الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

أوّلا أنّه لا يكون كلاما باعتبار المرّة الثانية ، لأنّه لم يفده علم ما لم يكن يعلم ، فيكون الشيء الواحد كلاما بحسب إفادته السامع ، انتهى.

قوله : «بالإسناد» وهو ضمّ إحدى الكلمتين إلى الأخرى ليفيد المخاطب فائدة تامّة ، والباء للسببيّة ، أو الاستعانة أو الإلصاق أو المصاحبة ، متعلّقة بالمفيد ، أو صفة مصدرة ، أي إفادة متلبّسة به ، وذكره من قبيل التصريح بما علم التزاما لأنّ المفيد بالمعنى المذكور مستلزم للإسناد ، لكن لما كانت دلالة الألتزام مهجورة في التعريف صرّح به ، اذ المقصود من الحدّ بيان الماهيّة ، وهي لا تعرف إلا بذكر جميع أجزائها تصريحا ، وقد يقال : إنّه احترز به عن مثل : غلام زيد عمرو ، على سبيل التعداد ، إذ لا خفاء في أنّه لفظ مفيد. مع أنّه ليس بكلام قطعا ، فتأمّل.

واعتبر بعضهم في الكلام القصد ، أي قصد المتكلّم إفادة السامع لإخراج كلام النائم ونحوه ، فإنّه عار عن القصد ، وقد يمنع كون ذلك ليس بكلام كما صحّحه أبو حيّان. ولو سلم فلا حاجة إلى التصريح بالقصد كما في التصريح ، لأنّ حسن سكوت المتكلّم يستدعي أن يكون قاصدا لما تكلّم به ، أو لأنّ ما خرج به ، قد خرج بقيد الإفادة. واعتبر بعضهم إتّحاد الناطق أيضا احترازا من أن يصطلح شخصان ، على أن يذكر أحدهما اسما أو فعلا ويذكر الآخر خبر المبتدأ أو فاعل الفعل. قال ابن مالك : وهذا غير محتاج إليه لوجهين ، أحدهما : أنّه كما لا يعتبر اتّحاد الكاتب في كون الخطّ خطّا ، كذلك لا يعتبر اتّحاد الناطق في كون الكلام كلاما ، والثاني : أنّ كلّ واحد من المصطلحين متكلّم بكلام ، وإنّما اقتصر على كلمة واحدة اتّكالا على نطق الآخر بالأخري.

وفي الوجه الأوّل تسليم أنّ الكلام الواحد قد يصدر من اثنين ، وهو لا يتصوّر ألبتّة ضرورة كلّ كلام مشتمل على نسبة أحد طرفيه إلى الآخر ، والنسبة أمر نفسانيّ لا يقبل التجزّي ، ولا يقوم إلا بمحلّ واحد ، نبّه عليه المراديّ (١). قال بعضهم : وهذا يعني اعتبار اتّحاد الناطق لم ينقل عن نحويّ فيما نعلم ، وإنّما ذكره بعض من تكلّم في الأصول ، انتهى.

قال البدر الدمامينيّ في شرحه على التسهيل : ولا أكاد أقصي العجب من الشيخ جمال الدين عبد الرحيم الإسنويّ (٢) ، حيث ذكر هذه المسئلة في كتابه المسمّى بالكوكب الدريّ الموضوع لتتريل الفروع الفقهيّة على الأحكام النحويّة ، فرتّب على الاختلاف في

__________________

(١) الحسن بن قاسم المرادي النحويّ اللغويّ بدر الدين المعروف بابن أمّ قاسم ، وله : شرح التسهيل ، شرح المفصّل ، شرح الألفية والجني الداني في حروف المعاني. توفّي سنة ٧٤٩ ه‍. ق. بغية الوعاة ، ١ / ٥١٧.

(٢) الإسنويّ (جمال الدين عبد الرحيم) (ت ٧٧٢ ه‍) : فقيه أصوليّ وعالم بالعربية ، من كتبه «نهاية السول في شرح منهاج الأصول» و «التمهيد» و «شرح الفية ابن مالك» المصدر السابق ، ٢ / ٩٢.

٦١

هذه القاعدة فروعا منها : لو وكّل وكيلين بطلاق زوجته ، فقال أحدهما : فلانة ، يعني الزوجة المذكورة وقال الآخر : طالق. وقال : إن بنيناه على اشتراط اتّحاد الناطق بالكلام لم يقع الطّلاق ، وإلا وقع ، وقد علمت استحالة الوجه الأوّل ، فكيف يبني عليه حكم شرعيّ فتأمّله ، انتهى.

قلت : تأمّلته فوجدته محض تقوّل على الإسنويّ ، فإنّه لم يقل بذلك في كتابه المذكور أصلا ، وهذه عبارته ، قال بعد أن ذكر المسألة ، وصحّح عدم اشتراط ذلك في الكلام : ومن فروعها ما إذا كان له وكيلان بإعتاق عبد أو وقفه أو غير ذلك ، واتّفقا على أن يقول أحدهما : مثلا هذا ، ويقول الثاني : حرّ ، ولا استحضر فيها الآن نقلا ، انتهى.

وكلامه في الكواكب الدّري ينصّه ، ومنه نقلت ، فأين ما نقله من بناء الحكم الشرعيّ على المسألة ، وهل هذا إلا تشنيع بحت؟

«ولا يتأتى» أي لا يحصل الكلام إلا في ضمن «اسمين» ، ولهما أربع صور : مبتدأ وخبر ، كزيد قائم. ومبتدأ وفاعل أو نائب سدّا مسدّ الخبر ، نحو : أقائم الزيدان ، وما مضروب العمران. واسم فعل وفاعل ، نحو : هيهات العقيق ، ملفوظين كان الاسمان كما ذكر ، أو مقدّرين ، كنعم في جواب أزيد قائم ، أو أحدهما مقدّرا كزيد في جواب من ذا؟ أو في ضمن فعل واسم هو فاعله أو نائب عنه ، كقام زيد ، وضرب عمرو ، ملفوظين كانا ، كما ذكر ، أو مقدّرين كنعم في جواب أقام زيد؟ أو أحدهما مقدّرا ، نحو : بلي زيد في جواب لم يقم أحد ، أي لا يتحقّق هذا العامّ إلا في ضمن هذين الخاصّين.

قال بعض المحقّقين : والأنسب جعل «في» بمعنى «عن» (١) ، ووجه عدم تأتّي الكلام إلا فيما ذكر أنّ التركيب العقليّ الثنائيّ بين الثلاثة الأقسام ، لا يعدو أقساما ستّة ، اسمان وفعلان وحرفان واسم وفعل واسم وحرف وفعل وحرف.

فالكلام لا بدّ له من الإسناد ، وهو لا بدّ له من المسند والمسند إليه ، وهما لا يتحقّقان إلا في اسمين ، ليكون أحدهما مسندا ، والآخر مسندا إليه ، أو فعل واسم ليكون الفعل مسندا ، والاسم مسندا إليه.

وأما الأقسام الباقية ففي الفعلين المسند إليه مفقود ، وكذا في الفعل والحرف ، وفي الحرفين المسند والمسند إليه كلاهما مفقود ، وفي الاسم والحرف أحدهما مفقود ، إذ لو

__________________

(١) سقط «عن» في «س».

٦٢

جعلت الاسم مسندا فلا مسند إليه ، وإن جعلته مسندا إليه فلا مسند ، وأمّا نحو : يا زيد ، فلسدّ «يا» مسدّ أدعو ، خلافا لأبي علي (١) حيث جعل ذلك كلاما.

وذهب ابن طلحة (٢) إلى أنّ اللفظة الواحدة وجودا وتقديرا قد تكون كلاما ، إذا قامت مقام الكلام ، وجعل من ذلك نعم ولا في الجواب ، وهو خلاف المشهور ، والصحيح ما مرّ. فعلم أنّ مدار الكلام على المسند والمسند إليه ، وأن تأتي من أكثر منهما ، وله أربع صور ، جملتان أمّا شرط وجزاء ، نحو : إن قام زيد قمت ، أو قسم وجوابه ، نحو : أحلف بالله لزيد قائم ، وفعل واسمان ، نحو : كان زيد قائما ، أو ثلاثة ، نحو : علمت زيدا قاضيا ، أو أربعة ، نحو : أعلمت زيدا عمرا فاضلا ، فصور تاليف الكلام ستّة.

انقسام الكلام إلى خبر وإنشاء : تنبيهان : الأوّل : ينقسم الكلام إلى خبر وإنشاء ، لأنّه إن احتمل التصديق والتكذيب ، كان خبرا ، وإلا فانشاء ، والأصحّ انحصاره فيهما ، كما عليه الحذّاق من النّحاة وغيرهم وأهل البيان قاطبة.

وذهب كثير إلى انقسامه إلى خبر وطلب وانشاء. قالوا : لأنّ الكلام أمّا أن يحتمل التصديق والتكذيب أولا ، الأوّل الخبر ، الثاني إن اقترن معناه بلفظه فهو الإنشاء ، وإن لم يقترن بل تأخّر عنه فهو الطلب.

