الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

فوقعت في الأوّل بين الحرف وتوكيده ، وفي الثاني بين الحرف الناسخ ومعموله ، وفي الثالث بين حرف التنفيس والفعل ، والرابع بين قد والفعل وفي الخامس بين الحرف ومنفيه ، وكلّ ذلك يشمله قولنا بين الحرف ومدخوله.

تنبيهات : الأوّل : يجوز الاعتراض بأكثر من جملة خلافا للفارسي ، كقوله تعالى : (قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) [آل عمران / ٣٦] ، فالجملة الاسميّة ، وهي والله أعلم بما وضعت بإسكان التاء ، والفعلية وهي ليس الذكر كالأنثي معترضتان بين الجملتين المصدّرتين بإنّي.

الثاني : كثيرا ما تشبه المعترضة بالحالية ويميّزها منها أمور :

أحدها : أنّه يجوز اقترانها بالفاء كقوله [من الكامل] :

٨٧٧ ـ وأعلم فعلم المرء ينفعه

أن سوف يأتي كلّ ما قدرا (١)

الثاني : أنّه يجوز كونها طلبيّة ، كقوله [من السريع] :

٨٧٨ ـ إنّ الثّمانين وبلّغتها

قد أحوجت سمعي إلى ترجمان (٢)

الثالث : أنّه يجوز تصديرها بدليل استقبال كلن في : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) [البقرة / ٢] ، وقوله [من الوافر] :

٨٧٩ ـ ... وسوف إخال أدري

 ... (٣)

الرابع : أنّه يجوز اقترانها بالواو مع تصديرها بالمضارع المثبت كقول المبتني [من المنسرح] :

٨٨٠ ـ يا حادبي عيرها أحسبني

أوجد ميتا قبيل أفقدها

قفا قليلا بها على فلا

أقلّ من نظرة أزوّدها (٤)

قوله : أفقدها على إضمار أن ، وقوله أقلّ يروي بالرفع والنصب.

الثالث : للبيانيّين في الاعتراض اصطلاحات مخالفة لاصطلاح النّحويّين ، والزمخشريّ يستعمل بعضها كقوله في : (نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة / ١٣٣] ، يجوز أن تكون حالا من فعل نعبد ، أو من مفعوله لاشتمالها على ضميريهما ، وأن تكون معطوفة على نعبد ، وأن تكون اعتراضية مؤكّدة ، وأي ومن حالنا أنّا مخلصون له التوحيد ، ويردّ عليه مثل ذلك

__________________

(١) لم ينسب إلى قائل معين.

(٢) هو لأبي المنهال عوف بن محلم. اللغة : الترجمان : الذي ينقل إليك كلام غيرك عن لغته إلى لغتك.

(٣) تقدم برقم ٨٧٤.

(٤) اللغة : الحادبي : تثنية الحادبين ، سقطت نونه بالإضافه ، هو سائق الإبل بالغناء لها ، العير : الإبل الّتي تحمل الطعام ، النظرة : مصدر مرّة من النظر ، أزوّد : أعطى زادا.

٧٨١

من لا يعرف هذا العلم كأبي حيّان توهّما منه أنّه لا اعتراض إلا ما يقوله النحويّ ، وهو الاعتراض بين شيئين متطالبين ، قاله في المغني.

الجملة المفسّرة

ص : الثالثة «المفسّرة» وهي الفضلة الكاشفة لما تليه ، نحو : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) والأصحّ أنّه لا محلّ لها ، وقيل : هي بحسب ما تفسّره.

ش : الجملة «الثالثة» من الجمل الّتي لا محلّ لها من الإعراب «المفسّرة» ، وتسمّى التفسيرية ، «وهي» كما قال ابن هشام في المغني «الفضلة الكاشفة» لحقيقة «ما تليه» ، قال : احترزت بالفضلة من الجملة المفسّرة لضمير الشأن ، فإنّها كاشفة لحقيقة المعنى المراد به ، ولها موضع الإجماع ، لأنّها خبر في الحال أو في الأصل ، وعن الجملة المفسّرة في باب الاشتغال ، فقد قيل : إنّها تكون ذات محلّ كما سيأتي ، وهذا التقييد أهملوه ، ولا بدّ منه ، انتهى.

قال الدمامينيّ : وهذا التعريف غير مانع لصدقه على الجملة الحالية في قولك : أسررت إلى زيد النجوى ، وهي ما جزاء الإحسان إلا الاحسان ، إذ هي فضلة كاشفة الحقيقة ما تليه من النجوى ، فيلزم أن لا يكون لها محلّ من الإعراب ، وهو باطل ، ثمّ الجملة المفسّرة في باب الاشتغال لا تخرج بقيد الفضلة في مثل قولنا : قام زيد عمرا يضربه ، لأنّها هنا مفسّرة للحال ، وهي فضلة.

وأجاب الشمنيّ بأنّ المراد بالفضلة الجملة الّتي لا محلّ لها من الإعراب ، وفيه نظر ، فيكون قوله حينئذ الكاشفة لحقيقة ما تليه فصل أخرج به ما عدا هذه الجملة من الجمل الّتي لا موضع لها.

فإن قلت : جملة الموصول كاشفة ، وموضحة للموصول ، قلت : نعم ، لكنّها لا توضح حقيقة ، بل تشير إليه بحال من أحواله ، وبهذا ظهر أنّ ترك المصنّف لفظ الحقيقة من الحدّ ليس بجيّد ، بل كان الأولى ذكره ، كما فعل ابن هشام وغيره ، نحو قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران / ٥٩] ، قال فى الكشاف : قوله خلقه من تراب جملة مفسّرة لما له شبه عيسى بآدم ، أي خلق آدم من تراب ولم يكن ثمّ أب ولا أمّ ، فكذلك حال عيسى.

٧٨٢

فإن قلت : كيف شبه به وقد وجد هو بغير أب ، ووجد آدم لغير أب وأمّ ، قلت : هو مثله في أحد الطرفين ، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به ، لأنّ الممّاثلة مشاركة في بعض الأوصاف ، لأنّه شبه به في أنّه وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرّة ، وهما في ذلك نظيران ، ولأنّ الوجود من غير أب وأمّ أغرب وأخرق للعادة من الوجود من غير أب ، فشبّه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم ، وأحسم لمادّة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب ممّا استغربه.

وعن بعض العلماء أنّه أسر بالروم ، فقال لهم : لم تعبدون عيسى؟ قالوا : لأنّه لا أب له ، قال : فآدم أولى ، لأنّه لا أبوين له ، قالوا : كان يحيي الموتى ، قال : فحزقيل أولى ، لأنّ عيسى أحيا أربعة نفر ، وحزقيل أحيا ثمانية آلاف ، فقالوا : كان يبرئ الاكمة والأبرص : قال فجرجيس (١) أولى ، لأنّه ذبح وأحرق ثمّ قام سالما ، انتهى كلام الكشاف.

وما وقع لابن هشام في المغني من أنّ خلقه وما بعده تفسير لمثل آدم ، لا باعتبار ما يعطيه ظاهر لفظ الجملة من كونه قدّر جسدا من طين ، ثمّ كوّن ، بل باعتبار المعنى ، أي إنّ شأن عيسى كشأن آدم في الخروج عن مستمرّ العادة ، وهو التولّد بين الأبوين ، ليس كما ينبغي ، بل خلقه وما بعده تفسير لمثل آدم قطعا باعتبار ما يعطيه ظاهر اللفظ ، لا باعتبار المعنى الّذي ذكره ، والظاهر أنّه أراد نقل كلام الزمخشري ، فلم يوف بالمقصود منه كما تري. قال الزمخشريّ : إنّما جعل الجملة مفسّرة لوجه الشبه لا للمشبه به ، فيحتاج حينئذ إلى أن يقال : وجه الشبه المستفاد من هذه الجملة ليس هو ما يعطيه لفظها من تقدير آدم جسدا من طين ، ثمّ تكوينه ، فإنّ هذا ليس مشتركا بين آدم وعيسى (ع) ، وإنّما وجه الشبه ما يعطيه معنى الجملة من الخروج عن مستمرّ العادة من التولّد بين أبوين ، وهذا قدر مشترك بينهما.

