ، والجملة بعدهما لا موضع لها من الإعراب ، والأوّل هو التحقيق ، وليست بينا محذوفة من بينما ، ولا ألفها للتأنيث خلافا لزاعمي ذلك.

«وهل هي» يعني إذ «حينئذ» أي حين إذ وردت للمفاجاة بعد بينما وبينا «ظرف» مكان أو زمان ، «أو حرف» يدلّ على المفاجاة في غيره أو مؤكّد أي زائد ، فيه «خلاف» ، فإذا قلت : بينا أو بينما أنا قائم ، إذ أقبل عمرو ، فعلى القول بزيادة إذ يكون الفعل الواقع بعدها هو العامل في بينا أو بينما ، كما يكون ذلك لو كانت إذ غير موجودة ، وهو واضح ، وعلى القول بأنّها حرف مفاجاة بعدها أو ظرف ، لا يمكن أن يعمل ما بعدها فيما قبلها ، لكن إذا قلنا بأنّها حرف مفاجاة (١) ، فالعامل في بينا وبينما فعل محذوف يفسّره ما بعد إذ ، وهو أقبل في المثال المذكور.

وعلى القول بالظرفيّة فقال ابن جنّي : عاملها الفعل الّذي بعدها ، لأنّها غير مضافة إليه ، وعامل بينا وبينما محذوف يفسّره الفعل المذكور ، وقال الشلوبين : إذ مضافة للجملة ، ولا يعمل فيها الفعل ولا في بينا وبينما ، لأنّ المضاف إليه لا يعمل في المضاف ولا فيما قبله ، وإنّما عاملها محذوف ، يدلّ عليه الكلام ، وإذ بدل منهما ، وقيل : العامل ما يلي بين ، بناء على أنّها مكفوفة عن الإضافة إليه ، كما يعمل تإلى اسم الشرط فيه ، وقيل : بين خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير في المثال بين أوقات قيامي إقبال عمرو ، ثمّ حذف المبتدأ مدلولا عليه بأقبل عمرو ، وقيل : مبتدأ ، وإذ خبره ، والمعنى حين أنا قائم حين أقبل عمرو.

تنبيه : ترد إذ للتعليل كقوله تعالى : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) [الزخرف / ٣٩] ، أي لن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب لأجل ظلمكم في الدنيا ، وهل هذه حرف بمترلة لام العلّة أو ظرف ، والتعليل مستفاد من قوّة الكلام ، لا من اللفظ ، فإنّه إذا قيل : ضربته إذ أساء ، وأريد الوقت ، اقتضى ظاهر الحال أنّ الإساءة سبب الضرب؟ قولان ، والجمهور على الثاني.

__________________

(١) في «ح» من أو ظرف حتّى هنا محذوف.

٨٢٩

إذا

ص : إذا ترد ظرفا للمستقبل ، فتضاف إلى شرطها ، وتنصب بجوابها ، وتختصّ بالفعلية ، نحو : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ،) مثل (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ.) وللمفاجاة ، فتختصّ بالاسميّة ، نحو : خرجت فإذا السّبع واقف ، والخلاف فيها كأختها.

ش : السابعة «إذا ترد ظرفا» للزمن «المستقبل» وفيها معنى الشرط غالبا ، «فتضاف إلى شرطها» ، وهو الجملة الّتي بعدها لزوما ، «وتنصب بجوابها» عند الأكثرين ، وقيل : بشرطها ، وعليه جماعة من المحقّقين حملا لها على سائر أدوات الشرط ، وردّ بأنّ المضاف إليه لا يعمل في المضاف ، وأجيب بأنّها عند هولاء غير مضافة ، كما يقوله الجميع إذا جزمت كقوله [من الكامل] :

٩٣٧ ـ ...

وإذا تصبك خصاصة فتجمّل (١)

قال الدمامينيّ : ويلزم عليه أن تكون إذا ظرفا مبهما لا مختصّا ، وهي عند النحاة من الظروف المختصّة. فإن قلت : قد قال ابن الجاجب : إنّ تعيين الفعل في إذا يحصل بمجرّد ذكر الفعل بعده ، وإن لم يكن مضافا كما يحصل في قولنا : زمانا طلعت فيه الشمس ، قلت : ردّه الرضيّ بأنّه أنّما يحصل التخصيص في المثال بما ذكر بعده لكونه صفة له ، لا بمجرّد ذكر الفعل بعده ، ولو كان مجرّد ذكر الفعل بعد كلمة كافيا لتخصيصها لتخصّصت متى في قولك : متى قام زيد ، وهو غير مخصّص اتّفاقا ، انتهى.

