الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

والأندلسيّ : لو كان بمعنى الظّنّ لم تستعمل في العلم ، وقد يقال لك : كيف تقول زيدا قائما ، فتجيب أعلمه قائما ، فهو إذن بمعنى الاعتقاد علما كان أو ظنّا ، انتهى.

وجمهور العرب لا يجوّز هذا الالحاق إلا بشروط تقدّم استفهام بالهمزة أو غيرها ، وكونه فعلا مضارعا لمخاطب أو اتّصال الاستفهام به كقوله [من الرجز] :

٨٠١ ـ متى تقول القلص الرّواسما

يحملن أمّ قاسم وقاسما (١)

وقوله [من الطويل]

٨٠٢ ـ علام تقول الرّمح يثقل عاتقي

إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرّت (٢)

وحكي الكسائيّ : أتقول للعميان عقلاء؟ أي أتظنّ؟ فإن فقد شرط ممّا ذكر تعيّنت الحكاية ، بأن لا يتقدّم استفهام ، أو يكون القول غير مضارع ، أو مضارعا لغير مخاطب أو يفصل بينه وبين الاستفهام ، واغتفر الفصل بالظرف والمعمول مفعولا أو حالا ، كقوله [من البسيط] :

٨٠٣ ـ أبعد بعد تقول الدار جامعة

شملي بهم أم تقول البعد محتوما (٣)

ونحو : أفي الدار تقول زيدا جالسا ، وقوله [من الوافر] :

٨٠٤ ـ أجهّالا تقول بني لؤيّ

لعمر أبيك أم متجاهلينا (٤)

ونحو : أمسرعا تقول زيدا منطقا ، وقيل : لا يضرّ الفصل مطلقا ولو بأجبنيّ ، نحو : أأنت تقول زيدا منطلقا؟ وعليه الكوفيّون وأكثر البصريّين ما عدا سيبويه والأخفش ، وذهب السيرافيّ إلى جواز إعمال الماضي بشروط المضارع ، والكوفيّون إلى جواز إعمال الأمر بشروطه أيضا.

وزاد ابن مالك في التسهيل وشرحه لإعمال المضارع شرطا خامسا ، وهو أن يكون للحال لا للاستقبال ، وأنكره أبو حيّان والمراديّ وابن هشام في بعض كتبه ، وقالوا : لا نعلمه لغيره ، وزاد ابن هشام : بل الظاهر من اشتراط الاستفهام أن يكون مستقبلا وإذا اجتمعت الشروط فتجوز الحكاية أيضا مراعاة للأصل ، نحو : أتقول زيد منطلق؟

__________________

(١) البيت لهدبة بن خشرم العذري. اللغة : القلص : جمع قلوص ، وهي الشابة الفتية من الإبل ، الرواسم : جمع راسمة وهو ضرب من سير الإبل السريع.

(٢) البيت لعمرو بن معدي كرب ، اللغة : الرمح : القناة في رأسها سنان يطعن به ، العاتق : المنكب ، كرّت : أقبلت.

(٣) لم يسمّ قائله. اللغة : الشمل : الاجتماع.

(٤) هو للكميت بن زيد. اللغة : المتجاهل : الّذي يتصنع الجهل ويتكلّفه وليس به جهل.

٧٢١

تنبيهات : الأوّل : إذا جرى القول مجرى الظّنّ في ذلك ، فهل يجوز فيه ما جاز في الظّنّ من الإلغاء والتعليق وكون الفاعل والمفعول ضميرين؟ قال في النهاية : نعم ، وأقرّه أبو حيّان في الإرتشاف ، وقال الشاطبيّ : لا ، قال في التصريح : ولا يبعد تخريجه على القولين ، فمن قال : إنّه يجري مجرى الظّنّ في المعنى والعمل قال بالجواز ، ومن قال في العمل فقط قال بالمنع ، انتهى.

الثاني : قال بعض المحقّقين : القول مع الإعمال بمعنى الاعتقاد ومع عدمه بمعنى اللفظ اللسانيّ ، هكذا ينبغي أن يفهم ، ويظهر أثر المعنيين في أنّ الأوّل لا يقتضي وجود لفظ ألبتّة ، والثاني يقتضي وجوده في الخارج في أحد الأزمنة الثلاثة ، انتهى.

٧٢٢

التنازع

ص : خاتمة : إذا تنازع عاملان ظاهرا بعدهما ، فلك إعمال أيّهما شئت ، إلا أنّ البصريّين يختارون الثاني لقربه ، وعدم استلزامه إعماله الفصل بالأجنبيّ ، والعطف على الجملة قبل تمامها ، والكوفيّين الأوّل لسبقه وعدم استلزامه الإضمار قبل الذكر ، وأيّهما أعملت أضمرت الفاعل في المهمل موافقا للظّاهر.

أمّا المفعول ، فالمهمل إن كان الأوّل حذف ، أو الثاني أضمر ، إلا أن يمنع مانع ، وليس منه ، نحو : حسبني وحسبتها منطلقين الزّيدان منطلقا ، كما قاله بعض المحقّقين.

ش : هذه خاتمة لمباحث الأفعال في الكلام على التنازع ، ويسمّيه الكوفيّون الإعمال بكسر الهمزة ، «إذا تنازع عاملان» مثنّى عامل بالمعنى الأعمّ أو الأخصّ ، وقد عرفتهما ، سواء اتّفقا في العمل ، أو اختلفا فيه.

ولم يقل فصاعدا اقتصارا على أقلّ مراتب التنازع وأكثرها ، فافهم. قاله المصنّف في حواشيه يعني أنّ التنازع قد يقع في أكثر من عاملين كما ستراه ، لكنّه اقتصر على ذكر العاملين بيانا لأقلّ ما يقع في التنازع ، ولأنّه أكثر استعمالا ، ولا خفي ما في عبارته من الطباق بين الأقلّ (١) والأكثر ، وتعبيره بالعاملين أحسن من تعبير ابن الحاجب بالفعلين لشموله الفعل وشبهه في العمل.

«ظاهرا» مفعول تنازع من باب تجاذبنا الثوب ، أي اسما ظاهرا ، فخرج المضمر ، وتبع في ذلك ابن الحاجب ، ووجّهه بأنّ العاملين إذا وجّها إلى مضمر استويا في صحّة الأضمار فيهما ، فلا تنازع نحو : ضربت وأكرمت ، وتعقبه ابن مالك بأنّ هذا منه تقرير بأنّه لا يتأتّى في المضمر صورة تنازع ، فلا وجه لهذا الاعتراض ، لأنّ قولنا : إذا تنازع عاملان لا يمكن تناوله لذلك ، وأجاب ابن هشام بأنّه قد يقال : إنّ هذا إنّما ذكر للإعلام من أوّل الأمر بصورة التنازع لا للاحتراز عن صورة يتأتّى فيها صورة التنازع في الضمير ، ولا يحكم النّحويّون بأنّه من التنازع.