والمحقّقون على دخول الطلب في الإنشاء ، وأنّ معنى «إضرب» مثلا وهو طلب الضرب مقترن بلفظه ، وأمّا الضرب الّذي يوجد بعد ذلك ، فهو متعلّق الطلب لا نفسه. قال بعض المحقّقين ونعم ما قال : لك أن تجعل الخلاف بين من ثنّى القسمة وثلّثها لفظيّا ، فمن ثنّاها جعل لفظ الطلب إن قال : إنّ الكلام خبر وطلب ، كابن مالك في الكافية ، أو لفظ الإنشاء إن قال : إنّه خبر وإنشاء لمعنى واحد ، وهو ما لا يحتمل التصديق والتكذيب ، غير أنّ له قسمين متحالفين ما يتأخّر وجود معناه عن وجود لفظه ، وما يقارن وجود معناه وجود لفظه ومن ثلّثها جعل لفظ الطلب اسما للقسم الأوّل من ذلك المعنى ولفظ الإنشاء للقسم الثاني منه ، انتهى.

__________________

(١) أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفّار بن محمد بن سليمان الفارسيّ من أئمة النحو ، ولد في إيران وعاش في بغداد ، أخذ عن ابن السّراج والزّجاج وأخذ عنه ابن جني ، من تصانيفه : الإيضاح في النحو ، أبيات الإعراب ، وتوفي سنة ٣٧٧ ه‍ المصدر السابق ، ١ / ٤٩٦.

(٢) محمد بن طلحه المعروف بابن طلحة كان إماما في صناعة العربية درس العربية والآداب باشبيلية أكثر من خمسين سنة ، ومات سنة ٥٤٥ ه‍. المصدر السابق ، ١ / ١٢١.

٦٣

الثّاني : الخلاف المشهور عند النّظّام (١) في كون الخبر والطلب بديهيّن ، فلا يحتاجان إلى التعريف أولا ، فيحتاجان إليه جار في الكلام ، لأنّ بداهة الأخصّ تستلزم بداهة الأعمّ ، وقد نقل الخلاف في الكلام يحدّ أم لا بعض كبار الأئمة ، حكاه بعض المتأخّرين.

الاسم والفعل والحرف

ص : إيضاح : الاسم كلمة معناها مستقلّ ، غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة ، ويختصّ بالجرّ والنداء ، واللام والتنوين ، والتثنية والجمع.

والفعل : كلمة معناها مستقلّ ، مقترن بأحدها ، ويختصّ بقد ولم وتاء التأنيث ونون التاكيد.

والحرف : كلمة معناها غير مستقلّ ، ولا مقترن بأحدها ، ويعرف بعدم قبول شيء من خواصّ أخويه.

ش : هذا إيضاح لكلّ واحد من الكلم الثلاث بحدّه ، وبعض خواص الاسم والفعل وما يعرف به الحرف. «الاسم كلمة معناها مستقلّ» بالمفهوميّة ، أي لا يحتاج في تعقّله ، والدلالة عليه بها إلى ضمّ ضميمة ، فقوله : كلمة شامل للكلم الثلاث ، وقوله : معناه مستقلّ مخرج للحرف ، فإنّ معناه غير مستقلّ كما سيأتي في حدّه عن قريب ، إن شاء الله تعالى. وقوله : «غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة» أي الماضي والحال والمستقبل ، مخرج للفعل ، فإنّه مقترن بأحدها ، كما سيأتي ، والمراد بعدم الاقتران كونه بحسب الوضع الأوّل لتدخل أسماء الأفعال ، نحو : رويد وهيهات ، لأنّها دوال (٢) على معنى مستقلّ ، هو الحدث غير مقترن في الوضع الأوّل ، لأنّ الوضع الأوّل لها نفس الحدث ، فهذا المعنى المستقلّ في الوضع الأوّل غير مقترن. ودخل نحو : يزيد ويشكر علمين ، لأنّ معناهما العلميّ غير مقترن بحسب الوضع الأوّل ، وخرج عنه الأفعال المنسلخة ، نحو : عسى وكاد ، لأنّ معاينها مستقلّة مقترنة في الوضع الأوّل ، وهو الوضع الفعليّ لها ، فإنّها فيه موضوعة لهذا الحدث والزمان.

ويخرج عنه المضارع المشترك بين الحال والاستقبال على رأي أيضا ، لأنّه في الوضع الأوّل لأحد الزمانين معيّنا ، واللّبس أنّما حصل عند السامع بالاشتراك ، وكذا يخرج

__________________

(١) النّظام إبراهيم بن سيار (ت ٢٣١ ه‍). متكلّم معتزلي منطقي وشاعر ، معلّم الجاحظ ، عارض آراء الفقهاء وانتقد الجبريّة والمرجئة. المنجد في الأعلام ص ٥٧٤.

(٢) الدوال : جمع دال.

٦٤

اسما الفاعل والمفعول ، لأنّها وإن كانا لا يعملان إلا مع اشتراط الحال أو إلاستقبال إلا أنّ ذلك الزمان مدلول عملها العارض لا مدلولهما بحسب الوضع الأوّل.

وكذا نحو : القتل والضرب ، فإنّه وإن وجب وقوعه في أحد الأزمنة الثلاثة معيّنا في نفس الأمر ، لكن ذلك الزمان المعيّن لا يدلّ عليه المصدر بحسب الوضع ، وأمّا نحو : الصبوح والغبوق (١) فلم يقترن بزمان معيّن من الأزمنة المذكورة ، وإن اقترن بالزمان ، لأنّ معناهما يصلح لأن يقع ماضيا أو حالا أو مستقبلا ، ولهذا يحتاج إلى تجديد صيغة لإفادة أحدهما كاصطبح (٢) ويصطبح ، ولا ينتقض الحدّ بلفظ الماضي والمستقبل ، لأنّهما يدلّان على نفس الزمان ، والزمان غير مقترن بزمان ، فإذا أريد بهما الفعل الّذي انقضى ، والّذي لم يأت ، فالمعنى ماض زمانه ومستقبل زمانه ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه فتوهّم أنّه له ، ولو سلم أنّه له ، فالماضي حدث له العدم بعد الوجود ، والمستقبل حدث معدوم له انتظار الوجود ، وليس في مدلول شيء منها زمان معيّن ، بل الزمان المعيّن من لوازم تحقّقهما كالمصادر.

ولمّا حدّ الاسم أخذ يذكر بعض خواصه ليزداد الطالب معرفة به ، فقال : «ويختصّ» الاسم «بالجرّ» أي بدخوله عليه ، لأنّه من خواصّه ، وهو الكسرة الّتي يحدثها العامل في آخره ، سواء كان العامل حرفا أو مضافا ، وخاصّة الشيء اصطلاحا ما يوجد في الشيء ، ولا يوجد في غيره ، فإن وجدت في جميع أفراده فهي خاصّة شاملة ، ثمّ إن لم توجد في شيء من أغياره فهي خاصّة حقيقيّة وإلا فإضافيّة.

هذا هو المشهور ، وقال بعض المحقّقين من شرّاح الكافية خاصّة الشيء عند النحاة ما لا توجد بدون ذلك الشيء (٣) ، ويوجد ذلك الشيء بدونها ، صرّح به المصنّف في شرح المنظومة وغيره ، وما اشتهر من جواز شمولها لجميع أفراد الشيء فهو عند المنطقي ، انتهى.

وأمّا الحدّ فهو المعرّف الجامع المانع ، سواء دلّ على مجرّد الماهية كالحيوان الناطق في تعريف الإنسان ، ويختصّ عند المنطقيّ باسم الحدّ أم لا ، كالحيوان الضاحك في تعريفه ، ويسمّي عنده رسما فإن قلت : الّذي يسبق إلى الفهم من اختصاص شيء بآخر ، هو كونه مقصورا على الآخر ، لأنّ معناه كونه بحيث يختصّ الآخر ، ولا يعمّه وغيره ، فكان عليه أن يقول : ويختص الجرّ بالاسم.

__________________

(١) الصبوح : شراب الصباح والغبوق : ما يشرب بالعشيّ.

(٢) اصطبح : شرب الصّبوح.

(٣) سقط الشئ في «ح».

٦٥

استعمال لفظ الخصوص وما يتفرّع منه : قلت : الأصل في لفظ الخصوص وما يتفرّع منه أن يستعمل بإدخال الباء على المقصور عليه ، أعني ما له الخاصّة ، فيقال : اختصّ المال بزيد ، أي المال له دون غيره ، وذلك كما لو قلنا : ويختصّ الجرّ بالاسم ، وهذا هو الاستعمال العربيّ الّذي يسبق إلى الفهم.

