الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

أصلا مرفوضا ، فأمّا إن ذكرته أوّلا فقلت : زيد استقرّ عندك ، فلا يمنع منه مانع ، انتهى. قال ابن هشام : وهو غريب.

«أو حالا» ، نحو : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) [القصص / ٧٩] ، أو رفع الاسم الظاهر ، نحو : أعندك أحد ، (أَفِي اللهِ شَكٌ) [إبراهيم / ١٠] ، أو استعمل مثلا كقولهم للمعرّس : بالرفاء والبنين ، أي أعرست ، أو حذف المتعلّق على شريطة التفسير ، نحو : يوم الجمعة صمت فيه ، أو كان الجارّ حرف قسم غير الباء ، نحو : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) [الليل / ١] ، (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء / ٥٧] ، فلو صرّح بالفعل في ذلك وجبت الفاء ، فهذه ثمانية مواضع يجب فيها حذف المتعلّق.

تنبيهات : الأوّل : أنكر الكوفيّون وابنا طاهر وخروف تقدير المتعلّق في الخبر من نحو : زيد عندك وعمرو في الدار ، ثمّ اختلفوا ، فقال ابنا طاهر وخروف : الناصب المبتدأ (١) ، وزعما أنّه يرفع الخبر إذا كان عينه ، نحو : زيد أخوك ، وينصبه إذا كان غيره ، وأنّ ذلك مذهب سيبويه. وقال الكوفيّون : الناصب أمر معنويّ ، وهو كونهما مخالفين للمبتدإ ، ولا معوّل على هذين المذهبين.

الثاني : قال ابن هشام في المغني : هل المتعلّق الواجب الحذف فعل أو وصف لا خلاف في تعيّن الفعل في بابي القسم والصلة ، لأنّهما لا يكونان إلا جملتين ، وكذا يجب في الصفة في نحو : رجل في الدار فله درهم ، لأنّ الفاء تجوز في نحو : رجل يأتيني فله درهم ، وتمتنع في نحو : رجل صالح فله درهم (٢) ، أمّا قوله [من الخفيف] :

٩٠٨ ـ كلّ أمر مباعد أو مدان

فمنوط بحكمة المتعالى (٣)

فنادر.

واختلف في الخبر والصفه والحال ، فمن قدّر الفعل ، وهم الأكثرون ، فلأنّه الأصل في العمل ، ومن قدّر الوصف ، فلأنّ الأصل في الخبر والحال والنعت الإفراد ، ولأنّ الفعل في ذلك لا بدّ من تقديره بالوصف ، قالوا : ولأنّ تقليل المقدّر أولى ، وليس بشيء ، لأنّ الحقّ أنّا لم نحذف الضمير ، بل نقلناه إلى الظرف ، فالمحذوف فعل أو وصف ، كلاهما مفرد ، قال : والحقّ عندي أنّه لا يترجّح تقديره اسما ولا فعلا بل بحسب المعنى وبيان التقدير بحسب المعنى.

__________________

(١) أي إنّ المبتدأ «زيد» هو ناصب الظرف «عندك».

(٢) من لأن الفاء حتّى هنا سقط في «ح».

(٣) لا يعرف قائله.

٨٠١

وأمّا القسم فتقديره أقسم ، وأمّا في الاشتغال فتقديره كالمنطوق به ، نحو : يوم الجمعة صمت فيه ، وأمّا في المثل فيقدّر بحسب المعنى ، وأمّا في البواقي نحو : زيد في الدار ، فيقدّر كونا مطلقا ، وهو كائن ، أو مستقرّ ، أو مضارعهما ، إن أريد الحال أو الاستقبال ، نحو : الصوم اليوم أو في اليوم ، والجزاء غدا أو في الغد ، ويقدّر كان أو استقرّ أو وصفهما إن أريد المضي ، هذا هو الصواب ، وقد أغفلوه مع قولهم في نحو : ضربي زيدا قائما ، فإنّما التقدير : إذ كان قائما ، إن أريد المضي ، وإذا كان ، إن أريد الاستقبال ، ولا فرق ، وإذا جهلت المعنى ، فقدّر الوصف ، لأنّه صالح في الأزمنة كلّها ، وإن كانت حقيقته في الحال ، انتهى ملخّصا.

واعترضه الدمامينيّ بأنّه كيف يقدّر مع الجهل ما هو ظاهر في الحال الّذي هو من جملة الأمور المجهولة ، وهل هذا إلا تهافت ، قال وإن قلت : فماذا تصنع عند جهل المعنى ، قلت : لا يقدم حينئذ على تقدير شىء معيّن ، بل يردّد الأمر ، ويقال : إن أريد المضي قدّر كذا ، وإن أريد الحال قدّر كذا ، وإن أريد (١) الاستقبال قدّر كذا ، فتخرج حينئذ عن العهدة.

الثالث : قال التفتازانيّ في حاشية الكشّاف : ممّا يجب التنبيه له أنّه إذا قدّر في الظرف (٢) كان أو كائن فهو من التامّة بمعنى حصل وثبت ، والظرف بالنسبة إليه لغو لا الناقصة ، وإلا كان الظرف في موضع الخبر بتقدير كان أخرى وبتسلسل التقديرات.

الرابع : الظرف ـ والمراد به ما يتناول الجارّ والمجرور ـ قسمان : مستقرّ ، بفتح القاف ، ولغو ، فالمستقرّ ما كان متعلّقه عامّا واجب الحذف كما مرّ ، واللغو ما كان متعلّقه خاصّا ، سواء وجب حذفه كما في الاشتغال وغيره ممّا ذكر أو جاز ، نحو : يوم الجمعة ، جوابا لمن قال : متى قدمت ، ووجه تسمية الأوّل مستقرّا والثاني لغوا أنّه لمّا كان المتعلّق العامّ إذا حذف انتقل الضمير الّذي كان مستترا فيه إلى الظرف سمّي ذلك الظرف مستقرّا لاستقرار الضمير فيه ، فهو في الأصل مستقرّ فيه ، ثمّ حذفت الصلة اختصارا لكثرة دوره بينهم كقولهم فى المشترك فيه مشترك ، ولمّا كان الآخر لم ينتقل إليه شئ من متعلّقه سمّي لغوا أو ملغي ، كأنّه ألغي.

قال البدر الدمامينيّ في التحفة بعد ذكره ذلك : وهو الّذي سمعته من بعض أشياخنا ، ولا يخفى أنّه أولى ممّا قيل : إنّه إنّما سمّي مستقرّا ، لأنّ ناصبه هو استقرّ مقدّرا قبله ، أمّا أوّلا فلأنّ الظرف المستقرّ لا يلزم تقدير عامله باستقرّ على الخصوص ، بل يجوز أن يقدّر

__________________

(١) سقطت «وإن أريد» في «ط».

(٢) إذا قدّر في اللفظ «ح».

٨٠٢

بحصل وثبت ونحو ذلك ممّا يدلّ على كون عامّ ، فلم اشتقّ له الاسم من استقّر دون غيره ، وأمّا ثانيا فلأنّ الظرف اللغو أيضا من قولنا : صمت يوم الجمعة ، يصدق عليه أنّه مستقرّ اذ قد استقرّ في اليوم المذكور الصوم ، وإن لم يكن متعلّقه لفظ استقرّ.

وأجاب الشمنيّ بأنّه يكفي في تسمية مستقرّا تعلّقه بلفظ الاستقرار وما هو بمعناه ، لا بمعنى أنّه يلزمه معنى الاستقرار لترد الصورة الّتي ذكرها عن بعض شيوخه ، ولا يتأتّى على ما ذهب إليه السيرافيّ من أنّ الضمير حذف مع المتعلّق ، وأنّما يتأتّى على ما ذهب أبو علي ومن تبعه أنّ الضمير انتقل عن المتعلّق إلى الظرف.