وأمّا قول الأكثرين فأورد عليها أمور :

منها أنّ الشرط والجزاء عبارة عن جملتين ، تربط بينهما الأداة ، وعلى قولهم تصير الجملتان واحدة ، لأنّ الشرط لمّا كان معمولا لإذ لكونها مضافة إليه ، وإذا معمولا للجواب لزم دخول جملة الشرط في جملة الجواب ، لأنّ المعمول داخل في جملة عاملة ، فيلزم حينئذ دخول جملة الشرط فى جملة الجواب ، وأجيب بأنّ الأصل ذلك ، ولكنّهما قد تضمّنتا معنى الشرط ، وجعل الأوّل سببا للثاني.

ومنها أنّه يلزمهم في نحو : إذا جئتني اليوم أكرمتك غدا ، أن يعمل أكرمتك في ظرفين متضادّين ، وذلك باطل عقلا ، إذ الحدث الواحد المعيّن لا يقع بتمامه في زمنين ، وقصدا إذ المراد وقوع الإكرام في الغد لا في اليوم.

قال الرضيّ : والجواب أنّ إذا هذه بمعنى متى ، فالعامل شرطها ، أو تقول المعنى : إذا جئتني اليوم كان سببا لإكرامك غدا ، كما قيل في نحو : إن جئتني اليوم فقد جئتك أمس ، إن جئتني اليوم يكون جزاء لمجيئي إليك أمس.

__________________

(١) تقدّم برقم ٧٢٧.

٨٣٠

ومنها أنّ الجواب ورد مقرونا بإذا الفجائيّة ، نحو : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم / ٢٥] ، وبالحرف الناسخ ، نحو : إذا جئتني فإنّي أكرمك ، وكلّ منهما لا يعمل ما بعده في ما قبله. وأجيب بأنّهم إنّما يقولون : إنّ العامل فيها جوابها ، إذا كان صالحا ، ولم يكن ثمّ مانع كإذا الفجائيّة وإن ونحوها ، فالعامل فيها حينئذ مقدّر يدلّ عليه الجواب.

وقال الرضيّ : الأولى أن نفصّل في ذلك ونقول : إن تضمّن إذا معنى الشرط فحكمه حكم أخواته من متى ونحوه ، وإن لم يتضمّن نحو : إذا غربت الشمس جئتك ، بمعنى أجيئك وقت غروب الشمس ، فالعامل فيها هو الفعل الّذي في محلّ الجزاء ، إن لم يكن جزاء في الحقيقة دون الأوّل الّذي في محلّ الشرط ، إذ هو مخصّص للظرف.

«وتختصّ» إذا «بالجملة الفعلية» على الأصحّ ، سواء كان صدرها مضارعا ، نحو : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) [يونس / ١٥] أو ماضيا ، نحو : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) [المنافقون / ١] ، وزعم الفرّاء أنّ إذا إذا كان فيها معنى الشرط لا يكون بعدها إلا الماضي ، وقال ابن هشام : إيلاؤها الماضي أكثر من المضارع ، وقد اجتمعا في قوله [من الكامل] :

٩٣٨ ـ والنفس راغبة إذا رغّبتها

وإذا تردّ إلى قليل تقنع (١)

ولا تدخل على الجملة الاسميّة ، «و» أمّا «نحو» قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق / ١] ، ممّا استند عليه الأخفش والكوفيّون من جواز دخول إذا على الجملة الاسميّة ، فمؤول (٢) مثل تأويل قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) [التوبة / ٦] ، فالسماء فاعل بفعل محذوف ، يفسّره المذكور ، والأصل إذا انشقّت السماء انشقّت ، كما أنّ أحد فاعل بفعل محذوف ، يفسّره المذكور ، والأصل وإن استجارك أحد ، لا إنّ السماء مبتدأ ، والفعل بعده خبره ، كما زعموا ، وفي هذه القياس نظر ، لأنّ الشرط المقيس عليه أن يكون متّفقا عليه عند الخصمين ، وليس هو هنا كذلك ، لأنّ

__________________

(١) هو لأبي ذويب.

(٢) هل تدخل إذا الظرفيّة على الجملة الاسميّة أو لا؟ خلاف بين النّحويّين ، ويذهب البصريّون إلى أنّه لا يجوز ، والكوفيّون والأخفش يجيزون دخولها على الجملة الاسميّة ، استنادا إلى الآية (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ.) واضطرب قول الدكتور إميل بديع يعقوب في كتابه «موسوعة النحو والصرف والإعراب ، فمرّة يقول : (ص ٣٦) تختصّ إذا بالدخول على الجملة الفعلية ، وإذا دخلت على اسم مرفوع ، أعرب فاعلا لفعل محذوف يفسّره الفعل الّذي يليه ، ومرّة (ص ١٠٤) يقول : أوّل البصريّون هذه الآية وأمثالها بأن جعلوا (السَّماءُ) فاعلا لفعل محذوف يفسّره الفعل المذكور ، ونحن لا نرى داعيا لهذا التمحّل في التقدير ، وعندنا أنّ إذا تضاف إلى الجملة الاسميّة ، كما تضاف إلى الجمل الفعلية.

