الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

التعجّب

ص : فصل : فعلا التعجّب فعلان وضعا لإنشاء التعجّب ، وهما : ما أفعله وأفعل به ، ولا يبنيان إلا ممّا يبنى منه اسم التفضيل ، ويتوصّل إلى الفاقد بأشدّ وأشدد به ، ولا يتصرّف فيهما ، وما مبتدأ اتّفاقا ، وهل هي بمعنى شيء ، وما بعدها خبرها ، أو موصولة ، وما بعدها صلتها ، والخبر محذوف؟ خلاف. وما بعد الباء فاعل عند سيبويه ، وهي زائدة ، ومفعول عند الأخفش ، وهى للتّعدية ، أو زائدة.

ش : هذا فصل في الكلام على فعلى التعجّب ، وهو انفعال يحدث في النفس عند الشعور بأمر جهل سببه ، وخرج عن نظائره ، ومن ثمّ قيل : إذا ظهر السب بطل العجب ، فلا يطلق على الله تعالى أنّه متعجّب ، لأنّه سبحانه لا يخفى عليه خافية ، وما ورد منه في كلامه عزّ وجلّ كقوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) [البقرة / ١٧٥] مصروف إلى المخاطب ، أي يجب أن يتعجّب العباد منه.

أسلوبه : وللتعجّب صيغ كثيره تدلّ عليه ، فمنها ما هو بالقرينة ، نحو قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) [البقرة / ٢٨] وقوله (ع) : سبحان الله إنّ المؤمن لا ينجس (١) ، وقولهم : ناهيك به ، ولله درّه وواها له.

ومنها ما هو بالوضع ، وهو صيغتان ، يقال لهما : «فعلا التعجّب». وحدّهما المنصف (ره) بقوله : «فعلان وضعا لانشاء التعجّب» ، فخرج نحو : عجبت وتعجّبت ، لأنّها ليسا لإنشاء التعجّب بل للإخبار ، نحو : نعم الرجل زيد ، وبئس الرجل عمرو ، لأنّها وإن كانا فعلين للإنشاء فليسا لإنشاء التعجّب ، بل لإنشاء غيره ، وهو المدح والذّم ونحو : قاتله الله من شاعر ، ولا شلّ عشره (٢) ، فإنّما وإن كانا فعلين لإنشاء التعجّب ، لكن لا يدلّان عليه بالوضع بل بالقرينة.

«وهما» أي فعلا التعجّب «ما أفعله وأفعل به» ، نحو : ما أحسن زيدا وأحسن بزيد ، ولا يخفي أنّ فعلى التعجّب صارا علمين على هاتين الصيغتين بجملتها ، فالمفيد للتعجّب هو الصيغة كلّها لا الفعل فقط.

شروط الفعل الّذي يبنى منه الصيغتان القياسيتان بناء مباشرا : «ولا يبنيان إلا ممّا يبنى منه اسم التفضيل» ، وهو كلّ فعل ثلاثيّ تامّ متصرّف مثبت قابل للتفاضل مبنيّ للفاعل

__________________

(١) صحيح بخاري ، ١ / ١٨٧ ، رقم ٢٧٦.

(٢) لا شل عشره : أي أصابعه. لسان العرب ٢ / ٢٠٨٠.

٧٠١

غير مصوغ منه أفعل لغير تفضيل. فلا يبنيان من غير فعل ككلب وحمار ، فلا يقال : ما أكلبه ، ولا ما أحمره ، وشذّ ما أقمنه ، وما أجدره ، بنوا الأوّل من قولهم : هو قمن بكذا ، والثاني من قولهم : هو جدير بكذا ، والمعنى فيهما ما أحقّه بكذا.

ولا من غير ثلاثيّ ، والمراد به ما كان حروفه ثلاثة ، كما هو اصطلاح النّحويّين ، وشدّ ما أعطاه للدارهم ، وما أولاه للمعروف ، وما أتقاه ، وما أملأ القربة ، لأنّه من اتّقى بتشديد التاء ، وامتلأت ، وإن كان قد سمع تقى بمعنى خاف ، وملأ بمعنى امتلأ لندورهما ، ولا من ناقص ، ولا من جامد ، وشذّ ما أعساه وأعس به ، أي ما أحقّه وأحقق به ، ولا من منفيّ ، ولا من غير قابل للتفاضل ، ولا من مبنيّ للمفعول ، وشذّ ما أخضره من وجهين : الزيادة على الثلاثة ، والبناء للمفعول ، لأنّه من اختصر بالبناء للمفعول ، ولا من مصوغ منه أفعل لغير تفضيل من حيث أنّ كلّا منهما للمبالغة والتاكيد ، ويساويهما في الوزن.

تنبيه : قال الرضيّ : يزيد فعل التعجّب على اسم التفضيل بشرط ، وهو أنّه لا يبنى إلا ممّا وقع ، واستمرّ بخلاف التفضيل ، فإنّك تقول : أنا أضرب منك غدا ، ولا يتعجّب إلا ممّا حصل في الماضي واستمرّ ، حتّى يستحقّ أن يتعجّب منه ، أمّا الحال الّذي لم يتكامل بعد ، والمستقبل الّذي لم يدخل في الوجود ، والماضي الّذي لم يستمرّ ، فلا يستحقّ التعجّب منهما ، انتهى.

كيفية التعجّب إذا كان الفعل غير مستوف للشروط الثمانية : «ويتوصّل إلى الفاقد» بعض الشروط المذكورة ، إذا أريد التعجّب منه «بما أشدّ وأشدد» أو نحوهما ممّا مرّ ، ويجعل مصدر الفاقد منصوبا بعد «ما أشدّ» ونحوه ، ومجرورا بالباء بعد أشدد ونحوه ، فتقول في الأوّل : ما أشدّ أو أضعف دحرجته ، أو انطلاقه ، أو بياضه ، أو عرجه ، وفي الثاني أشدد بدحرجته أو بانطلاقه أو ببياضه أو بعرجه ، ويؤتي بمصدر المنفيّ والمبنيّ للمفعول غير صريح ، نحو : ما أكثر أن لا يقوم ، وما أعظم ما ضرب بالبناء للمفعول ، وأكثر بأن لا يقوم وأعظم بما ضرب ، وأمّا الفعل الناقص فإن قلنا : له مصدر ، وهو الصحيح ، أوتي به صريحا ، تقول : ما أشدّ كونه جميلا ، وأشدد بكونه جميلا ، وإن قلنا : لا مصدر له ، أوتي له بمصدر مؤوّل ، نحو : ما أكثر ما كان محسنا ، وأشدد بما كان محسنا ، وأمّا الجامد كنعم وغير القابل للتفاضل ك مات فلا يتعجّب منه ألبتّة.

تنبيه : لا يختصّ التوصّل بنحو أشدّ أو أشدد بالفاقد بعض الشروط. بل يجوز فيما استوفاه نحو : ما أشدّ ضرب زيد لعمرو ، وأشدد بضرب زيد لعمرو.

٧٠٢

«ولا يتصرّف فيهما» أي في فعلى التّعجّب المذكورين. قال ابن مالك : اتّفاقا ، ولا يرد عليه تجويز هشام أن يؤتي بمضارع ما أفعله ، فتقول : ما يحسن زيدا ، لأنّه قياس ، ولم يسمع ، فلا يقدح في الإجماع ، وعلّة جمودهما تضمّنها معنى حرف التعجّب الّذي كان يستحقّ الوضع ، ولم يوضع ، ولعدم تصرّفهما امتنع أن يتقدّم عليهما معمولهما ، وإن يفصل بينهما وبين معمولهما ، لا تقول : ما زيدا أحسن ، ولا بزيد أحسن ، وإن قيل : إنّ بزيد مفعول. وكذلك لا تقول ما أحسن يا عبد الله زيدا ، ولا أحسن يا زيد بعمرو ، ولا أحسن لو لا بخله بزيد ، واختلفوا في الفصل بظرف أو مجرور متعلّقين بالفعل.