الخامس : قد تقوم قرينة على أنّ المراد بالاستقرار العامّ أمر خاصّ ، ولا يقدح ذلك في الحكم بأن الظرف مستقرّ ، كما إذا قلت : زيد على الفرس ، فالأصل مستقرّ ، لكنّ المراد منه بحسب القرينة راكب ، فلهذا يجعل مستقرّا لا لغوا ، نصّ عليه التفتازانيّ في حاشية الكشّاف حيث قال الزمخشريّ على معنى متبرّكا باسم الله أقرأ ، فقال : هو يعني أنّ التقدير متلبّسا باسم الله ، ليكون المقدّر من الأفعال العامّة ، لكنّ المعنى بحسب القرينة على هذا ، فلهذا يجعل الظرف مستقرّا لا لغوا ، هذا كلامه.

قال الدمامينيّ : إذا قامت القرينة على أنّ المراد كون خاصّ ، فلم لم يقدّر ابتداء ، ويكون الظرف لغوا ، وأيّ فائدة في تقدير العامّ ، ثمّ الحكم بأنّ المراد منه الخاصّ الّذي دلّت عليه القرينة ، وقد قال هو قبل ذلك بنحو ورقة ، والنّحويّون إنّما يقدّرون متعلّق الظرف المستقرّ عامّا ، إذا لم توجد قرينة الخصوص.

السادس : الأصل أن يقدّر المتعلّق المحذوف مقدّما عليهما كسائر العوامل مع معمولاتها ، وقد يعرض ما يقتصي ترجيح تقديره مؤخّرا ، وما يقتضي إيجابه ، فالأوّل نحو : في الدار زيد ، لأنّ المحذوف هو الخبر ، وأصله أن يتأخّر عن المبتدإ ، والثاني نحو : إنّ في الدار زيدا ، لأنّ أنّ لا يليها مرفوعها ، ويلزم من قدّر المتعلّق فعلا أن يقدّره مؤخّرا في جميع المسائل ، لأنّ الخبر إذا كان فعلا لا يتقدّم على المبتدإ ، قاله ابن هشام في المغني. وقال في موضع آخر : يحتمل تقديره في نحو : في الدار زيد مقدّما لمعارضة أصل آخر ، وهو إنّه عامل في الظرف ، وأصل العامل أن يتقدّم على المعمول.

«وإذا كان» أحدهما أي الجارّ والمجرور والظرف «كذلك» أي صفة أو صلة أو خبرا أو حالا «أو اعتمد على نفي» بحرف أو فعل «أو استفهام جاز أن يرفع الفاعل» ظاهرا كان أو مضمرا ، نحو : مررت برجل في كمّه أو معه صقر ، و «جاء الّذي في الدار» أو عندك «أبوه» ، وزيد في الدار أو عندك أبوه ، وجاء زيد في كمّه أو معه صقر «وما» أو ليس في الدار أو «عندي أحد و (أَفِي اللهِ شَكٌّ») [إبراهيم / ١٠] ، أو أعندك أحد.

٨٠٣

تنبيهات : الأوّل : في المرفوع بعد المجرور والظرف في المواضع المذكورة ثلاثه مذاهب : أحدها : أنّ الأرجح كونه مبتدأ مخبرا عنه بالظرف أو المجرور ، ويجوز كونه فاعلا ، وكان وجهه استضعاف عمل الظرف في الظاهر. والثاني : أنّ الأرجح كونه فاعلا ، اختاره ابن مالك ، ووجهه أنّ الأصل عدم التقديم والتأخير. والثالث : أنّه يجب كونه فاعلا ، نقله ابن هشام الخضراويّ عن الأكثرين ، ولعلّ وجهه ما تقرّر من أنّ الإلباس محذور ، والتعليق عندهم بفعل ، فهو كقولك : قام زيد ، فيتعيّن أن يكون زيد في مثل ذلك فاعلا لا مبتدأ (١).

الثاني : قال في المغني حيث أعرب فاعلا ، فهل عامله الفعل أو الظرف أو المجرور لنيابتهما عن استقرّ وقربهما من الفعل لاعتمادهما ، فيه خلاف ، فالمذهب المختار الثاني لامتناع تقديم الحال في نحو : زيد في الدار جالسا ، ولو كان العامل الفعل لم يمتنع كقوله [من الطويل] :

٩٠٩ ـ فإن يك جثماني بأرض سواكم

فإنّ فؤادي عندك الدهر أجمع (٢)

فأكّد الضمير المستتر في الظرف ، والضمير لا يستتر إلا في عامله ، ولا يصحّ أن يكون توكيدا لضمير محذوف مع الاستقرار ، لأنّ التوكيد والحذف تنافيان ، ولا لاسم إنّ على محلّه من الرفع بالابتداء ، لأنّ الطالب للمحلّ قد زال ، واختار ابن مالك المذهب الأوّل مع اعترافه بأنّ الضمير مستتر في الظرف ، وهذا تناقض ، فإنّ الضمير لا يستكن إلا في عامله ، انتهى. وقد جرى المصنّف على مذهب المختار كما ترى ، وهو مذهب المحقّقين كما قاله غير واحد.

الثالث : إذا لم يعتمد الظرف والمجرور على ما ذكر نحو : في الدار أو عندك زيد ، فالجمهور يوجبون الابتداء ، والأخفش والكوفيّون يجيزون الوجهين ، لأنّ الاعتماد عندهم ليس بشرط ، ويردّه جواز دخول إنّ ونحوها على مثل هذا التركيب ، فينتصب الاسم ، إذ يصحّ أن يقال : إنّ في الدار زيدا ، فدلّ ذلك على أنّه مبتدأ في الأصل لا فاعل ، وإلا لم يدخل الناسخ. قال بعضهم : وللأخفش أن يجيب بأنّي لمّا وجدت العامل الأقوي أعملته ، وهو أن ، وقال ابن جنيّ : للجمهور أن يقولوا لم نجد عاملين أعمل أوّلهما ألبتّة ، بل يجوز أن تعمل أيّهما شئت.

__________________

(١) فيما يتعلّق بالمرفوع بعد المجرور والظرف يبدو أنّ أقرب المذاهب إلى الصواب هو الّذي يقول : كونه مبتدأ مخبرا عنه بالظرف أو المجرور ، لأنّ هذه الجملة اسميّة ، والاسم المرفوع بعد الظرف يرتفع بالابتداء ، لأنّه قد تعرّي من العوامل اللفظيّة ، وهو معنى الابتداء ، والمجرور والظرف متعلّقان بالمحذوف ، ولو قلنا : المرفوع فاعل على مذهب الكوفيّين فتقديره مثلا «حلّ في الدار زيد» ، وتقديم الظرف لا يدلّ على تقديم الفعل ، لأنّ الظرف معمول الفعل ، والفعل هو الخبر ، وتقديم معمول الخبر لا يدلّ على أنّ الأصل في الخبر التقديم.

(٢) نسب البيت إلى جميل بثينة وإلى كثير عزة. اللغة : الجثمان : الجسم ، الفؤاد : القلب.

٨٠٤

الفصل الخامس الحديقة الخامسة

٨٠٥
٨٠٦

الحديقة الخامسة

الهمزة

ص : الحديقه الخامسة في المفردات :

الهمزة حرف ترد لنداء القريب والمتوسّط ، للمضارعة وللتسوية ، وهي الدّاخلة على جملة في محلّ المصدر ، نحو : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.) وللاستفهام ، فيطلب بها التصوّر والتصديق ، نحو : أزيد في الدّار أم عمرو؟ وأ في الدّار زيد أم في السّوق؟ بخلاف «هل» لاختصاصها بالتّصديق.