ولكن شاع في العرف إدخال الباء على المقصور ، أعني الخاصّة ، كما استعمله المصنّف وذلك إمّا بناء على جعل التخصيص مجازا عن التمييز مشهورا في العرف ، أو على تضمين معنى التمييز والاقتران ، فيلاحظ المعنيان معا ، وحاصله يرجع إلى ملاحظة معنى التمييز ، لأنّ تخصيص شيء بشيء في قوّة تمييز الآخر به ، وهو الأنسب بمثل هذا المقام كما لا يخفي ، وأبي بعضهم إلا هذا الاستعمال ، وشدّد النكير (١) على من خالفه. قيل : وإنّما اختصّ الاسم بالجرّ ، لكونه أثر حرف الجرّ ، وهو من خواصّ الاسم ، فكذا الجرّ ، وإلا لزم تخلّف الأثر عن المؤثّر.

قال الفاضل الهنديّ (٢) : ـ وفيه نظر ـ ووجهه أنّه لا يلزم من اختصاص المؤثّر اختصاص الأثر ، فإنّ الأثر قد يثبت بمؤثرات شتّي ، ألا ترى أنّ لن من خواصّ الفعل ، وأثرها وهو النّصب لا يختصّ الفعل به ، بل يدخل في الاسم بمؤثر آخر ، وأجيب بأنّ ذلك فيما إذا كان للأثر مؤثّرات شتّي كالنصب ، أمّا إذا كان له مؤثّر خاصّ فلا ، وهو هاهنا كذلك ، إذ ليس للجرّ مؤثّر سوى حرف الجرّ ، وهو بناء على أنّ العامل في المضاف إليه حرف الجرّ مقدرا ، والأصحّ خلافه كما سيأتي.

وأحسن ما قيل في تعليل ذلك أنّ الاسم أصل في الإعراب ، والمضارع فرع ، فحطّ إعراب الفرع عن إعراب الأصل بجعل ما هو أصل البناء إعرابا فيه ، وهو الجزم ، ومنع الجرّ عنه ، لئلا يزيد إعراب الفرع على الثلاثة ، ويختصّ بدخول اللّام الساكنة المسبوقة بهمزة الوصل ، ويعبّر عنها بأل ، فخرج نحو لام الابتداء وجواب القسم وجواب لو ولولا لدخولهنّ على الفعل ، والمراد باللام المذكورة اللام المعرفة ، إذ هي المتبادرة عند الأطلاق ، حتّى إذا أريد غيرها قيّدت ، فيقال : أل الموصولة أو الزائدة.

قيل : وإنّما اختصّ بها ، لأنّها موضوعة لتعريف الذات ، والموضوع للذات هو الاسم ، وفيه نظر ، ويجوز أن يراد باللام ما هو أعمّ من المعرفة لتدخل الموصولة والزائدة ، ويحمل دخولها على المضارع كإلى جدّع في قوله [من الطويل] :

__________________

(١) النكير : الإنكار.

(٢) لعلّه شهاب الدين أحمد بن عمر الهنديّ المتوفي سنة ٨٤٩ ه‍ من شرّاح الكافية في النحو. كشف الظنون ٢ / ١٣٧١.

٦٦

١٤ ـ ...

إلى ربّه صوت الحمار اليجدّع (١)

على أنّه ضرورة ، خلافا للأخفش وبعض الكوفيّين وابن مالك ، فتدبّر.

وفي تعبيره باللام إشارة إلى اختياره مذهب سيبويه ، فيما اشتهر عنه أنّ أداة التعريف هي اللّام وحدها ، وسيأتي تفصيل الأقوال فيها إن شاء الله.

أقسام التنوين ومعنى التقفية والتصريع والعروض والضرب : «و» يختصّ بدخول «التنوين» عليه ، وهو في الأصل مصدر نوّنت الكلمة ، إذا ألحقتها نونا ، ثمّ غلب على نون تثبت لفظا لا خطّا ، استغناء عنها بتكرار الحركة. فخرج بقولنا : لا خطّا ، سائر النونات المزيدة ، ساكنة كانت أو غيرها ، لثبوتها خطا ، وهذا الحدّ أحسن الحدود وأخصرها كما قيل.

وأنواعه ستّة على المشهور ، والمختصّ بالاسم منها أربعة ، الأوّل : تنوين التمكين ، وهو اللّاحق للاسم المعرب المنصرف ، ما عدا الجمع بألف وتاء ، والجمع غير المنصرف ، إعلاما ببقائه على أصالته ، بحيث لم يشبه الحرف فيبنى ، ولا الفعل فيمنع من الصرف ، ويسمّى تنوين الأمكنية أيضا ، وتنوين الصرف ، وذلك كزيد ورجل ورجال ، والثاني : تنوين التنكير ، وهو اللّاحق لبعض الأسماء المبنيّة ، فرقا بين معرفتها ونكرتها ، ويقع سماعا في باب اسم الفعل ، كصه ومه وإيه ، وقياسا في العلم المختوم بويه كسيبويه وسيبويه آخر.

وزعم بعضهم أنّ تنوين رجل للتنكير ، وردّه ابن حاجب ببقائه بعد جعله علما. قال الرضيّ : وأنا لا أري منعا من أن يكون تنوين واحد للتمكين والتنكير معا ، فربّ حرف يفيد فائدتين كالألف والواو في مسلمان ومسلمون ، فنقول : التنوين في رجل يفيد التنكير أيضا ، فإذا سمّيت بالاسم تمحّضت للتمكين ، انتهى.

وعلى هذا يكون تنوين التنكير المختصّ بالصّوت ، واسم الفعل هو المتحمّض للدلالة على التنكير كما قاله بعضهم.

الثالث : تنوين المقابلة ، وهو اللّاحق للجمع بألف وتاء ، نحو : مسلمات ، جعل في مقابلة النون في جمع المذكّر السالم ، إذ ليس للتمكين ، وإلا لم يثبت مع التسمية به ، كعرفات ، وتنوين التمكين لا يجامع العلّتين ولا التنكير ، لأنّه إنّما يلحق المبنيّات كما

__________________

(١) صدره «يقول الخنى وأبغض العجم ناطقا» ، وهو لذي الخرق الطهوي ، اللغة : الخنا : الفحش في الكلام.

العجم : جمع أعجم وهو الحيوان ، أو جمع عجماء وهي البهيمة. إلى جدّع : ال موصولة ويجدّع : يقطع طرف من أطرافه.

٦٧

مرّ ، ولا عوضا عن المضاف إليه ، إذ لا إضافة ، ولا عن الفتحة نصبا ، كما قيل ، وإلا لم يوجد في الرّفع والجرّ ، على أنّ الفتحة قد عوّض عنها الكسرة ، فما هذا العوض الثاني ؛ فتعيّن كونه للمقابلة ، وهو معنى مناسب يمكن اعتبارة.

الرابع : تنوين العوض ، وهو اللاحق للاسم عوضا عن حرف أصلي أو زائد ، ومضاف إليه ، مفردا أو جملة.

فالأوّل كجوار وغواش ، فالتّنوين فيهما عوض عن الياء المحذوفة على الصحيح ، وهو مذهب سيبويه ، والجمهور لا عن ضمّة الياء وفتحتها النائبة عن الكسرة خلافا للمبرّد (١) ، ولا هو تنوين صرف لصيرورته بعد الحذف ، مثل سلام وكلام عند قطع النظر عن المحذوف خلافا للأخفش.

والثّاني : كجندل (٢) ، فإنّ تنوينه عوض عن الألف في جنادل ، قاله ابن مالك. قال ابن هشام : والّذي يظهر أنّه للصّرف ، ولهذا يجرّ بالكسرة.

الثّالث : تنوين كلّ وبعض وأيّ ، إذا حذف مضاف إليها ، نحو (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) [الأنبياء / ٣٣] ، (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [البقرة / ٢٥٣] ، (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الإسراء / ١١٠]. والمحقّقون على أنّ التنوين في ذلك للتمكين رجع لزوال الإضافة الّتي كانت تعارضه.

الرابع : اللاحق لإذ ، في نحو : (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) [الواقعة / ٨٤] ، أي حين إذ بلغت الروح الحلقوم ، فحذفت الجملة المضاف إليها تخفيفا ، وعوّض عنها التّنوين ، وكسرت الذّال للساكنين. وقال الأخفش : هو للتمكين ، والكسرة إعراب المضاف إليه ، وإنّما اختصّ الاسم بهذه الأقسام الأربعة من التنوين ، لأنّها لمعان لا توجد إلا فيه.

وأمّا النوعان الآخرآن ، فأحدهما : تنوين الترنّم ، وهو اللاحق للقوافي المطلقة ، بدلا من حرف الإطلاق ، وهو الألف والواو والياء في إنشاد كثير من تميم كقوله [من الوافر] :

١٥ ـ ...

وقولي إن أصبت لقد أصابن (٣)

__________________

(١) محمد بن يزيد أبو العباس المبرّد إمام العربيّة ببغداد ، له من التصانيف : معاني القرآن ، الكامل ، المقتضب و... مات سنة ٢٨٥ ه‍. بغية الوعاة ١ / ٢٦٩.