فذهب الأخفش والمبرّد وأكثر البصريّين إلى المنع ، وذهب الفرّاء والجرميّ والمازنيّ والزجاج والفارسيّ وابن خروف والشلوبين إلى الجواز ، والصحيح لقولهم ما أحسن بالرجل أن يصدق ، وما أقبح به أن يكذب ، وقوله [من الطويل] :

٧٦٧ ـ أقيم بدار الحزم مادام حزمها

وأحر إذا حالت بأن أتحوّلا (١)

ولو تعلّق الظرف والمجرور بمعمول فعل التعجّب ، لم يجز الفصل به اتّفاقا ، كما قال ابن مالك في شرح التسهيل لا يقال : ما أحسن في المسجد معتكفا ، ولا أحسن عندك بجالس.

«وما» في ما أفعله اسم (٢) «مبتدأ اتّفاقا» ، أمّا كونه اسما فلأنّ في أفعل ضميرا يعود عليها ، والضمير لا يعود إلا على الأسماء ، وأمّا كونه مبتدأ ، فلأنّها مجرّدة عن العوامل اللفظيّة للإسناد إليها. قيل : وما روي عن الكسائيّ من أنّها لا موضع لها من الإعراب فشاذّ ، ولا يقدح في الأجماع.

«وهل هي» نكرة تامّة «بمعنى شيء»؟ وابتدأ بها لتضمّنها معنى التعجّب أو للابهام ، وما بعدها خبرها فموضعه رفع «أو» هي «موصولة» بمعنى الّذي فهي مبتدأ «وما بعدها صلتها» فلا محلّ له من الإعراب «والخبر محذوف» وجوبا ، فتقدير ما أحسن زيدا الّذي ، أحسن زيدا شيء عظيم ، فيه «خلاف».

قال سيبويه والجمهور بالأوّل ، والأخفش بالثاني ، وله قول آخر بأنّها نكرة ، موصوفة وما بعدها صفتها ، والخبر محذوف وجوبا ، والتقدير شي أحسن زيدا عظيم ، وردّ قولاه ، بأنّ فيه التزام حذف الخبر دون شيء يسدّ مسدّه (٣) ، ولا نظير له.

__________________

(١) هو لأوس بن حجر.

(٢) سقط اسم في «ح».

(٣) دون شيء مسدّه «ح».

٧٠٣

وقال الفرّاء وابن درستويه : هي استفهاميّة ، دخلها معنى التعجّب ، وما بعدها خبرها ، وردّ بأنّ مثل ذلك لا يليه غالبا إلا الأسماء ، نحو : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) [الواقعة / ٨] ، وما ملازمة للفعل. ونقل ابن مالك هذا القول في شرح التسهيل عن الكوفيّين ، وهو موافق لقولهم باسميّة أفعل.

والأصحّ ما ذهب إليه سيبويه والجمهور ، لأنّ قصد المتعجّب الإعلام بأنّ المتعجّب منه ذو مزيّة ، إدراكها جليّ ، وسبب الاختصاص بها خفيّ ، فاستحقّت الجملة المعبّر بها عن ذلك أن تفتتح بنكرة غير مختصّة ، ليحصل بذلك إبهام متلوّ بإفهام ، ولا ريب أنّ الإفهام حاصل بإيقاع أفعل على المتعجّب منه ، إذ لا يكون إلا مختصّا ، فتعيّن كون الباقي وهو ما مقتضيا للإبهام.

«وما بعد الباء» من أفعل به «فاعل» لأفعل «عند سيبويه» وجمهور البصريّين «والباء زائدة» قالوا : إنّ أفعل لفظه الأمر ، ومعناه الخبر ، وهو في الأصل فعل ماض على صيغة أفعل بفتح العين بمعنى صار ذا كذا ، كما قالوا : أورق الشجر ، وأزهر النبات ، وأغدّ البعير ، بمعنى صار ذا ورق وذا زهر وذا غدّة ، ثمّ غيّرت الصيغة الماضويّة إلى صيغة الأمر لأجل المبالغة ، يقولون : كن ما شئت ، إذا أرادوا المبالغة ، فقبح إسناد صيغة الأمر إلى الاسم الظاهر ، فزيدت الباء في الفاعل لإصلاح اللفظ بصيرورته على صورة المفعول به المجرور بالباء كامرر بزيد ، وبذلك زيادتها بخلافها في نحو : (كَفى بِاللهِ) [الفتح / ٢٨] فيجوز تركها لعدم القبح. وضعف هذا القول من أوجه :

أحدها : استعمال أفعل للصيرورة قياسا ، وليس بقياس.

الثاني : وقوع الظاهر فاعلا لصيغة الأمر بغير لام ولم يسمع.

الثالث : زيادة الباء في الفاعل ، وهو قليل ، وإنّما المطّرد عكسه.

الرابع : جعل الأمر بمعنى الماضي ولم يعهد ، وإنّما المعهود عكسه ، نحو : اتقى الله امرء فعل خيرا يثب عليه ، أي ليتّق.

وما بعد الباء «مفعول به عند الأخفش» وجماعة من الكوفيّين والبصريّين.

وهي أي الباء للتعدية أو زائدة في المفعول به كما في قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة / ١٩٥] ، ومبني هذين الوجهين على أنّ الهمزة في أفعل للتعدية أو للصيرورة ، فإن كانت للتعدية ، وهو الأولى لقلّة همزة الصيرورة ، فالياء زائدة ، ولا يجوز أن تكون للتعدية ، وإلا اجتمع حرفا تعدية.

فعلى هذا يكون أحسن ، من قولك : أحسن بزيد ، أمرا من أحسنت زيدا ، أي جعلته حسنا ، ثمّ زيدت الباء ، فقيل : أحسن بزيد ، وإن كانت للصيرورة ، كما أجازه الزجاج ،

٧٠٤

فالباء للتعدية ، والأصل أحسن زيد ، أي صار ذا حسن ، ثمّ جئ بباء التعدية ، فقيل : أحسنت بزيد ، أي جعلته صائرا ذا حسن ، فمعنى الأمر من ذلك صيّر زيدا صائرا ذا حسن ، فالتصير مستفاد من باء التعدية ، وكونه صائرا ذا كذا مستفاد من صيغة أفعل الّتي همزتها بمعنى الصيرورة. وأفعل على هذا القول أعني كون ما بعد الباء مفعولا به أمر حقيقة ، لا بمعنى الماضي كما قال سيبويه.

وفيه ضمير كما في كلّ مثال أمر ، واختلف في مرجعه ، فقال ابن كيسان من الكوفيّين : الضمير للحسن المدلول عليه بأحسن ، كأنّه قيل : أحسن يا حسن بزيد ، أي دم به ، ولذلك كان الضمير مفردا على كلّ حال. قال الرضيّ : وفيه تكلّف وسماجة ، وأيضا نحن نقول : أحسن بزيد يا عمرو ، ولا يخاطب شيئان في حالة واحدة ، إلا أن يقول معنى خطاب الحسن قد انمحّي.

وقال الفرّاء من الكوفيّين والزجاج من البصريّين وابن خروف والزمخشريّ من المتأخرى ن : الضمير للمخاطب ، أي أمر لكلّ أحد بأن يجعل زيدا حسنا ، أي يصفه بالحسن ، فكأنّه قيل : صفه بالحسن كيف شئت ، فإنّ فيه منه كلّ ما يمكن أن يكون في شخص كما قال [من البسيط] :

٧٦٨ ـ وقد وجدت مكان القولي ذا سعة

فإن وجدت لسانا قائلا فقل (١)

قال الرضيّ : وهذا معنى مناسب للتعجّب بخلاف تقدير سيبويه ، وإنّما التزم إفراد الضمير على هذا القول ، لأنّه كلام جرى مجرى المثل ، والأمثال لا تغيّر كما تقدّم.