«ما قام وقعد إلا زيد» من باب التنازع أو لا؟ : فإن قلت : الوجه ذكره ابن الحاجب من أنّ التنازع لا يتأتّى في المضمر أنّما يستمرّ في المضمر المتّصل ، فأمّا المنفصل فيمكن التجاذب بين العاملين فيه ، نحو : ما قام وقعد إلا أنا ، قلت : الصحيح أنّ هذا ليس من

__________________

(١) من كما ستراه حتّى هنا سقط في «س».

٧٢٣

باب التنازع ، بل محمول على الحذف ، وذلك أنّ المحقّقين على اشتراط أن لا يكون المعمول محصورا ، فلا تنازع في ما قام وقعد إلا زيد لأمرين :

أحدهما : إنّ الواقع بعد إلا إمّا أن يكون ظاهرا أو مضمرا ، وأيّا ما كان فهو غير متأتّ ، فإن كان ظاهرا فإنّه يقتضي أن تقول في نحو : ما قام وقعد إلا الزيدان وإلا الزيدون ، ما قاما أو قاموا أو قعدا أو قعدوا ، ولم يتكلّم بمثل هذا ، وإن كان مضمرا فإنّه إن كان حاضرا ، نحو : ما قام وقعد إلا أنا وإلا أنت لم يتأتّ الإضمار في أحدهما إذا أعملت الآخر ، لأنّك إمّا أن تضمر ضميرا غائبا ، فيلزم إعادة ضمير غائب على حاضر أو ضميرا حاضرا ، فتقول : ما قام وقعدت إلا أنا ، أو قعدت إلا أنت ، أو تقيس ذلك على إعمال الثاني ، فيلزم مخالفة قاعد التنازع ، لأنّك تعيد الضمير على غير المتنازع فيه ، لأنّ ضميري المتكلّم والمخاطب إنّما يفسّرهما حضور من هما له لا لفظه ، والضمير في باب التنازع إنّما يعود على لفظ المتنازع فيه ، وإن كان غائبا لزم إبرازه في التثنية والجمع ، وقد ذكرنا أنّه لم يتكلّم به.

الوجه الثاني : أنّ الإضمار في أحدهما يؤدّي إلى إخلاء العامل الآخر من الإيجاب ، لأنّ الفعل المنفيّ إنّما يصير موجبا بمقارنة إلا لمعموله لفظا أو معنى ، فإذا لم يقترن بها لفظا ولا معنى فهو باق على النفي ، والمقصود بخلاف ذلك ، وإذا امتنع التنازع فيما ذكرنا ، فاعلم أنّه محمول على الحذف ، وممّن نصّ على ذلك ابن الحاجب وابن مالك ، فأصل ما قام وقعد إلا أنا ، ما قام أحد ، ولا قعد إلا أنا ، فحذف أحد من الأوّل لفظا ، واكتفى بقصده ودلالة النفي والاستثناء عليه كما جاء : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) [النساء / ١٥٩] ، (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات / ١٦٤] ، أي ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمننّ ، وما منّا أحد إلا له مقام.

وذهب بعضهم إلى أنّ نحو ذلك من باب المتنازع ، وليس بشيء لما شرحنا ، لكن يلزم على القول بالحذف حذف الفاعل ، وليس ممّا نحن فيه كالآيتين المذكورتين ، لأنّ المحذوف فيهما مبتدأ ، وهو جائز الحذف بخلافه في المثال ، فإنّ المحذوف فيه الفاعل ، ومن قواعد البصريّين أنّه لا يحذف ، بل زعم ابن عصفور في شرح الإيضاح أنّ حذف الفاعل لا يجوز عند أحد من البصريّين ولا عند الكوفيّين ، وهذا التركيب مسموع عن العرب قال [من البسيط] :

٨٠٥ ـ ما صاب قلبي وأضناه وتيّمه

إلا كواعب من ذهل بن شيبانا (١)

__________________

(١) قائله مجهول. اللغة : أضناه : من أضنى المرض الإنسان : أثقله ، تيمّه : استعبده وذهب بعقله. كواعب : جمع كاعب ، من كعبت الفتاه : نهد ثديها.

٧٢٤

وقال [من البسيط] :

٨٠٦ ـ ما جاد رأيا ولا جاد محاولة

إلا امرؤ لم يضع دنيا ولا دينا (١)

وتخريجه على مذهب الفرّاء في «قام وقعد زيد» ضعيف لضعفه وتخريجه على حذف إلا زيدا أو أنا من الأوّل لدلالة الثاني عليه فيه أيضا حذف الفاعل ، فما تنفكّ المسالة عن إشكال.

وقوله : «بعدهما» صفة ظاهرا ، أي ظاهرا واقعا بعدهما ، أي بعد العاملين ، واحترز بذلك عمّا إذا وقع قبلهما ، نحو : زيدا ضربت وأكرمت ، أو بينهما ، نحو : ضربت زيدا وأكرمت ، فإنّه يتعيّن المعمول في الصورتين ، لأن يكون للأوّل ، لأنّه طالب له من حيث المعنى ، ولم يجد معارضا ، فإذا جاء الثاني لم يكن له أن يطلبه لأنّه إنّما جاء بعد أخذ غيره له ، فلا يكون فيه مجال للتنازع.

وليس هذا بمتّفق عليه ، فقد ذهب بعض المغاربة إلى وقوع التنازع في الأوّل ، وجرى عليه الرضيّ. وعبارته : وقد يتنازع العاملان ما قبلهما إذا كان منصوبا ، نحو : زيدا ضربت وقتلت ، وإيّاك ضربت وأكرمت ، وذهب الفارسيّ إلى وقوعه في الثاني ، واستظهر المراديّ وقوعه فيهما ، واستغرب أبو حيّان القولين.

«فلك» جواب إذا «إعمال أيّهما شئت» فإن شئت أعملت الأوّل ، وإن شئت أعملت الثاني باتّفاق النّحويّين ، لأنّ كلّا مسموع ، وإنّما الخلاف في المختار كما سيأتي بيانه.

تنبيهات : الأوّل : فهم من قوله : «إذا تنازع عاملان» أنّه لا بدّ أن يكون كلّ منهما طالبا من حيث المعنى لما فرض التنازع فيه ، فلا تنازع بين «مطلت ونحبّ في الواعدين» من قول الشاعر [من الوافر] :

٨٠٧ ـ عدينا في غد ما شئت إنّا

نحبّ ولو مطلت الواعدينا (٢)

لعدم طلب كلّ منهما له ، لأنّ الممطول موعود لا واعد ، فالواعدين مفعول لنحبّ لا غير ، ومفعول مطلت محذوف ، أي ولو مطلتنا ، أو هو مترّل مترلة ما لا مفعول له ، أي ولو وقع منك مطل.