(٢) الجندل : الصخرة ، والجمع جنادل.

(٣) صدره «أقلّي اللّوم عاذل والعتابن» ، وهو لجرير ، اللغة : أقلّي : أراد منه في هذا البيت معنى أتركي ، اللوم : العذل والتعنيف. عاذل : اسم فاعل مؤنّث بالتاء المحذوفة للترخيم ، وأصله عاذلة من العذل ، وهو اللوم في تسخط ، العتاب : التقريع علي فعل شيء أو تركه.

٦٨

وكذا الأعاريض المصرّعة والمقفاة (١) ، كقوله [من الطويل] :

١٦ ـ قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان

 ... (٢)

وقوله [من الطويل] :

١٧ ـ قفانبك من ذكرى حبيب ومترل

 ... (٣)

والفرق بين التقفية والتصريع أنّ التقفية على المشهور جعل العروض الموافق للضّرب في الزنة موافقا له في الرويّ ، والتصريع جعل العروض الّذي حقّه أن يخالف الضّرب في الوزن موافقا له فيه ، والعروض اسم لآخر جزء في النصف الأوّل من البيت ، والضرب اسم لآخر جزء من البيت ، والرويّ هو الحرف الّذي تعزّى إليه القصيدة ، وأمّا القافية فالمختار عندهم من أقوال سبعة أنّها عبارة عن المحرّك قبل الساكنين إلى آخر البيت وعمّا بينهما.

أيضا إن كان كما قرّر في محلّه وظاهر كلام جماعة أنّ هذا التنوين محصّل للترنّم ، وبه صرّح ابن يعيش (٤) ، زاعما أن الترنّم يحصل بالنّون نفسها ، لأنّها حرف أغنّ ، وتبعه السّيّد في شرح اللباب (٥) فقال : هذا التنوين يستعمل في القوافي للتّطريب ، وذلك لأنّ حرف العلّة مدّه في الحلق ، فإذا أبدل منها التنوين حصل الترنّم ، لأنّ الترنّم غنّة ، في الخيشوم ، انتهى.

وعلى هذا تكون تسميته بتنوين الترنّم حقيقة ، والمحقّقون على أنّه جيء به لقطع التّرنّم الحاصل من حرف الإطلاق لقبوله لمدّ الصّوت بها ، فإذا أنشدوا ، ولم يترنّموا ، جاؤوا بالنون بدلا منه لقطعه ، فعلى هذا تكون تسميته إمّا مجازا من باب الحذف ، أي تنوين ترك الترنّم ، أو من باب التّضاد ، كقولهم : داود القياسيّ (٦) ، وفي الحديث ، القدريّة

__________________

(١) المصرّع هو الّذي دخله التصريع ، فتتوافق عروضه مع ضربه في الوزن والرويّ. المقفي هو الّذي وافقت عروضه ضربه في الوزن والرويّ دون أن تودّي هذه الموافقة إلى تغيير في العروض بزيادة أو نقص. إميل بديع يعقوب ، المعجم المفصّل في علم العروض والقافية وفنون الشعر. الطبعة الاولي ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، ١٤١١ ه‍ ، ص ١٧٧.

(٢) هذا البيت مطلع قصيدة لامري القيس بن حجر الكندي وتمامه «وربع عفت آثاره منذ أزمان» ، اللغة : عرفان الديار : معرفتها ، الربع : الدار عفت : محت.

(٣) هو لامرئ القيس ، مطلع معلّقته ، وتمامه : بسقط اللوي بين الدخول فحومل ، اللغة : السقط : منقطع الرمل حيث يستدقّ من طرفه. الدخول وحومل : موضعان.

(٤) يعيش بن علي بن يعيش أبو البقاء المشهور بابن يعيش وكان يعرف بابن الصانع ، وكان من كبار ائمة العربية ، ماهرا في النحو والتصريف ، صنف : شرح المفصّل ، شرح تصريف ابن جني. بغية الوعاة ، ٢ / ٣٥١.

(٥) اللباب في النحو. للعلامة الإمام تاج الدين محمّد بن محمّد ابن أحمد بن السيف المعروف بالفاضل الإسفرايني المتوفي سنة ٦٨٤ ه‍ ، وعليه شروح ، منها العباب للسيد جمال الدين عبد الله بن محمد الحسيني المتوفّي سنة ٧٧٦ ه‍ ، كشف الظنون ، ٣ / ١٥٤٣.

(٦) داود الظاهري (٢٠١ ـ ٢٧٠ ه‍) داود بن علي بن خلف الإصبهاني الملقّب بالظاهري ، أحد الأئمة المجتهدين في الإسلام تنسب إليه الطائفة الظاهرية ، سمّيت بذالك لأخذها بظاهر الكتاب والسنة وإعراضها عن التأويل والرأي والقياس. الأعلام للزركلي ٣ / ٨.

٦٩

مجوس هذه الأمّة (١) ، وداود ينفي القياس ، والمقدريّة ينفون القدر ويقولون : الأمر أنف (٢) ، قاله ابن عقيل (٣) ، وهو مبنيّ على أنّ القدريّة طائفة ينكرون أنّ الله تعإلى قدّر الأشياء في القدم ، وقد انقرضوا ، وصار القدريّة لقبا للمعتزلة (٤) لإسنادهم أفعال العباد إلى أنفسهم وإثباتهم القدرة فيها لهم.

فقول ابن هشام في حواشي التسهيل : إنّ قول ابن عقيل ليس بشيء ، لأنّ القدريّة أثبتوا القدرة لأنفسهم مبنيّ على الثاني ، وكلام ابن عقيل على الأوّل ، نبّه عليه التقي الشمنيّ (٥) في حاشية المغني.

الثاني : تنوين الغإلى ، وهو اللاحق للقوافي المقيّدة ، أي الّتي آخرها ساكن ، ليس حرف مدّ ، كقوله [من الرجز] :

١٨ ـ ...

كان فقيرا معدما قالت وإن (٦)

وكذا الأعاريض المصرّعة ، كقوله [من الرجز] :

١٩ ـ وقائم الأعماق خاوي المخترقن

 ... (٧)

وسمّي غإلى ا ، من الغلوّ ، إما لقلّة وقوعه في الكلام ، أو لتجاوزه حدّ الوزن ، وفائدته الفرق بين الوقف والوصل ، فإذا جيء به أذن بالوقف ، وجعله ابن يعيش من نوع الترنّم.

والّذي يصحّ أنّ تسمية هذين القسمين تنوينا مجاز لعدم اختصاصهما بالاسم ، ومجامعتهما أل ، وثبوتهما خطّا ووقفا ، وحذفهما في الوصل. نصّ عليه ابن مالك في التحفة (٨). وزاد بعضهم تنوين الضرورة ، وهو اللاحق لما لا ينصرف ، كقوله [من الطويل] :

٢٠ ـ ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة

 ... (٩)

_________________

(١) لم أجد هذا الحديث ولكن يوجد حديث قريب منه وهو «أنّ مجوس هذه الأمّة المكذّبون بأقدار الله» سنن ابن ماجه ، للحافظ القزويني ، الطبعة الأولي ، بيروت ، دار الفكر ، ١٤٢١ ه‍ ، ط ٤٢ و ٤٣ ، رقم ٦٢.

(٢) الأنف : جديد.

(٣) عبد الله بن عقيل الهمداني الأصل نحويّ الديار المصريّة ، كان اماما في العربية والبيان ، له تصانيف منها :

شرح الالفية. مات ٧٦٩ ه‍. بغية الوعاة ، ٢ / ٤٧.

(٤) المعتزلة : فرقة كلامية اسلاميّة ، اعتمد أصحابها علي المنطق والقياس في مناقشة القضايا الكلامية. المنجد في الأعلام ٥٣٧.

(٥) أحمد بن محمد تقي الدين الشمنيّ إمام النحاة في زمانه وشيخ العلماء في أوانه ، صنف : شرح المغني لابن هشام ، حاشية علي الشفاء و... مات ٨٧٢ ه‍ .. بغية الوعاة ، ١ / ٣٧٥.

(٦) صدره «قالت بنات العم يا سلمي وإن» ، وهو لرؤبة بن العجاج. اللغة : المعدم : المفتقر.

(٧) تمامه «مشتبه الأعلام لمّاع الخفقن» ، وهو لرؤبة بن العجاج. اللغة : قاتم : المغبر ، والقتام : الغبار ، الخاوي : الخإلى ، المخترقن : الممر ، الأعلام : جمع العلم ، وهي الجبال ، الخفقن : الاضطراب.

(٨) التحفة الوردية ـ منظومة في النحو للشيخ زين الدين عمر بن مظفر بن عمر الوردي المتوفّي سنة ٧٤٩ ه‍. كشف الظنون ، ١ / ٣٧٤.