يبدو أنّه لا يجوز إضافة إذا إلى الجملة الاسميّة الّتي خبرها مفرد ، فلا نقول : آتيك إذا زيد قائم ، لكن يمكن إضافتها إلى الجملة الاسميّة الّتي خبرها جملة فعلية ، لأنّه يمكن القول : إنّ مثل هذه الجمل فعلية في الأصل ، ثمّ للتأكيد يتقدّم الاسم على الفعل ، فالمرفوع بعد إذا مبتدأ ، وخبره جملة فعلية بعده ، ولا نحتاج إلى هذه التأويلات.

٨٣١

الأخفش والكوفيّين لم يوافقوا على أنّ أحدا في آلاية يتعيّن أن يكون فاعلا بفعل محذوف ، بل يجيزون ابتدائيّة ، لأنّ إن الشرطية لا تختصّ عندهم بالأفعال ، كما قاله غير واحد ، فلا فرق عندهم بين إذا وإن في عدم الاختصاص بالجمل الفعلية ، قاله في التصريح ، فتأمّل.

أمّا قول الشاعر [من الطويل] :

٩٣٩ ـ إذا باهليّ تحته حنظليّة

له ولد منها فذاك المذرّع (١)

فعلى إضمار كان ، وباهليّ مرفوعا بها ، والجملة بعدها خبر ، والتقدير إذا كان باهليّ تحته حنظليّة وقيل : حنظليّة فاعل باستقرّ محذوفا ، وباهليّ فاعل بمحذوف يفسّره العامل في حنظليّة ، ويردّه أنّ فيه حذف المفسّر ومفسّره جميعا ، ويسهّله أنّ الظرف يدلّ على المفسّر ، فكأنّه لم يحذف.

تنبيهات : الأوّل : الجمهور على أنّ إذا لا تخرج عن الظرفيّة كما هو قضية اقتصار المصنّف ، وزعم قوم أنّها تخرج عنها ، فقال الأخفش وتبعه ابن مالك : إنّها وقعت مجرورة بحتّى في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها) [الزمر / ٧١]. وقال ابن جنيّ في : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) [الواقعة / ١] ، فيمن نصب (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) [الواقعة / ٣] ، إنّ إذا الأولى مبتدأ ، وإذا الثانية خبر ، والمنصوبين حالان ، والمعنى وقت وقوع الواقعة خافضة لقوم رافعة لآخرين هو وقت رجّ الأرض ، وتبعه ابن مالك على ذلك ، وقال ابن مالك : إنّها وقعت مفعولا به في قوله (ع) لعاشية : إنّي لا أعلم إذا كنت علىّ راضية وإذا كنت علىّ غضبي (٢).

والجمهور على أنّ حتّى في تلك الآية حرف ابتداء داخلة على الجملة بأسرها ، ولا عمل لها ، وأمّا : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) فإذا الثانية بدل من الأولى ، والأولى ظرف ، وجوابها محذوف لفهم المعنى ، أي انقسمتم أقساما : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) [الواقعة / ٧] ، وأمّا الحديث فإذا ظرف لمحذوف ، وهو مفعول أعلم أي شأنك معي ونحوه.

__________________

(١) هو للفرزدق. اللغة : باهليّ : نسبة إلى باهلة ، قبيلة من قيس بن غيلان ، حنظلية : نسبة إلى حنظلة ، قبيلة من تميم ، المذرع : الّذي أمّه أشرف من أبيه.

(٢) صحيح بخاري ٤ / ٧٢ ، رقم ١٥٧.

٨٣٢

الثاني : قد تخرج إذا عن الاستقبال ، وذلك على وجهين : أحدهما : أن تجئ للحال ، وذلك بعد القسم نحو : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) [الليل / ١] ، لأنّ الليل مقارن للغشيان. الثاني : أن تجيء للماضي ، كما جاءت إذ للمستقبل عند بعضهم ، نحو : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ) [التوبة / ٩٢] ، نزلت بعد الإتيان : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة / ١١] ، نزلت بعد الروية والانفضاض.

وقوله [من الوافر] :

٩٤٠ ـ وندمان يزيد الكأس طيبا

سقيت إذا تغوّرت النجوم (١)

ويجوز أن يكون سقيت بمعنى أسقي ، وهو دليل جواب إذا ، أي إذا غربت النجوم أسقيه.