ش : «الحديقة الخامسة في المفردات» ، وهي منها حروف ، ومنها أسماء وظروف ، تضمّنت معنى الحروف ، ومنها ما يرد اسما وحرفا ، والمصنّف (ره) لم يستوف جميعها ، بل اقتصر منها على أدوات مهمّة ، يكثر دورانها ، وتشتدّ الحاجه إليها ، وجملة ما أورده أربع وعشرون كلمة.

أحدها : «الهمزة» وهي اسم محدث للألف المتحرّك ، واسمه الألف ، واسم الساكن لا ، والألف مشترك بينهما وبين الألف ، كذا قال بعض المحقّقين ، وفي كلام بعضهم ما يقتضي أنّ الألف تختصّ بالساكن ، والهمزة بالمتحرّك ، والحقّ أنّ الألف اسم للمتحرّك ، والساكن لغة ، لكنّه خصّ في عرف أهل هذا الفن بالساكن ، وخصّت الهمزة بالمتحرّك ، فما وقع فى كلام بعضهم من أنّ إطلاق الألف على المتحرّك حقيقة مبنيّ على اللغة ، وما وقع من كلام آخرين من أنّه مجاز مبنيّ على العرف. وهو حرف يرد على وجوه :

أحدها : أن يكون «حرف» نداء موضوع «لنداء القريب» كقول امري القيس [من الطويل] :

٩١٠ ـ أفاطم مهلا بعض هذا التّدلّل

وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي (١)

__________________

(١) البيت من معلقته. اللغة : مهلا : رفقا ، التدلّل : مصدر تدلّلت المرأة على زوجها ، أي تراها جرأة تغنّج ، كأنّها تخالفه وليس بها خلاف ، أزمعت : قصدت ، الصرم : الجهر.

٨٠٧

فإن قلت : ما المعين لحمل النداء هنا على نداء القريب؟ قلت : القرائن الموجودة قوله في هذه القصيدة يخبر بحاله مع هذه المرأة [من الطويل] :

٩١١ ـ تقول وقد مال الغبيط بنا معا

عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل

فقلت لها سيري وأرخي زمامه

ولا تبعديني من جناك المعلّل (١)

الغبيط بالغين المعجمة والظاء المهملة كرغيف رحل يشدّ عليه هودج المرأة ، والجني ما يجنى ، أي يقتطف من الثمرة ، عبّر به هنا عن اللّذة الّتي ينالها من هذه المرأة على طريق الاستعارة ، والمعلّل ترشيح ، والتعليل جني الثمرة مرّة بعد أخرى.

«والمتوسّط» أي ويرد لندائه ، وهذا لم يقل به أحد ، وإنّما هو عندهم لنداء القريب فقط ، نعم نقل ابن الخباز في شرحه على الدرّة الألفية عن شيخه أنّ الهمزة للمتوسّط ، وأنّ الّذي للقريب يا ، والمصنّف جمع بين القولين ، فجعلها للقريب والمتوسّط معا. قال ابن هشام : وما نقله ابن الخباز خرق لإجماعهم ، قالوا وذلك من وجهين : دعواه أنّ الهمزة للمتوسّط ، وإنّما هي عندهم لنداء القريب ، والثاني كون القريب لم يوضع لندانه غير يا ، وقول المصنّف أيضا خرق للإجماع ، لكنّه من وجه واحد.

قال الدمامينيّ : والقدح بخرق إجماع النحاة مبنيّ على أنّ إجماعهم في الأمور اللغويّة معتبر معيّن أتباعه ، ووقع فيه لبعض العلماء تردّد. وفي شرح مختصر ابن الحاجب الأصولي للشيخ بهاء الدين السبكيّ نقل بعض العلماء الإجماع على اعتبار الإجماع في الأمور اللغويّة ، مثل كون الواو للجمع المطلق ، وهذا الإشكال فيه إذا صدر من المجتهدين ، أمّا إجماع النّحاة الّذين عليهم المعوّل في علم العربيّة ، ولم يبلغوا رتبة الاجتهاد ، فالقياس أنّ إجماعهم لا يعتبر ، وفيه نظر.

وقد رأيت في الخصائص لابن جنّي : إعلم أنّ إجماع أهل البلدين أنّما يكون حجّة ، إذا لم يخالف المنصوص أو المقيس على المنصوص ، وإلا فلا ، لأنّه لم يرد في كتاب ولا سنّة أنّهم لا يجتمعون على الخطأ ، كما جاء النص بذلك في كلّ الأمّة ، وإنّما هو علم منتزع من استقراء هذه اللغة ، فكلّ من فرق له عن علّة صحيحة كان خليل نفسه ، إلا أنّا لا نسمح بمخالفة الجماعة الّتي طال بحثها ، انتهى ملخصا. وفي الاقتراح بعد كلام ابن جنيّ في الخصائص ، وقال غيره إجماع النحاة على الأمور اللغويّة معتبر خلافا لمن تردّد فيه ، وخرقه ممنوع ، ومن ثمّ ردّ ، انتهى.

__________________

(١) اللغة : عقرت بعيري : أدميت ظهره ، أرخي : أرسلي. جهل العشيقة بمترلة الشجرة ، وجعل ما نال من عناقها وتقبيلها وشمها بمترلة الثمر.

٨٠٨

وذكر ابن هشام في شرح التسهيل أنّ النداء بالهمزة قليل في كلام العرب ، وتبعه ابن الصائغ في حواشي المغني ، قال في الهمع : وما ذكراه مردود ، فقد وقفت لذلك على أكثر من ثلاثمائه شاهد ، وأفردتها بالتإلى ف.

الثاني : أن تكون للمضارعة بفتح الراء المهملة ، مصدر ضارعه ، أي شابهه ، نحو :

أقوم وأقعد ، قيل : وهمزة المضارعة في الأصل ألف قلبت همزة لتعذّر الابتداء بالساكن ، وحروف المضارعة أربعة ، يجمعها قولك : أنيت ، وقد مرّ ذكرها في صدر هذا الشرح.

الثالث : أن تكون «للتسوية ، وهي الداخلة على جملة» واقعة «في محلّ المصدر» وهذا أحسن من قولهم : الداخلة على جملة يصحّ حلول المصدر محلّها ، لأنّ الجملة هنا مؤوّلة بالمفرد تأويلا مطّردا ، فهي واقعة في محلّ المفرد «نحو» قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة / ٦] ، أي سواء عليهم الإنذار وعدمه.

فان قلت : تأويل الجملة بالمفرد هنا مشكل ، لأنّه لا سابك في اللفظ ، فيلزم الشذوذ على ما صرّح به بعضهم مثل : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه (١) ، برفع تسمع ، وعدم تقدير السابك ، وهو الحرف المصدريّ ، وادعاء الشذوذ هنا باطل ، لأنّ هذا تركيب فصيح كثير الاستعمال. قلت : سبك الجملة بالمفرد من غير حرف مصدريّ إنّما يكون شاذّا إذا لم يطّرد في باب ، أمّا إذا اطّرد في باب واستمرّ فيه ، فإنّه لا يكون شاذّا مثل : لا تأكل السمك ، وتشرب اللبن ، فإنّك إذا نصبت تشرب ، نصبته بأن مقدّرة ، فيصير اسما معطوفا في الظاهر على فعل ، وهو ممتنع إلا عند التأويل ، فاحتجنا إلى أن نتصيّد من الفعل الأوّل مصدرا من غير سابك ، ولا يعدّ مثل هذا شاذّا لاطّراده في بابه. وكذا إضافة اسم الزمان مثلا إلى الجملة نحو : جئت حين جاء زيد ، أي حين مجيء زيد ، فأوّلت الجملة بالمفرد من غير أن يكون هناك حرف مصدريّ ، وليس بشاذّ لاطّراده في بابه ، وهنا في باب التسوية أوّلت الجملة بالمفرد تأويلا مطّردا بدون أداة ، فلم يعد شاذّا ، قاله الدمامينيّ في التحفة ، وأفهم كلامه أنّ الشذوذ ينافي الفصاحة وكثرة الاستعمال ، وهو ممنوع.