(٩) تمامه «فقالت لك الويلات إنّك مرجلي» ، وهو من معقلة امري القيس اللغة : الخدر : الهودج ، والجمع خدور ، عنيأة : اسم عشيقته ، الويلات : جمع الويل وهو كلمة العذاب.

٧٠

وللمنادي المضموم ، كقوله [من الوافر] :

٢١ ـ سلام الله يا مطر عليها

 ... (١)

وتنوين الشذود كقول بعضهم : هولاء قومك ، حكاه أبو زيد (٢) ، وتنوين الحكاية ، مثل أن تسمّي رجلا بعاقلة لبيبة ، فتحكيه بتنوينه ، وجعل ابن الخباز (٣) كلّا من تنوين ما لا ينصرف وتنوين المنادى قسما برأسه ، فيكون الأقسام على هذا عشرة ، ونظمها بعضهم فقال [من البسيط] :

٢٢ ـ أقسام تنوينهم عشر عليك به

فإنّ تقسيمها من خير ما حرزا

مكّن وعوّض وقابل والمنكّر زد

رنّم واحك اضطرر غال وما همزا (٤)

ويختصّ بالنداء بالمدّ مع كسر النون وضمّها ، وهو دعاء مسمّ الكلمة بحرف نائب عن أدعو ك يا زيد ، ويا فل ، بمعنى يا رجل ، قيل : وإنّما اختصّ به لأنّ المنادى مفعول به ، والمفعول به لا يكون إلا اسما ، قيل : فكان الأولي أن يخصّص بمطلق المفعول به ، لا بخصوص النداء ، وأجيب بأنّ تلك خاصّة خفيّة ، لا يدركها المبتدي بخلاف النداء. والمقصود من ذكر الخواصّ تقريب الفهم المبتدي ، وإلا فالحدّ مغن عنها.

ما إذا ولي «يا» ما ليس بمنادى : تنبيه : إذا ولي «يا» ما ، ليس بمنادى كالفعل في «ألا يا اسجدوا» ، وقوله [من الطويل] :

٢٣ ـ ألا يا اسقياني قبل غارة سنجال

 ... (٥)

والحرف في (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ) [النساء / ٧٣] ، «يا ربّ كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة (٦)» والجملة الاسميّة ، كقوله [من البسيط] :

٢٤ ـ يا لعنة الله والأقوام كلّهم

والصالحين على سمعان من جار (٧)

__________________

(١) تمام البيت «وليس عليك يا مطر السّلام» ، وهو للأحوص الأنصاري ، كان يهوي امرأة ويشبب بها ، ولا يفصح عنها ، فتزوّجها رجل اسمه مطر ، فغلب الأحوص على أمره ، فقال هذا الشعر.

(٢) سعيد بن أوس أبو زيد الأنصاريّ ، كان إماما نحويّا ، صاحب تصانيف أدبيّة ولغويّة ، من تصانيفه : لغات القرآن ، النوادر و... ومات ٢١٥ ه‍. بغية الوعاة ، ١ / ٥٨٢.

(٣) أحمد بن الحسين الشيخ شمس الدين بن الخباز الموصليّ النحويّ الضرير ، كان أستاذا بارعا علّامة زمانه في النحو واللغه والفقه والعروض ، له المصنّفات المفيدة منها : النهاية في النحو ، شرح ألفية بن معط ، مات سنة ٦٣٧ ه‍. المصدر السابق ١ / ٣٠٤.

(٤) لم يذكر قائله. اللغة : حرز مجهول من حرزه بمعنى صانه.

(٥) هو للشماخ الأسدي واسمه معقل يرثي رجلا من ليث بن عبد مناف اسمه سنجال حين قتل بسنجال وهو أيضا بلد بناحية آذربيجان ، والمصرع الثاني «وقبل صروف غاديات وآجال» ، اللغة : الغارة : الهجوم على العدوّ ، الغاديات : جمع الغادية وهو وقت الصبح ، آجال : جمع أجل.

(٦) صحيح البخاري ، ١ / ١٢٠ ، رقم ١١٣. وروي «عارية في الاخرة».

(٦) صحيح البخاري ، ١ / ١٢٠ ، رقم ١١٣. وروي «عارية في الاخرة».

٧١

وقيل : هي للنداء ، والمنادى محذوف ، وقيل : هي لمجرّد التنبيه ، لئلا يلزم الاجحاف بحذف الجملة كلّها. (١)

وقال ابن مالك : إن وليها دعاء كهذا البيت ، أو أمر كتلك الآية ، فهي للنداء ، لكثرة وقوع النداء قبلهما ، نحو : (يا آدَمُ اسْكُنْ) [البقرة / ٣٥] ، (يا نُوحُ اهْبِطْ) [يونس / ٤٨] ، ونحو (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا) [الزخرف / ٧٧] ، وإلا فهي للتنبيه ، قاله ابن هشام في المغني.

«و» يختصّ «بالتثنية والجمع» ، لأنّ فيهما معنى النعت ، والنعت من خواصّ الاسم ، لأنّ المراد منه اختصاص المنعوت ، ليفيد الأخبار عنه ، والفعل والحرف لا يخبر عنهما ، فلا يصحّ نعمتهما ، وهذا التعليل أحسن من غيره.

وأمّا نحو : يضربان ويضربون فالتثنية والجمع إنّما وردا على الضمير الّذي هو الاسم لا الفعل ، وقول الحجّاج (٢) : يا «حرسي اضربا عنقه» أي اضرب اضرب ، وقوله تعإلى : (رَبِّ ارْجِعُونِ) [المومنون / ٩٩] على تأويل ارجعني ارجعني ارجعني ، فليس الأول تثنية ، ولا الثاني جمعا ، إذ التثنية ضمّ مفرد إلى مثله في اللفظ ، غيره في المعنى ، والجمع ضمّ مثليه أو أكثر في اللفظ ، غيره في المعنى. واضربا وارجعون بمعنى التكرير كما ذكرنا ، والتكرير ضمّ شيء إلى مثله في اللفظ ، والمعنى للتأكيد والتقرير ، والغالب في التأكيد أن يذكر بلفظين فصاعدا ، لكنّهم اختصروا في بعض المواضع بإجرائه مجري المثنّى والمجموع لمشابهته لهما من حيث إنّ التأكيد اللفظيّ أيضا ضمّ شيء إلى مثله في اللفظ ، وإن كان إيّاه في المعنى أيضا. فقوله. اضربا عنقه ، مثل لبيّك وسعديك ، وقوله تعإلى : (ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك / ٦٧] ، في كون اللفظ في صورة المثنّى ، وليس به ، قاله الرضيّ.

تنبيه : كتب المصنّف في الهامش ، وجعل بعضهم التصغير أيضا من خواصّه ، وأورد عليه ما أحيسنه ، ودفع بأنّه شاذّ ، انتهى.

قلت : ومثله قول الشاعر [من البسيط] :

٢٥ ـ يا ما أميلح غزلانا شدنّ لنا

من هؤليائكنّ الضّال والسّمر (٣)

قال ابن هشام في المغني : لم يسمع تصغير أفعل في التعجب ، إلا في أحسن وأملح ،

__________________

(١) لم يسمّ قائله ، كلمه يا للنداء والمنادى محذوف أي يا قوم ، أو للتنبيه ، ولعنة مبتدا وعلي سمعان خبره.

(٢) الحجاج بن يوسف الثقفي (ت ٩٥ ه‍) قائد وخطيب عربي. اشتهر بالبلاغة في الخطابة والشدّة في الحكم. المنجد في الأعلام ص ١١٣.

(٣) البيت لعبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان العرجي أو للمجنون أو غيرهما ، اللغة : أميلح : وهو فعل التعجب من ملح فلان أي صار ذاملح. الغزلان : جمع غزال. الضال والسمر : نوعان من الشجر.

٧٢

ذكره الجوهريّ (١) ، ولكنّ النّحويّين مع هذا قاسوه حملا له على أفعل التفضيل لشبهه به وزنا وأصلا وإفادة للمبالغة. ولم يحك ابن مالك اقتباسه إلا عن ابن كيسان (٢) ، وليس كذلك ، قال أبو بكر بن الأنباري (٣) : ولا يقال إلا لمن صغر سنّه ، انتهى.

قيل : وهو ممّا أقيم فيه الفعل مقام المصدر ، للدلالة عليه بلفظه ، وقيل : إنّ التصغير راجع إلى المتعجّب منه ، أي هنّ مليحات على معنى الشفقة ، نحو : يا بنيّ ، فهو ممّا وضع في غير موضعه كتاء قامت هند ، وقيل إنّه راجع إلى ما ، لأنّها واقعة على السّبب الخفيّ ، والتصغير يناسب الخفاء ، لكن لمّا لم يمكن تصغيرها ، جعلوا علامة التصغير في فعل التعجّب الّذي هو خبر عنها.