«والأصحّ أنّه لا محلّ لها» أي للجملة المفسّرة من الإعراب ، وهو مذهب الجمهور ، سواء كان ما يفسّره له محلّ أم لا ، و «قيل» : والقائل أبو على الشلوبين بفتح الشين المعجمة وسكون الواو وكسر الموحدّة وسكون المثنّاة التحتّى ة وبعدها نون ، هكذا ضبطه ابن خلكان ، إلا أنّه جعل بياء النسبة ، فقال : أبو على عمرو بن محمد بن عمر المعروف بالشلوبين الأشبيلي ، انتهى.

وهو خلاف المشهور في الألسن ، ثمّ قال : هذه النسبة إلى الشلوبين ، وهي بلغة أهل الأندلس : الأبيض الأشقر ، قال : إنّ الجملة المفسّرة «بحسب ما تفسّره» فإن كان له محلّ من الإعراب فكذلك هي ، وإلا فلا ، فالجملة في نحو : زيدا ضربته ، لا محلّ لها ، إذ

__________________

(١) حزقيل وجرجيس كانا من أنبياء إليهود.

٧٨٣

المحذوفه المفسّره مستأنفة ، فتكون المفسّرة لها كذلك وهي في نحو : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر / ٤٩] ، ونحو : زيد الخبز يأكله ، بنصب الخبز في محلّ رفع ، لأنّ المحذوف في الآية خبر إنّ ، وفي المثال خبر المبتدإ ، وكلاهما في محلّ رفع ، وكذلك مفسّرهما ، ولهذا يظهر الرفع ، إذا قلت : زيد الخبز ياكله ، وقول الشاعر [من الطويل] :

٨٨١ ـ فمن نحن نؤمنه يبت وهو آمن

 ... (١)

فظهر الجزم ، قال ابن هشام : وكأنّ الجملة المفسّرة عنده عطف بيان أو بدل ، ولم يثبت الجمهور وقوع البيان والبدل جملة ، وجملة الاشتغال ليست من الجمل الّتي تسمّى في الاصطلاح مفسّرة ، وإن حصل بها تفسير ، انتهى. وفي الهمع وهذا الّذي قاله الشلوبين ، هو المختار عندي ، وعليه تكون الجملة عطف بيان أو بدلا.

تنبيه : المفسّرة ثلاثة أقسام : مجرّدة من حرف تفسير كالأية ، ومقرونة بأي كقوله [من الطويل] :

٨٨٢ ـ وترمينني بالطّرف أي أنت مذنب

 ... (٢)

ومقرونة بأن ، نحو : (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ) [المومنون / ٢٧] وقولك : كتبت إليه أن افعل ، إن لم تقدّر الباء قبل إن ، فإن قدّرتها كانت أن مصدريّة لا تفسيريّة.

صلة الموصول

ص : الرابعة صلة الموصول ، ويشترط كونها خبريّة معلومة للمخاطب ، مشتملة على ضمير مطابق للموصول.

ش : الجملة «الرابعة» من الجمل الّتي لا محلّ لها من الإعراب جملة «صلة الموصول» ، اسميّا كان أو حرفيّا.

فالأول نحو : جاء الّذي قام أبوه ، فجملة قام أبوه لا محلّ لها ، لأنّها صلة الموصول ، والموصول وحده له محلّ بحسب ما يقتضيه العامل بدليل ظهور الإعراب في نفس الموصول في نحو : ليقم أيّهم في الدار ، ولأكرمنّ أيّهم عندك ، وامرر بأيّهم هو أفضل ، وفي التتريل : (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا) [فصلت / ٢٩] وقرئ (لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ) [مريم / ٦٩] بالنصب ، وروي [من المتقارب] :

__________________

(١) تمامه «ومن لا نجره يمس منّا مفزّعا» ، وهو لهشام المريّ. اللغة : يبت : مضارع مجزوم من البيتوتة ، نجره : من أجاره أي جعله في جواره ، المفزّع : اسم مفعول من فزّع بمعنى أخاف وروّع.

(٢) تمامه «وتقلينني لكنّ إيّاك لا أقلي» ، اللغة : الطرف : العين ، تقلينني : تبغضينني.

٧٨٤

٨٨٣ ـ ...

فسلّم على أيّهم أفضل (١)

بالجرّ. وذهب أبو البقاء إلى أنّ المحلّ للموصول وصلته معا ، كما أنّ المحلّ للموصول الحرفيّ مع صلته ، وفرّق الأوّل بأنّ الاسم يستقلّ بالعامل ، والحرف لا يستقلّ.

الثاني : نحو : عجبت ممّا قمت ، أي من قيامك ، وفي هذا القسم يقال : الموصول وصلته في موضع كذا ، لأنّ الموصول حرف ، فلا إعراب له لفظا ولا محلّا ، وكذا قمت وحدها لا محلّ لها من الإعراب ، لأنّها صلة.

«ويشترط كونها» أي جملة صلة الموصول «خبريّة» ، لأنّ الموصول وضع صلة إلى وصف المعارف بالجمل ، نحو : جاء الّذي قام أبوه ، ومن شرط الجملة المنعوت بها أن تكون خبريّة ، هذا مذهب الجمهور ، وجوّز الكسائيّ الوصل بجملة الأمر والنهي ، نحو : الّذي اضربه ، أو لا تضربه ، وجوّزه المازنيّ بجملة الدعاء ، إذا كانت بلفظ الخبر ، نحو : الّذي يرحمه الله زيد.

قال أبو حيّان : ومقتضي مذهب الكسائيّ موافقته ، بل أولى لما فيها من صيغة الخبر ، وجوّزه هشام بجملة مصدّرة بليت ولعلّ وعسى ، نحو : الّذي ليته أو لعلّه منطلق زيد ، والّذي عسى أن يخرج زيد ، قال [من الطويل] :

٨٨٤ ـ وإنّي لرام نظرة قبل الّتي

لعلي وإن شطّت نواها أزورها (٢)

وتأوّله غيرهم على إضمار القول ، أي أقول لعلى أو الصلة أزورها ، وخبر لعلي مضمر ، والجملة اعتراض.

وأمّا جملة التعجّب فإن قلنا : إنّها إنشائيّة لم يوصل بها ، أو خبريّة ، فقولان : الجواز ، وعليه ابن خروف ، نحو : جاء الّذي ما أحسنه ، والمنع ، لأنّ التعجّب أنّما يكون من خفاء السبب ، والصلة تكون موضحة ، فتنافيا.

والصحيح جوازه بجملة القسم ، نحو : جاء الّذي أقسم بالله لقد قام أبوه ، وبجملة الشرط مع جزائه كما يخبر بها (٣) ، نحو : جاء الّذي إن قام عمرو قام أبوه ، ومنع قوم المسألتين لخلوّ إحدى الجملتين فيهما من ضمير عائد على الموصول ، وأجيب بأنّهما قد صارتا بمترلة جملة واحدة ، بدليل أنّ كلّ واحدة منهما لا تفيد إلا باقترانها بالأخرى ، فاكتفى بضمير واحد ، كما يكتفي في الجملة الواحدة ، والصحيح أيضا جوازه بجملة صدرها كان ، وقيل : لا ، لأنّها غيّرت الخبر عن مقتضاه ، وبشرط ، حيث تضمّن

__________________

(١) تقدّم برقم ٥١٠ و ٥١١.

(٢) هو للفرزدق. اللغة : رام : اسم فاعل من الرمي ، شطّت : بعدت ، النوى : البعد ، يقال : شطت بهم النوى : أمنعوا في البعد.

(٣) سقطت «كما يخبر بها» في «ح».

٧٨٥

الموصول معنى الشرط ، نحو : الّذي إن قام أبوه منطلق. وقيل : لا ، لاجتماع الشرطين ، والشئ لا يكون تمام نفسه ، وردّ بأنّ الثاني غير الأوّل لا نفسه ، قاله في الهمع.