تنبيهات : الأوّل : ما ذكره المصنّف من أنّ أفعل بفتح العين وأفعل بكسرها فعلان ، هو الصحيح ، أمّا أفعل بكسر العين فأجمعوا على فعليته ، وشذّ ما ذهب إليه ابن الأنباريّ ، فقال : إنّه اسم. قال المراديّ : ولا وجه له ، وأمّا أفعل بفتح العين فالقول بفعليته مذهب البصريّين والكسائيّ من الكوفيّين للزومه مع ياء المتكلّم نون الوقاية ، نحو : ما أفقرني إلى رحمة الله ، ففتحته بناء كالفتحة في زيد ضرب عمرا ، وما بعده مفعول به وقال بقية الكوفيّين : هو اسم لقول العرب : ما أحيسنه وما أميلحه ، والتصغير من خصائص الأسماء.

وأجيب بأنّه شاذّ ، وقد مرّ الكلام على ذلك في أوّل الكتاب وعلى قولهم : ففتحته إعراب كالفتحة في زيد عندك ، وذلك لأنّ مخالفة الخبر للمبتدأ (٢) مقتض عندهم نصبه ، و

__________________

(١) البيت للمتنبي.

(٢) للانشاء «ح».

٧٠٥

أفعل إنّما هو في المعنى وصف لزيد لا لضمير ما ، وزيدا عندهم مشبّه بالمفعول به ، ولأنّ ناصبه وصف قاصر ، فاشبه قولك : زيد حسن الوجه ، بالنصب.

الثاني : ربّما يتوهّم من قولهم : وأفعل به ، لزوم الإتيان بالباء الزائدة مطلقا ، وليس مرادا. قال ابن هشام في حواشي التسهيل : يجوز حذف الباء إن كان المتعجّب منه أن المصدريّة وصلتها كقوله [من الطويل] :

٧٦٩ ـ ...

وأحبب إلينا أن نكون المقدّما (١)

أي بأن تكون دون أنّ المشدّدة وصلتها لعدم السماع ، فهذا حكم اختصّت به أن عن ان ، ونظيره عسى أن يقوم ، انتهى.

وفي الإرتشاف أنّ الباء زائدة لازمة إلا مع أن وصلتها ، فجاز حذفها ، وفي النهاية لا يجوز حذف الباء من أن وأنّ في التعجّب ، وفي شعر شريف الموسوي (٢) (ره) إسقاطها ، قال [من الكامل] :

٧٧٠ ـ أهون عليك إذا امتلأت من الكرى

إنّي أبيت بليلة الملسوع (٣)

انتهى.

وفي الهمع : ويجاء بعد أفعل بباء زائدة لازمة ، لا يجوز حذفها ، وقيل : يجوز حذفها مع أن وأنّ المصدريّتين ، فيحصل من هذه النقول في المسالة ثلاثه أقوال : جواز حذف الباء مطلقا ، ومنعه مطلقا ، وعليه صاحب النهاية والهمع ، والتفصيل وعليه الشيخان ابن مالك وابن هشام.

الثالث : لا يتعجّب إلا من معرفة أو نكرة مختصّة ، نحو : ما أحسن زيدا ، أو ما أسعد رجلا اتّقي الله ، لأنّ المتعجّب منه مخبر عنه في المعنى ، فلا يقال ما أسعد رجلا من الناس ، لأنّه لا فائدة في ذلك ، قاله في التصريح وغيره.

الرابع : لا يتعيّن ذكر المتعجّب منه ، بل يجوز حذفه في مثل ما أحيسنه ، إذا دلّ عليه دليل كقول علي (ع) [من الطويل] :

٧٧١ ـ جزى الله عنّي والجزاء بفضله

ربيعة ما أعفّ وأكرما (٤)

__________________

(١) صدره «وقال نبيّ المسلمين تقدّموا» ، وهو لعباس بن مرداس.

(٢) هو الشريف الرضي ولد في بغداد سنة ٣٥٩ ه‍. من أصل يرتقي إلى الحسين (ع) وقد توّلي نفابة الأشراف والطالبيين وأمارة الحج. له ديوان شعر وجمع نهج البلاغه ، وقد توفّي سنة ٤٠٦ ه‍ .. الجامع في تاريخ الأدب العربي ١ / ٨٣٢.

(٣) الكرى : النعاس.

(٤) ليس هذا البيت في الديوان المنسوب إلى الإمام علي (ع) بل قد جاء في الديوان.

جزي الله قوما قاتلوا في لقائهم

لدي البأس خيرا ما أعفّ وأكرما

ربيعة أعني إنّهم أهل نجدة

وبأس إذا لاقوا خميسا عرمرما

ديوان الامام علي (ع) ص ١٣٥.

٧٠٦

أي ما أعفّها وأكرمها.

وفي المثل أفعل به ، إن كان أفعل معطوفا على آخر مذكور معه مثل ذلك المحذوف نحو : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) [مريم / ٣٨] ، وقوله [من الرجز] :

٧٧٢ ـ أعزز بنا وأكف إن دعينا

يوما إلى نصرة من يلينا (١)

أي وأكف بنا. وأمّا قوله [من الطويل] :

٧٧٣ ـ فذلك إن يلق المنيّة يلقها

حميدا وإن يستغن يوما فأجدر (٢)

فشاذّ.

وإنّما جاز حذفه مع كونه فاعلا عند سيبويه ، والفاعل لا يحذف ، لأنّه بملازمتة الجرّ وبكون الفعل الّذي قبله في صورة ما فاعله مضمر ، والجارّ والمجرور بعده مفعول أشبه الفضلة ، فجاز حذفه اكتفاء بما تقدّم. وذهب الفارسيّ وجماعة إلى أنّه لم يحذف ، ولكنّه استتر في الفعل حين حذفت الباء كما في قولك : زيد كفى به كاتبا ، زيد كفى كاتبا ، وردّه ابن مالك بلزوم إبرازه حينئذ في التثنية والجمع ، وإنّ من الضمائر ما لا يقبل الاستتار ، ك نا من أكرم بنا.

الخامس : زاد بعضهم في التعجّب صيغة ثالثه ، وهي فعل بضمّ العين ، نحو : (كَبُرَتْ كَلِمَةً) [الكهف / ٥] ، وزاد الكوفيّون رابعة ، وهي أفعل بغير ما ، فأجازوا تحويل الثلاثيّ إلى صيغة أفعل ، فتقول : أحسنت رجلا ، واكرمت رجلا ، بمعنى ما أحسنك رجلا ، وما أكرمك ، وزاد بعضهم اسم التفضيل متمسّكا بقول سيبويه : إنّ أفعل وما أفعله وأفعل به في معنى واحد ، قاله في التصريح.

__________________

(١) لم أقف على قائل البيت.

(٢) هو لعروة بن الورد ، الملقّب بعروة الصعإليك. اللغة : المنيّة : الموت.

٧٠٧

أفعال القلوب

ص : فصل : أفعال القلوب : أفعال تدخل على الاسمية لبيان ما نشأت منه من ظنّ أو يقين. وتنصب المبتدأ والخبر مفعولين ، ولا يجوز حذف أحدهما وحده ، وهي : «وجد» و «ألفى» لتيقّن الخبر ، نحو : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ ،) و «جعل» و «زعم» لظنّه ، نحو : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً ،) و «ظنّ» و «خال» و «حسب» لهما ، والغالب فيها الظّنّ ، نحو : حسبت زيدا قائما.

مسألة : وإذا توسّطت بين المبتدإ والخبر ، أو تأخّرت ، جاز إبطال عملها لفظا ومحلّا ، ويسمّى «الإلغاء» نحو : زيد علمت قائم ، وزيد قائم علمت ، وإذا دخلت على الاستفهام أو النّفي أو اللّام أو القسم وجب إبطال عملها لفظا فقط ، ويسمّى «التعليق» ، نحو : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى ،) وعلمت لزيد قائم.

ش : هذا فصل في الكلام على «أفعال القلوب» ، وسمّيت بذلك ، لأنّ معانيها قائمة بالقلب ، وتسمّي أيضا أفعال الشّكّ واليقين ، واليقين هو التصديق الجازم المطابق الثابت ، قال بعضهم : وكأنّهم أرادوا بالشك الظّنّ ، وإلا فلا شيء منها بمعنى الشكّ المقتضي تساوي الطرفين ، وردّ بأنّه من خلط اللغة باصطلاح الميزانيين ، وإلا ففي اللغة الشكّ خلاف اليقين.