تنبيهات : الأوّل : أجيز في سواء الآية المذكورة كونها خبرا عمّا قبلها ، أو عمّا بعدها ، أو مبتدأ ، وما بعدها فاعل على الأوّل ، ومبتدأ على الثاني ، وخبر على الثالث. قال في المغني : وأبطل ابن عمرون الأوّل بأنّ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، والثاني بأنّ المبتدأ المشتمل على الاستفهام واجب التقديم ، فيقال له : وكذا الخبر ، فإن أجاب بأنّه مثل زيد أين هو ، منعناه ، وقلنا : بل مثل كيف زيد ، لأنّ (أَأَنْذَرْتَهُمْ) إن لم يقدّر

__________________

(١) تقدّم في ص ٧٧٥.

٨٠٩

بالمفرد لم يكن خبرا لعدم تحمّله ضمير سواء ، وأمّا شبهته فجوابها أنّ الاستفهام هنا ليس على حقيقته ، فلا يجب التقديم. فإن أجاب بأنّه كذلك في نحو : علمت أزيد قائم ، وقد أبقي عليه استحقاق الصدريّة بدليل التعليق ، قلنا : بل الاستفهام مراد هنا ، إذ المعنى علمت ما يجاب به قول المستفهم : أزيد قائم ، وأمّا في الآية ونحوها فلا استفهام ألبتة ، لا من قبل المتكلّم ولا غيره.

الثاني : ربّما توهّم أنّ المراد بهمزة التسوية هي الواقعة بعد كلمة سواء بخصوصها ، بتخيّل أنّ التسوية مأخوذة من كلمة سواء ، وليس كذلك ، بل كما يقع بعدها ، يقع بعد ما أبالى وما أدري وليت شعري ونحوهنّ ، نحو : ما أبالى أقمت أم قعدت ، وما أدري أرحت أم غدوت ، وليت شعري أسافر زيد أم أقام ، فإنّ هذه الجمل كلّها في محلّ المصدر ، وهو الضابط.

الثالث : قضية كلام المصنّف أنّ الهمزة موضوعة لمعنى التسوية ، فتكون قسما برأسها غير همزة الاستفهام. وقال ابن هشام في المغني : قد تخرج الهمزة من الاستفهام الحقيقيّ ، فترد لمعان ، وعدّ منها التسوية ، وهذا يقتضي أنّ استعمالها في التسوية في غير ما وضعت له ، فتكون من قبيل المجاز ، وهو الأولى.

والرابع [من وجوه الهمزة] : أن تكون «للاستفهام» ، وحقيقته طلب المتكلّم من مخاطبه أن يحصل في ذهنه ما لم يكن حاصلا عنده ممّا سأله عنه. قال بعضهم : ينبغي أن يكون المطلوب أن يحصل ذلك في ذهن أعمّ من ذهن المتكلّم وغيره ، كما أنّ الاستغفار الّذي هو طلب المغفرة ، وهو الستر ، أعمّ من أن يكون المطلوب له هو المتكلّم أو غيره ، ويكون الاستفهام لغيرك أن يتكلّم المجيب بالجواب فيسمعه من جهل فيستفيده ، وردّه ابن هشام بأنّه لو صحّ ذلك لم يطلق العلماء على أنّ ما ورد منه في كلامه سبحانه مصروف إلى معنى آخر غير الاستفهام ، ولو كان كما ذكر لم يستحلّ حمله على الظاهر ، ويكون المراد منه أن يجيب بعض المخاطبين ، فيفهم الجواب من لم يكن عالما به ، انتهى.

واستحالة حمله على الظاهر محلّ بحث ، فقد قال الشيخ بهاء الدين السبكيّ (١) : قولهم الاستفهام لا يكون منه تعالى على حقيقته ليس على إطلاقه ، وإنّما يستحيل إذا كان مصروفا إلى المتكلّم بالكلام الاستفهاميّ ، وأمّا إذا كان مصروفا إلى غيره ممّن يطلب

__________________

(١) أحمد بن على العلّامة بهاء الدين ولد سنة ٧١٩ ه‍ ، أخذ العلم عن أبيه والأصبهاني وأبي حيان ، وكانت له اليد الطولي في اللسان العربيّ والمعاني والبيان ، صنف : عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح ، وشرح مطوّل على مختصر ابن الحاجب. بغية الوعاة ١ / ٣٤٢.

٨١٠

فهمه فلا يستحيل كما في قوله تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) [المائدة / ١١٦] ، فهو استفهام حقيقيّ ، طلب به إقرار عيسى (ع) في ذلك المشهد العظيم بأنّه لم يقل ، ليحصل فهم النصارى ذلك ، فيتقرّر عندهم كذبهم فيما ادّعوه ، انتهى ، فتأمّل.

ويرادف الاستفهام الاستخبار ، وقيل : الاستخبار ما سبق أوّلا ، ولم يفهم حقّ الفهم ، فإذا سئلت عنه ثانيا كان استفهاما ، حكاه ابن فارس (١) في فقه اللغة ، والهمزة أصل أدواته ، وما عداها نائب عنها ، قاله ابن مالك في المصباح.

فيطلب «بها» أي الهمزة «التصور» أي إدراك غير النسبة ، و «التصديق» أي إدارك وقوع النسبة ، وهو التصديق الإيجابيّ ، أولا وقوعها ، وهو التصديق السلبيّ ، فطلب تصوّر المسند إليه ، «نحو : أزيد في الدار أم عمرو ، وأدبس (٢) في الإناء أم عسل ، فإنّك عالم بكون شخص في الدار وشيء في الإناء ، وإنّما تطلب تعيينه ، وطلب تصوّر المسند نحو : أفي الدار زيد أم في السوق ، وأ في الخابية (٣) دبسك أم في الزّق (٤) ، فإنّك تعلم بأنّ زيدا محكوم عليه بالكينونة في الدار أو في السوق ، وأنّ الدبس محكوم عليه بالكينونة في الخابية أو الزّق ، وإنّما المطلوب تعيين ذلك.

هذا قول الجمهور ، وقال السّيّد الشريف : القول بأنّ الهمزة في مثل قولك : أدبس في الأناء أم عسل؟ لطلب تصوّر المسند إليه أو المسند أو غيرهما مبنيّ على الظاهر توسّعا ، والتحقيق أنّها لطلب التصديق أيضا ، فإنّ السائل قد تصوّر الدبس والعسل بوجه ، وبعد الجواب لم يزد له في تصوّرهما شيء أصلا ، بل بقي تصوّرهما على ما كان ، فإن قيل :

التصديق حاصل له حال السؤال ، فكيف يطلب؟ أجيب بأنّ الحاصل هو التصديق بأنّ أحدهما لا بعينه في الإناء ، والمطلوب بالسؤال هو التصديق (٥) بأنّ أحدهما بعينه فيه ، وهذان التصديقان مختلفان بلا اشتباه ، إلا أنّه لمّا كان الاختلاف بينهما باعتبار تعيّن المسند إليه في أحدهما وعدم تعيّنه في الآخر ، وكان أصل التصديق حاصلا ، توسّعوا ، فحكموا بأنّ التصديق حاصل ، وأنّ المطلوب هو تصوّر المسند إليه أو المسند قيد من قيوده ، انتهى.