__________________

(١) لم يسمّ قائله. اللغة : جاد جودة : صار جيّدا.

(٢) هو لعبيد الله بن قيس الرقيات.

٧٢٥

لا تنازع بين العاملين أكّد أحدهما بالآخر : قال ابن هشام في الأوضح : ولا تنازع بين فعلين أو اسمين أكّد أحدهما بالاخر ، لأنّ الطالب للمعمول إنّما هو الأوّل ، وأمّا الثاني فلم يؤت به للإسناد ، بل لمجرّد التقوية للأوّل ولهذا قال الشاعر [من الطويل] :

٨٠٨ ـ فأين إلى أين النّجاة ببغلتي

أتاك أتاك اللّاحقون احبس احبس (١)

فاللاحقون فاعل أتاك الأوّل ، والثاني لمجرّد التقوية ، ولا فاعل له ، ولو كان من التنازع لقال : أتاك أتوك ، على إعمال الأوّل ، وأتوك أتاك على إعمال الثاني ، انتهى.

وفيه بحث ، وما ذكره هو مختار ابن مالك ، ووافقه إليها ابن النحاس وابن أبي الربيع. قال أبو حيّان : ولم يصرّح بالمنع في ذلك أحد سواهم ، بل صرّح الفارسيّ في قول الشاعر [من الطويل] :

٨٠٩ ـ فهيهات هيهات العقيق وأهله

وهيهات خلّ بالعقيق تواصله (٢)

بأنّه من باب التنازع ، وإلاضمار في أحدهما ، انتهى.

وقيل : المرفوع في البيتين فاعل بالعاملين ، لأنّهما بلفظ واحد ومعنى واحد ، فكأنّهما عامل واحد ، ففي المسالة أقول ثلاثة :

هل يوجد التنازع بين الحرفين : الثاني : ظاهر كلامه أنّه لا يشترط في العاملين المتنازعين أن يكون من غير نوع الحروف ، والجمهور على اشتراطه ، لأنّ الحروف لا دلالة لها على الحدث ، حتّى تطلب المعمولات ، وأجاز ابن العلج التنازع بين الحرفين مستدلّا بقوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) [البقرة / ٢٤] ، فقال : تنازع إن ولم في تفعلوا ، وردّ بأنّ إن تطلب مثبتا ، ولم تطلب منفيّا ، وشرط التنازع الاتّحاد في المعنى ، ونقل ابن عصفور عن بعضهم أنّه جوّز تنازع لعلّ وعسى ، نحو : لعلّ وعسى زيد أن يخرج ، على إعمال الثاني ، ولعلّ وعسى زيدا خارج ، على إعمال الأوّل ، وردّ بأنّ منصوب عسى لا يحذف (٣).

شرط العاملين في التنازع : الثالث : ظاهر كلامه أيضا أنّه لا يشترط فيهما أن يكونا متصرّفين والجمهور على اشتراطه ، لأنّ التنازع يقع فيه الفصل بين العامل ومعموله ، و

__________________

(١) لم يعيّن قائل البيت. اللغة : البغلة : دابة معروفة ، ويروى النجاء وهو بمعنى الإسراع.

(٢) هو لجرير بن عطية. اللغة : العقيق : اسم مكان ، الخل : الصديق.

(٣) جاء في حاشية الصبّان : (ولا تنازع بين حرفين) لضعف الحرف ولفقد شرط صحّة الإضمار في المتنازعين ، إذ الحروف لا يضمر فيها ، وعندي فيه نظر ، لأنّ المراد بالإضمار في هذا الباب ما يشمل اعتبار الضمير ولو مع حذفه كما في ضربت وضربني زيد. حاشية الصبّان ، ص ١٠٠.

٧٢٦

الجامد لا يفصل بينه وبين معموله ، وعن المبرّد إجازته في فعلى التعجّب ، نحو : ما أحسن وأجمل زيدا ، وأحسن به وأجمل بعمرو ، والمانع لا يجوّز هذين التركيبين ، بل يجب عنده أن يقال فيهما : ما أحسن زيدا وأجمله ، وأحسن بزيد وأجمل به.

الرابع : قال ابن هشام في المغني : العاملان في باب التنازع لا بدّ من ارتباطهما إمّا بعطف ، نحو : قاما وقعد أخواك ، أو عمل أوّلهما في ثانيتهما ، نحو : (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) [الجن / ٤] ، أو كون ثانيهما جوابا للأوّل إمّا جوابية الشرط ، نحو : (تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ) [المنافقون / ٥] ، ونحو : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) [الكهف / ٩٦] ، أو جوابية السؤال نحو : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) [النساء / ٧٦] ، ونحو ذلك من أوجه الارتباط ، ولا يجوز : قام قعد زيد (١).

هل يجري التنازع في جميع المعمولات : الخامس : ظاهر كلامه أنّ التنازع يجري في جميع المعمولات ، وهو رأي لبعضهم ، قال بعض الأئمة : والأصحّ أنّه لا يجري في المصدر والحال والتمييز ، انتهى.

وفي الجمع وشرحه : ويقع التنازع في كلّ معمول إلا المفعول له (٢) والتمييز وكذا الحال ، لأنّها لا تضمر خلافا لابن معط ، انتهى.

قلت : وكان ابن معط رجع عن هذا القول ، فقال في شرح الجزوليّة (٣) : تقول في الحال : إن تزرني ضاحكا إنّك في هذه الحالة ، ولا يجوز الكناية عنها ، لأنّ الحال لا تضمر. قال أبو حيّان : والأجود إعادة الحال كالأوّل. قال ابن معط : وتقول في الظرف على إعمال الثاني : سرت وذهبت فيه اليوم ، وعلى الأوّل سرت وذهبت فيه اليوم (٤) ، وفي المصدر على الثاني ، إن تضرب بكرا أضربك ضربا شديدا ، وعلى الأوّل أضربكه ضربا شديدا. وفي النهاية لابن الخبّاز : ويجوز التنازع في المفعول معه تقول : قمت وسرت وزيدا ، إن أعلمت الثاني ، وقمت وسرت وإيّاه إن أعلمت الأوّل ، انتهى.