تنبيه : إطلاقهم الخبريّة على جملة الصلة مجاز من قبيل تسمية الشيء باعتبار ما كان عليه لخلوّها الآن عن الإفادة ، وكذا الكلام في الجمل الخبريّة الواقعة خبرا للمبتدإ أو صفة للنكرة أو حالا ، فإنّها جمل ، وليست خبرا أي كلاما مقابلا للطلب ، وذلك لخروج نسبها عن كونها مقصودة بالذات ، فإذا قلت : زيد أبوه منطلق ، كان القصد إلى إثبات انطلاق الأب لزيد ، لا إلى إثبات الانطلاق لأبيه ، فإنّه مقصود تبعا ، فليس كلّ جملة كلاما ، ولا كلّ جملة غير إنشائية خبرا ، قاله السّيّد في شرح المفتاح.

«معلومة للمخاطب» لأنّك إنّما تأتي بالصّلة لتعرّف المخاطب الموصول المبهم بما كان يعرفه قبل ذكر الموصول من اتّصافه بمضمون الصلة إلا في مقام التهويل والتعظيم ، فيحسن إبهامها ، فالمعلومة كالّذي قام أبوه ، والمبهمة نحو : (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) [طه / ٧٨] ، ولم يعتبر ابن مالك هذا الشرط ، قال في شرح التسهيل : المشهور عند النّحويّين تقييد الجملة الموصول بها بكونها معهودة ، وذلك غير لازم ، لأنّ الموصول قد يراد له معهود ، فتكون صلته معهودة كقوله تعالى : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) [الأحزاب / ٣٧] ، وقد يراد به الجنس ، فتوافقه صلته كقوله تعالى :(كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) [البقرة / ١٨١] ، وقد يقصد تعظيم الموصول ، فتبهم صلته كقوله [من الطويل] :

٨٨٥ ـ ...

فمثل الّذي لا قيت يغلب صاحبه (١)

«مشتملة» غالبا «على ضمير مطابق للموصول» في الأفراد والتذكير فروعهما ، كجاء الّذي قام أبوه ، والّتي قام أبوها ، واللّذان واللتان قام أبوهما ، والّذين قام أبوهم واللّاتي قام أبوهنّ (٢).

ويسمّى هذا الضمير عائدا كما مرّ ، ولا إشكال في مطابقته للموصول لفظا ومعنى ، إن طابق لفظ الموصول معناه كالامثلة المذكورة ، فإن خالف لفظه معناه ، بأن كان مفرد اللفظ مذكّرا ، وأريد به غير ذلك كمن وما ، جاز في العائد وجهان : مراعاة اللفظ ، وهو الأكثر نحو : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) [الأنعام / ٢٥] ، ومراعاة المعنى ، وهو دونه نحو : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) [يونس / ٤٢] ، ما لم يحصل من مطابقة

__________________

(١) صدره «فإن أستطع أغلب وإن يغلب الهوي» وهو لابن ميادة.

(٢) ويشترط في شبه الجملة ، وهي الظرف والجارّ والمجرور ، أن يكونا تامّين ، والمعنى بالتامّ أن يكون في الوصل بهما فائدة ، نحو : جاء الّذي عندك ، والّذي في المدرسة ، والعامل فيهما فعل محذوف وجوبا ، فإن لم يكونا تامّين لم يجز الوصل بهما ، فلا تقول : جاء الّذي بك ، ولا جاء الّذي اليوم ، لانتفاء الفائدة ،

٧٨٦

اللفظ لبس ، نحو : أعط من سألتك ، ولا يقال : من سألك ، أو قبح ، نحو : من هي حمراء أمّك ، فيجب حينئذ مراعاة المعنى ، أو يعضد المعنى سابق ، فيختار مراعاته نحو قوله [من الطويل].

٨٨٦ ـ وإنّ من النسوان من هي روضة

تهيج الرياض قبلها وتصوّح (١)

ويجوز الغيبة والحضور في ضمير المخبر به أو بموصوفه غير حاضر مقدّم لم يقصد تشبيهه بالمخبر به ، والحاضر يشمل المتكلّم والمخاطب نحو : أنا الّذي فعلت ، وأنا الّذي فعل ، وأنت الّذي فعلت ، وأنت الّذي فعل ، قال على (ع) [من الرجز] :

٨٨٧ ـ أنا الّذي سمّتني أمّي حيدره

 ... (٢)

وقال الآخر [من الطويل] :

٨٨٨ ـ أنا الرجل الضرب الّذي تعرفونه

 ... (٣)

وقال [من الطويل] :

٨٨٩ ـ وأنت الّتي حبّبت كلّ قصيرة

إلى ولم تعلم بذاك القصائر (٤)

وقال [من الطويل] :

٨٩٠ ـ وأنت الّذي آثاره في عدوّه

 ... (٥)

ومن أمثلة المخبر بموصوفة : أنت آدم الّذي أخرجتنا من الجنّة ، وأنت موسى الّذي اصطفاك الله ، ونقول : أنت فلان الّذي فعل كذا ، وإنّما جاز ذلك ، لأنّ المخبر عنه والمخبر به شئ واحد ، لكنّ اعتبار الخبر اكثر وأقيس.

وهل يختصّ ذلك بالّذي والّتي وتثنيتهما وجمعهما ، ويتعيّن في ما عدا ذلك الغيبة أو لا؟ قال أبو حيّان : والصواب الأوّل ، وزاد بعض أصحابنا ذو وذات الطائيّة والألف واللام ، وأجازه بعضهم في جميع الموصولات ، قال : وهو وهم منه ، فإن تأخّر المخبر عنه ، وتقدّم الخبر ، تعيّنت الغيبة عند الجمهور ، نحو : الّذي قام أنا ، أو الّذي قام أنت ، لأنّ الحمل على المعنى قبل تمام الكلام ممنوع. وأجاز الكسائيّ ذلك مع التأخير أيضا.

__________________

(١) هو لجران العود. اللغة : تصوّح : يبس حتّى تشقّق.

(٢) تمامه «ضرغام آجام وليث قسورة» ، اللغة : آجام : جمع أجمة ، وهي مأوي الأسد ، قسوره : أسد.

(٣) تمامه «خشاش كرأس الحيّة المتوقد» ، وهو لطرفة. اللغة : الخشاش : الرجل الخفيف ، المتوقد : النشيط.

(٤) هو لكثير عزة. اللغة : القصير : هنا الملازمة لخدرها ، القصائر : جمع قصيرة.

(٥) تمامه «من البؤس والنعمي لهنّ ندوب» ، وهو لعلقمة الفحل. اللغة : البؤس : المشقّة ، النعمى : الخفض والدعة ، الندب : جمع الندوب : السريع الخفيف عند الحاجة.

٧٨٧

وإن قصد تشبيهه بالمخبر به ، تعيّنت الغيبة اتّفاقا ، نحو : أنا في الشجاعة الّذي قتل مرحبا ، وأنت في الشجاعة الّذي قتل مرحبا ، يعني أمير المومنين عليا (ع) ، وذلك لأنّ المعنى على تقدير مثل ، ولو صرّح بها تعيّنت الغيبة ، وأوجب قوم الغيبة مطلقا ، وأوجبها قوم في السعة دون الضرورة ، وهما قولان واهيان يردّهما السماع.

وعلى الجواز بشرطه إن وجد ضميران ، جاز في أحدهما مراعاة اللفظ وفي الآخر المعنى قال [من الرجز] :

٨٩١ ـ نحن الّذين بايعوا محمّدا

على الجهاد ما بقينا أبدا (١)

وقال [من الطويل] :

٨٩٢ ـ أأنت الهلإلى الّذي كنت مرّة

سمعنا به والأريحيّ الملقّب (٢)

ومنع الكوفيّون الجمع بين الجملتين إذا لم يفصل بينهما ، نحو : أنا الّذي قمت وخرجت ، فلا يجوز عندهم : وخرج ، وأطلق البصريّون ، والسماع مع الكوفيّين إذا لم يرد إلا مع الفصل.

تنبيهات : الأوّل : زاد بعضهم على ما ذكر من الشروط في جملة الصلة أن لا تستدعي كلاما قبلها كجملة حتّى الّتي للغاية ، فلا يجوز : جاء الّذي حتّى أبوه قائم ، وجملة لكن الاستدراكيّة ، فلا يقال : جاء الّذي لكنّه قائم ، فإنّها لا تقع صلة (٣) ولا صفة ولا خبرا ولا حالا.