حدّ الفعل وخواصه : «والفعل كلمة معناها مستقلّ» بالمفهومية ، أي لا يحتاج في تعقّله ، والدلالة عليه بما إلى ضمّ ضميمة ، كما قلنا في الاسم ، واعلم أنّ الفعل مشتمل على ثلاثة معان. الحدث الّذي هو المصدر ، والزمان ، والنسبة إلى الفاعل ، وهي نسبة حكميّة ملحوظة من حيث إنّها حالة بين طرفيها ، وآلة لتعرّف حالهما مرتبطا أحدهما بالآخر ، ولا خفاء في أنّ هذه النسبة معنى حرفيّ ، لا يستقلّ بالمفهوميّة ، فالمراد باستقلال معنى الفعل ليس تلك النسبة ، ووصف المعنى بالاقتران بالزمان يعيّن كون المراد به الحدث ، فالمراد بالمعنى ليس معناه المطابقيّ ، بل أعمّ ، لكن لا يتحقّق إلا في ضمن التضمنيّ.

فقوله : «كلمة» شامل للكلمات الثلاث ، وقوله : «معناها مستقلّ» مخرج للحرف ، وقوله : «مقترن بأحدها» أي بأحد الأزمنة الثلاثة المقدّم ذكرها مخرج للاسم ، لأنّه غير مقترن كما مرّ ، والمراد باقترانه بأحدها اقترانه بحسب الوضع الأوّل ، ليخرج أسماء الأفعال ، وتدخل الأفعال المنسلخة لاقتران معناها بالزمان بحسب الوضع الأوّل ، كما مرّ بيانه.

«ويختصّ» الفعل «بقد» الحرفيّة ، إذا كان متصرّفا خبريّا مثبتا مجرّدا عن ناصب وجازم وحرف تنفيس ، نحو : قد يقوم ، فهي معه كالجزء ، فلا يفصل منه شيء إلا بالقسم ، كقوله [من الوافر] :

__________________

(١) إسماعيل بن حماد الجوهريّ صاحب الصحاح الإمام أبو نصر الفارابيّ ، كان إماما في اللغة والأدب ، صنّف كتابا في العروض ومقدمة في النحو ، والصحاح في اللغة و... مات سنة ٣٩٣ ه‍ بغية الوعاة ١ / ٤٤٧.

(٢) محمد بن أحمد بن إبراهيم بن كيسان النحوي ، حفظ المذهب البصريّ والكوفيّ في النحو ، لأنه أخذ عن المبرّد وثعلب ، من تصانيفه : المهذب في النحو ، معاني القرآن ، علل النحو ، ... مات سنة ٢٩٩ ه‍. المصدر السابق ، ١ / ١٨.

(٣) محمد بن القاسم أبو بكر بن الأنباريّ النحويّ اللغويّ ، كان من أعلم الناس بالنحو والأدب ، وأملى كتبا كثيرة ، منها الواضح في النحو ، أدب الكاتب و... مات سنه ٣٢٨ ببغداد. المصدر السابق ١ / ٢١٣.

٧٣

٢٦ ـ فقد والله بيّن لي عنائي

 ... (١)

وسمع «قد لعمري بتّ ساهرا» ، وقد يحذف ما بعدها لدليل ، كقول النابغة [من الكامل] :

٢٧ ـ أزف الترحّل غير أنّ ركابنا

لمّا تزل برحالنا وكأن قد (٢)

أي وكان قد زالت.

لقد ستّة معان : وإنّما اختصّ بها ، لأنّها لمعان لا تصلح إلا له ، وهي ستّة. أحدها : تقريب الماضي من الحال ، نحو : قد قامت الصلوة. الثاني : التحقيق ، نحو : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ) [الأحزاب / ١٨]. الثالث : التقليل ، نحو : إنّ الكذوب قد يصدق. وسيأتي مزيد كلام على هذه المعاني في حديقة المفردات إن شاء الله تعإلى. الرابع : النفي ، حكي ابن سيدة (٣) [من الكامل] :

٢٨ ـ قد كنت في خبر فتعرفه

 ... (٤)

بنصب نعرف ، وإليه أشار في التسهيل بقوله ، وربّما نفي «بقد» فنصب الجواب بعدها ، قال ابن هشام : وهو غريب ، وحمله على خلاف ذلك.

الخامس : التكثير. كقوله [من البسيط] :

٢٩ ـ قد أترك القرن مصفرّا أنامله

كأنّ أثوابه مجّت بفرصاد (٥)

والأحسن الاستشهاد على ذلك ببيت العروض [من البسيط] :

٣٠ ـ قد أشهد الغارة الشّعواء تحملني

جرداء معروقة اللّحيين سرحوب (٦)

السادس : التوقّع ، نحو : قد يقدم المسافر ، وهو مع المضارع واضح ، وأمّا مع الماضي فأثبته الأكثرون. قال الخليل يقال : قد فعل لقوم ينتظرون الخبر.

__________________

(١) لم يسمّ قائله وتمامه : «بوشك فراقهم صرد يصيح» ، اللغة : الصرد : الطائر.

(٢) اللغة : أزف : دنا وقرب ، ويروي «أفد» وهو بوزنه ومعناه ، الترحّل : الارتحال ، تزل : مضارع زال. لمّا تزل : لم تفارق بعد ، الرحال : ما يوضع علي ظهر المطيّة لتركب ، كأن قد : أي كأن قد زالت لاقتراب موعد الرحيل.

(٣) علي بن أحمد بن سيدة اللغويّ والنحويّ الأندلسي ، كان حافظا لم يكن في زمانه أعلم منه بالنحو واللغة والأشعار. صنّف : المحكم والمحيط الاعظم في اللغة ، شرح كتاب الأخفش. مات سنة ٤٥٨ ه‍ ق. المصدر السابق ، ١ / ١٤٣.

(٤) لم أقف على عجزه وقائله.

(٥) هو لعبيد بن الأبرص أو لأبي ذويب الهذلي. اللغة : قرنك : هو مكافئك في الشجاعة والأنامل : جمع أنملة وهي أطراف الأصايع ، مجّت : ترشّشت ، الفرصاد : التوت.

(٦) هو لامرئ القيس أو لعمران بن إبراهيم الأنصاريّ. اللغة : الغارة : الهجوم علي العدو ، الشعواء : المنتشرة المتفرقة الغاشية ، جرداء : مونث أجرد ، وفرس أجرد : قصير الشعر ، المعروقة : قليلة اللحم ، السرحوب : فرس سرحوب : طويلة علي وجه الأرض.

٧٤

ويختصّ «بلم» لأنّها لنفي الفعل ، وهو معنى لا يتصوّر إلا فيه ، وهي مختصّة بالمضارع كما سيأتي.

حدّ الحرف : «والحرف كلمة معناها غير مستقلّ» بالمفهوميّة ، أي يحتاج في تعقّله والدّلالة عليه بها إلى ضمّ ضميمة ، لأنّه إنّما يكون ملحوظا باعتبار أنّه آلة للغير ، فيحتاج إلى ملاحظة الغير ، من حيث إنّه متبوع له ، فلا يكون مستقلّا كالابتداء الّذي هو مدلول من في قولك : سرت من البصرة ، فإنّه لا يتصوّر ولا يتميّز إلا بذكر السّير والبصرة ، ولا يتعقّل إلا بتعقلهما ، وقس على ذلك سائر معاني الحروف.

وأمّا الابتداء الّذي هو مدلول لفظ الابتداء ، فهو معنى مستقلّ ملحوظ للعقل بالذات ، يمكنه أن يحكم عليه وبه ، ولا ترد الأسماء الموضوعة للنسب ، لأنّ معانيها مفهومات كليّة مستقلة بالمفهوميّة. هذا ، وتحقيق المقام يتوقّف على تمهيد مقدمات :

إحداها : إنّ وضع الحروف كلّها من وضع العامّ (١) لموضوع له خاصّ ، وإنّ وضع الأسماء الموضوعة للنسب إنّما هو من قبيل وضع العامّ (٢) لموضوع له عام.

الثانية : إنّ النسبة بين الأمرين إنّما يتعقّل بتعقّلهما ، إن عاما فعامّا وإن خاصّا فخاصّا ، غايته إنّ افراد النسب ليست إلا حصصا لها لا افرادا حقيقة ، إذ مفهوم الكلية والجزئية مخصوص بالمعاني المستقلّة.