إعمال العامل الثاني : «إلا» أنّ النحاة «البصريّين» ـ نسبة إلى البصرة بفتح الباء وكسرها وضمّها ثلاث لغات حكاها الأزهريّ (٥) ، وأفصحهنّ الفتح ، وهو المشهور ، و

__________________

(١) في جميع النسخ «قام وقعد زيد» وهذه الجملة صحيحة لأنّ بين العاملين ارتباطا بالعطف.

(٢) المفعول معه «ح».

(٣) ما وجدت عنوان الكتاب.

(٤) سقطت «سرت وذهبت فيه اليوم» في «ح وط».

(٥) محمد بن أحمد بن الأزهر بن طلحة بن نوح الأزهري اللغويّ الأديب ، ولد سنة ٢٨٢ ه‍ ، وكان رأسا في اللغة ، ومن تصانيفه : التهذيب في اللغة ، مات سنة ٣٧٠ ه‍ ، بغية الوعاة ١ / ١٩.

٧٢٧

النسبة إليها بصريّ ، بكسر الباء وفتحها وجهان مشهوران ، ولم يقولوا بالضّمّ وإن ضمّت البصرة على لغة قاله النوويّ ـ «يختارون» إعمال العامل «الثاني لقربه» من المعمول ، فالأولى أن يستند به دون البعيد ، و «لعدم استلزام إعماله الفصل» بين العامل ومعموله بالأجنبيّ ، والعطف على الجملة قبل تمامها في نحو : قام وقعد زيد ، إذ إعمال الأوّل يستلزم الفصل بين العامل الّذي هو قام ، والمعمول الّذي هو زيد بالأجنبيّ الّذي هو الجملة المعطوفة ، ويستلزم العطف على الجملة الّتي هي قام زيد قبل تمامها الّذي هو زيد ، إذ التقدير : قام زيد وقعد ، وكلا الأمرين خلاف الأصل ، وإعمال الثاني لا يستلزم شيئا منهما ، قال الرضيّ : ولا تجيء هذه العلّة في غير العطف ، نحو : جاءني لأكرمه ، وكاد يخرج زيد.

إعمال العامل الأوّل : والنّحاة «الكوفيّون» يختارون إعمال العامل «الأوّل لسبقه» على غيره من العوامل «وعدم استلزامه الإضمار قبل الذكر» ، وهو عود الضمير على متأخّر لفظا ورتبة ، وإعمال الأوّل يستلزم ذلك ، وهو ضعيف. وأجيب بأنّ الإضمار قبل الذكر قد جاء مصرّحا به في غير هذا الباب كما في باب نعم وربّه رجلا وضمير الشأن ، فهو شائع من غير ضعف. وقدّم المصنّف نقل مختار البصريّين إشارة إلى أنّه المختار عنده ، ولا شكّ أنّ الاستقراء شاهد بأنّ إعمال الثاني أكثر. وقيل : هما سيّان في العمل ، لأنّ لكلّ مرجّحا ، حكاه ابن العلج في البسيط.

وإذا تنازع ثلاثة فالحكم كذلك بالنسبة إلى الأوّل والثالث ، قاله المراديّ ، وسكتوا عن المتوسّط ، فهل يلتحق بالأوّل لسبقه على الثالث أو بالثاني لقربه من المعمول بالنسبة إلى الأوّل ، أو يستوي فيه الأمران ، لم أر في ذلك نقلا ، قاله في التصريح.

تنبيه : قال في السراج ما نقله عن الكوفيّين ، هو الّذي تضافرت به نصوص النحاة عنهم ، وقال ابن النحاس : إنّه لم يجد ذلك على ما حكي عنهم.

إذا تنازع العاملان الفاعل : «وأيّهما» أي العاملين «أعلمت» الأوّل أو الثاني «أضمرت الفاعل في» العامل «المهمل» من العمل في الظاهر ، إذا اقتضى الفاعل ، فإن أعملت الثاني أضمرت الفاعل في الأوّل ، وإن أعملت الأوّل أضمرت الفاعل في الثاني «موافقا للظاهر» في الإفراد والتذكير وفروعهما ، لأنّه مفسّرة ، والموافقة بين المفسّر والمفسّر ملتزمة ، فتقول على إعمال الأوّل : ضربني وضربتهم قومك ، وعلى إعمال الثاني : ضربوني وضربت قومك.

٧٢٨

هذا مذهب البصريّين ، ومنع الكوفيّون من نحو المثال الثاني لاستلزامه الإضمار قبل الذكر. فذهب الكسائيّ وهشام والسهيليّ وابن مضاء إلى وجوب حذف الفاعل من الأوّل للدلالة عليه تمسّكا بظاهر قوله [من الطويل] :

٨١٠ ـ تعفّق بالأرطى لها وأرادها

رجال فبذّت نبلهم وكليب (١)

إذ لم يقل تعفّقوا ، ولا أرادوا ، قال في التصريح : ويمكن أن يجاب عنه بأنّه أعمل الثاني ، ولم يقل : تعفّقوا على لفظ الجمع ، لأنّه يجوز أن ينوى مفردا على مذهب البصريّين باعتبار تأويله بالمذكور ، انتهى. وذهب الفرّاء إلى أنّه يجب إعمال الأوّل فرارا من حذف الفاعل ومن الإضمار قبل الذكر ، وعنه قول آخر حكاه في البسيط : إنّه يقتصد في مثل ذلك على السماع ، ولا يكون قياسا.

قال الرضيّ : والنقل الصحيح عن الفرّاء في مثل هذا أنّ الثاني إن طلب أيضا للفاعلى ة ، نحو : ضرب وأكرم زيد ، جاز أن يعمل العالمان في المتنازع ، فيكون الاسم الواحد فاعلا للفعلين ، لكن اجتماع المؤثّرين التامّين على أثر واحد مدلول على فساده في الأصول ، وهم يجرون عوامل النحو كالمؤثّرات الحقيقيّة. قال : وجاز أن يؤتى بفاعل الأوّل ضميرا بعد المتنازع ، نحو : ضربني وأكرمني الزيدان هما ، جئت بالمنفصل لتعذّر المتّصل بلزوم الإضمار قبل الذكر ، وإن طلب الثاني للمفعوليّة مع طلب الأوّل لأجل الفاعلية ، نحو : ضربني وأكرمت زيدا هو ، تعيّن عنده الإتيان بالضمير بعد المتنازع كما رأيت ، كلّ هذا حذرا ممّا لزم البصريّين والكسائيّ من الإضمار قبل الذكر وحذف الفاعل ، انتهى.

والصحيح ما ذهب إليه البصريّون بشهادة السماع ، قال الشاعر [من الطويل] :

٨١١ ـ جفوني ولم أجف الأخلاء إنّني

لغير جميل من خليليّ مهمل (٢)

وقال [من البسيط] :

٨١٢ ـ هوينني وهويت الغانيات إلى

أن شبت فانصرفت عنهنّ آمالى (٣)

وإذا ثبت ذلك عن العرب وجب المصير إليه.