الثالث : تختصّ إذا بما تيقّن وجوده نحو : آتيك إذا احمرّ البسر (٢) أو رجّح نحو : آتيك إذا دعوتني ، بخلاف إن ، فإنّها تكون للمحتمل والمشكوك فيه والمستحيل كقوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) [الزخرف / ٨١] ، لا تدخل على متيقّن ولا راحج ، وقد تدخل على متيقّن لكونه مبهم الزمان نحو : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) [الأنبياء / ٣٤] ، ولكون إذا خاصّا بالمتيقّن والمظنون خالفت أدوات الشرط ، فلم تجزم إلا في الضرورة.

وقد تخرج عن معنى الشرط نحو : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى / ٣٧] ، (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) [الشوري / ٣٩] ، فإذا في الآيتين ظرف لخبر المبتدإ بعدها ، ولو كانت شرطيّة والجملة الاسميّة جوابا لاقترنت بالفاء ، وقول بعضهم : إنّه على إضمارها ، مردود بأنّها لا تحذف إلا في الضرورة ، أو نادر من الكلام ، وقول الآخر : إنّ الضمير تؤكيد لا مبتدأ ، وإنّ ما بعده الجواب تعسّف ، وقول آخر : إنّ جوابها محذوف مدلول عليه بالجملة تكلّف من غير ضرورة ، ومن ذلك إذا الّتي بعد القسم نحو : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) [الليل / ١] ، (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) [النجم / ١] ، إذ لو كانت شرطيّة كان ما قبلها جوابا في المعنى كما في قولك : أجيئك إذا جئتني ، فيكون التقدير إذا يغشى الليل وإذا هوي النجم أقسمت ، وهذا يمتنع ، لأنّ القسم الإنشائيّ لا يقبل التعليق ، لأنّ الإنشاء ثابت ، والثابت لا يقبل التعليق.

__________________

(١) هو للبرج بن مسهّر. اللغة : الندمان : النديم في الشرب ، تغوّرت : غربت.

(٢) البسر : تمر النخل قبل أن يرطب.

٨٣٣

الرابع : قد تستعمل إذا مع جملتيها لاستمرار الزمان في الأحوال الماضية والحاضرة والمستقبلة ، كما يستعمل الفعل المضارع لذلك ومنه : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا) [البقرة / ١١] ، (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا) [البقرة / ١٤] ، أي إنّ هذا عادتهم المستمرّة وشأنهم أبدا ، ومثله كثير.

وترد إذا «للمفاجاة فتختصّ» بالجملة «الاسميّة» على الأصحّ كما مرّ للفرق اللفظيّ بينهما بين الشرطيّة المناسبة لفعل ، ولا تحتاج إلى الجواب لعدم تضمّنها للشرط ، ولا يقع في صدر الكلام ، لأنّ الغرض من الإتيان بها الدلالة على أنّ ما بعدها حصل بعد وجود ما قبلها على سبيل المفاجاة ، فلا بدّ في حصول هذا الغرض من تقدّم شيء عليها ، ومعناها الحال لا الاستقبال ، نحو : خرجت فإذا الأسد بالباب ، ومنه : (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) [طه / ٢٠] ، (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) [يونس / ٢١] ، «والخلاف فيها كاختها» يعني إذ ، في كونها حرفا أو ظرفا ، وهل هو ظرف زمان أو مكان ، فذهب الأخفش والكوفيّون إلى أنّها حرف ، واختاره ابن مالك ، قال ابن هشام : ويرجّحه قولهم : خرجت فإذا إنّ زيدا بالباب بكسر إنّ ، لأنّ إنّ لا يعمل ما بعدها في ما قبلها ، انتهى.

وتقريره أنّ العامل هنا منحصر فيما بعد إنّ ، وإنّ لا يعمل ما بعدها في ما قبلها ، ولا عامل سواه ، فلا تكون إذا معمولة ، فلا تكون اسما ، لأنّ الاسم يستلزم المعموليّة ، وانتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم ، وليس فيها معنى الحدث فيكون فعلا ، فتعيّن أن تكون حرفا.

وذهب الزجاجّ والرياشيّ (١) إلى أنّها ظرف زمان ، ونسب للمبرّد ، وهو ظاهر كلام سيبويه ، واختاره الزمخشريّ وابن طاهر وابن خروف وابن عصفور والشلوبين ابقاء لها على ما ثبت لها. وزعم الزمخشريّ أنّ عاملها فعل مقدّر مشتقّ من لفظ المفاجاة ، وقال : التقدير في قوله تعالى : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم / ٢٥] ، فاجأتم الخروج في ذلك الوقت. قال ابن هشام : ولا يعرف هذا لغيره ، وإنّما ناصبها عندهم الخبر المذكور في نحو : خرجت فإذا زيد جالس أو المقدّر ، نحو : فإذا زيد ، أي حاضر ، قال : ولم يقع الخبر معها في التتريل إلا مصرّحا به.