الثاني : قد يخلف الضمير المذكور اسم ظاهر ، فيقوم مقامه كقوله [من الطويل] :

٨٩٣ ـ سعاد الّتي أضناك حبّ سعادا

وإعراضها عنك استمرّ وزادا (٤)

أي حبّها.

وحكي أبو سعيد : الّذي رويت عن الخدريّ (٥) أي عنه. وقال الآخر [من الطويل] :

٨٩٤ ـ فيا ربّ ليلي أنت في كلّ موطن

وأنت الّذي في رحمة الله أطمع (٦)

أي في رحمته أو رحمتك. قال الفارسيّ : ومن الناس من لا يجيز هذا.

__________________

(١) لم يسمّ قائله.

(٢) مجهول قائله. اللغة : الأريحيّ : منسوب إلى الموضع الّذي بالشام ، أو بمعنى الواسع الخلق.

(٣) في «ح» سقط «صله».

(٤) لم ينسب إلى قائل معيّن. اللغة : أضناك : أورثك الضني ، وهو المرض الّذي كلمّا ظننت أنه برئ عاد ، الإعراض : الهجران والصدود.

(٥) سعد بن مالك بن سنان الأنصاري الخرزجي كان من علماء الصحابة وممّن شهد بيعة الرضوان وروى حديثا كثيرا ، مات سنة ٧٤ ه‍. الإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد الهادي الدمشقيّ ، طبقات علماء الحديث ، تحقيق أكرم البرشي ، الطبعة الثالثة ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، ١٤١٧ ه‍ ، ص ٩٨.

(٦) هو للمجنون.

٧٨٨

الثالث : أجاز ابن الصائغ خلوّ جملة الصلة من الضمير ، إذا عطف عليها بالفاء جملة مشتملة عليه ، نحو الّذي يطير فيغضب زيد الذباب ، لحصول الارتباط بالفاء وصيرورتهما جملة واحدة.

الرابع : الضمير العائد المذكور إن كان بعض معمول الصلة جاز حذفه مطلقا كحذف المعمول نحو : أين الرجل الّذي قلت؟ تريد قلت : إنّه يأتي ، أو نحوه : وإن لم يكن فأمّا أن يكون منفصلا أو متّصلا ، فإن كان منفصلا لم يجز حذفه ، نحو : جاء الّذي إيّاه أكرمت ، وما أكرمت إلا إيّاه ، وإن كان متّصلا فله أحوال :

أحدها أن يكون منصوبا ، فإن نصب بفعل ، أو وصف ، جاز حذفه ، نحو : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) [الفرقان / ٤١] أي بعثه وقوله [من البسيط] :

٨٩٥ ـ ما الله موليك فضل فاحمدنه به

فما لدي غيره نفع ولا ضرر (١)

أي موليكه ، أو بغيرهما لم يجز ، نحو : جاء الّذي إنّه فاضل ، أو كأنّه قمر.

الثاني : أن يكون مجرورا ، فيجوز حذفه في صور :

إحداها : أن يجرّ بإضافة أو ناصبة له تقديرا ، نحو : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) [طه / ٧٢] أي قاضيه ، فإن جرّ بإضافة غير صفة ، نحو : جاء الّذي وجهه حسن ، أو بإضافة صفة غير ناصبة ، نحو : جاء الّذي أنا ضاربه أمس ، لم يجز حذفه خلافا للكسائيّ.

ثانيهما : أن تجرّ بحرف جرّ ، ويجرّ الموصول أو الموصوف بالموصول بمثل ذلك الحرف لفظا ومعنى ومتعلّقا ما لم يمنع منه مانع ، نحو : مررت بالّذي أو بالرجل الّذي مررت ، أي به ، وقوله تعالى : (وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) [المومنون / ٣٣] ، أي منه ، فإن جرّا معا بغير حرف ، نحو : جاء غلام الّذي أنت غلامه ، أو لم يجرّ الموصول ، نحو : جاء الّذي مررت به ، أو جرّ بحرف ، لا يماثل ما جرّ به العائد في اللفظ كحللت في الّذي حللت به ، أو ماثله لفظا لا معنى ، كمررت بالّذي مررت به على زيد ، أو لفظا ومعنى لا متعلّقا كمررت بالّذي فرحت به ، لم يجز الحذف في الصور كلّها ، وما سمع منه فيها فشاذّ.

قد يمتنع الحذف مع توفّر الشروط المذكورة لمانع ، وذلك إذا كان العائد المجرور محصورا ، نحو : مررت بالّذي ما مررت إلا به ، أو إنّما مررت به ، أو كان نائبا عن الفاعل ، نحو : مررت بالّذي مرّ به ، أو كان لا يتعيّن للربط ، نحو : مررت بالّذي مررت به في داره ، أو كان حذفه ملبّسا ، نحو : رغبت فيما رغبت فيه ، لأنّه لا يعلم أنّ الأصل فيه أو

__________________

(١) لم يذكر قائله. اللغة : موليك : اسم فاعل من أولاه النعمة ، إذا أعطاه إيّاها.

٧٨٩

عنه ، والصحيح جواز هذا ، لأنّ الحذف يدلّ على اتّفاق الحرفين. ولو كانا متباينين لم يجز الحذف ، لأنّه مشروط فيه اتّفاق الحرفين كما عرفت.

الحالة الثالثة : أن يكون مرفوعا ، فإن كان فاعلا أو نائبا عنه أو خبرا لمبتدإ أو لناسخ لم يجز الحذف ، نحو : جاءني اللذاني قاما أو ضربا ، وجاء الّذي الفاضل هو ، أو أنّ الفاضل هو.

وإن كان مبتدأ ، جاز بشروط :

أحدها : أن لا يكون بعد حرف نفي ، نحو : جاءني الّذي ما هو قائم.

الثاني : أن لا يكون بعد أداة حصر ، نحو : جاءني الّذي ما في الدار إلا هو ، أو الّذي إنّما في الدار هو.

الثالث : أن لا يكون معطوفا على غيره ، نحو : جاءني الّذي زيد ، وهو منطلقان.

الرابع : أن لا يكون معطوفا عليه ، نحو : جاءني الّذي هو وزيد فاضلان ، ولم يعتبر الفرّاء هذا الشرط ، فجاز حذفه ، وردّ بأنه لم يسمع ، وبأنّه يودّي إلى وقوع حرف العطف صدرا.

الخامس : أن لا يكون خبره جملة ولا ظرفا ولا مجررا ، كقوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) [الماعون / ٦] ، وقولك : جاءني الّذي هو في الدار ، لأنّه لو حذف لم يدر أحذف من الكلام شئ أم لا ، لأنّ ما بعده من الجملة والظرف صالح لأن يكون صلة.

السادس : أن تطول الصلة ، شرط ذلك البصريّون ، ولم يشترط الكوفيّون ، فأجازوا الحذف من قولك : جاءني الّذي هو فاضل لوروده في قراءة : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) [الأنعام / ١٥٤] ، بالرفع ، أي هو أحسن وقوله [من البسيط] :

٨٩٦ ـ من يعن بالحمد لم ينطق بما سفه

ولم يحد عن سبيل الحلم والكرم (١)

أي بما هو سفة ، جعل البصريّون ذلك نادرا.

ومحلّ الخلاف في غير أيّ ، أما في أيّ فلا يشترط فيها الطول اتّفاقا ، لأنّها مفتقر إلى الصلة وإلى الإضافة ، فكانت أطول ، فحسن معها تخفيف اللفظ ، ومثال ما اجتمعت فيه الشروط والطول قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف / ٨٤] ، أي هو إله.

لطيفة : قال أبو محمد الحريريّ في درّة الغواص من أوهام الخواص : إنّهم يقولون : الحمد لله الّذي كان كذا ، فيحذفون الضمير العائد إلى اسم الله تعالى الّذي به يتمّ الكلام ، وتتعقد الجملة وتنتظم الفائدة ، والصواب أن يقال : الحمد لله إذ كان كذا ، أو

__________________

(١) لم ينسب إلى قائل معيّن.

٧٩٠

يقال : الحمد لله الّذي كان كذا وكذا بلطفه أو بعونه أو من فضله وما أشبه ذلك ، ممّا يتمّ به الكلام المبتور ، يربط الصلة بالموصول.