وطلب التصديق نحو : أقام زيد؟ وأ زيد قائم؟ فإنّك عالم بأنّ بينهما نسبة إمّا بالإيجاب أو السلب وتطلب تعيينهما ، ولعلّ المصنّف إنّما لم يمثّل للتصديق نظرا إلى ذلك التحقيق ، فتأمّل.

__________________

(١) أحمد بن فارس من أئمة اللغة والأدب ، من تصانيفه «مقاييس اللغة» «المحمل» «الصاحبي في فقه اللغة» له شعر حسن ، مات سنة ٣٩٥ ه‍ ، الأعلام للرزكلي ١ / ١٨٤.

(٢) الدبس : عسل التمر.

(٣) الخابية : وعاء الماء الّذي يحفظ فيه (ج) الخوابي.

(٤) الزق : وعاء من جلد يجز شعره ولا ينتف للشراب وغيره (ج) أزقاق.

(٥) سقطت «المطلوب بالسؤال هو التصديق» في «ح».

٨١١

ومن العجيب ما وقع هنا لبعض المعاصرين من طلبة العجم من فهمه ، أنّ المثال الأوّل في كلام المصنّف للتصوّر والثاني للتصديق على طريقة اللف والنشر المرتّب وشرح كلامه بالفارسيّة على ذلك ، وهو وهم فاحش ، فاحذره.

تنبيه : المستفهم عنه بالهمزة هو ما يليها كالفعل في أضربت زيدا؟ إذا كان الشكّ في نفس الفعل ، أعني الضرب الصادر من المخاطب الواقع على زيد ، وأردت بالاستفهام أن تعلم وجوده ، فيكون لطلب التصديق ، ويحتمل أن يكون لطلب تصوّر المسند بأن يعلم أنّه قد تعلّق فعل من المخاطب بزيد ، لكن لا تعرف أنّه ضرب أو إكرام ، وكالفاعل في أأنت ضربت؟ إذا كان الشكّ في الضارب ، وكالمفعول في أزيدا ضربت؟ إذا كان الشكّ في المضروب ، وكذا قياس سائر المتعلّقات ، قاله التفتازانيّ في مختصر المطوّل بخلاف هل لاختصاصها بطلب التصديق فقط نحو : هل قام زيد؟ وهل زيد قائم؟ وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله. وبقية الأدوات مختصّة بطلب التصور ، نحو : من جاءك؟ وما صنعت؟ وكم مالك؟ وأين بيتك؟ ومتى سفرك؟ وكيف جئت؟

أن

ص : أن بالفتح والتّخفيف ، ترد اسميّة وحرفيّة : فالاسميّة : هي ضمير المخاطب ، كأنت ، وأنتما ، إذ ما بعدها حرف الخطاب اتّفاقا. والحرفيّة : ترد ناصبة للمضارع ، ومخفّفة من المثقّلة ، ومفسّرة ، وشرطها التوسّط بين جملتين ، أوّلهما بمعنى القول وعدم دخول جارّ عليها ، وزائدة ، وتقع غالبا بعد لمّا وبين القسم ولو.

ش : الثانية : «أن بالفتح والتخفيف» ، أي بفتح الهمزة وتخفيف النون ، ترد على وجهين «اسميّة وحرفيّة».

«فالاسميّة هي ضمير المخاطب كأنت وأنتما» أنتم وأنتنّ «إذا ما بعدها» وهو التاء «حرف خطاب اتّفاقا» ، يفتح في المذكّر ، ويكسر في المؤنّث ، ويوصل بميم في الجمع المذكّر ، وبميم وألف في المثنّى ، وبنون في جمع الإناث ، وتضمّ التاء في الثلاثة إجراء للميم مجرى الواو لقربهما مخرجا ، وليس نقل الاتّفاق على ذلك بصحيح ، بل هو مذهب الجمهور. وقال الفرّاء : إنّ أنت بكماله اسم ، والتاء من نفس الكلمة.

قال بعضهم : إنّ الضمير المرفوع هو التاء المتصرّفة كانت مرفوعة متّصلة ، فلمّا أرادوا انفصالها دعموها بمستقلّ لفظا ، كما هو مذهب بعض الكوفيّين وابن كيسان في إيّاك و

٨١٢

أخواتها ، وهو أنّ الكاف المتصرّفة كانت متّصلة ، فأرادوا استقلالها لفظا لتصير منفصلة ، فجعلوا إيّا عمادا لها ، قال الرضيّ : ما أرى هذا القول بعيدا من الصواب (١) في الموضعين.

قال بعض المتقدّمين : إنّ أنا مركّب من ألف أقوم ونون نقوم ، وأنت مركّب من ألف أقوم ونون نقوم وتاء تقوم ، ووهاه أبو حيّان ، والعجب من المصنّف كيف ينقل الوفاق هنا ، وأكثر كتب القوم ناطقة بالخلاف ، وقد سبقه على نقله صاحب الوافي أيضا ، واعترضه الدمامينيّ في شرحه بما ذكرناه ، ثمّ قال فإن قلت : لعلّ مراده اتّفاق البصريّين ، كما حمل عليه صاحب العباب عبارة اللباب حيث قيل في : وكذا اللواحق بإيّا إجماعا ، فقال : المراد إجماع البصريّين ، قلت : هذا لا يدفع الاعتراض ، فإنّ ابن كيسان من البصريّين ، وهو قائل بأنّ التاء في أنت هي الاسم ، وهي الّتي في نحو : قمت ، ولكنّها كثرت بأن نقله جماعة من الثقات عنه ، فلا إجماع من الكلّ ولا من البصريّين.

تنبيه : قضية اقتصار المصنّف على أنّ الاسميّة ضمير المخاطب أنّها لا تكون ضمير المتكلّم فيكون اختياره في أنا أنّ الضمير هو المجموع ، وهو مذهب الكوفيّين ، واختاره ابن مالك بدليل إثبات الألف وصلا في لغة ، ومذهب البصريّين أنّ الضمير إنّما هو أن تفتح وصلا ، ويؤتي بالألف وقفا لبيان الحركة كهاء السكت ، ولذلك تعاقبها كقول حاتم : هذا فزدي أنه ، وليست الألف من الضمير ، وقال الكوفيّون : الهاء في أنه بدل من الألف ، وحكي قطرب أنّ بعض العرب يقول : أن فعلت ، بسكون النون وصلا ووقفا ، أي أنا فعلت.

والحرفيّة ترد على أربعة أوجه :

أحدها : أن تكون ناصبة للمضارع ، وقد مرّ ذكرها في الحديقة الثالثة فيما يتعلّق بالأفعال.

الثاني : أن تكون مخفّفة من أنّ المثقّلة ، أي المفتوحة الهمزة المشدّدة النون ، فتقع بعد فعل لليقين ، أو ما نزّل مترلته من الظنّ بتأويل أن يكون غالبا متاخما للعلم ، انذارا من أوّل الأمر بأنّها ليست الناصبة للمضارع ، لأنّ إلى قين وما نزّل مترلته بالمخفّفة الّتي فائدتها التحقيق أنسب ، نحو : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) [طه / ٨٩] ، (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى ،) [المزمل / ٢٠] ، (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ ،) [المائدة / ٧١] فيمن رفع تكون ، وقوله [من الكامل] :

٩١٢ ـ زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا

أبشر بطول سلامة يا مربع (٢)

__________________

(١) سقط من الصواب في «ح».

(٢) هو لجرير بن عطيّة.