«أفعال تدخل على الجملة الاسمية لبيان ما نشأت» تلك الجملة «منه من ظنّ أو يقين» ، كما إذا قلت : ظننت زيدا قائما ، فقولك : علمت لبيان أنّ ما نشأت الجملة عنه ، حين تكلّمت بها ، وأخبرت بها عن قيام زيد إنّما هو الظنّ. وإذا قلت : علمت زيدا قائما ، فقولك : علمت لبيان أنّ منشأ الإخبار بهذه الجملة هو العلم ، وكذلك بواقي الأفعال ، والحاصل أنّ المقصود بالإفادة معاني هذه الأفعال لا الجملة الداخلة عليها ، وتلك الجملة فضلة متعلّقة بمعاني تلك الأفعال بخلاف الأفعال الناقصة ، فإنّ المقصود بالإفادة الجملة المدخولة لها.

وتنصب المبتدأ والخبر مفعولين ، فما كان مبتدأ يصير مفعولا أوّلا ، وما كان خبرا يصير مفعولا ثانيا ، نحو : حسبت زيدا قائما ، هذا مذهب الجمهور ، وذهب السهيليّ إلى أنّ المفعولين في باب ظنّ ليس أصلهما المبتدأ والخبر ، بل هما كمفعولي أعطى ، في أنّ الفعل استعمل معهما ابتداء ، قال : والّذي حمل النّحويّين على القول بدخول هذه الأفعال على المبتدإ والخبر أنّهم رأوا أنّه يجوز أن يكون من مفعوليها مبتدأ وخبر ، قال : وهذا باطل بدليل أنّك تقول : ظننت زيدا عمرا ، ولا تقول : زيد عمرو إلا على وجه التشبيه ، وأنت لم ترد ذلك مع ظننت ، إذ القصد أنّك ظننت زيدا عمرا نفسه لا شبه

٧٠٨

عمرو (١). وقال أبو حيّان : الصحيح قول النّحويّين ، وليس دليلهم ما توهّمه ، بل دليلهم رجوع المفعولين إلى المبتدإ والخبر ، إذا ألغيت هذه الأفعال ، انتهى ، فتدبّر.

قال بعضهم : وقد يقال معنى قول النحاة : إنّها تدخل على المبتدإ والخبر أنّها تدخل عليهما في الجملة ، لا أنّها لا تدخل إلا عليهما ، فلا يرد حينئذ ظننت زيدا عمرا وأمثاله ، ثمّ إنّ ما نقل عن السهيليّ مشكل ، كيف؟ وشواهد الدخول عليهما أكثر من أن تحصر ، وأشهر من أن تذكر ، وذهب الفرّاء إلى أنّ الثاني منصوب على التشبيه بالحال مستدلّا بوقوعه جملة وظرفا وجارّا ومجرورا ، وعورض بوقوعه معرفة وضميرا وجامدا ، وبأنّه لا يتمّ الكلام بدونه.

حذف المفعولين أو أحدهما : «ولا يجوز حذف أحدهما» أي المفعولين «وحده» اقتصارا بالاتّفاق ، لأنّ أصلهما المبتدأ والخبر ، فكما لا يجوز أن يؤتى بمبتدإ دون خبر ، ولا بخبر دون مبتدإ قبل دخول الناسخ ، فكذلك بعده ، وأمّا حذفه اختصارا فأجازه الجمهور ، ومنعه طائفة ، منهم ابن الحاجب.

وصححّه ابن عصفور وأبو إسحاق بن ملكون ، وهو قضية إطلاق المصنّف ، وحجّتهم أنّ المفعول في هذا الباب مطلوب من جهتين : من جهة العامل فيه ، ومن جهة كونه أحد جزئي الجملة ، فلمّا تكرّر طلبه إمتنع حذفه ، كذا قالوا ، وما قالوه منتقض بخبر كان ، فإنّه مطلوب من جهتين ، ولا خلاف في جواز حذفه اختصارا ، وقد ورد السماع هنا بالحذف ، قال تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) [آل عمران / ١٨٠] ، أي بخلهم ، فحذف المفعول الأوّل ، وكقوله [من الكامل] :

٧٧٤ ـ ولقد نزلت فلا تظنّي غيره

منّي بمنزلة المحبّ المكرم (٢)

أي فلا تظنّي غيره واقعا ، فحذف المفعول الثاني.

وأمّا حذفهما معا اختصارا فجائز بالإجماع ، نحو : (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [القصص / ٦٢]. وقوله [من الطويل] :

٧٧٥ ـ بأيّ كتاب أم بأيّة سنّة

ترى حبّهم عارا على وتحسب (٣)

__________________

(١) في «ح» من إلا على وجه التشبيه حتّى هنا محذوف.

(٢) هو لعنترة بن شدّاد العبسي. اللغة : المحبّ : اسم المفعول من أحبّ ، وهو القياس ، ولكنّه قليل في الاستعمال ، والأكثر أن يقال في اسم المفعول : المحبوب ، أو الحبيب ، مع أنّهم هجروا الفعل الثاني ، وفي اسم الفاعل قالوا : محبّ ، من الفعل المستعمل الّذي هو المزيد فيه. لسان العرب ١ / ٧١٣.

(٣) هو للكميت.

٧٠٩

أي تزعمونهم شركاء ، وتحسبه عارا على.

وأما حذفها اقتصارا فاختلفوا فيه على أقوال :

أحدها : المنع مطلقا ، وعليه الأخفش والجرميّ وابن خروف وشيخه ابن طاهر والشلوبين ، ونسبه ابن مالك لسيبويه لعدم الفائدة ، إذ لا يخلو الانسان من ظنّ ما أو علم ما ، فاشبه قولك : النار حارّة.

الثاني : الجواز مطلقا ، وعليه أكثر النّحويّين ، منهم ابن السّراج والسيرافيّ ، وصحّحه ابن عصفور لوروده ، قال تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة / ٢١٦] ، و (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) [النجم / ٣٥] ، أي يعلم ، وقال تعالى : (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) [الفتح / ١٢] ، وحكى سيبويه : من يسمع يخل ، وما ذكر من عدم الفاعدة ممنوع لحصولها بالإسناد إلى الفاعل.

الثالث : الجواز في أفعال الظّنّ دون أفعال العلم ، وعليه الأعلم ، واستدلّ بحصول الفائدة في الأوّل دون الثاني ، فإنّ الإنسان قد يخلو من الظّنّ ، فيفيد قوله : ظننت أنّه وقع منه ظّن ، ولا يخلو من علم ، إذ له أشياء يعلمها ضرورة كعلمه أنّ الاثنين أكثر من الواحد ، فلم يفد قوله : علمت شيئا ، وردّ بأنّه يفيد وقوع علم ما لم يكن يعلم.

الرابع : المنع قياسا ، والجواز في بعضها سماعا ، وعليه أبو العلاء إدريس (١) ، فيجوز في ظنّ وخال وحسب لوروده فيها ، ويمنع في الباقي ، ونسبه لسيبويه.

تنبيه : جرت عادة النّحويّين أن يقولوا بحذف المفعول اختصارا أو اقتصارا ، ويريدون بالاختصار الحذف لدليل ، وبالاقتصار الحذف لغير دليل ، ويمثّلونه بنحو : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) [البقرة / ٦٠] ، أي أوقعوا هذين الفعلين ، وقول العرب : من يسمع يخل ، أي يقع منه خيلة ، والتحقيق أن يقال : إنّه تارة يتعلّق الغرض بالإعلام بمجرّد وقوع الفعل من غير تعيين من أوقعه ، أو من أوقع عليه ، فيجاء بمصدره مسندا إلى فعل كون عامّ ، فيقال : حصل حريق أو نهب ، وتارة يتعلّق بالإعلام بمجرّد إيقاع الفاعل للفعل ، فيقتصر عليها ، ولا يذكر المفعول ، ولا ينوى ، إذ المنوي كالثابت.