وفي نوادر النّحويّين : أنّ رجلا قرع الباب على نحويّ ، فقال له : من أنت؟ فقال الّذي اشتريتم الأجر ، فقال له : أمنه؟ قال : لا ، قال : أله؟ قال : لا ، قال : إذهب فما لك في صلة الّذي شئ ، انتهى.

المجاب بها القسم

ص : الخامسة المجاب بها القسم ، نحو : (يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ،) ومتى اجتمع شرط وقسم اكتفى بجواب المتقدّم منهم ، إلا إذا تقدّمها ما يفتقر إلى خبر ، فيكتفي بجواب الشرط مطلقا.

ش : الجملة «الخامسة» من الجمل الّتي لا محلّ لها من الإعراب الجملة المجاب بها القسم ، سواء ذكر فعل القسم وحرفه ، أم الحرف فقط ، أم لم يذكر ، فالأوّل نحو : قولك : أقسم بالله لأفعلنّ ، والثاني «نحو» قوله تعالى : (يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [يس / ٣ و ٢ و ١] ، والثالث : نحو قوله تعالى : (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) [القلم / ٣٩] فكلّ من جملة لأفعلنّ ، (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ،) و (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ ،) لا محلّ لها من الإعراب ، لأنّها جملة يجاب بها القسم.

تنبيهات : الأوّل : ممّا يجعل الجواب وغيره قول الفرزدق [من الطويل] :

٨٩٧ ـ تعشّ فإن عاهدتني لا تخونني

فكن مثل من يا ذئب يصطحبان (١)

فجملة النفي إمّا جواب لعاهدتني كما قال [من الطويل] :

٨٩٨ ـ أري محرزا عاهدته ليوافقن

فكان كمن أغريته بخلاف (٢)

فلا محلّ لها ، أو حال من الفاعل أو المفعول أو لكيهما ، فمحلّها النصب ، والأوّل أرجح ، لأنّ المعنى على المعاهدة والحلف على ذلك لا على الحلف في هذه الحاله على شئ آخر.

الثاني : منع ثعلب من وقوع الجملة القسمية خبرا ، فقيل في تعليله ، لأنّ نحو لأفعلنّ لا محلّ له ، فلو بني على المبتدإ ، فقيل : زيد ليفعلنّ صار له محلّ ، قال ابن هشام : وليس بشيء ، لأنّه أنّما منع وقوع الخبر جملة قسميّة لا جملة هي الجواب لقسم ، ومراده أن القسم وجوابه لا يكونان خبرا ، إذ لا ينفكّ إحداهما عن الآخر ، وجملتا القسم والجواب

__________________

(١) اللغة : تعش : أمر من التعشّي إذا أكل العشاء ، يصطحبان : مضارع افتعال من صحبه أي عاشره.

(٢) لم يسمّ قائله. اللغة : محرز : اسم رجل ، أغريته : حرّضته. ويروي أغزيته بمعنى أحمله عليه.

٧٩١

يمكن أن يكون لهما محلّ كقولك قال زيد : أقسم لأفعلنّ ، وإنّما المانع عنده إمّا كون جملة القسم لا ضمير فيها ، فلا تكون خبرا ، لأنّ الجملتين هنا ليستا كجملتي الشرط والجزاء ، لأنّ الجملة الثانية ليست معمولة لشئ من الجملة الأولى ، ولهذا منع بعضهم وقوعها صلة ، وإمّا كون جملة القسم إنشائيّة والجملة الواقعة خبرا فلا بدّ من احتمالها للصدق والكذب ، وعندي أنّ كلّا من التعليلين ملغية ، أمّا الأوّل فلأنّ الجملتين مرتبطتان ارتباطا صارتا به كالجملة ، وإن لم يكن بينهما عمل ، وأمّا الثاني فلأنّ الخبر الّذي شرطه احتمال الصدق والكذب هو الخبر قسيم الانشاء لا خبر المبتدأ.

قال : وزعم ابن مالك أنّ السماع ورد بما منعه ثعلب ، وهو قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) [العنكبوت / ٩] ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) [العنكبوت / ٥٨] ، (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ) [العنكبوت / ٦٩].

وعندي لما استدلّ به تأويل لطيف ، وهو أنّ المبتدأ في ذلك كلّه ضمّن معنى الشرط ، وخبره مترّل مترلة الجواب ، فإذا قدّر قبله قسم ، كان الجواب له ، وكان خبر المبتدإ المشبهة بجواب الشرط محذوفا للاستغناء عنه بجواب القسم المقدّر قبله ، ونظيره في الاستغناء بجواب القسم المقدّر قبل الشرط المجرّد من لام التوطئة قوله تعالى : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَ) [المائدة / ٧٣] التقدير والله ليمسنّ ، وإن لم ينتهوا ليمسنّ ، انتهى.

اجتماع الشرط والقسم : «ومتى اجتمع» في الكلام «شرط وقسم» ملفوظ أو مقدّر «اكتفى بجواب المتقدّم منها» عن جواب المتأخّر لشدّة الاعتناء بالمتقدّم ، فالشرط المتقدّم نحو : إن جاء زيد والله أكرمه ، فالجواب المذكور للشرط ، وجواب القسم محذوف لدلالة جواب الشرط عليه ، والقسم المتقدّم الملفوظ به ، نحو : والله إن جاء زيد لأكرمته ، والمقدّر نحو قوله تعالى : (لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَ) [يوسف / ٣٢] ، فالجواب المذكور للقسم الملفوظ به في المثال والمقدّر في الآية ، وجواب الشرط فيهما محذوف وجوبا لدلالة القسم وجوابه عليه.

وجوّز الفرّاء ، وقيل : الكوفيّون ، وتبعهم ابن مالك جعل الجواب للشرط ، وإن تأخّر محتجّين بقوله [من الطويل] :

٧٩٢

٨٩٩ ـ لئن كان ما حدّثته اليوم صادقا

أصم في نهار القيظ للشّمس باديا (١)

ومنعه البصريّون ، وحملوا البيت على الضرورة أو زيادة اللام.

وجعل ابن مالك الجواب للقسم المؤخّر إن اقترن بالفاء لدلالته على الاستنئاف كقوله [من الطويل] :

٩٠٠ ـ فإمّا أعش حتّى أدبّ على العصى

فو الله أنسى ليلتي المسالم (٢)

وردّه أبو حيّان بأنّ القسم مع جوابه جواب الشرط ، ولذا اقترن بالفاء ، لا أنّه محذوف ، دلّ عليه جواب القسم.

«إلا إذا تقدّمها» أي القسم والشرط «ما يفتقر إلى الخبر» كالمبتدإ والاسم في بابي كان وإنّ والمفعول الأوّل في باب ظنّ ، والثاني في باب علم «فيكتفي بجواب الشرط» عن جواب القسم «مطلقا» ، سواء تقدّم أو تأخّر تفضيلا له بلزوم الاستغناء بجوابه عن جواب القسم ، لأنّ سقوطه مخلّ بالجملة بخلافه ، لأنّه لمجرّد التاكيد ، نحو : زيد والله إن يقم أقم ، وزيد إن تقم والله أقم ، فالجملة الشرطية هي الخبر والقسم تأكيد ، وجوابه محذوف ، وقضيّة كلامه لزوم الاكتفاء بجواب الشرط والحالة هذه ، فلا يجوز إجابة القسم حذف جواب الشرط ، وهو ما صرّح به ابن مالك في التسهيل والكافية.

وذهب ابن عصفور وغيره إلى ترجيح إجابه الشرط دون اللزوم ، وعليه جرى ابن مالك في الخلاصة حيث قال [من الرجز] :

٩٠١ ـ وإن تواليا وقبل ذو خبر

فالشرط رجّح مطلقا بلا حذر

وإذا تقدّم القسم وحده ، وما يفتقر إلى الخبر أو الصلة جاز البناء على أيّهما شئت ، وإن بنيت على المفتقر إلى الخبر أو الصلة فجواب القسم محذوف لدلالة الخبر والصلة عليه ، وإلا فهو وجوابه الخبر والصلة نحو : زيد والله يقوم ، وجاءني الّذي والله يقوم ، وزيد والله ليقومنّ ، وجاءني الّذي والله ليقومنّ.