٨١٣

وهي ثلاثية الوضع ، وفي إعمالها مذاهب :

أحدها : أنّها لا تعمل شيئا لا في ظاهر ولا في مضمر ، وتكون حرفا مصدريّا مهملا كسائر الحروف المصدريّة ، وعليه سيبويه والكوفيّون.

الثاني : أنّها تعمل في المضمر وفي الظاهر كأصلها ، نحو : علمت أنّ زيدا قائم ، وقرئ (أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها) [النور / ٩].

الثالث : أنّها تعمل جوازا في مضمر لا ظاهر ، وعليه الجمهور ، قال ابن مالك : فإن قيل : ما الّذي دعا إلى تقدير اسم لها محذوف وجعل الجملة بعدها في موضع خبرها ، وهلّا قيل : إنّها ملغاة ، ولم يتكلّف الحذف ، فالجواب أنّ سبب عملها الاختصاص بالاسم ، فمادام الاختصاص ينبغي أن يعتقد أنّها عاملة وكون العرب تستقبح وقوع الأفعال بعدها إلا بفصل ، انتهى.

وقد تقدّم لإعمالها تعليل آخر غير هذا في بحث المضمرات ، ثمّ الجمهور على أنّه يلزم أن يكون ذلك الضمير المحذوف ضمير شأن ، واختاره ابن الحاجب وابن هشام في القطر ، والأصحّ عدم لزوم ذلك ، وهو مذهب سيبويه وجماعة ، واختاره ابن مالك ، فمتى أمكن عوده إلى حاضر أو غائب معلوم كان أولي ، ولذا قدّر سيبويه في : (أَنْ يا إِبْراهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) [الصافات / ١٠٥ و ١٠٤] أنّك ، ولا يكون خبرها ، إلا جملة ، إمّا اسميّة مجرّدة صدرها المبتدأ ، نحو : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس / ١٠] ، أو الخبر كقوله [من البسيط] :

٩١٣ ـ ...

أن هالك كلّ من يحفي وينتعل (١)

أو مقرونة بلا نحو : (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [هود / ١٤] ، أو بأداة شرط نحو : (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ) [النساء / ١٤٠] أو بربّ كقوله [من الطويل] :

٩١٤ ـ تيقّنت أن ربّ امريء خيل خائنا

أمين وخوّان يخال أمينا (٢)

أو فعلية ، فإن كان فعلها جامدا أو دعاء لم يحتج إلى اقتران بشيء ، نحو : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم / ٣٩] ، (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها) [النور / ٩] ، وإن كان متصرّفا غير دعاء قرن غالبا بنفي ، نحو : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) [طه / ٨٩] ، (أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) [القيامة / ٣] ، (أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) [البلد / ٧] ، وبلو نحو :

__________________

(١) صدره : «في فتية كسيوف الهند قد علموا» ، وهو للأعشى. اللغة : الفتية : جمع الفتى ، يحفي : يمشي بلا نعل ، ينتعل : يلبس النعل.

(٢) لم يذكر قائله.

٨١٤

(أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ) [الأعراف / ١٠٠] أو بقد ، نحو : (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) [المائدة / ١١٣].

أو بحرف تنفيس ، نحو : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ) [المزمل / ٢٠] ، وندر خلوّها من جميع ما ذكر كقوله [من الخفيف] :

٩١٥ ـ علموا أن يومّلون فجادوا

قبل أن يسألوا بأعظم سؤل (١)

وخرج عليه قراءة (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة / ٢٣٣] ، وقوله [من البسيط] :

٩١٦ ـ أن تقرآن على أسماء ويحكما

منّي السّلام وأن لا تشعرا أحدا (٢)

وربّما عملت في ظاهر كقوله [من الطويل] :

٩١٧ ـ فلو أنك في يوم الرّخاء سألتني

طلاقك لم أبخل وأنت صديق (٣)

وهو مختصّ بالضرورة على الأصحّ.

والثالث : أن يكون «مفسّرة» بمترلة أي ، لكن تفارقها في أنّها لا تدخل على مفرد ، لا يقال : مررت برجل أن صالح. قال في الهمع : وكأنّهم أبقوا عليها ما كان لها من الجملة ، وهي مع هذا غير مختصّة بالفعل ، بل تكون مفسّرة للجملة الاسميّة والفعلية ، نحو : كتبت إليه أن قم ، وأرسل إليه أن ما أنت وهذا ، «وشرطها التوسّط بين الجملتين أوّلهما بمعنى القول وعدم دخول جارّ عليها» ولو زائدا نحو قوله تعالى : (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ) [المومنون / ٢٧] ، (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) [الأعراف / ٤٣] ، وباشتراط التوسّط بين الجملتين غلط من جعل منها قوله تعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس / ١٠] ، لأنّ المتقدّمة عليها غير جملة ، وإنّما هي المخفّفة من الثقلية وباشتراط كون أولها بمعنى القول ، وردّ أبو عبد الله الرازيّ على الزمخشريّ حيث زعم أن الّتي في قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي) [النحل / ٦٨] مفسّرة ، قال لأنّ قبله وأوحى ، والوحي هنا إلهام باتّفاق ، وليس في الإلهام معنى القول ، قال : وإنّما هي مصدريّة ، أي باتّخاذ الجبال بيوتا ، انتهى.

وتعقّبه ابن الصائغ بأنّ إلهام الله تعالى لعباده بقوله وأمره ، فلم يمتنع تفسيره بأن اتّخذي ، قال الشمنيّ : وفيه نظر ، أمّا أوّلا فلأنّ الإلهام مفسّر في الكتب الكلاميّة بإلقاء

__________________

(١) لم يعلم قائله. اللغة : السؤل : ما سألته.

(٢) لم يذكر قائله.

(٣) لم يعز إلى قائل معين. اللغة : صديق : يجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول فيكون تذكيره مع أنّ المراد به أنثي قياسا ، لأن فعيلا بمعنى المفعول يستوي فيه المذكر والمؤنّث والمفرد وغيره غالبا كجريح وقتيل ، ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى فاعل ، ويكون تذكيره مع المؤنّث جاريا على غير القياس. ابن عقيل ، شرح ابن عقيل ، المجلّد الأوّل ، الطبعة السادسة ، تهران ، ١٤١١ ه‍ ، ص ٣٨٤.

٨١٥

مغني بالقلب بطريق الفيض ، نعم قال القشيريّ (١) : إنّه الخاطر الوارد على الضمير لألقاء الملك ، وإنّه من قبيل الملك ، وأمّا ثانيا فلأنّ الإلهام هنا لمن لا يفهم القول ولا الأمر ، وهو النحل ، انتهى.

وإذا قلت : كتبت إليه بأن افعل ، بادخال حرف الجرّ ، كانت أن مصدريّة ، لأنّها معمولة بحرف الجرّ ، وجعلها أبو حيّان زائدة ، وهو وهم منه ، فإنّ حروف الجرّ وإن كانت زائدة لا تدخل إلا على الاسم.

تنبيهات : الأوّل : زاد بعضهم اشتراط أن لا يكون في الجملة السابقة أحرف القول ، فلا يقال قلت له : أن افعل ، وفي شرح الجمل الصغير (٢) لابن عصفور أنّها قد تكون مفسّرة بعد صريح القول ، وفي البسيط اختلف في تفسير صريح القول ، فأجازه بعضهم ، وحمل عليه قوله تعالى : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) [المائدة / ١١٧] ، ومنهم من يمنع من الصريح ، ويجيز في المضمر كقولك : كتبت إليه أن قم ، وذكر الزمخشريّ في قوله تعالى : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ)(٣). أنّه يجوز أن يكون مفسّرة لقول على تأويله بالأمر ، أي ما أمرتهم إلا بما أمرتني أن اعبدوا الله. قال ابن هشام : وهو حسن ، وعلى هذا فيقال في الضابط : أن لا يكون فيها حروف القول إلا والقول مؤوّل بغيره ، انتهى.