ولا يسمّى محذوفا ، لأنّ الفعل ينزّل بهذا القصد مترلة ما لا مفعول له ، ومنه : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة / ٢٥٨] ، إذ المعنى ربّي الّذي يفعل الإحياء والإماتة. وتارة يقصد إسناد الفعل إلى فاعله وتعليقه بمفعوله ، فيذكر أنّ نحو : ما أحسن زيدا ، وهذا النوع الّذي إذا لم يذكر مفعوله قبل محذوف ، قاله في المغني.

__________________

(١) إدريس بن محمد بن موسى الأنصاريّ القرطبيّ أبو العلا ، نحويّ أديب ، مات سنة ٦٧٤ ه‍. بغية الوعاة ١ / ٤٣٦.

٧١٠

ألفاظ أفعال القلوب : «وهي» أي أفعال القلوب «وجد» كوعد ، ومصدرها وجدان عن الأخفش ، ووجود عن السيرافيّ ، «وألفي» أثبتها الكوفيّون وابن مالك احتجاجا بقوله [من البسيط] :

٧٧٦ ـ قد جرّبوه فألفوه المغيّث إذا

 ... (١)

وأنكرها البصريّون وابن عصفور ، وقالوا : المنصوب ثانيا حال ، وتأوّلوا البيت بزيادة اللام ، وليس بشئ ، إذ التاويل خلاف الأصل ، فالصحيح قول الكوفيّين. وهما لتيقّن الخبر ، أي تفيدان في الخبر يقينا ، نحو قوله تعالى : (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) [الأعراف / ١٠٢] ، وقوله : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ) [الصافات / ٦٩]. وعدّ غيره بمعناها فعلين أخرى ن :

أحدهما : تعلّم بمعنى اعلم كقوله [من الطويل] :

٧٧٧ ـ تعلّم شفاء النفس قهر عدوّها

 ... (٢)

قال ابن مالك : وهي جامدة ، لا يستعمل منها إلا الأمر. قاله أبو حيّان وتابع فيه الأعلم ، وليس بصحيح ، لأنّ يعقوب حكي : تعلّمت فلانا خارجا بمعنى علمت ، وقد يجاب بأنّه نادر ، والغالب فيها وقوعها على أنّ وصلتها كقوله [من الطويل] :

٧٧٨ ـ تعلّم رسول الله أنّك مدركي

 ... (٣)

وأما إذا كانت بمعنى تكلّف العلم ، فإنّها يتعدّى إلى واحد ، نحو : تعلّم المسالة ، وهي متصرّف بلا خلاف.

الثاني : درى في لغة ، كقوله [من الطويل] :

٧٧٩ ـ دريت الوفيّ العهد يا عرو فأغتبط

فإنّ اغتباطا بالوفاء حميد (٤)

والغالب فيها أن تتعدّى إلى واحد بالباء نحو : دريت بكذا ، فإذا دخلت عليها الهمزة تعدّت لآخر بنفسها ، نحو : ولا أدريكم.

قال أبو حيّان : عدّ درى من أفعال هذا الباب الكوفيّون وابن مالك ، وأنكرها البصريّون ، ولعلّ البيت من باب التضمين ، ضمّن دريت معنى علمت والتضمين

__________________

(١) تمامه «ما الروع عمّ فلا يلوي على أحد» ، ولم يسمّ القائل. اللغة : الروع : الفزع.

(٢) تمامه «فبالغ بلطف في التحيّل والمكر» ، وهو لزياد بن سيّار. اللغة : القهر : الغلبة ، التحيّل : استعمال الحيلة.

(٣) تمامه «وأنّ وعيدا منك كالأخذ باليد» ، وهو لأسيد بن أبي إياس الهذليّ ، أو لمسارية بن زنيم.

(٤) لم ينسب البيت إلى قائل معيّن. اللغة : اغتبط : أمر من الغبطة ، وهي أن تتمنّى مثل حال الغير من غير أن تتمنّى زوال حاله عنه.

٧١١

لا ينقاس ، ولا ينبغي أن يجعل أصلا حتّى يكثر ، ولا يثبت ذلك ببيت نادر محتمل للتضمين (١) ، انتهى.

«وجعل وزعم» بفتح العين ، ومصدرها زعم ـ مثلث الزاء ـ وهما «لظّنه» أي يفيدان في الخبر ظنّا ، نحو قوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف / ١٩] ، وقال الشاعر [من الخفيف] :

٧٨٠ ـ زعمتني شيخا ولست بشيخ

إنّما الشيخ من يدبّ دبيبا (٢)

والأكثر وقوعها على أن وأنّ وصلتهما ، فتسدّ مسدّ مفعوليهما كما قال سيبويه والجمهور خلافا للأخفش ، حيث زعم أنّ المفعول الثاني محذوف ، وقول بعضهم : إنّ الخبر محذوف سهو ، نحو : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) [التغابن / ٧] ، وقول الشاعر [من الطويل] :

٧٨١ ـ وقد زعمت أنّي تغيّرت بعدها

ومن ذا الّذي يا عزّ لا يتغيّر (٣)

وقد يستعمل لليقين ، نحو : الله موف للناس ما زعموا ، ذكره الرضيّ ، وعبّر عنه بالتحقيق. قال السيرافيّ : والزعم قول يقترن به الاعتقاد ، صحّ أو لم يصحّ. وقال ابن دريد : أكثر ما يقع على الباطل ، وفي الإيضاح زعم بمعنى علم في قول سيبويه. وقال غيره يكون بمعنى اعتقد ، فقد يكون علما ، وقد يكون تقليدا ، ويكون أيضا ظنّا غالبا ، وقيل : يكون بمعنى الكذب قاله في الهمع.

وعدّ جماعة بمعناهما ثلاثة أفعال أخر :

أحدها : حجا والمضارع يحجو كقوله [من البسيط] :

٧٨٢ ـ قد كنت أحجو أبا عمر وأخا ثقة

حتّى ألمّت بنا يوما ملمّات (٤)

الثاني : عدّ ، أثبتها الكوفيّون وبعض البصرية ، ووافقهم ابن أبي الربيع وابن مالك ، كقوله [من الطويل] :

٧٨٣ ـ فلا تعدد المولى شريكك في الغني

ولكنّما المولى شريكك في العدم (٥)

أي لا تظنّ ، وأنكرها أكثرهم.

الثالث : هب ، أثبتها الكوفيّون وابن مالك ، كقوله [من المتقارب] :

__________________

(١) من باب التضمين حتّى هنا محذوف في «س».

(٢) البيت لأبي أميه أوس الحنفي. اللغة : يدبّ : يمشي مشيا رويدا.

(٣) البيت لكثير عزّة.

(٤) نسب هذا البيت إلى تميم بن مقبل ، وإلى أبي شنبل الأعربي. اللغة : أحجو : أظنّ ، ألمّت : نزلت ، الملمات : جمع ملمّة ، وهي النازلة من نوازل الدهر.

(٥) البيت للنعمان بن بشير. اللغة : لا تعدد : لا تظنّ ، المولى : هنا بمعنى الحليف أو الناصر ، العدم : الفقر.

٧١٢

٧٨٤ ـ فقلت أجرني أبا مالك

وإلا فهبني امرء مالكا (١)

وهي جامدة ، ولم تستعمل فيما سوي الأمر ، والغالب تعديتها إلى صريح المفعولين كما في البيت ، ووقوعها على أن وصلتها نادر ، حتّى زعم الحريريّ أنّ قول الخواصّ : هب أنّ زيد قائم لحن. قال ابن هشام ، وذهل عن قول القائل : هب أنّ أبانا كان حمارا ونحوه.

وأنكر البصريّون تعديتها إلى مفعولين ، واضطرب فيها ابن عصفور ، فمرّة قال :

يتعدّى إلى واحد بدليل تنكير الثاني ، ومرّة قال يتعدّى إلى اثنين بدليل مجيئه معرفة ونكرة. إلا أنّه جعله أمرا من وهب الّتي بمعنى صيّر.

«وعلم ورأى» وهما «للأمرين» أي الظنّ واليقين و «الغالب» منهما «اليقين» ، نحو قوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمد / ١٩] ، (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) [الممتحنة / ١٠] ، فالأولى لليقين ، والثانية للظّنّ ، وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً* وَنَراهُ قَرِيباً) [المعارج / ٧ و ٨] الأولى للظّنّ ، والثانية لليقين.