تنبيه : ما عزوته إلى الكسائيّ ومن وافقه من وجوب حذف الفاعل هو المشهور ، وفي شرح الإيضاح في باب الاستثناء حذف الفاعل لا يجوز عند أحد من البصريّين ولا الكوفيّين ، وما حكاه البصريّون عن الكسائيّ أنّه يجيز حذف الفاعل في قولك : ضربني و

__________________

(١) هو لعلقمة الفحل. اللغة : تعفّق : تعوّذ ، الأرطى : شجر من شجر الرمل.

(٢) البيت مجهول القائل. اللغة : الاخلاء : جمع خليل بمعنى صديق ، مهمل : اسم فاعل من الإهمال بمعنى الترك.

(٣) لم ينسب البيت إلى قائل معيّن. اللغة : هوي : أحبّ ، الغانيات : جمع الغانية ، وهي المرأة الغنيّة بحسنها وجمالها عن الزينة.

٧٢٩

ضربت الزيدين باطل ، بل هو عنده ضمير مستتر في الفعل مفرد في الأحوال كلّها ، انتهى.

إذا تنازع العاملان المفعول : «أمّا المفعول» فتارة يحذف ، وتارة يضمر ، فالعامل «المهمل» من العمل في الظاهر «إن كان هو الأوّل حذف» أي المفعول ، ولا يضمر فيه ، إذ لو أضمر ، والحال هذه لزم الإضمار قبل الذكر ، وذلك أنّما ارتكبناه للضرورة لأجل الفاعل اجتنابا لحذف العمدة ، وأمّا المفعول فهو فضله مستغني عنه ، فيجب حذفه ، قال تعالى : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) [الكهف / ٩٦] ، وقال : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [الحاقة / ١٩] ، وأجاز قوم إضماره ، وعليه ابن مالك ، كما لو كان المهمل الثاني ، ودفع بالفرق بين الإضمار قبل الذكر وبعده ، ولا خلاف في جوازه ضرورة كقوله [من الطويل] :

٨١٣ ـ إذا كنت ترضيه ويرضيك صاحب

جهارا فكن في الغيب أحفظ للؤدّ (١)

تنبيهات : الأوّل : المجرور حكمه حكم المفعول فيما ذكر ، فيجب حذفه ما لم يلتبس ، نحو : مررت ومرّ بي زيد ، فإن أوقع حذفه في لبس وجب إضماره مؤخّرا ، نحو : رغبت ورغب في زيد عنه ، إذ لو حذف لتوهّم أنّ المراد رغبت فيه.

الثاني : قضيّة إطلاقه حذف المفعول ، ولو كان العامل من باب ظنّ ، وهو الصحيح لما سيأتي ، وفيه ثلاثة أقوال أخر : قيل : يضمر قبل الذكر ، لأنّه عمدة ، وإن كان منصوبا فهو كالفاعل ، فلا يحذف ، بل يقال : ظننته أو ظنّني إيّاه زيدا قائما ، وقيل : يضمر مؤخّرا ذهابا إلى أنّه لا يحذف ، ولا يضمر قبل الذكر ، لأنّه منصوب ، فهو على صورة الفضلة ، فيضمر مؤخّرا ، نحو : ظنّني وظننت زيدا قائما إيّاه ، وقيل : يظهر ، فيقال ظنّني قائما ، وظننت زيدا قائما. وأصحّها الأوّل الّذي اقتضته عبارة المصنّف ، لأنّه حذف ، قال ابن عصفور : وهو أسدّ المذاهب ، لأنّ الإضمار قبل الذكر والفصل بين العامل والمعمول لم تدع ضرورة إليه ، وحذف الاقتصار في باب ظنّ قد تقدّم الدليل على جوازه ، انتهى. وشرط الحذف أن يكون المحذوف مثل المثبت إفرادا وتذكيرا وفروعهما ، فإن لم يكن مثله لم يجز حذفه ، نحو : علمني وعلمت الزيدين قائمين ، فلا بدّ أن يقال : إيّاه متقدّما أو متأخّرا ، ولا يجوز حذفه ، قاله في التصريح نقلا عن أبي حيان في النكت الحسان.

«أو» كان العامل هو «الثاني أضمر» ، أي المفعول ، وفي حكمه المجرور في المهمل مطابقا للظاهر ، ولا محذور فيه لرجوع الضمير إلى متقدّم رتبة ، وإن تأخّر لفظا ، لأنّه

__________________

(١) لم يسمّ قائله. اللغة : جهارا : عيانا ومشاهدة ، الودّ : المحبة ، ويروى أحفظ للعهد.

٧٣٠

معمول للأوّل ، فحقّه أن يليه ، نحو : قام وضربتهما أخواك ، وقام ومررت بهما أخواك ، وبعضهم يجير الحذف هنا أيضا كقول عاتكه بنت عبد المطّلب [من مجزوء الكامل] :

٨١٤ ـ بعكاظ يعشي الناظرين

إذا هم لمحوا شعاعه (١)

وهو ضرورة عند الجمهور ، لأنّ في الحذف تهيأة العامل للعمل ، وقطعه بغير معارض ، فيضمر وجوبا.

«إلا أن يمنع» الإضمار ، فيتعيّن الإظهار ، وذلك إذا كان المفعول خبرا عمّا يخالف المفسّر ، وهو المتنازع فيه في الإفراد وفرعيه والتذكير وضدّه ، لكن المصنّف لا يسلم أن تكون المسالة حينئذ من باب التنازع ، ولذلك قال : «وليس منه نحو : حسبني وحسبتهما منطلقين الزيدان منطلقا ، كما قاله بعض المحقّقين» خلافا لمن قال : إنّه منه ، وإنّ حسبني وحسبتهما تنازعا منطلقا ، واعمل فيه حسبني ، فوجب إظهار المفعول الثاني لحسبتهما ، وهو منطلقين لامتناع إضماره ، لأنّه إن أضمر مفردا ليطابق مرجعه خالف المفعول الأوّل ، وإن أضمر مثنّى ليطابق المفعول الأوّل ، إذ هما مبتدا وخبر في الأصل ، خالف مرجعه ، ولا يجوز ارتكاب الحذف فيه لكونه ثاني مفعولي حسبت ، وهو محذور كما عرفت.