وقد انتقد أبو حيّان ، وصوّبه غيره تخريج الآية على التفسيريّة بأنّ ما بعد إلا مستثنى بها ، فلا بدّ أن يكون له موضع من الإعراب ، وأن التفسيريّة لا موضع لها.

الثاني : إذا ولي أن الصالحة للتفسير مضارع مثبت ، نحو : أوحيت إليه أن يفعل ، كان فيه الرفع على أنّها حرف تفسير ، والنصب على أنّها مصدريّة أو معه لا ، نحو : أشرت إليه أن لا يفعل ، كان فيه الوجهان لما ذكر ، والجزم أيضا على النهي ، ويكون أن فيه مفسّرة.

الثالث : أنكر الكوفيّون أن المفسّرة ، وهي عندهم الناصبة للفعل ، قال أبو حيّان : وليس ذلك بصحيح ، لأنّها غير مفتقرة إلى ما قبلها ، ولا يصحّ أن تكون المصدريّة إلا بتأويلات بعيدة ، انتهى.

__________________

(١) عبد الكريم بن هوازن النيسابوريّ القشيريّ ، شيخ خراسان في عصره ، من كتبه «التفسير الكبير» مات سنة ٤٦٥ ه‍. الأعلام للزركلي ، ٤ / ١٨٠.

(٢) الجمل في النحو للشيخ عبد القاهر الجرجانيّ المتوفي سنة ٤٧٤ ه‍ ، له شروح منها شروح ثلاثة لأبي الحسن على بن مؤمن بن عصفور النحويّ المتوفي سنة ه ٦٦٩. كشف الظنون ٢ / ٦٠٢.

(٣) سقطت الآية الشريفة في «ح».

٨١٦

قال ابن هشام : وقول الكوفيّين عندي أوجه ، لأنّك إذا قلت : كتبت إليه أن قم ، فليس قم نفس كتبت ، كما أنّ الذهب نفس العسجد في قولك : هذا عسجد أي ذهب ، ولهذا لو جئت بأن مكان أي لوجدت الطبع غير قابل له ، انتهى.

واعترضه الدمامينيّ بأنّه فهم أنّ الجماعة أرادوا أنّ قم في المثال المذكور تفسير لكتبت نفسه ، فأبطله بتغايرهما ، وليس الأمر كما فهم ، إنّما التفسير لمتعلّق كتبت ، وهو الشيء المكتوب ، وقم هو نفس ذلك الشيء.

قال الرضيّ : وأن لا تفسّر إلا مفعولا مقدّر اللفظ دالّا على معنى القول كقوله تعالى : (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ) [الصافات / ١٠٤] ، فقوله : يا إبراهيم تفسير لمفعول ناديناه المقدّر ، أي ناديناه بلفظ هو قولنا : يا ابراهيم (١) ، وكذلك قولك : كتبت إليه أن قم ، أي كتبت إليه شيئا هو قم ، فأن حرف دالّ على أنّ قم تفسير للمفعول المقدّر لكتبت ، وقد يفسّر المفعول به الظاهر كقوله تعالى : (أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى * أَنِ اقْذِفِيهِ) [طه / ٣٩ و ٣٨] ، وأجاب عنه الشمنيّ بما يطول ذكره.

«و» الرابع : أن تكون «زائدة» ، وهي حرف ثنائيّ بسيط مركّب من الهمزة والنون فقط ، وذهب بعضهم إلى أنّها هي المثقّلة خفّفت ، فصارت مؤكّدة ، قال أبو حيّان : ولا تفيد عندنا غير التأكيد ، وزعم الزمخشريّ أنّه ينجرّ مع إفادة التوكيد معنى آخر ، فقال في قوله تعالى : (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) [العنكبوت / ٣٣] ، دخلت أن في هذه القصّة ، ولم تدخل في قصّة إبراهيم في قوله : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً) [هود / ٦٩] ، تنبيها وتاكيدا في أنّ الإساءة كانت تعقب المجيء ، فهي مؤكّدة للاتصال واللزوم ، ولا كذلك في قصة إبراهيم ، إذ ليس الجواب فيه كالأوّل.

وقال الأستاذ أبو علي : دخلت منبّهة على السبب ، وأنّ الإساءة كانت لأجل المجيء ، لأنّها قد تكون للسبب في قولك : جئت أن تعطي ، أي للاعطاء ، قال أبو حيّان : وهذا الّذي ذهب إليه كبراء النّحويّين.

و «تقع» أن الزائدة «غالبا بعد لمّا» الوجوديّة ، نحو : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ) [يوسف / ٩٦] ، وبين لو وفعل القسم مذكورا كان كقوله [من الطويل] :

٩١٨ ـ فأقسم أن لو التقينا وأنتم

لكان لكم يوم من الشّر مظلم (٢)

أو متروكا كقوله [من الوافر] :

٩١٩ ـ أمّا والله أن لو كنت حرّا

وما بالحرّ أنت ولا العتيق (٣)

_________________

(١) من الآية حتّى هنا سقط في «ح».

(٢) تقدم برقم ٩٠٢.

(١) من الآية حتّى هنا سقط في «ح».

٨١٧

وزعم ابن عصفور في المقرّب أنّها في ذلك حرف يربط جملة القسم بجملة المقسم عليه ، والّذي نصّ عليه سيبويه أنّها زائدة ، ونصّ في موضع آخر من الكتاب على أنّها بمترلة القسم الموطّئة ، وقال أبو حيّان : الّذي أذهب إليه في أن هذه غير هذه المذاهب الثلاثة ، وهو إنّها المخفّفة من الثقيلة ، وهي الّتي وصلت بلو كقوله تعالى : (أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) [الجن / ١٦] ، وتقديره أنّه إذا قيل : أقسم أن لو كان كذا لكان كذا ، فمعناه أقسم أنّه لو كان كذا لكان كذا ، ويكون الفعل القسميّ قد وصل إليها على إسقاط حرف الجرّ ، أي أقسم على أنّه لو كان ، فصلاحيّة أن المشدّدة تدلّ على أنّها مخفّفة ، انتهى.

وتقع في غير الغالب في مواضع :

أحدها : بين الكاف ومجرورها ، وهو نادر كقوله [من الطويل] :

٩٢٠ ـ ...

كأن ظبية تعطو إلى وارق السّلم (١)

في رواية من جرّ ظبية.

الثانى : بعد إذا ، ذكره ابن مالك في شرح العمدة دون سائر كتبه ، وتبعه ابن هشام في المغني ، والسيوطي في الهمع ، كقوله [من الطويل] :

٩٢١ ـ فأمهله حتّى إذا أن كأنّه

معاطي يد من لجّة الماء غارف (٢)

الثالث : بعد حتّى نحو : قد كان ذلك حتّى أن كان كذا ، جزم به أبو حيّان في الإرتشاف ، وقال : إنّه مطّرد ، ولم يذكره غيره.

الرابع : بعد كي ، نحو : جئت لكي أن أكرمك ، وهو شاذّ ، وقاسه الكوفيّون.

تنبيه : معنى كون اللفظ زائدا أنّ أصل المعنى لا يختلّ بحذفه كذا قيل ، قال بعضهم : وهذا البيان يوجب كون نحو أن ولام الابتداء زائدا ، ولذا لم يكتف به الرضيّ ، وزاد مع أنّه لم يفد المعنى الّذي وضعه الواضع له ، فكأنّه لم يفد شيئا بخلاف أن واللام وألفاظ التوكيد أسماء كانت أو لا ، فإنّها باقية على ما وضعت له ، ويفهم من كلامه هذا أنّ المعنى الّذي تفهمه الحروف الزوائد من عوارض الاستعمال.