الثالثة : إنّ مدار كون مدلول اللفظ مستقلّا بالمفهوميّة منه على أحد أمرين : إمّا أن يكون ملحوظا بالذات لتعرف أحواله لا بالتّبع بأن يكون آلة لملاحظة ما هو حالة من أحواله ، أو بأن يكون اللفظ الدالّ عليه كافيا في إحضاره في الذهن ، بحيث لا يتوقّف على ذكر ضميمة ، وإن لوحظ بالتبع ، إذا تمهّد هذا فنقول : إنّما كانت مدلولات الحروف غير مستقلّة بالمفهوميّة ، لأنّها لما كانت بموجب المقدّمة الأولى موضوعة لنسب جزئيّة توقّف تعقّلها بمقتضي المقدّمة الثانية على تعقل متعلّقاتها المعيّنة ، ثمّ لمّا كان تعقّلها آلة لملاحظة تلك المتعلّقات ، ولم تكف ألفاظ الحروف في إحضارها في الذهن ، بل لا بدّ معها من الضمائم ، وهي الألفاظ الدالّة عليها لم تكن مدلولاتها بمقتضي المقدّمة الثالثة مستقلّة بالمفهومية منها بخلاف مدلولات الأسماء الموضوعة للنسب ، فإنّها لما كانت موضوعة لنسب كليّة يكفي في تعقّلها تعقّل متعلقاتها إجمالا ، وكانت هي كافية في إحضار تلك المتعلّقات ، كانت مدلولاتها مستقلّة بالمفهوميّة ، لكن لمّا كانت لا تستعمل في

__________________

(١) هذه الكلمة غير موجودة في «ح».

(٢) إنّما هو من قبيل وضع العامّ سقطت في «س».

٧٥

مفهوماتها إلا مضافة إلى متعلّقات مخصوصة ، لأنّه الغرض من وضعها لزم ذكرها لفهم هذه الخصوصيّات ، فاندفع ما يتوهّم من اختلال حدّ الاسم بها جمعا وحدّ الحرف منعا.

فقوله : كلمة شامل للكلمات الثلاث ، وما بعده مخرج للاسم والفعل ، وقوله : «ولا مقترن» قيد لتحقيق ماهيّة الحرف ، لا للاحتراز به عن شيء ، ولا يجب في القيد أن يكون للاحتراز ، بل قد يكون لتحقيق الماهيّة أو للإيضاح.

وقال ابن الخبّاز (١) : في شرح الدّرّة الألفية لابن معط (٢) : وأرى أنّه لا يحتاج في الحقيقة إلى حدّ الحرف ، لأنّه كلمة محصورة.

«ويعرف» أي يتميّز الحرف «بعدم قبول شيء من خواصّ أخويه» ، الاسم والفعل المذكورة أو غيرها ، وإنّما ميّزه بذلك مع أنّ الحدّ مغن عنه تسهيلا على المبتدئ وتفهيما له ، لأنّ حدّ الحرف ممّا أطال فيه المحقّقون الكلام ، واضطربت فيه آراء الأئمة الأعلام ، ونحن بحمد الله قد أتينا بلباب التحقيق ، فعليك بالتمسّك به ، فإنّه بذلك حقيق.

تنبيه : قال ابن الخباز في شرح الدرة ما معناه أنّ تمييز الحرف بعدم قبوله شيئا من خواصّ أخويه رديّ ، لأنّه حينئذ يتوقّف معرفة الحرف على معرفة تلك الخواصّ ، ومنها ما هو حرف فيلزم الدّور ، وأجيب بأنّ توقّف معرفة الحرف على تلك الخواص ، إنّما هو من حيث إنّها علامات ، وأمّا توقّفها عليه فمن حيث إنّها حرف فاختلف الجهة فلا دور.

تقسيم الاسم إلى اسم عين واسم معنى ومشتقّ :

ص : تقسيم : الاسم إن وضع لذات ، فاسم عين ، كزيد ، أو لحدث ، فإسم معنى ، كضرب. أو لمنسوب إليه حدث ، فمشتقّ ، كضارب.

أيضا : إن وضع لشيء بعينه فمعرفة كزيد والرجل وذا والّذي وهو والمضاف إلى أحدها معنى والمعرف بالنّداء وإلا فنكرة.

أيضا : ان وجد فيه علامة التانيث ، ولو تقديرا كنافة ونار فمؤنّث ، وإلّا فمذكّر ، والمؤنّث إن كان له فرج فحقيقيّ ، وإلّا فلفظيّ.

__________________

(١) أحمد بن الحسين بن الخباز النحويّ الضرير ، كان أستاذا بارعا في النحو واللغة. العروض ، له المصنّفات المفيدة ، منها : شرح ألفية ابن معط ، مات سنة ٦٣٧ ه‍ ، المصدر السابق ١ / ٣٠٤.

(٢) يحيي بن معط المغربيّ النحويّ كان إماما مبرّزا في العربيّة ، شاعرا محسنا ، له : العقود والقوانين في النحو ، كتاب شرح الجمل في النحو و... ومات سنة ٦٢٨ ه‍ ، المصدر السابق ، ٢ / ٣٤٤.

٧٦

ش : هذا تقسيم للاسم من تقسيم الكليّ إلى جزئيّاته ، وهو أن يضمّ إليه قيود متباينة أو متغايرة فقط ، ليحصل من انضمام كلّ قيد إليه ، قسم منه «الاسم إن وضع لذات» أي معنى قائم بنفسه بقرينة مقابلة «فاسم عين» ، وقد يقال : اسم شخص وهما بمعنى ، والأوّل أشهر كزيد ورجل ، «أو» وضع «لحدث» أي معنى قائم بغيره ، سواء صدر عنه كالضرب والمشي أو لم يصدر كالطول والقصر «فاسم معنى كضرب».

وقول بعضهم : إنّ العين يطلق على المعنى ، نحو : عين إليقين وعين الريا ، فكيف يجعل قسيما للمعنى ليس بشيء ، لأنّ العين مشترك بين الشخص والحقيقة.

تنبيه : المراد بالقيام بالغير كونه ناعتا له ، أي بحيث يصحّ أن يشتقّ منه اسم محمول عليه كالضارب من الضرب ، أو كونه حاصلا في الغير ومختصّا به ، بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما تحقيقا كالضرب في الضارب ، وتقديرا كالأصوات القائمة بالأجسام والعلوم والمعارف القائمة بالمجرّدات والصفات القائمة بالمجرّدات والصفات القائمة بذاته تعالى.

فإنّ شيئا من هذه الأمور سوي الأجسام غير مشار إليه بحسب الحسّ ، ولكنّ كلّ واحد منها بحالة لو أمكن الإشارة إليه حسّا لكانت الإشارة إليه عين الإشارة إلى ما حلّ فيه إن كان محلّا لشئ ، وعين الإشارة إلى محلّه ، إن كان حالا في محلّه ، وأمّا تفسيره بالتّبعيّة في التخيّر فينتقض بصفات البارئ تعإلى وصفات المجرّدات ، بل بالصفات الاعتباريّة للمتخيّرات ، كذا قرّره بعض المحقّقين ، فتامّله.

أو «وضع لمنسوب إليه حدث» نسبته تقييديّة «فمشتقّ» ، وهو أعني المنسوب إليه الحدث إمّا أن يكون ذاتا ما ، أي مبهمة لا تعيّن لها أصلا ، ويسمّونه صفة ، وهو إمّا ينسب إليه الحدث على الوجه الحدوث (١) ، وهو اسم الفاعل ، «كضارب» ، أو على وجه الثّبوت ، وهو الصفة المشبهة ، كحسن ، أو وقوعه عليه ، وهو اسم المفعول كمضروب ، أو زيادة موصوفة على غيره فيه وهو اسم التفضيل كأفضل ، وهو إمّا أن يكون ذاتا متعيّنة باعتبار فإمّا أن يعتبر كونه زمانا للحدث ، وهو اسم الزمان أو كون مكانا له ، وهو اسم المكان ، أو كونه آلة لحصوله ، وهو اسم الآلة.

وإنّما قلنا : إنّه متغيّر في هذه الثلاثة باعتبار دون الصفات ، لأنّ معنى مقام مثلا مكان فيه القيام ، لا شئ آخر ، أو ذات ما فيه القيام بخلاف القائم ، فإنّ معناه ذات ما له القيام ، كذا قرّره غير واحد من المحقّقين ، فتدبّر.

__________________

(١) سقط الحدوث في «س».

٧٧

والمراد بالذات هنا ما يستقلّ بالمفهوميّة ، لا ما يقوم بنفسه ليدخل نحو مفهوم ومضمر ممّا يقوم بغيره من المشتقّات.

و «أيضا» مصدر آض ، إذا رجع ، وهي كلمة لا تستعمل إلا مع شيئين ، بينهما توافق ، ويمكن استعناء كلّ منهما عن الآخر ، فخرج بالشئين ، نحو : جاء زيد أيضا مقتصرا عليه لفظا وتقديرا ، وبالتوافق ، نحو : جاء ومات أيضا ، وبإمكان الاستغناء ، نحو : اختصم زيد وعمرو أيضا ، فلا يقال في شيء من ذلك ، وهو مفعول مطلق ، حذف عامله سماعا كما نقل ، أو حال ، حذف عاملها وصاحبها ، أي وأرجع إلى تقسيم الاسم رجوعا ، أو أقول راجعا.