وأجازه الكوفيّون لدلالة منطلقا عليه ، فيقولون : حسبني وحسبتها الزيدان منطلقا ، وأجازوا إضماره أيضا مقدّما على وفق المخبر عنه ، فيقولون : حسبني وحسبتهما إيّاه الزيدان منطلقا ، وجه كونه ليس من التنازع ، كما ذهب إليه المصنّف تبعا لجماعة من المحقّقين منهم ابن هشام وصاحب الوافي (٢) إلى أنّ العاملين لا يتوجّهان إلى أمر واحد ، لأنّ الأوّل يقتضي مفعولا مفردا والثاني مفعولا مثنّى ، فانتقي شرط التنازع ، وهو كون المتنازع مطلوبا لكلّ من العاملين من حيث المعنى ، فينتفي التنازع ضرورة.

وما قيل : من أنّهما تنازعا ذاتا متّصفة بالانطلاق من غير نظر إلى كونها مفردة أو مثنّاة ليس بشيء ، لأنّ التنازع لا يكون في مبهم ، كذا قيل. والأولى أن يقال : إنّ التنازع فيه صحيح ، لكن باعتبار كون منطقا مثلا في نحو المثال المذكور مفعولا ثانيا مع قطع النظر عن كونه مفردا أو مثنّى ، وأنت لا تنطق به مفردا إلا بعد الحكم به للأوّل ولا مثنّى إلا بعد الحكم به للثاني ، وإذا نطقت به مفردا بطل كون الثاني بطلبه ، ومن هنا ظهر

__________________

(١) اللغة : عكاظ : موضع كانت فيه سوق مشهورة ، يجتمع فيها العرب للتجارة والمفاخرة ، يعشي : مضارع من الإعشاء ، وأصله العشاء وهو ضعف البصر ليلا ، لمحوا : ماض من اللمح وهو سرعة إبصار الشيء ، الشعاع : ما تراه من الضوء مقبلا عليك كأنّه الجبال.

(٢) الوافي في نحو لمحمد بن عثمان بن عمر البلخي ، شرحه الشيخ الدمامينيّ المتوفى سنة ٨٣٨ ه‍ وسمّاه المنهل الصافي ، كشف الظنون ٢ / ١٩٩٨.

٧٣١

للمصنّف فساد دعوى التنازع ، ولو نظر إليه من جهة كونه مفعولا ثانيا مع قطع النظر عمّا يقتضيه كلّ من العاملين المذكورين لما نازع في صحّة التنازع ، ألا ترى أنّ العاملين إذا كان الأوّل منهما يطلب مرفوعا ، والثاني يطلب منصوبا تنازعهما فيه صحيح ، لكن مع قطع النظر من الإعراب ، فإنّك إن أعربته بالرفع بطل كون الثاني يطلبه ، لأنّه لا يطلب إلا منصوبا ، وإن أعربته بالنصب بطل كون الأوّل (١) يطلبه ، لأنّه لا يطلب إلا مرفوعا وذلك نحو : أكرمني وأكرمت زيدا وزيدا ، وهذا ممّا لا خلاف في أنّه من التنازع ، هكذا قرّره المالكيّ في الأوضح وهو جدير بالقبول ، ويرشدك إليه قول الفاضل الهنديّ : إنّ التنازع في القلب ، وأمّا بعد التركيب فلا تنازع.

تنبيهات : الأوّل : قضية كلام المصنّف (ره) عدم اشتراط كون المعمول غير سييّ مرفوع ، واشترطه بعضهم ليخرج نحو قول كثير [من الطويل] :

٨١٥ ـ قضى كلّ ذي دين فوفّى غريمه

وعزّة ممطول معنى غريمها (٢)

لأنّه لو قصد فيه إلى التنازع لأسند أحد اسمي المفعول إلى السييّ الّذي هو غريمها ، والآخر إلى ضميره ، فيلزم عدم ارتباط المهمل بالمبتدإ ، لأنّه لم يرفع ضميره ، ولا ما التبس بضمير ، فيحمل مثل ذلك على أنّ المتأخّر مبتدأ مخبر عنه بالعاملين المتقدّمين ، وفي كلّ منهما ضمير ، وهما وما بعدهما خبر عن الأوّل بخلاف السييّ غير المرفوع ، نحو : زيد أكرم وعظّم أباه.

واعترض الأوّل بأنّ عود الضمير من المهمل على الاسم المشتمل على ضمير المبتدإ يحقّق الالتباس والارتباط ، والثاني بأنّ ما علّل به امتناع التنازع في الأوّل يأتي أيضا في الثاني ، نحو : زيد ضربت وأكرمت أباه ، لأنّ أحد العاملين يعمل في السبب ، والمهمل يعمل في ضميره ، فيلزم عدم ارتباط ناصب الضمير بالمبتدإ ، فلا معنى لتقييد السييّ بالمرفوع ، ولم يشترط أكثرهم هذا الشرط كالمصنّف ، ونصّ عليه ابن خروف والشلوبين وابن السّيّد وابن مالك.

التنازع بين أكثر من عاملين ومعمولين : الثاني : قد يكون التنازع بين أكثر من عاملين كقوله [من البسيط] :

٨١٦ ـ أرجو وأخشى وأدعو الله مبتغيا

عفوا وعافية في الروح والجسد (٣)

_________________

(١) الثاني «ح».

(٢) اللغة : الغريم : الدائن ، صاحب الحق. ممطول : غير مؤدّي له حقه ، معنى : اسم مفعول من عني بمعنى عذب.

(٣) لم ينسب إلى قائل معيّن. اللغة : مبتغيا : طالبا.

٧٣٢

وقد يتعدّد المتنازع فيه كقوله (ص) : تسبّحون وتكبّرون وتحمدون دبر كلّ صلاة ثلاثا وثلاثين (١). فتنازعت ثلاثة وهي تسبّحون وتكبّرون وتحمدون في اثنين ، ظرف وهو دبر ، ومفعول مطلق وهو ثلاثا وأعمل الأخير فيهما ، وأعمل الأوّلان في ضميريهما ، وحذفا لأنّهما فضلتان ، ولا لبس ، والأصل تسبّحون الله فيه إيّاه وتكبّرون الله فيه إيّاه.

وهنا انقضى كلام المصنّف (ره) على ما يتعلّق بالأفعال ، فشرع في الكلام على ما يتعلّق بالجمل فقال :

__________________

(١) الترمذي ، ٢ / ٢٦٥ ، رقم ٤١٠.