__________________

(٢) صدره «ويوما توافينا بوجه مقسّم» ، ونسب لباغت بن صريم ولكعب بن أرقم و... اللغه : توافينا : تجيئنا. بوجه مقسم : بوجه جميل حسن. وارق السلم : شجر السلم المورق.

(٣) هو لأوس بن حجر ، يصف بها رجلا بالإصطياد. اللغة : المعاطي : اسم فاعل من المعاطاة بمعنى المناولة ، اللجة : معظم البحر وتردد أمواجه.

٨١٨

إن

ص : وإن بالكسر والتخفيف ، ترد شرطيّة نافية ، نحو : (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) ومخفّفة من المثقّلة ، نحو : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) في قراءة التخفيف ومتى اجتمعت «ان» و «ما» فالمتأخّرة منهما زائدة.

ش : الثالثة إن بالكسر والتخفيف ، أي بكسر الهمزة وتخفيف النون الساكنة ترد على أربعة أوجه :

أحدها : أن تكون شرطيّة ، قدّم الكلام عليها في حديقة الأفعال ، فلا وجه لأعادته.

والثانية : أن تكون نافية ، وتدخل على الجملة الاسميّة ، نحو قوله تعالى : (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) [الملك / ٢٠] ، وعلى الجملة الفعلية الماضويّة ، نحو : (إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) [التوبة / ١٠٧] ، والمضارعيّة ، نحو : (إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) [الفاطر / ٤٠] ، وذهب بعضهم إلى أنّها إذا دخلت على الاسم فلا بدّ أن يكون بعدها إلا كهذه الآيات ، أو لمّا المشدّدة الّتي بمعناها كقراءة بعض السبعة : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) [الطارق / ٤] ، بتشديد لمّا ، أي ما كلّ نفس إلا عليها حافظ ، وردّ بقوله تعالى : (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) [يونس / ٦٨] ، (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) [الأنبياء / ١٠٩] ، (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) [الأنبياء / ١١١].

وإعمالها عمل ليس لغة أهل العالية ، حكي عنهم : إن أحد خيرا من أحد إلا بالعافية ، وسمع الكسائيّ أعرابيّا ، يقول : إن قائما ، فأنكرها عليه ، وظنّ أنّها أنّ المشدّدة وقعت على قائم ، قال : فاستنبئته ، فإذا هو يريد : إن أنا قائما فترك الهمزة ، وأدغم على حدّ : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) [الكهف / ٣٨] ، والأكثرون على إهمالها ، وقد تقدّم نقل الخلاف في ذلك. قال ابن هشام : وممّا يخرج على الإهمال : إن قائم ، وأصله إن أنا قائم ، فحذفت همزة أنا اعتباطا ، وأدغمت نون إن في نونها ، وحذفت ألفها في الوصل.

«و» الثالث : أن يكون «مخفّفة من» أنّ «المثقّلة» ، أي المكسورة الهمزة المشدّدة النون ، فتدخل على الجملتين ، فإن دخلت على الاسميّة ألغيت غالبا لزوال اختصاصها بالأسماء ، نحو قوله تعالى : (إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) [يس / ٣٢] ، في قراءة التخفيف ، أي في قراءة من خفّف لما ، وهم من عدا ابن وعامر عاصم وحمزة.

وجاز إعمالها في غير الضمير استصحابا للأصل خلافا للكوفيّين ، نحو : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) [هود / ١١١] ، في قراءة نافع وابن كثير بتخفيف إن ولما ، ولا يجوز أنّك قائم بالتخفيف إلا في الضرورة ، وإن دخلت على الفعلية وجب إهمالها ، والأكثر كون الفعل ماضيا ناسخا ، نحو : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) [البقرة / ١٤٣] ، (وَإِنْ كادُوا

٨١٩

لَيَفْتِنُونَكَ) [الإسراء / ٧٣] ، ودونه أن يكون مضارعا ناسخا ، نحو : (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [القلم / ٥١] ، ويقاس على النوعين اجماعا ، وقول ابن مالك : إنّ الثاني سماع لا يقاس عليه ، قال أبو حيّان : ليس بصحيح ، ولا أعلم له موافقا ، وندر كونه ماضيا غير ناسخ كقوله : [من الكامل] :

٩٢٢ ـ شلّت يمينك إن قتلت لمسلما

حلّت عليك عقوبة المتعمّد (١)

وأندر منه كونه مضارعا غير ناسخ كقول بعضهم : إن يزينك لنفسك ، وإن يشينك لهيه ، ولا يقاس على النوعين إجماعا في الثاني ، وعلى الصحيح في الأوّل خلافا للأخفش ، وإذا أهملت ولم يظهر المعنى لزم الخبر اللام ، لئلا يتوهّم كونها نافية ، ولذلك تسمّى الفارقة ، وهل هي لام الابتداء أو لام أخري اجتلبت للفرق؟ خلاف ، قال أبو حيّان : وثمرة الخلاف تظهر عند دخول علمت أخواتها ، فإن كانت للفرق لم تعلّق ، وإن كانت لام الابتداء علّقت ، ويجب تركها في موضع لا يصلح للنفي كقوله [من الطويل] :

٩٢٣ ـ نحن أباة الضيم من آل مالك

وإن مالك كانت كرام المعادن (٢)

لأنّه للمدح ، ولو كانت نافية كان هجوا. ومع نفي الخبر كقوله [من الطويل] :

٩٢٤ ـ إن الحقّ لا يخفي على ذي بصيرة

وإن هو لم يعدم خلاف معاند (٣)

وكذا مع نفي خبر الناسخ الداخلة عليه ، نحو : إن كان زيد لم يقم ، ومنه قول معتمد بن عباد (٤) [من الرجز] :

٩٢٥ ـ أهلا بكم صبحتكم نحوي الديم

إن كان لم يحتج لي بكم حلم (٥)

وقد خفي إعراب هذا البيت على بعض الفضلاء من المعاصرين ، فتوهّم أنّ إن فيه شرطيّة ، واستشكل بمعناه ، وتحيّر في تقدير جواب الشرط ، حتّى نبّهته على أن إن هذه هي المخفّفة من الثقيلة لا شرطيّة.

الرابع : أن تكون زائدة ، وأكثر ما تزاد بعد ما ، إذا دخلت على جملة فعلية كقوله [من البسيط] :

__________________

(١) هو لعاتكة بنت زيد. اللغة : شلّت : أصيبت بالشلل ، ويبست فبطلت حركتها أو ضعفت ، حلّت : نزلت.

(٢) هو للطرماح. و «نحن أباة الضيم» ، يروى في مكانه «أنا ابن اباة الضيم» اللغة : أباة : جمع آب اسم فاعل من أبى يأبي ، أي امتنع ، الضيم : الظلم ، كرام المعادن : طيبة الأصول ، شريفة المحتد.

(٣) لم يسمّ قائله. اللغة : المعاند : المعارض.

(٤) المعتمد بن عباد ولد سنة ٤١٣ ه‍ ، وتوفّي سنة ٤٨٨ ه‍ ، كان ثالث سلاطين بن عبّاد في إشبيلية ، كان شاعرا وكاتبا مترسّلا ، له ديوان شعر ، شعره إخلاص عاطفة وصدق تجربة. حنا الفاخوري ، الجامع في تاريخ الأدب العربي ١ / ٩٦٦.

(٥) اللغة. الديم : جمع الديمة : المطر يطول زمانه في سكون.

٨٢٠