«وظنّ وخال وحسب لهما» ، أي للأمرين الظّنّ واليقين «والغالب فيها الظنّ» وهو في ظنّ نحو قوله تعالى : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية / ٣٢] ، وقول الشاعر [من الطويل] :

٧٨٥ ـ ظننتك إن شبّت لظى الحرب صاليا

فعرّدت فيمن كان عنها معرّدا (٢)

واليقين فيها نحو : (يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة / ٤٦] وما أحسن قول بعض الأدباء يرثي المعظم عيسى [من الرجز] :

٧٨٦ ـ أظنّ قد مات النّدي

والظنّ قد يأتي بمعنى اليقين (٣)

والظّنّ في خال كقوله [من الطويل] :

٧٨٧ ـ إخالك إن لم تغضض الطّرف ذا هوي

يسومك ما لا يستطاع من الوجد (٤)

واليقين فيها نحو قوله [من المنسرح] :

٧٨٨ ـ ما خلتني زلت بعدكم ضمنا

أشكو إليكم حموّة الألم (٥)

__________________

(١) البيت لابن همام السلولي. اللغة : أجرني : اتّخذني جارا تدفع عنه وتحميه ، هبني : عدني واحسبني.

(٢) لم ينسب البيت إلى قائل معين. اللغة : شبّت : توقّدت ، الظى. الالتهاب ، صاليا : محترقا ، عرّدت : هربت.

(٣) اللغة : الندى : الجود والسخاوة والخير.

(٤) البيت مجهول القائل. اللغة : إخال : أظن والقياس أخال ، ولكن بكسر الألف أفصح وأكثر استعمالا ، تغضض الطرف : تخفضه استحياء وخزيا ، يسوم : يذهب حيث يشاء ، الوجد : السرور.

(٥) لم يعيّن قائله. اللغة : حموة الألم : سورته.

٧١٣

والظنّ في حسب نحو قولك : «حسبت زيدا قائما» ، أي ظننته قائما ، وقول الشاعر [من الطويل] :

٧٨٩ ـ وكنّا حسبنا كلّ بيضاء شحمة

ليالي لا قينا جذام وحميرا (١)

واليقين فيها نحو قوله [من الطويل] :

٧٩٠ ـ حسبت التقى والجود خير تجارة

رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا (٢)

تنبيهات : الأوّل : تأتي وجد بمعنى حزن وحقد ، فلا يتعدّى بنفسها نحو : وجدت على الميّت ، أي حزنت عليه ، ووجدت على المسيء ، أي حقدت عليه ، ويختلفان في المصدر ، فمصدر الأولى وجد ، والثانية موجدة. (٣)

وترد علم بمعنى عرف ، ورأي بمعنى ذهب من المراي أي المذهب ، وظنّ بمعنى اتّهم ، وحجا بمعنى نوي وقصد ، فيتعدّين إلى واحد ، نحو : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) [النحل / ٧٨]. وتقول : رأي أبو حنيفه حلّ كذا ، ورأى الشافعيّ حرمته ، وفقد لي مال فظننت زيدا ، أي اتّهمته ، ومنه : وما هو على الغيب بظنين [التكوير / ٢٤] ، أي بمتّهم على الغيب. وأمّا من قرأ بالضاد فالمعنى ما هو ببخيل ، وتقول : حجوت بيت الله ، أي نويته ، وقصدته.

وإنّما لم يحترز المصنّف عن هذه الأفعال ، وإن كان يشملها قولنا أفعال القلوب ، لأنّ معانيها قائمة بالقلب لعدم دخولها في الحدّ المقدّم ذكره.

الفرق بين علم وعرف : وتأتي هذه الأفعال وبقية أفعال الباب لمعان أخر غير قلبيّة ، فلا تتعدّي لمفعولين ، ولا حاجه إلى الاحتراز عنها ، لأنّها لم يشملها قولنا : أفعال القلوب ، فإن قلت قولك : ترد علم بمعنى عرف ، فتعدّى إلى واحد يفهم أنّ بين علم المتقدّمة وهذه فرقا ، فما الفرق بينهما؟

قلت : فرّق بينهما ابن الحاجب بأنّ قولك : علمت الشيء بمعنى عرفته ، لا يقتضي إلا متعلّقا واحدا ، لأنّ معناه : عرفت الشيء في نفسه ، ومعنى علمت زيدا قائما ، عرفته باعتبار كونه على صفة ، وخالفه الرضيّ ، فقال : لا يتوهّم أنّ بين علمت وعرفت فرقا معنويّا كما قال بعضهم ، فإنّ معنى علمت أنّ زيدا قائم ، وعرفت أن زيدا قائم واحد ، إلا أنّ عرفت لا تنصب جزئي الاسمية ، كما تنصبها علم لا لفرق معنويّ بينهما ، بل هو

__________________

(١) هو لزفر بن حارث الكلابي. اللغة : كلّ بيضاء شحمة : مثل للعرب يقول : ما كلّ بيضاء شحمة ولا كلّ سوداء تمرة.

(٢) هو للبيد بن ربيعة. اللغة : ثاقلا : ميتا.

(٣) سقطت هذه الفقرة في «س».

٧١٤

موكول إلى الاختيار العرب ، فإنّهم قد يخصّون إحدى المتساويين بحكم لفظيّ دون الآخر ، انتهى.

قال بعضهم : وهذا بناء على أنّ العلم والمعرفة مترادفان ، وهو قول بعض أهل الأصول والميزان ، ولبعضهم قول آخر : وهو أنّ العلم يتعلّق بالكليّات والمركّبات ، والمعرفة تتعلّق بالجزئيّات والبسائط. قال في شرح المطالع (١) : ومن هنا تسمع النّحويّين يقولون : علم يتعدّى إلى مفعولين ، وعرف يتعدّى إلى واحد ، فتأمّله ، انتهى.

الثاني : ألحقوا رأي الحلمية برأي العلمية في التعدّي لاثنين بجامع إدراك الحس الباطنيّ كقوله [من الوافر] :

٧٩١ ـ أراهم رفقتي حتّى إذا ما

تجافى الليل وانخزل انخزالا (٢)

فهم مفعول أوّل ، ورفقني بضمّ الرّاء المهملة وكسرها مفعول ثان.

ومصدرها الرويا ، نحو : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) [يوسف / ١٠٠] ، قال ابن هشام في التوضيح (٣) : ولا يختصّ الرويا بمصدر الحلميّة ، بل قد يقع مصدرا للبصريّة خلافا للحريريّ وابن مالك بدليل : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) [الإسراء / ٦٠] ، قال ابن عباس : هي رؤيا عين ، انتهى.

ثمّ القول بأنّ رأي الحلميّة ملحقة برأي العلميّة هو المشهور في كلامهم ، وقال بعض المتأخرين : الأحسن أن يقال : رأى الحلميّة ملحقة برأى الظنّيّة ، لأنّ ما يرى في النوم أشبه بالظّنّ منه بالعلم ، انتهى ، فتدّبر.

الإلغاء : «وإذا توسّطت» أفعال القلوب سوي هب وتعلّم لعدم تصرّفها «بين المبتدإ والخبر ، أو تأخّرت» عنها «جاز» أي لا يمتنع ، ولا يجب إبطال عملها لفظا ومحلّا لاستقلال الجزئين كلاما ، فيمتنعان عن التأثّر عند ضعف العامل بالتأخّر عن كليهما أو أحدهما ، ويمكن أن يؤثّر فيهما العامل لقوّته ذاتا ، فيجوز «الوجهان ويسمّى» هذا الحكم ، وهو إبطال عملها لفظا ومحلّا «إلإلغاء». ووجه التسمية ظاهر ، «نحو : زيد علمت قائم» ، مثال لتوسّط الفعل بين المبتدإ والخبر ، «وزيد قائم علمت» مثال لتأخّره عنهما. وإلغاء التأخّر أقوي من إعماله بلا خلاف لضعفه بالتأخّر عن الجزئين ، والمتوسّط

__________________

(١) ما وجدت عنوان هذا الكتاب في المراجع.