تنبيهات : الأوّل : قضية إطلاق المصنّف أنّ الجواب للمتقدّم من الشرط والقسم مطلقا ، وهو مذهب الجمهور ، كما نقله أبو حيّان ، وفرق ابن مالك في التسهيل بين الشرط الامتناعي وغيره ، فأوجب جعل الجواب للامتناعي وإن تأخّر ، كما في صورة تقدّم ما يفتقر إلى الخبر نحو : والله لو قام زيد لقمت ، وو الله لو لا زيد لأتيتك ، وجواب القسم محذوف لدلالة جواب لو ولو لا عليه ، قال [من الطويل] :

__________________

(١) هو لامرأة من عقيل. اللغة : القيظ : شدّة الحرّ ، باديا : ظاهرا.

(٢) هو لقيس بن العيزارة : اللغة : أدبّ : أمشي مشيا رويدا ، المسالم : السلم.

٧٩٣

٩٠٢ ـ فأقسم أن لو التقينا وأنتم

لكان لكم يوم من الشّر مظلم (١)

وقالت امرأة من العرب [من الطويل] :

٩٠٣ ـ فو الله لو لا الله تخشى عواقبه

لزعزع من هذا السّرير جوانبه (٢)

وقال ابن هشام في حاشيته ، والحقّ أنّ لو ولو لا وجوابهما جواب القسم ولم يعترض شرط على قسم أصلا.

الثاني : الّذي قرّره ابن الحاجب لزوم الاكتفاء عن جوابه بجواب المتقدّم إذا كان هو القسم ، فإن كان المتقدّم الشرط جاز الاكتفاء عن جوابه بجواب القسم وبالعكس. قال بعض الأئمة : ولا أعلم له في ذلك موافقا ، بل المنقول في سائر الكتب أنّه يجب في هذه الحالة كون الجواب للشرط وجواب القسم محذوفا.

الثالث : حيث أغنى جواب القسم عن جواب لشرط لزم كونه مستقبلا ، لأنّه مغن عن مستقبل ودالّ عليه ، ولزم كون فعل الشرط ماضيا ، ولو معنى كالمضارع المنفيّ بلم ، لأنّ جواب الشرط لا يحذف إلا حيث كان فعله كذلك كما مرّ ، فلا يجوز أن يقال : والله إن يقم زيد لأقومنّ ، ولا والله إن لا يقم لأقومنّ ، ولا والله إن قام زيد لقمت ، إلا إذا وقع الماضي موقع المستقبل كقوله تعالى : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا) [الروم / ٥١] أي ليظلن.

الجملة المجاب بها شرط غير جازم

ص : السّادسة المجاب بها شرط غير جازم ، نحو : إذا جئتني أكرمتك ، وفي حكمها المجاب بها شرط جازم ، ولم يقترن بالفاء ولا بإذا الفجائية ، نحو : إن تقم أقم.

ش : الجملة «السادسة» من الجمل الّتي لا محلّ لها من الإعراب الجملة «المجاب بها شرط غير جازم» وهو إذا ولو ولو لا ولمّا وكيف ، نحو : «إذا جئتني أكرمتك» ، ولو جاء زيد لأكرمتك ، ولمّا جاء زيد أكرمتك ، وكيف تصنع أصنع.

«وفي حكمها» أي الجملة «المجاب بها شرط» غير «جازم» الجملة المجاب بها شرط جازم «ولم يقترن بالفاء ولا بإذا الفجائية ، نحو : إن تقم أقم» ، وإن قمت قمت ، أمّا الأوّل فلظهور الجزم في لفظ الفعل ، وأمّا الثاني فلأنّ المحكوم لموضعه بالجزم الفعل ، لا الجمله بأسرها ، فإن اقترنت بأحدهما كانت في محلّ جزم كما تقدّم.

__________________

(١) هو للمسيّب بن علس. اللغة : التقينا : استقبلنا كلّ منّا صاحبه.

(٢) اللغة : العواقب : جمع عاقبة بمعنى العقوبة ، زعرع : حرّك ، الجوانب : جمع جانب وهو الطرف.

٧٩٤

الجملة التابعة لما لا محلّ له

ص : السابعة التابعة لما لا محلّ له ، نحو : جاءني زيد فأكرمته ، جائني الّذي زارني وأكرمته ، إذا لم يجعل الواو للحال بتقدير قد.

ش : الجملة «السابعة» من الجمل الّتي لا محلّ لها من الإعراب الجملة «التابعة لما لا محلّ لها من الإعراب ، نحو : جاءني زيد فأكرمته» ، فجملة أكرمته لا محلّ لها ، لأنّها معطوفة على جملة جاءني زيد ، وهي لا محلّ لها ، لأنّها مستأنفة ، ومثلها نحو : جاءني زيد وأكرمته ، إذا لم تقدّر الواو الداخلة على أكرمته للحال بتقدير قد ، فإن قدّرت للحال بتقدير قد ، كانت الجملة في محل نصب على الحال من زيد.

تنبيه : قال الدمامينيّ في شرح المغني : إطلاق التبعيّة على الجملة الّتي لا محلّ لها من الإعراب مشكل ، فإنّ التابع هو الثاني بإعراب سابقه من جهة واحدة ، فلا بدّ أن يكون لمتبوعه محلّ من الإعراب ، فإن قلت : لعلّه أراد التبعيّة اللغويّة ، قلت : هذا مع كونه خروجا عن التّكلّم باصطلاح أهل الفن ، لا يجدي شيئا في مثل قولهم في قوله تعالى : (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ* أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الشعراء / ١٣٣ و ١٣٢] ، إنّ الجملة الثانية لا محلّ لها لكونها بدلا من الصلة ، وكذا في قولهم : جاء زيد وذهب عمرو ، إنّ الثانية لا محلّ لها لكونها معطوفة على المستأنفه ، انتهى.

والأولى أن يقال في الجواب : إنّ إطلاق التابعة هنا مجاز لعلاقة المشابهة ، قال الشمنيّ : وينبغي أن يعلم أنّ العطف بالواو في الجمل الّتي لا محلّ لها لإفادة ثبوت مضمون الجملتين ، لأنّ مثل قولنا : ضرب زيد أكرم عمرو ، بدون العطف يحتمل الإضراب والرجوع عن الأوّل ، بخلاف ما إذا عطفت ، نصّ على ذلك عبد القاهر.

تتمة : يقول المعربون على سبيل التقريب : الجمل بعد النكرات صفات وبعد المعارف أحوال ، وشرح المسألة مستوفاة أن يقال : إنّ الجملة الخبريّة الّتي لم يطلبها العامل لزوما ، ويصحّ الاستغناء عنها إن وقعت بعد النكرة المحضة ، فهي صفة ، نحو قوله تعالى : (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء / ٩٣] ، فجملة نقرأه صفة الكتاب لا غير ، أو بعد المعرفة المحضة ، فهي حال عنها نحو قوله : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) [المدثر / ٦] ، فجملة تستكثر حال من الضمير المستتر في تمنن المقدّر بأنت لا غير ، أو بعد غير المحضة منها ، فهي محتملة لهما ، فمثالها بعد النكرة قوله تعالى : (هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) [الأنبياء / ٥٠] ، فلك أن تقدّر جملة أنزلناه صفة للنكرة ، وهو الظاهر ، ولك أن تقدّرها حالا منها ، لأنّها قد تخصّصت بالوصف ، وذلك يقربها من المعرفة.

٧٩٥

قال ابن هشام : ولك أن تقدّرها حالا عن المعرفة ، وهو الضمير في : (مُبارَكٌ ،) إلا أنّه قد يضعف من حيث المعنى وجها الحال ، أمّا الأوّل فلأنّ الإشارة إليه لم تقع في حالة الإنزال كما وقعت الإشارة إلى البعل في حال الشيوخة في : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود / ٧٢] ، وأمّا الثاني فلاقتضائه تقييد البركة بحالة الإنزال ، انتهى.

ومثالها بعد المعرفة قوله تعالى : (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) [الجمعة / ٥] فإنّ المعرّف الجنسي يقرب في المعنى من النكرة ، فيصحّ تقدير : (يَحْمِلُ) حالا ووصفا ، وخرج بقيد الخبريّة نحو : هذا عبد بعتكه ، تريد بالجملة الإنشاء ، وهذا عبدي بعتكه ، كذلك فإنّ الجملتين مستأنفتان ، لأنّ الإنشاء لا يكون نعتا ولا حالا بقيد عدم طلب العامل لها لزوما جملة الخبر والمحكيّة بالقول وبصحّة الاستغناء عنها جمله الصلة ، فلا يجري عليها الحكم المذكور.