__________________

(١) العباس بن الفرج أبو الفضل الرياشيّ اللغويّ النحويّ ، قرأ على المازنيّ النحو ، وقرأ عليه المازنيّ اللغة. وكان عالما باللغة والشعر ، وصنّف : كتاب الخيل ، كتاب الإبل ، قتله الزنج بالبصرة سنة ٢٥٧ ه‍. بغية الوعاة ٢ / ٢٧.

٨٣٤

وذهب المبرّد والفارسيّ وأبو الفتح إلى أنّها ظرف زمان ، وعزي إلى سيبويه ، وتظهر فائدة الخلاف إذا قلت : خرجت فإذا الأسد ، فعلى الأوّل لا يصحّ كونها خبرا ، لأنّ الحرف لا يخبر به ولا عنه ، وكذا على الثاني ، لأنّ الزمان لا يخبر به عن الجنة إلا أن يقدّر مضاف ، أي فإذا حضور الأسد ، ويصحّ على الثالث أي فبالحضرة الأسد.

فإن قلت : فإذا القتال صحّت خبريّتها عند غير الأخفش والكوفيّين ، وتقول : خرجت فإذا زيد جالس أو جالسا ، فالرفع على الخبريّة ، وإذا نصب به ، والنصب على الحالية ، والخبر إذا قلنا : إنّها مكان ، وإلا فهو محذوف ، فإن قلت : الجالس أو القائم امتنع النصب لامتناع كون الحال معرفة.

مناظرة زنبوريّة

وهذا هو الوجه الّذي أنكره سيبويه على الكسائيّ لمّا سأله في المجلس الّذي جمعها بين يدي خالد بن يحيي البرمكي (١) في مناظرتهما المشهورة بالزنبوريّة ، وهي قولهم : كنت أظنّ أنّ العقرب أشدّ لسعة من الزنبور ، فإذا هو هي ، أو فإذا هو إيّاها.

وكان من خبر ذلك أنّ سيبويه لمّا قدم على البرمكة ، احتفل له يحيى ، وعزم على الجمع بينه وبين الكسائيّ ، فجعل لذلك يوما ، فحضر سيبويه ، وأحضر الفرّاء خلف وغيرهما من جماعة الكسائيّ ، وكاده القوم كيدا ، وأوّل من تقدّم إليه خلف فسأله ، فأجاب فيها ، فقال له أخطات ، ثمّ سأله ثانية وثالثة ، وهو يقول له كلّما أجاب : أخطات ، وبدون ذلك ينحرف مزاج الشاب الغريب ، ويذهب فكر الفطن الأريب ، فلم يزد سيبويه إلى أن قال لخلف : هذا سوء أدب ، فأقبل إليه الفرّاء مضمرا ما أظهره صاحبه ، مظهرا أنّه سينصف فيما يقول ، ويستعمل الأدب فيما يبديه ، ويعيده ، فقال : إنّ في هذا الرجل حدّة وعجلة ، ولكن ما تقول في كذا ، وسأله مسألة أخرى ، فأجابه ، فقال : أعد النظر ، وهي كلمة تدانى كلمة صاحبه ، فأدرك سيبويه أنّ مقصودهما إقحامه ، وأن يرفعا درجة شيخهما الكسائيّ عن مناظرته ، فإن كانت الغلبة لهما ، قيل : غلبه غلاملاه ، وإلا فإن يغلبا فخير عندهما من أن يغلب شيخهما ، فقال سيبويه : لست أكلّمكما ، أو يحضر صاحبكما ، يعني الكسائيّ.

فحضر الكسائيّ ، فقال : تسألني أو أسألك ، فقال له سيبويه : سل أنت ، فسأله عن هذا المثال الزنبوري ، فقال سيبويه : فإذا هو هي ، ولا يجوز النصب ، وسأله عن أمثال

__________________

(١) هو من البرامكة وهم أسرة فارسية من بلخ تولّي أبناؤها الوزارة في عهد العباسيين. عظم شأنهم وقرّبوا الشعراء واشتهروا بالكرم. المنجد في الأعلام ص ١١٨.