(٢) هو لابن أحمر الباهلي. اللغة : الرفقة : الصحبة ، الجماعة ترافقهم في السفر ، تجافى : تباعد وأزال عن مكانه ، انخزل : انقطع.

(٣) أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك لابن هشام اشتهر بالتوضيح. كشف الظنون ١ / ١٥٤.

٧١٥

بالعكس ، لأنّ العامل اللفظيّ أقوي من الابتداء. وقيل : هما في التوسّط سواء ، لأنّ ضعف العامل بالتوسّط سوّغ مقاومة الابتداء له ، فلكلّ منهما مرجّح ، وصحّحه المراديّ.

تنبيهات : الأوّل : قال أبو حيّان : لجواز الوجهين مع التوسّط والتأخّر شرطان : أحدهما : أن لا تدخل لام الابتداء على الاسم ، نحو : لزيد ظننت قائم ، ولزيد قائم ظننت ، فإنّه حينئذ لا يجوز إلا الإلغاء. الثاني : أن لا ينفي ، نحو : زيدا منطلقا لم أظنّ ، وزيدا لم أظنّ منطلقا ، فإنّه لا يجوز إلا الإعمال ، لأنّه تعيّن بناء الكلام على الظّنّ المنفيّ ، ولا يبطل هذا بقوله [من البسيط] :

٧٩٢ ـ ...

وما إخال لدينا منك تنويل (١)

لأنّ النفي داخل في المعنى على ما بعد إخال.

الثاني : هذا الإلغاء بالنسبة إلى المفعولين إذا كانا اسمين ، وأمّا إذا كان المفعول الثاني فعلا ، وقدّم ، نحو : قام أظنّ زيد ، فالإلغاء باق على الجواز عند البصريّين ، وهو الّذي صحّحه في التسهيل ، وأوجبه الكوفيّون ، وقيل يؤيّد البصريّين قوله [من الوافر] :

٧٩٣ ـ شجاك أظنّ ربع الظاعنينا

 ... (٢)

روي برفع ربع ونصبه ، واعترض بأنا لا نسلم أنّ شجاك فعل ، بل مضاف ومضاف إليه مبتدأ ، وربع الظاعنينا خبر عنه على تقدير رفعه ، ومفعول أوّل مقدّم ، وربع الظاعنينا مفعول ثان ، وأظنّ عامل على تقدير نصبه ، وقال أبو حيّان : الّذي يقتضيه القياس أنّه لا يجوز إلا الإلغاء ، لأنّ الإعمال مترتّب على كون الجزءين كانا مبتدأ وخبرا ، وليسا هنا كذلك ، وإلا لأدّى إلى تقديم الخبر الفعلي على المبتدإ ، انتهى.

قال بعضهم : وبهذه الصورة وصورة لام الابتداء تحصل صورتان ، يجب فيهما الإلغاء ، فيستثنيان من قولهم : الإلغاء جائز لا واجب.

الثالث : قال بعض الشارحين في نظير عبارة المصنّف : إنّ كلامه قد يوهم وجوب الإعمال عند التقديم على المفعولين مطلقا ، حتّى لو تقدّم على الفعل شيء كمتى ، وما لم يجز الإلغاء هو رأي لبعضهم ، والجمهور على خلافه ، لكنّ الأرجح الأعمال ، ذكره المراديّ (٣). والحكم منصوص في الكافية ، وفي التسهيل بدون حكاية خلاف ، انتهى.

__________________

(١) صدره «أرجو وآمل أن تدنو مودّتها» ، وهو لكعب بن زهير. اللغة : تدنو : تقرب ، تنويل : عطاء.

(٢) تمامه «فلم تعبأ بعذل العاذلينا» ، اللغة : شجاك : أحزنك ، الربع : الدار ، الظاعن : من ظعن ، إذا سار ، لم تعبأ : لم تلتفت.

(٣) سقطت هذه الفقرة في «س».

٧١٦

هذا ، وخرج بقوله : إذا توسّطت ، أو تأخّرت ما إذا تقدّمت ، نحو : ظننت زيدا قائما ، فلا تلغى خلافا للكوفيّين والأخفش وابن الطراوة ، إلا أنّ الإعمال أحسن عندهم.

التعليق : «وإذا دخلت» أفعال القلوب سوى الفعلين المذكورين لما مرّ «على الاستفهام أو النفي» بما أو إن أو لا «أو» على «اللام» أي لام الابتداء «أو القسم» لفظا أو تقديرا «وجب إبطال عملها لفظا فقط» دون المحلّ الجائزة مراعاته لوجود المانع من العمل لفظا ، وهو اعتراض ما له صدر الكلام ، «ويسمّى» هذا الحكم «التعليق» آخذا من قولهم : امرأة معلّقة أو مفقودة الزوج ، تكون كالشيء المعلّق لا مع الزوج لفقدانه ولا بلا زوج لتجويزها وجوده ، فلا تقدر على التزوّج ، فالفعل المعلّق عن العمل ممنوع من العمل لفظا عامل محلّا.

قال ابن الخشاب : لقد أجاد أهل هذه الصناعة في هذا اللقب لهذا المعنى ، ولا فرق في الاستفهام بين أن يكون بالحرف ، نحو : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) [الأنبياء / ١٠٩] ، أو الاسم ، سواء كان الاسم عمدة مبتدأ نحو : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) [الكهف / ١٢] ، فأيّ اسم استفهام مبتدأ ، وأحصى خبره ، وهو فعل ماض ، وقيل : اسم تفضيل بحذف الزوائد ، وجملة المبتدإ والخبر معلّق عنهما نعلم ، أو خبرا ، نحو : علمت متى السفر أو مضافا إليه نحو : علمت أبو من زيد أو الخبر ، نحو : علمت صبيحة أيّ يوم سفرك أو فضله ، نحو : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعرا / ٢٢٧] ، فأيّ منصوب على المصدريّة بما بعده ، أي ينقلبون أيّ انقلاب ، ولا يصحّ أن يكون منصوبا بما قبله ، لأنّ الاستفهام له الصدر ، فلا يعمل فيه ما قبله.

تنبيه : قال بعضهم : استشكل تعليق الفعل بالاستفهام في نحو : علمت أزيد عندك أم عمرو ، من حيث إنّ العلم بالشيء ينافي ما يقتضيه الاستفهام من الجهل به ، وأجاب ابن هشام عنه في المغني بأنّه على تقدير مضاف ، أي جواب أزيد عندك أم عمرو؟ والتحقيق ما قال بعضهم : إنّ متعلّق العلم هو النسبة ، ومتعلّق الجهل طرفها ، والعلم بالنسبة يجامع الجهل بطرفها ضرورة ، فلا حاجة إلى تقديره ، بل التحقيق أنّ متعلّق العلم هو النسبة إلى أحدهما مبهما ، ومتعلّق الجهل النسبة إليه معيّنا وفرق ما بينهما ، انتهى.

والنفي بما نحو : علمت ما زيد قائم وبإن نحو : علمت إن زيد قائم ، وبلا نحو : علمت لا زيد في الدار ولا عمرو ، وأمّا ما وإن فللزوم وقوعهما في صدر الجمل وضعا ،

٧١٧

وأمّا لا النافية الداخلة على الجملة الاسميّة فإنّها لا التبرئة المشابهة ، لأنّ المكسورة اللازم دخولها على الجمل ، قاله الرضيّ.

وذهب بعضهم إلى نفي صدارة لا وإن النافيتين مطلقا ، وعليه المغاربة ، ولذلك لم يذكروها في المعلّقات ، وفصّل بعضهم ، فقال : إن وقعتا في جواب القسم الملفوظ أو المقدّر نحو : علمت والله لا زيد في الدار ولا عمرو ، وعلمت والله إن زيد قائم ، وعلمت لا زيد قائم في الدار ولا عمرو ، وعلمت إن زيد قائم ، كان لهما الصدر لحلولهما محلّ أدواته وإلا فلا ، وعليه جري ابن هشام في المغني والجامع والشذور والقطر وشرحيهما.