أحكام الجارّ والمجرور والظرف

ص : خاتمة : في أحكام الجارّ والمجرور والظرف : إذا وقع أحدهما بعد المعرفة المحضة فحال ، أو النكرة المحضة فصفة ، أو غير المحضة فمحتمل لهما ، ولا بدّ من تعلّقهما بالفعل أو بما فيه رائحته ، ويجب حذف المتعلّق إذا كان أحدهما صفة أو صلة أو خبرا أو حالا ، وإذا كان كذلك أو اعتمد على نفي أو استفهام جاز أن يرفع الفاعل ، نحو : جاء الّذي في الدّار أبوه ، وما عندي أحد ، و (أَفِي اللهِ شَكٌّ.)

ش : هذه تبصرة في «ذكر أحكام» ما يشبه الجملة وهو «الجارّ والمجرور والظرف» وذكر حكمهما في التعلّق.

حكمهما بعد المعارف والنكرات حكم الجمل ، وذلك أنّه «إذا وقع أحدهما بعد المعرفة المحضه» ، وهي الخالصة من شائبة التنكير فهو حال ، نحو : رأيت الهلال في الأفق أو بين السحاب ، ففي الأفق وبين السحاب «حال» ، لأنّه وقع بعد معرفة محضة. «أو» وقع بعد «النكرة المحضة» ، أي الخالصة ممّا يقربها من المعرفة ، «فهو صفة» ، نحو : رأيت طائرا على غصن أو فوق غصن ، فعلى غصن أو فوق غصن صفة لوقوعه بعد النكرة المحضة ، «أو» وقع بعد «غير المحضة» من المعرفة والنكرة «فمحتمل لهما» أي للحال والصفة.

فالواقع بعد غير المحضة من المعرفة نحو : يعجبني الثمر في الأغصان أو فوق الأغصان ، لأنّ المعرّف الجنسيّ كالنكرة ، فيجوز في كلّ من الجارّ والمجرور والظرف أن ى كون حالا وأن يكون صفة. والواقع بعد غير المحضة من النكرة نحو : هذا تمر يانع على

٧٩٦

أغصانه أو فوق أغصانه ، لأنّ النكرة الموصوفة كالمعرفة ، فيجوز في كلّ من الجارّ والمجرور والظرف أن يكون حالا ، وأن يكون صفة أخرى.

«ولا بدّ من تعلّقهما» أي الجارّ والمجرور والظرف «بالفعل» ماضيا كان أو مضارعا أو أمرا أو بما يشبهه ، أو بما أوّل بما يشبهه «أو بما فيه رائحته» ، فمثال التعلّق بالفعل وبشهه قوله تعالى : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الحمد / ٧] ، فعليهم الأوّل متعلّق بالفعل ، وهو أنعمت ، وعليهم الثّاني متعلّق بشبهه ، وهو المغضوب ، ومثال التعلّق بما أوّل بشبه الفعل قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ) [الزخرف / ٨٤] ، أي وهو الّذي هو إله في السماء ، ففي السّماء متعلّق بإله ، وهو اسم غير صفة بدليل أنّه يوصف ، فيقال : إله واحد ولا يوصف به ، لا يقال : شيء إله ، وإنّما صحّ التعلّق به لتأوّله بمعبود ، ومثال التعلّق بما فيه رائحة الفعل قوله [من السريع] :

٩٠٤ ـ أنا أبو المنهال بعض الأحيان

 ... (١)

وقوله [من الرجز] :

٩٠٥ ـ أنا ابن ماوّية إذ جدّ النّقر

 ... (٢)

فتعلّق بعض وإذ بالاسمين العلمين لا لتأوّلهما باسم يشبه الفعل ، بل لما فيهما من معنى قولك : المشهور أو الشجاع أو الجواد.

وتقول : فلان حاتم في قومه ، فتعلّق الظرف بما في حاتم من معنى الجود ، وإنّما لم يكن بدّ من تعلّق الجارّ والمجرور والظرف بما ذكر ، لأنّ حرف الجرّ موضوع لإيصال معنى الفعل إلى الاسم ، فالّذي وصل معناه هو الّذي يتعلّق به الحرف كقولك : سرت من البصرة ، فمن أوصلت معنى السير إلى البصرة على معنى الابتداء ، وهو متعلّق به ، فإذا قال النحويّ : بم يتعلّق هذا الحرف؟ أو ما العامل فيه؟ فإنّما يعني ما الّذي أوصل هذا الحرف معناه ، والظرف لما كان مقدّرا بحرف الجرّ كان حكمها واحدا في ذلك.

فإن قلت : يقع في عبارة بعضهم الجارّ يتعلّق بكذا ، وفي عبارة أخرين الجارّ والمجرور ، وفي عبارة أخرين المجرور ، فما هو المحرّر من هذا العبارات؟ قلت : التحقيق أنّ العامل إنّما يعمل في الاسم الّذي يلي الجارّ لا في حرف الجارّ ، وإطلاق من قال : العامل في الجارّ كذا ، تسامح ، وقول من قال : الجارّ والمجرور يتعلّق بكذا ملموح فيه أنّ الجارّ يتترّل مترلة الجزء من المجرور به فجعل التعلّق لهما معا.

__________________

(١) تمامه «ليس على حسبي بضؤلان» ، وهو لابن دارة سالم بن مسافع. اللغة : الضؤلان : الضئيل ، ويروي الصوان من الصون بمعنى الحفظ.

(٢) وبعده «وجاءت الخيل أثابيّ زمر» ، وهو لعبد الله بن مارية الطائي. اللغة : جدّ : اشتدّ ، النقر : صوت تزجي به الفرس ، الأثابي : جمع أثبيّة : بمعنى الجماعة ، الزمر : جمع الزمرة : الجماعة.

٧٩٧

والحقّ ما قدمناه أوّلا ، فإذا قلت : مررت بزيد ، فزيد متعلّق بالفعل بمعنى أنّه معمول له بحسب المحلّ ، إذ هو في محلّ نصب على معنى أنّ الفعل يقتضي نصبه لو كان متعدّيا كما يقال بدل مررت بزيد : جاوزت زيدا.

هذا إذا لم يصر الجارّ والمجرور عوضا عن العامل ، أمّا إذا صار عوضا منه فيحكم على محلّهما جمعا بإعراب هو إعراب العامل ، فيقال محلّ من الكرام في قولك : مررت برجل من الكرام جرّ ، وفي زيد من الكرام رفع ، وفي جاء زيد بثيابه نصب ، كذا حرّره الإمام الحديثيّ في شرح الحاجبية.

تنبيهات : الأوّل : إذا لم يكن شيء من الأربعة المذكورة الّتي يتعلّقان بها موجودا قدّر كقوله تعالى : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) [الأعراف / ٧٣] ، بتقدير أرسلنا ، ولم يتقدّم ذكر الإرسال ، ولكن ذكر النبيّ والمرسل إليهم يدلّ على ذلك ، ومثله : (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ) [النمل / ١٢] ، ففي وإلى متعلّقان باذهب مقدّرا ، (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [البقرة / ٨٣] أي وأحسنوا بالوالدين إحسانا ، مثل : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) [يوسف / ١٠٠] ، (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) [الأحقاف / ١٥] ، مثل : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً)(١) [العنكبوت / ٨] ومنه باء البسملة ، كما تقدّم.

الثاني : هل يتعلّقان بالفعل الناقص؟ من زعم أنّه لا يدلّ على الحدث منع من ذلك ، والصحيح أنّها كلّها دالّة عليه كما تقدّم ، والمشهور منع تعلّقهما بأحرف المعاني مطلقا ، وقيل بجوازه مطلقا ، وفصّل بعضهم ، وفقال : إن كان نائبا عن فعل حذف ، جاز على طريق النيابة لا الإصالة ، وإلا فلا ، وهو قول أبي على وأبي الفتح ، زعما في نحو : يا لزيد ، أنّ اللام متعلّقة بيا ، بل قالا في يا عبد الله : إنّ النصب بيا. وأمّا الّذين قالوا بالجواز مطلقا فقال بعضهم في قول كعب [من البسيط] :

٩٠٦ ـ وما سعاد غداة البين إذ رحلوا

إلا أغنّ غضيض الطّرف مكحول (٢)

غداة البين ظرف للنفي ، أي انتفي كونها في هذا الوقت إلا كأغن.