٨٣٥

ذلك ، نحو : خرجت فإذا عبد الله القائم والقائم ، فقال : كلّ ذلك بالرفع ، ولا يجوز بالنصب ، فقال له الكسائيّ : العرب ترفع كلّ ذلك ، وتنصبه ، فقال يحيى : قد اختلفتما ، وأنتما رئيسا بلديكما ، فمن يحكم بينكما؟ فقال له الكسائيّ : هذه العرب ببابك ، قد سمع منهم أهل البلدين ، فيحضرون ، ويسألون ، فقال يحيى وولده جعفر : انصفت ، فأحضرا ، فوافقوا الكسائيّ ، واستكان سيبويه ، وأقبل الكسائيّ على يحيى ، فقال : أصلح الله الأمير ، إنّه وفد إليك من بلده مؤمّلا ، فإن رأيت أن لا تردّه خائبا ، فأمره له بعشرة الآف درهم ، فخرج إلى فارس ، ويقال : كانت سبب علّته الّتي مات فيها ويقال : إنّ العرب رشوا على ذلك ، أو إنّهم علموا بمترلة الكسائيّ عند الرشيد ، ويقال : إنّهم قالوا : القول قول الكسائيّ ، ولم ينطقوا بالنصب ، وإنّ سيبويه قال ليحيى : مرهم إن ينطقوا بذلك فإنّ ألسنتهم لا تطوّع به.

وهذه حكاية عجيبة وموعظة غريبة. وللأديب أبي الحسن حازم بن محمد بن حازم (١) قصيدة طنّانة ، وهي من أفراد أدباء المغرب ، امتدح بها المنصور صاحب إفريقيّة أبا عبد الله محمد بن الأمير بن زكريّا يحيى بن عبد الواحد ، وضمنها مسائل من علم النحو ، ولعلّه أتى فيها على جميع أبوابه ، والموجود منها نحو ماتين وعشرين بيتا ، أجاد فيها نظم حكاية هذه الواقعة اللطيفة وأوّل القصيدة [من البسيط] :

٩٤١ ـ الحمد لله معلي قدر من علما

وجاعل العقل في سبل الهدى علما

ثمّ الصلاة على الهادي بسنّته

محمد خير مبعوث به اعتصما

ثمّ الدعا لأمير المومنين أبي

عبد الإله الّذي فاق الحبا كرما

خليفة خلقت أنوار عزّته

شمس الضحي ونداه بخلف الديما

سالت فواضله للمعتفي نعما

صالت نواصله بالمعتدي نقما

ومنها

مردي العداة بسهم من عزائمه

كأنّه كوكب للقذف قد رجما

أدام قول نعم حتّى إذا اطردت

نعماه من غير وعد لم يقل نعما

ومنها

يا أيّها الملك المنصور ملكك قد

شبّ الزمان به من بعد ما هرما

__________________

(١) حازم بن محمد حسن بن محمد بن خلف بن حازم ، شيخ البلاغة والأدب ، وأوحد زمانه في النحو واللغة وعلم البيان. صنف : سراج البلغاء في البلاغة : كتابا في القوافي. مولده سنة ٦٠٨ ومات سنة ٦٨٤ ، المصدر السابق ١ / ٤٩٠.

٨٣٦

فلو رأى من مضي أدنى مكارمكم

لم يذكروا بالندى معنى ولا هرما

إنّ الليإلى والأيام مذ خدمت

بالسعد ملكك اضحت أعبد أو أما

بذلت تقفيه من بيت ممتدح

أوردته مثلا في رعيك الأمّما

وكلت بالدهر عينا غير غافلة

من جود كفكّ تاسوا كلّ من كلما

ومنها

أمّا على إثر حمد الله ثمّ على

إثر الصلاة على من بلغ الحكما

وما تلا ذاك من وصل الدعا ومن

نشر الثناء على من أسبغ النعما

فاسمع لنظم بديع قد هدت فكري

له مقادة ملك أجزل القسما

حديقة تبتهج الأحداق بهجتها

من نحوها ناسم للنحو قدنسما

فاسمع إلى القول في طرق الكلام وما

علم اللسان به قد حدا ورسما

النحو علم بأحكام الكلام وما

من التعابير يعرو اللفظ والكلما (١)

وللكلام كمال في حقيقته

فإن ترد حدّه فاسمعه منتظما

إنّ الكلام هو القول الّذي حصلت

به الإفادة لما ثمّ والتأما

ومنها في باب المتعدّي لاثنين

فباب أعطى كسا منه ومنه سقا

كما تقول سقاك الله صوب سما (٢)

ومنه أولى وأتى مثل قولهم

أولاك ربي نعيم العيش والنعما

ومن المتعدّي إلى ثلاثة

قاس بالهمزة النقل ابن مسعده

في باب ظنّ وفيها خالف القدما

من باب كان واخواتها

نقول ما زلت مفضالا وما برحت

منك السجايا توإلى الجود والكرما

من نواصب المضارع

أعدد لكيلا وكيلا ثم كي ولكي

وليس تمنع من نصب زيادة ما

__________________

(١) يعرو : يصيب.