المعرفة ، وأقسامها سبعة : الاسم «إن وضع لشيء بعينه فمعرفة» ، والمراد ليستعمل في شئ بعينه ، وليس المراد التعيين الشخصيّ ، بل التعيين بوجه ما ، وقيل : الحيثية مراد ، أي ليستعمل في شيء بعينه ، من حيث إنّه بعينه ، وحاصله الإشارة إلى معيّن عند السّامع من حيث هو معيّن بوجه ما.

وبهذا تخرج النكرات عن التعريف ، لأنّ معانيها وإن وجب تعيينها عند السامع ، لكن ليس في اللفظ إشارة إليه بخلاف الضمائر الراجعة إليها ، فإنّ فيها إشارة إلى ذلك التعيّن ، وكذا المعرّف بلام العهد إذا كان المعهود منكرّا كما في قوله تعإلى : (أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً* فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [المزمل / ١٦ و ١٥] ، فإنّ الأوّل نكرة ، والثاني معرفة ، ولا فرق بينهما إلا بما ذكرنا من الإشارة وعدمها ، ثمّ الشئ المذكور في التعريف أعمّ ممّا وضع له اللفظ كما في الأعلام ، وممّا وضع لما يصدق عليه كسائر المعارف ، وهذا مبنيّ على ما اشتهر من أنّ المعتبر في المعرفة هو التّعيين عند الاستعمال دون الوضع ، سواء ، كان معيّنا في الوضع أم لا ، ليندرج فيه الأعلام الشخصيّة وغيرها من المضمرات والمبهمات وسائر المعارف ، فإنّ لفظ أنا مثلا لا يستعمل إلا في أشخاص معيّنة (١) ، إذ لا يصحّ أن يقال : أنا ويراد به متكلّم لا بعينه ، وليست موضوعة لواحد منها ، وإلا لكانت في غيره مجازا ، ولا لكلّ واحد منها ، وإلا لكانت مشتركة موضوعة أوضاعا بعدد أفراد المتكلّم ، وهو باطل اتّفاقا ، إذ لا يمكن أن يتصوّر واضع اللغة اصطلاحا كلّ واحدة من المخصوصات الّتي يطلق عليها لفظة أنا ، فوجب أن تكون موضوعة لمفهوم كليّ شامل لتلك الأفراد ، ويكون الغرض من وضعها له استعمالها له في أفراد المعينة دونه ، وقس عليه سائر المعارف سوي العلم.

__________________

(١) سقطت كلمه معيّنة في «ح».

٧٨

ولهذا صرّح العلامة التفتازانيّ أنّ ما سوي العلم إنّما وضع لمعان كليّة ، لتستعمل في أفرادها المعيّنة ، هذا هو المشهور عن أهل العربيّة ، ونسب إلى الجمهور ، ولكن انتقده بعض المتأخّرين باستلزامه كون هذه الألفاظ الشائعة الاستعمال مجازات لا حقائق لها ، إذ لم تستعمل فيما وضعت هي لها من المفهومات الكليّة ، بل لا يصحّ استعمالها فيها أصلا ، وهذا مستعبد جدّا ، كيف لا؟ ولو كانت كذلك لما اختلف أئمة اللغة في عدم استلزام المجاز الحقيقة ، ولما احتاج من نفي الاستلزام إلى أن يتمسّك في ذلك بأمثلة نادرة.

قال : والحقّ ما أفاده بعض المحقّقين من أنّها موضوعة لكلّ واحد من جزئيات تلك المفهومات الكليّة وضعا واحدا عامّا ، وتلك المفهومات جعلها الواضع آلة لملاحظتها عند الوضع ، فلا تستلزم الاشتراك ، ولا كونها مجازا في شيء منها ، ولا وجود المجاز بدون الحقيقة ، وتعريف المعرفة محمول على ظاهره. فتفهّم.

والمعارف على المشهور كلّها سبعة ، بإدخال المعرّف بالنداء ، كما ذهب إليه ابن مالك ، واختاره المصنّف ، ووجه الانحصار فيها أنّ تعيين المشار إليه في لفظ المعرفة إمّا أن يفيده جوهر اللفظ ، وهو العلم ، وهو إمّا جنسيّ ، إن كان الحاضر المعهود جنسا وماهيّة ، كأسامة ، أو شخصيّ ، إن كان فردا منها كزيد ، أو يفيده حرف وهو قسمان :

ما لا يحتاج إلى القصد ، وهو المعرّف باللام ، وما يحتاج إليه ، وهو المعرّف بالنداء. أو تفيده القرينة في الكلام ، وهو المضمر ، أو تفيده الإشارة الحسيّة إلى نفسه ، وهو اسم الإشارة ، أو تفيده الإشاره العقلية إلى نسبة معلومة للسامع ، إمّا خبريّة وهو الموصول ، أو لا ، فهو الاضافة ، لكنّ الإضافة إلى غير معيّن لا تفيده تعيينا ، فهو المضاف إلى أحد الخمسة.

العلم وانقسامه إلى مرتجل ومنقول : الأوّل من المعارف العلم ، وهو ما وضع لمعيّن ، لا يتناول غيره ، فخرج بالمعيّن النكرة ، وبما بعده بقية المعارف ، وهو نوعان : ـ كما علمت ـ شخصيّ وجنسيّ ، فالشخصيّ مسمّاه نوعان : أولو العلم كزيد وخرنق (١) ، وما يولّف كالقبائل كقرن ، والبلاد كعدن ، والخيل كلاحق ، والإبل كشذقم ، والبقر كعرار ، والغنم كهيلة ، والكلاب كواشق.

وينقسم إلى مرتجل ، وهو ما استعمل من أوّل الأمر علما كسعاد ، وفقعس وموهب ، ومنقول ، وهو الغالب ، وهو ما استمعل قبل العمليّة لغيرها ، ونقله إمّا من

__________________

(١) اسم امرأة من شواعر العرب.

٧٩

اسم عين كأسد وثور ، أو اسم معنى كفضل وزيد ، أو من مشتقّ ، إمّا وصف لفاعل كحارث وحاتم وحسن ، أو لمفعول كمنصور ومحمّد أو غير ذلك.

وما وقع لابن معط في ألفيته من أنّ محمدا مرتجل ، حيث قال [من الرجز] :

٣١ ـ تمّ الّذي في الناس منه مفرد

مرتجل مثاله محمّد

فسهو ظاهر.

وإمّا من فعل ، إمّا ماض كشمر وكعب ، أو مضارع كيشكر وتغلب ، أو أمر كأصمت بقطع الهمزة ، ليدلّ على النقل علم لبريّة معيّنة ، وقيل : هو علم جنس لكلّ مكان قفر كأسامة ، وكسرت ميمه ، والمسموع في الأمر الضمّ ، لأنّ الأعلام كثيرا ما يغيّر لفظها عند النقل كما قيل في شمس بن مالك : شمس بضمّ الشين ، وإمّا من جملة إمّا فعليّة كشاب قرناها ، أو إسميّة ، كزيد منطلق ، وليس بمسموع ، ولكنّهم قاسوه.

ثمّ التقسيم إلى مرتجل ومنقول ، هو رأي الأكثرين ، وقيل : الأعلام كلّها منقولة ، ولا يضرّ جهل أصلها. وقيل : هو ظاهر مذهب سيبويه ، وقيل : كلّها مرتجلة ، وهو رأي الزّجاج ، والمرتجل عنده ما لم يقصد في وضعه النقل من محل آخر إلى هذا ، وموافقتها للنكرات بالعرض لا بالقصد.

قالوا : والتقسيم إنّما هو بالنسبة إلى الأعمّ الأغلب ، وإلا فما هو علم بالغلبة لا منقول ولا مرتجل.

انقسام العلم إلى مفرد ومركب : وينقسم أيضا إلى مفرد كزيد وهند ، وإلى مركب وهو ثلاثه أنواع : مركب إسناديّ ، كبرق نحره (١) ، وشاب قرناها ، وحكمه الحكاية ، كقوله [من الطويل] :

٣٢ ـ كذبتم وبيت الله لا تنكحونها

بني شاب قرناها تصرّ وتحلب (٢)

ومزجيّ ، وهو كلّ اسمين جعلا اسما واحدا ، ونزّل ثانيها مترلة تاء التأنيث ، فيبنى الأوّل على الفتح ، ما لم يكن آخره ياء ، فيبنى على السكون كبعلبك ومعدي كرب ، وأمّا الثاني فيعرب ما لم يكن اسم صوت «كويه» من سيبويه ، فيبنى على الكسر ، وإضافيّ وهو الغالب ، هو كلّ اسمين نزّل ثانيهما مترلة التنوين ممّا قبله ، كعبد الله وأبي سعيد ، وحكمه أن يجري الأوّل بحسب العوامل ، ويجرّ الثاني بالإضافة.

__________________

(١) اسم رجل.

(٢) هو للأسدي ، اللغة : تصرّ : من صرّ الناقة ـ وصرّا : شدّ ضرعها بالصرار لئلا يرضعها ولدها. تحلب : من حلب الناقة ـ حلبا : استخرج ما في ضرعها من لبن.

٨٠