٧٣٣
٧٣٤

الفصل الرابع الحديقة الرابعة

٧٣٥
٧٣٦

الحديقة الرابعة في الجمل وما يتبعها

ص : الجملة قول تضمّن كلمتين بإسناد ، فهي أعمّ من الكلام عند الأكثر ، فإن بدئت باسم ، فاسميّة ، نحو : زيد قائم ، (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ،) وإنّ زيدا قائم. إذ لا عبرة بالحرف. أو بفعل ، ففعلية كقام زيد ، وهل قام زيد؟ وهلّا زيدا ضربته؟ ويا عبد الله ، (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ ،) لأنّ المقدّر كالمذكور. ثمّ إن وقعت خبرا فصغرى ، أو كان خبرا لمبتدإ فيها جملة فكبرى ، نحو : زيد قام أبوه ، فقام أبوه صغرى ، والجميع كبرى. وقد تكون صغرى وكبرى باعتبارين ، نحو : زيد أبوه غلامه منطلق ، وقد لا تكون صغرى ولا كبرى ، كقام زيد.

ش : الحديقه الرابعة في الكلام على الجمل وما يتبعها من ذكر أقسامها وأحكامها. «الجملة» لغة جماعة الشيء ، كذا في القاموس ، واصطلاحا «قول» أي مقول استعمالا للمصدر بمعنى المفعول ، كاللفظ بمعنى الملفوظ ، وهو الملفوظ الموضوع لمعنى مفردا كان أو مركّبا مفيدا أو غير مفيد ، فهو أخصّ من اللفظ لاختصاصه بالموضع بخلافه كما مرّ بيانه في صدر الشرح ، هذا هو المشهور ، وهو الصحيح.

وقيل : إنّه حقيقة في المفرد ، وإطلاقه على المركّب مجاز ، وعليه ابن معط ، وقيل : حقيقة في المركّب ، سواء أفاد أم لا ، وإطلاقه على المفرد مجاز ، وقيل : حقيقة في المركّب المفيد ، وإطلاقه على المفرد والمركّب الّذي لا يفيد مجاز ، وبه جزم الجوينيّ (١) في تفسيره ، وقيل : إنّه يطلق على المهمل ، فيرداف اللفظ ، حكاه العلّامة أبو حيّان في شرح التسهيل في باب ظنّ ، وجزم به أبو البقاء العكبرى في اللباب. أمّا إطلاقه على غير اللفظ من الرأي والاعتقاد فمجاز اجماعا.

__________________

(١) عبد الله بن يوسف الجويني ، من علماء التفسير واللغة والفقه من كتبه «التفسير» كبير ، و «التبصرة والتذكرة» مات سنة ٤٣٨ ه‍ الأعلام للزركلي ، ٤ / ٢٩٠.

٧٣٧

«ضمّن كلمتين» حقيقة أو حكما ، أي يكون كلّ واحدة منهما في ضمنه ، إذ التثنية على ما اصطلحوا عليه اختصار العطف ، فكأنّه قال : كلمة وكلمة ، فالمتضمّن اسم فاعل ، هو المجموع ، والمتضمّن اسم مفعول ، هو كلّ واحد من الكلمتين ، فزيد قائم مثلا بصورته المجموعيّة متضمّن لزيد قائم بصورته الإفراديّة ، فلا يلزم اتّحاد المتضمّن والمتضمّن ، وخرج بهذا القيد المفردات.

«بإسناد» متعلّق بتضمّن ، أو صفة مصدر محذوف ، أي تضمّنا متلبّسا أو حاصلا أو ملصقا به ، أو صفة كلمتين ، أي كلمتين متلبّستين بإسناد إحداهما إلى الأخرى ، فإن قيل : التعريف غير جامع ، لأنّ الجملة الشرطيّة والجملة الّتي أحد جزئيها جملة ، نحو : زيد أبوه قائم ، لا يصدق التعريف عليهما ، إذ الأولى متضمّنة لجملتين ، والثانية لجملة وكلمة ، أجيب بأنّ تعرّضه لكلمتين لبيان أقلّ ما لا بدّ منه لا لنفي الزيادة ، فاشتمال الصورتين على أكثر من كلمتين لا يضرّ. واعلم أنّ المراد بالإسناد هنا هو ضمّ إحدى الكلمتين إلى الأخرى ، سواء حصل مع ذلك فائدة أم لا ، وفي قوله بإسناد بالتنكير إشارة إلى ذلك.

«فهي» أي الجملة «أعمّ من الكلام» عموما مطلقا لصدقها عليه وعلى غيره ، إذ شرطه الفائدة بخلافها ، فكلّ كلام جملة ، ولا عكس بالمعنى اللغويّ ، والأعمّ هنا بمعنى العامّ ، فمن لمجرّد الابتداء ، هذا بالنظر إلى المفهوم ، وأمّا بالنظر إلى موارد الاستعمال فهو على بابه ، قاله بعض المحقّقين. قال شيخنا جمال الدين محمد الشاميّ ـ متع الله بحياته ـ بل هو بالنظر إلى المفهوم على بابه أيضا ، لأنّ الجملة أكثر عموما للإفراد من الكلام ، فتدبّر ، انتهى. وما ذكر من كون الجملة أعمّ من الكلام ليس اجماعا بل هو «عند الأكثر». وقد ذهب بعضهم إلى أنّهما مترادفان ، وهو ظاهر كلام الزمخشريّ في المفصّل ، فإنّه بعد أن فرغ من حدّ الكلام ، قال : ويسمّى الجملة ، وفي قول المصنّف عند الأكثر نظر ، بل الظاهر أنّ الأكثر على أنّهما مترادفان.

قال البدر الدمامينيّ في التحفة : ظاهر كلام الأندلسيّ في شرح المفصّل أنّه رأي الجميع ، لأنّه قال في باب المبتدإ والخبر : الكلام والجملة في اصطلاحهم مترادفان ، انتهى. وفي «الأشباه والنظائر» قال الشيخ محب الدين ناظر الجيش : الّذي يقتضيه كلام النحاة تساوي الكلام والجملة في الدلالة ، يعني كلّما صدق أحدهما ، صدق الآخر ، فليس بينهما عموم وخصوص ، انتهى.

فظهر أنّ الأكثر على الترادف ، نعم قال الشيخ جمال الدين بن هشام في المغني : والكلام أخصّ من الجملة ، لا مرادف لها ، فإنّ الكلام هو القول المفيد بالقصد ، والمراد بالمفيد ما دلّ على معنى يحسن السكوت عليه ، والجملة عبارة عن الفعل وفاعله كقام

٧٣٨

زيد ، والمبتدأ وخبره كزيد قائم ، وما كان بمترلة أحدهما ، نحو : ضرب اللّصّ ، وأقائم الزيدان ، وكان زيد قائما ، وظننته قائما ، وبهذا يظهر لك أنّهما ليسا مترادفين ، كما يتوهّمه كثير من الناس ، والصواب أنّها أعمّ ، إذ شرطه الإفادة بخلافها ، ولهذا تسمعهم يقولون : جملة الشرط ، جملة الجواب ، جملة الصلة ، وكلّ ذلك ليس مفيدا ، فليس كلاما ، انتهى.