(٢) الصوب : المطر.

٨٣٧

من باب إذا الفجائية وهو مقصودنا هنا

والعرب قد تحذف الأخبار بعد إذا

إذا عنت فجأة الأمر الّذي دهما

وربّما نصبوا للحال بعد إذا

وربّما رفعوا من بعدها ربما

فان توالى ضميران اكتسى بهما

وجه الحقيقة من اشكاله غممّا

لذاك أعيت على الأفهام مسألة

أهدت إلى سيبويه الحتف والغممّا (١)

قد كانت العقرب العوجاء أحسبها

قدما أشد من الزنبور وقع حما

وفي الجواب عليها هل «إذا هو هي»

أو هل «إذا هو ايّاها» قد اختصما

وخطّأ ابن زياد وابن حمزة في

ما قال فيهما أبا بشر وقد ظلما

وغاظ عمرا علي في حكومته

يا ليته لم يكن في أمره حكما

وفجّع ابن زياد كلّ منتخب

من أهله إذ غدا منه يفيض دما

كفجعة ابن زياد كلّ منتخب

من أهله إذ غدا منه يفيض دما

فظلّ بالكرب مكظوما وقد كربت

بالنفس أنفاسه أن تبلع اكظما

قضت عليه بغير الحقّ طائفة

حتّى قضي هدرا ما بينهم هدما

من كلّ أجود حكما من سدوم قضى

عمرو بن عثمان ممّا قد قضى سدما

حساده في الورى عمت فكلّهم

تلفيه منتقدا للقول منتقما

فما النهى ذمّما فيهم معارفها

ولا المعارف في أهل النهى ذمّما

فأصبحت بعده الأنفاس كامنة

في كلّ صدر كان قد كظّ أو كظما

وأبحت بعده الانقاس باكية

في كلّ طرس كدمع سحّ وانسجما (٢)

وليس يخلو امرئ من حاسد أضم

لولا التنافس في الدنيا لما أضما

والغبن في العلم أشجى محنة علمت

وأبرح الناس شجوا عالم هضما

__________________

(١) الحتف : الهلاك ، الغمم : جمع الغمة بمعنى الغمّ.

(٢) الانقاس : جمع النقس : المداد ، الطرس : الصحيفة.

٨٣٨

قوله وربّما نصبوا ، أي ربّما نصبوا على الحال بعد أن رفعوا ما بعد إذا على الخبريّة ، وقوله : ربما في آخر البيت بالتخفيف توكيد لربّما في أوّله بالتشديد ، وفي بعض النسخ وربّما رفعوا من بعدها ربما ، والمعنى أنّهم قد ينصبون ما بعد إذا قليلا ، يرفعونه كثيرا ، فيكون ربّما الأولى للتقليل ، والثانية للتكثير ، والثالثة للتوكيد ، وغما في آخر البيت الثالث من أبيات هذه المسالة بفتح الغين المعجمة كناية عن الاشكال والخفا ، وغممّا في آخر البيت الرابع بضمّها جمع غمّة.

وابن زياد : هو الفرّاء ، واسمه يحيى ، وابن حمزة : هو الكسائيّ ، واسمه علي ، وأبو بشر : سيبويه ، واسمه عمرو ، وألف ظلما ضمير الاثنين ، إن بنيته للفاعل ، وللاطلاق إن بنيته للمفعول ، وعمرو وعلى الأوّلان : سيبويه والكسائيّ ، والآخران عمرو بن العاص وأمير المؤمنين علي (ع) وحكما الأوّل اسم ، والثاني فعل ، أو بالعكس ، دفعا للايطاء (١) ، وزياد الأوّل : والد الفرّاء ، والثاني : زياد بن أبيه ، وابنه المشار إليه ابن مرجانة لعنه الله المرسل في قتلة الحسين (ع) ، وأضم كغضب وزنا ومعنى ، والوصف منه أضم كفرح.

تنبيهان : الأوّل : ما أجاب سيبويه سوال الكسائيّ ، وهو فإذا هو هي ، هو الحقّ ، وهو وجه الكلام مثل : (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ) [الأعراف / ١٠٨] ، (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ) [طه / ٢٠] ، وأمّا فإذا هو إيّاها إن ثبت فخارج عن القياس واستعمال الفصحاء كالجزم بلن ، والنصب بلم والجرّ بلعلّ ، وسيبويه وأصحابه لا يلتفتون لمثل ذلك ، وإن تكلّم به بعض العرب ، وحكي الرضيّ أنّ الكسائيّ قال : لا يجوز إلا إيّاها ، وكذلك حكاه الأندلسيّ في شرح المفصّل ، والصواب ما حكيناه أوّلا من أنّه أجاز الوجهين ، فإنّ الكسائيّ لو أنكر الرفع فكان لسيبويه سبيل من تخطئته في الحال بما ورد في القرآن من الرفع ، وهو شائع فيه ، ولم ينقل ذلك ، فدلّ على أنّ الكسائيّ أجاز الرفع والنصب معا ، وقد ذكر في توجيه النصب أمور :