وقال ابن حاجب في : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ) [الزخرف / ٣٩] ، إذ بدل من اليوم ، واليوم أمّا ظرف للنفع المنفي ، وأمّا لما في لن من معنى النفي ، أي انتفي في هذا اليوم النفع ، فالمنفيّ نفع مطلق ، وعلى الأوّل نفي مقيّد ، وقال أيضا : إذا قلت : ما ضربته للتأديب ، فإنّ قصدت نفي ضرب معلل ، فاللام متعلّقة بالفعل ، والمنفي ضرب

__________________

(١) سقطت هذه الأية في «ح».

(٢) البيت من قصيدة «بانت سعاد» لكعب بن زهير ، اللغة : الغداة : البكرة ، البين : الفراق ، أغنّ : صفة لمحذوف أي ظبي أغن من غنّ الظبي إذا خرج صوته من خياشيمه ، الغضيض : فعيل من غضّ طرفه إذ افتره وخفضه ، الطرف : العين ، محكول : مفعول من كحل عينه إذا زيّنها بالكحل.

٧٩٨

مخصوص ، وللتأديب تعليل للضرب المنفي ، وإن قصدت نفي الضرب على كلّ حال فاللام متعلّقة بالنفي والتعليل له ، أي انتفاء الضرب كان لأجل التأديب ، لأنّه قد يؤدّب بعض الناس بترك الضرب.

ومثله في التعلّق بحرف النفي : ما أكرمت المسيئ لتأديبه ، وما أهنت المحسن لمكافاته ، إذ لو علّق هذا بالفعل فسد المعنى المراد ، ومن ذلك قوله تعالى : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم / ٢] ، الباء متعلّقة بالنفي ، إذ لو علّقت بمجنون لأفاد نفي جنون خاصّ ، وهو الجنون الّذي يكون من نعمة الله تعالى ، وليس في الوجود جنون هو نعمة ، ولا المراد نفي جنون خاصّ ، انتهى ملخّصا. وهو كلام بديع ، إلا أنّ جمهور النّحويّين لا يوافقون على صحّة التعلّق بالحروف ، فينبغي على قولهم أن يقدّر أنّ المتعلّق بفعل دلّ عليه النافي ، أي انتفي ذلك بنعمة ربّك ، قاله في المغني.

المواضع الّتي يجب فيها حذف المتعلّق

الثالث : يستثنى من قولنا لا بدّ للجارّ من متعلّق ستّة أمور :

أحدها : الزائد مطلقا ، لأنّه إنّما دخل في الكلام تقوية وتوكيدا لإيصال معنى الفعل إلى الاسم واستثنى ابن هشام منه لام التقوية ، فحكم بأنّه يجوز القول بتعلّقها ، لأنّها ليست زائدة محضة ، كما أنّها ليست معدّية محضة ، قال بعضهم : الظاهر الجزم بالتعلّق ، وفي كلامهم على لام الجحود ما يؤيّد ما قلته ، فتأمّله.

الثاني والثالث : لعلّ في لغة عقيل ولو لا في لولاي ولولاك ولولاه على قول سيبويه : إنّها جارّة للضمير ، لأنّهما لم يدخلا لإيصال معنى عامل بل لإفادة معنى الترجّي والامتناع.

الرابع : ربّ كما ذهب إليه الرمانيّ وابن طاهر خلافا للجمهور ، لأنّها لم تدخل لتعدية عامل أيضا بل لإفادة التكثير والتقليل. قال ابن هشام والجمهور : وإن قالوا : إنّها عدّت العامل في نحو ربّ رجل صالح لقيته أو لقيت فخطأ ، لأنّه يتعدّى بنفسه ولاستيفائه معموله في المثال الأوّل ، وإن قالوا : إنّها عدّت محذوفا تقديره حصل أو نحوه ، كما صرح به جماعة ، ففيه تقدير لما معنى الكلام مستغن عنه ، ولم يلفظ به في وقت.

الخامس : الجارّ المكفوف عن عمل الجرّ ، لأنّه لم يبق حرف جرّ ، بل يفيد من جهة المعنى فقط ، فلا عامل له ، كما لا معمول له ، وممّن صرّح بذلك التفتازانيّ في حاشية الكشاف عند قوله تعالى : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) [البقرة / ١٩٨].

٧٩٩

السادس : حروف الاستثناء الثلاثة ، وهي حاشا وأختاها [خلا وعدا] ، قال ابن هشام في المغني : لأنّها لتنحية الفعل عمّا دخلن عليه ، كما أنّ إلا كذلك ، وهو عكس معنى التعدية الّذي هو إيصال معنى الفعل إلى الاسم ، ولو صحّ أن يقال : إنّها متعلّقة لصحّ أن يقال (١) ذلك في إلا ، وإنّما خفض بهنّ المستثني ، ولم ينصب كالمستثنى بإلا لئلّا يزول الفرق بينهنّ أفعالا وأحرفا.

قال الدمامينيّ : وفيه نظر ، لأنّه ليس المراد من إيصال حروف الجرّ معنى الفعل إلى الاسم إيصاله إليه على وجه الثبوت ، بل المراد تعليقه به على وجه الّذي يقتضيه الحرف ، وهو هنا مفيد لانتفاء معنى الفعل ، فيتعلّق به على هذا الوجه ، وقد اتّضح هو في كتابه المذكور بهذا المعنى ، حيث قال في على الاستدراكية : وتعلّق هذه بما قبلها كتعلّق حاشا بما قبلها عند من قال به ، لأنّها أوصلت معناه إلى ما بعدها على وجه الإضراب والإخراج ، وأمّا الاستدال بأنّها بمترلة إلا ، وهي غير متعلّقة فساقط ، لأنّه لا يلزم من كون حرف بمعنى حرف آخر مساواته في جميع أحكامه ، ألا ترى أنّ إلا الّتي هذا الحرف بمعناها لا يعمل الجرّ ، وهذا الحرف يعلمه ، انتهى.

وزاد الفارسيّ والأخفش سابعا ، وهو كاف التشبيه ، فذهبا إلى أنّها لا يتعلّق بشيء كحروف الجرّ الزائدة ، وتبعهما ابن عصفور مستدلّين بأنّه إذا قيل : زيد كعمرو ، فإن كان المتعلّق استقرّ فالكاف لا تدلّ عليه بخلاف في من نحو : زيد في الدار ، وإن كان فعلا متناسبا للكاف نحو : أشبه ، فهو متعدّ بنفسه لا بالحرف ، قال ابن هشام : والحقّ أنّ جميع الحروف الجارّة الواقعة في موضع الخبر ونحوه يدلّ على الاستقرار. قال ابن الحاجب في شرح المفصل : الكاف في قولك : الّذي كزيد أخوك أوصلت معنى استقرار هذا المبهم إلى زيد على سبيل التشبيه.

«ويجب حذف المتعلّق إذا كان أحدهما» أي الجارّ والمجرور والظرف «صفة» نحو : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [البقرة / ١٩] «أو صلة» نحو : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ) [الأنبياء / ١٩] «أو خبرا» نحو : زيد في الدار أو عندك ، وربّما ظهر في الضرورة كقوله [من الطويل] :

٩٠٧ ـ لك العزّ إن مولاك عزّ إن يهن

فأنت لدي بحبوبة الهون كائن (٢)

وفي شرح المفصّل لابن يعيش متعلّق الظرف الواقع خبرا ، صرّح ابن جنيّ بجواز إظهاره ، وعندي أنّه إذا حذف ونقل ضميره إلى الظرف لم يجز إظهاره ، لأنّه قد صار

__________________

(١) «لصح أن يقال» سقط في «ط».

(٢) لم يذكر قائل البيت. اللغة : البحبوبة : الوسط ، الهون : الذل والهوان.

٨٠٠