قال العلّامة السيوطيّ ، وقد نازعه بعضهم في ذلك ، وادّعي أنّ الصواب ترادف الكلام والجملة ، انتهى. وأجاب ناظر الجيش عمّا ذكره في جملة الشرط ونحوها بأنّ إطلاق الجملة عليها اطلاقا مجازيّا من باب إطلاق الشيء على ما كان عليه ، وأجاب غيره بأنّ تخلّف الحكم في جملتي الشرط والجزاء لا يقدح في كون كلّ جملة مركّبة تفيد ، إذ المراد في الأعمّ الأغلب ، وهذا كقولهم : إنّ المبدل منه في نيّة الطرح ، أي في الأعمّ الأغلب ، فلا يقدح ما يعرض من المانع في بعض الصور ، نحو : جاءني الّذي مررت به زيد ، للاحتياج إلى الضمير ، وله نظائر ، وكذا ذكر الدمامينيّ في شرح المغني ما محصّله أنّ الخلاف في المسألة اصطلاحيّ ، ولا مشاحة في الاصطلاح ، ونازعه الشمنيّ في ذلك ، والحقّ ما قال الدمامينيّ.

تنبيهات : الأوّل : ما فسّرت به الإسناد في حدّ الجملة هو قضية كلام جماعة في مثل هذا المقام ، إذ لو أريد بالإسناد النسبة التامّة كانت الجملة كالكلام في اعتبار الإفادة ، فلا يتفرّع عليه قوله ، فهي أعمّ من الكلام ، لكن قال بعضهم : تفسير الإسناد بالنسبة مطلقا يلزم منه انتقاض التعريف بالمركّب المشتمل على نسبة ناقصة كغلام زيد ، واختار بعض المحقّقين تفسير الإسناد هنا بالنسبة التامّة ، والمقصود كون المركّب الّذي هو الجملة مشتملا على الإسناد حالا أو أصلا ، فلا تكون الجملة كالكلام في اعتبار الإفادة ، فتأمّل.

الثاني : قال شيخ شيوخنا الحرفوشيّ في شرح التهذيب للمصنّف : ربّما أفهم كلام بعضهم أنّ الجملة أخصّ من الكلام ، وفيه نظر ، انتهى. قال تلميذه شيخنا العلّامة محمد الشاميّ : وما أفهمه كلام بعضهم نظرا إلى أنّ القرآن يطلق عليه الكلام ، ولا يطلق عليه الجملة ، ووجه النظر أنّ المانع من إطلاق الجملة على القرآن شرعيّ لإيهامها معنى الإجمال وإشعارها به لا لغويّ ، انتهى ، فتأمّل.

«فإن بدئت» أي صدرت الجملة «باسم» وصفا كان أو غيره فاسمها جملة «اسميّة» ، أي فتسمّى اسميّة ، نسبة إلى الاسم لتصديرها به ، ولا فرق بين أن يكون ذلك الاسم صريحا «نحو : زيد قائم» وهيها العقيق ، وقائم الزيدان ، عند من جوّزه.

٧٣٩

والتمثيل بنحو : زيد قام للجملة الاسميّة لا غير هو قول الجمهور ، لعدم ما يطلب الفعل ، وجوّز المبرّد وابن العريف (١) وابن مالك كونها فعلية على الإضمار والتفسير ، والكوفيّون على التقديم والتأخير ، أو مؤوّلا ، نحو قوله تعالى : (أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة / ١٨٤] ، أي صومكم خير لكم (٢). لأنّ المؤوّل كالصريح في الحكم ، والمراد بالتصدّر المسند أو المسند إليه ، فلا يضرّ في التسمية ما تقدّم من الحروف لغرض ما ، نحو : أقائم الزيدان ، أو أزيد أخوك ، ولو غيّر الإعراب والمعنى نحو : «إنّ زيدا قائم» ولعلّ أباك منطلق ، وما زيد قائما «إذ لا عبرة بالحروف» في ذلك ، فالجمل المذكورة كلّها اسميّة لكونها مبدوّة بالاسم بالمعنى المذكور.

«أو» بدئت «بفعل» متصرّفا كان أو جامدا تامّا أو ناقصا فاسمها جملة «فعلية» ، أي تسمّى فعلية ، نسبة إلى الفعل لتصديرها به «كقام زيد» ، وضرب اللصّ ، وعسى زيد أن يقوم ، وكان زيد قائما ، وظننته قائما ، ويقوم زيد ، وقم ، «وهل قام زيد» ، ممّا تقدّم فيه الحرف ، إذ لا عبرة به كما تقدّم ، والمعتبر أيضا في الصدر ما هو صدر في الأصل ، فلا يضرّ أيضا تقدّم المعمول لموجب أو تجوّز ، فنحو : كيف جاء زيد ، و (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الحمد / ٥] ، و (فَرِيقاً هَدى) [الأعراف / ٣٠] ، (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) [غافر / ٨١] ، جملة فعلية ، لأنّ هذه الأسماء في نيّة التأخير.

وكذا نحو : «هلّا زيدا ضربته ، ويا عبد الله» ، (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) [التوبة / ٦] ، (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها) [النحل / ٥] ، (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) [الليل / ١] ، «لأنّ» صدورها في الأصل أفعال ، والتقدير هلّا ضربت زيدا ، وأدعوا عبد الله ، وإن استجارك أحد ، وخلق الأنعام ، وأقسم بالليل ، و «المقدّر كالمذكور» في الحكم.

تنبيهات : الأوّل : زاد ابن هشام في أقسام الجملة الظرفية ، وهي المصدّرة بظرف أو جارّ ومجرور نحو : أعندك زيد؟ وأ في الدار زيد؟ إذا قدّرت زيدا فاعلا بالظرف أو الجارّ والمجرور لا باستقرّ المحذوف ، ولا مبتدأ مخبر به عنهما ، وسيأتي تفصيل الأقوال في هذه المسالة في محلّه إن شاء الله. وزاد الزمخشريّ وغيره الجملة الشرطيّة ، والصواب أنّها من قبيل الفعلية لما مرّ.

الثاني : قال ابن هشام في المعنى : ما يجب على المسؤول عنه أن يفصل فيه لاحتماله الاسميّة والفعلية لاختلاف التقدير أو لاختلاف النّحويّين ، لذلك أمثلة :

__________________

(١) الحسن بن الوليد بن نصر المعروف بابن العريف النحويّ ، وكان نحويّا مقدّما فقيها في المسائل. مات سنة ٣٦٧ ه‍. بغية الوعاة ١ / ٥٢٧.

(٢) سقطت هذه الجملة في «س».

٧٤٠