أحدها : أنّ إذا ظرف فيه معنى وجدت ورأيت ، فجاز له أن ينصب المفعول ، وهو مع ذلك ظرف مخبر به عن الاسم بعده ، قاله أبو بكر بن الخيّاط ، وهو خطأ ، لأنّ المعاني لا تنصب المفاعيل الصحيحة ، وإنّما تعمل في الظروف والأحوال ، ولأنّها تحتاج على زعمه إلى فاعل وإلى مفعول آخر.

__________________

(١) الإيطاء هو في علم العروض ، تكرار القافية لفظا ومعنى قبل سبعة أبيات أو عشرة ، وهو عيب من عيوبها. إميل بديع يعقوب وميشال عاصي ، المعجم المفصّل في اللغة والأدب المجلّد الأوّل ، الطبعة الأولى ، بيروت ، دار العلم للملايين ، ١٩٨٧ م ، ص ٢٧٥.

٨٣٩

الثاني : أنّ الأصل فإذا هو موجود إيّاها ، فحذف الخبر لدلالة الكلام عليه ، ومثل هذا : لئن ضربته لتضربنه السّيّد الشريف ، أي لتضربنه كائنا السّيّد الشريف أو موجود السّيّد الشريف ، فينصبون السّيّد الشريف باضمار كائن ونحوه ، فإذا حملت النصب في إيّاها على هذا تخرج ، قاله محمد بن بريّ (١) ، ولا يخفى عليك بطلانه وبعده عن المقيس عليه.

الثالث : أنّ ضمير النصب استتر في مكان ضمير الرفع ، قاله ابن مالك ، وقال ابن هشام : ويشهد له قراءة الحسن البصري : إياك يعبد [الحمد / ٥] ، بالياء المثنّاة من تحت مبنيّا للمفعول ، ولكنّه لا يتأتّى فيما أجازوه من قولهم : فإذا عبد الله القائم بالنصب ، فينبغي أن يوجّه هذا على أنّه نعت مقطوع أو حال على زيادة آل ، وليس ذلك ممّا ينقاس ، ومن جوّز تعريف الحال ، أو زعم أنّ إذا تعمل عمل وجدت ، وأنّها رفعت عبد الله بناء على أنّ الظرف يعمل ، وإن لم يعتمد فقد أخطأ ، لأنّ وجد ينصب الاسمين ، ولأن مجيء الحال بلفظ المعرفة قليل ، وهو قابل للتأويل.

الرابع : أنّه على اسقاط الخافض ، والأصل فإذا هوكها ، أي فإذا الزنبور كالعقرب ، والكوفيّون يجوّزون إدخال الكاف على الضمير ، وسيبويه يختصّ ذلك بالضرورة ، فحذفت كاف التشبيه ، وانتصب الضمير على نزع الخافض ، وليس بشيء لما مرّ في بابه.

الخامس : أنّه مفعول به ، والأصل فإذا هو يساويها أو يشبهها ، ثمّ حذف الفعل ، وانفصل الضمير ، وهذا الوجه لابن مالك أيضا ، ونظيره قراءة علي (ع) (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) [يوسف / ١٤] بالنصب أي نوجد ، أو نرى عصبة.

السادس : أنّه مفعول مطلق ، والأصل فإذا هو يلسع لسعتها ، ثمّ حذف الفعل كما تقول : ما زيد إلا شرب الإبل ، أي إلا يشرب شرب الإبل ، ثمّ حذف المضاف من لسعتها ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وانتصب لنيابته عن المنصوب ، وانفصل لفقد ما يتّصل به ، نقله الشلوبين في حواشي المفصّل عن الأعلم ، وقال : هو أشبه ما وجّه به النصب.

السابع : أنّ إيّاها كناية عن الجملة ، والتقدير فإذا هو لسعته كلسعتها ، فكنى عن الجملة بقوله : إيّاها ، وانتصاب إيّاها على الحال لكونها كناية عن الجملة ، والجملة

__________________

(١) عبد الله بن بريّ أبو محمد المقدسيّ المصريّ النحويّ اللغويّ ، كان عالما بالنحو واللغة والشواهد ، وصنّف : اللباب في الرّد على ابن الخشاب ، الرّد على الحريري على درّة الغواص ، كانت ولادته سنة ٤٩٩ ه‍ ، ومات سنة ٥٨٢. المصدر السابق ٢ / ٣٤.

٨٤٠