ولام الابتداء نحو : علمت لزيد قائم ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) [البقرة / ١٠٢] ، وأمّا نحو : علمت إن زيدا لقائم. فقال ابن هشام في شرح الشذور : ذكر جماعة من المغاربة أنّ من المعلّقات أنّ الّتي في خبرها اللام ، والظاهر أنّ المعلّق هو اللام [لا أنّ] ، إلا أنّ ابن الخبّاز حكى في بعض كتبه أنّه يجوز «علمت أنّ زيدا قائم» بالكسر مع عدم اللام ، وأنّ ذلك مذهب سيبويه ، فعلى هذا المعلّق أنّ ، انتهى.

والقسم الملفوظ نحو : علمت والله ليقومنّ زيد ، والمقدّر نحو قوله [من الكامل] :

٧٩٤ ـ ولقد علمت لتأتينّ منيّتي

إنّ المنايا لا تطيش سهامها (١)

أي والله لتأتينّ ، وذلك إذا لم نقل بأنّ قوله : لتأتينّ جواب لقوله : علمت ، بناء على أنّ أفعال القلوب لإفادتها التحقيق تجاب بما يجاب به القسم ، كما جزم به ابن هشام في المغني وغيره. وفي تصوير التعليق هنا نظر ، لأنّ الناسخ إنّما يدلّ على ما كان في الأصل مبتدأ وخبرأ وهو هنا منتف ، وذهب بعضهم إلى أنّ القسم مقدّر بعد هذه الأفعال مع جميع المعلقات المذكورة ، وأنّه هو المعلّق لا هي ، قال في الهمع.

تنبيهات : الأوّل : عدّ ابن مالك من المعلّقات لو ، كقوله [من الطويل] :

٧٩٥ ـ وقد علم الأقوام لو أنّ حاتما

أراد ثراء المال كان له وفر (٢)

وأبو علي الفارسي لعلّه قال في الجامع : وتختصّ بدري ، نحو : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) [عبس / ٣] ، ووافقه على ذلك أبو حيّان ، لأنّهما مثل الاستفهام في أنّها غير خبر ، وإنّ ما بعدها منقطع عمّا قبلها ، ولا تعمل فيه ، وبعضهم كم الخبريّة ، نصّ عليه ابن

__________________

(١) هو للبيد بن ربيعة. اللغة : المنية : الموت ، لا تطيش : لا تخيب ، بل تصيب المرمى ، السهام : جمع سهم ، وهو هنا استعارة مكينة عن وسائل الموت المختلفة.

(٢) هو لحاتم الطائي الجواد المشهور. اللغة : الثراء : كثرة المال ، وفر : كثير واسع.

٧١٨

هشام في شرح الشذور ، قال : وحمل عليه قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) [يس / ٣١] ، وقدّر كم خبريّة منصوبة بأهلكنا ، والجملة سادّة مسدّ مفعولي يروا ، وأنّهم بتقدير بأنّهم كأنّه قيل : أهلكناهم بالاستقبال ، وهذا الإعراب والمعنى صحيحان ، لكن لا تتعيّن خبريّة كم ، بل يجوز أن تكون استفهاميّة ، ويؤيّده قراءة ابن مسعود : من أهلكنا ، انتهى.

الثاني : قد يتوهّم من بيان المصنّف اختصاص كلّ من الإلغاء والتعليق بأفعال القلوب ، وهو كذلك في الأوّل ، وكذا في الثاني على ما قاله ابن عصفور ، قال : لا يتعلّق فعل غير علم وظنّ حتّى يضمن معناهما ، وأرحج عندهم خلافه. قال ابن هشام في المغني : لا يختصّ التعليق بباب ظنّ ، بل هو جاز في كلّ فعل قلبيّ ، وقال في الجامع : يشارك أفعال القلوب في التعليق بالاستفهام فقط : نظر ، وأبصر ، وتفكّر ، وسأل وشبههنّ.

وفي الهمع ألحق بالأفعال المذكورة في التعليق لكن مع الاستفهام خاصّة أبصر نحو : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ* بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) [القلم / ٦ و ٥] ، وتفكّر كقوله [من الطويل] :

٧٩٦ ـ ...

تفكّر أإيّاه يهنون أم قردا (١)

وسأل نحو : (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) [الذاريات / ١٢] وزاد ابن خروف نظر ، ووافقه ابن عصفور وابن مالك ، نحو : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [الغاشية / ١٧] ، قال ابن زبير (٢) : ولم يذهب أحد إلى تعليقها سوي المذكورين.

وزاد ابن مالك نسي كقوله [من الطويل] :

٧٩٧ ـ ومن أنتم إنّا نسينا من أنتم

 ... (٣)

ونازعه أبو حيّان بأنّ ما في البيت يحتمل الموصوليّة ، وحذف العائد ، نحو : من هم أنتم. وزاد ابن مالك أيضا ما قارب المذكورات من الأفعال الّتي لها تعلّق بفعل القلب نحو [من البسيط] :

٧٩٨ ـ أما ترى أي برق هاهنا (٤)

على أنّ رأي بصريّة : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ) [يونس / ٥٣] ، لأنّ استنبأ بمعنى استعلم ، فهو طلب للعلم : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [هود / ٧] ، ونازعه أبو حيّان

__________________

(١) صدره «حزقّ إذا ما القوم أبدوا فكاهة» ، وهو لجامع بن عمرو. اللغة : الحزق : السيئ الخلق البخيل.

(٢) لم أجد ترجمة حياته.

(٣) تمامه «وريحكم من أيّ ريح الأعاصير» ، وهو لزياد بن الأعجم. اللغة : الأعاصير جمع الإعصار : ريح تهبّ بشدّة.

(٤) ما وجدت البيت ، ولكنه جاء هذا المصرع في المغني ، ولم يذكر صدره وقائله.

٧١٩

بأنّ رأى في الأوّل علميّة ، وأيّكم في الأخير إنشائيّة موصولة ، حذف صدر صلتها ، فبنيت ، وهي بدل ، وضمير المخاطب بدل بعض. وأجاز يونس تعليق كلّ فعل غير ما ذكر ، وخرّج عليه : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ) [مريم / ٦٩] ، والجمهور لم يوافقوه على ذلك.

الثالث : إذا تقدّم على الاستفهام أحد المفعولين نحو : علمت زيدا من هو ، جاز نصبه بالاتّفاق ، لأنّ العامل مسلّط عليه ، ولا مانع من العمل ، واختلفوا في رفعه ، فأجازه سيبويه ، وإن كان المختار عنده النصب ، ووجّه بأنّه لما كان زيد مستفهما عنه من حيث المعنى ، لأنّ المعنى علمت من زيد ، عومل معاملة مباشرة الاستفهام لفظا ، أو يقال : زيد في الواقع هو المعبّر عنه بمن ، ومن لها الصدر لدلالتها على الاستفهام ، فعومل معاملتها ، وهذه صورة يجوز فيها التعليق ، ولا يجب ، فينبغي أن يستثنى من قولهم : التعليق واجب لا جائز.

القول بمعنى الظنّ : تتمة : تجيز بنو سليم إجراء القول مجرى الظّنّ ، فتنصب به المبتدأ والخبر مفعولين مطلقا من غير اعتبار شرط من الشروط الآتية ، فيقولون : قلت زيدا قائما (١) ، وعليه روي قول امرئ القيس [من الطويل] :

٧٩٩ ـ إذا ما جرى شأوين وابتلّ عطفه

تقول هزير الريح مرّت بأثأب (٢)

واختلف هل يعملونه باقيا على معناه ، أو لا يعلمونه ، حتّى يضمنوه معنى الظّنّ ، على قولين : الأوّل للأعلم وابن خروف وصاحب البسيط ، واستدلّوا بقوله [من الرجز] :

٨٠٠ ـ قالت وكنت رجلا فطينا

هذا لعمر الله إسرائينا (٣)

إذ ليس المعنى على ظننت. والثاني للجمهور ، قال المراديّ : وهو الظاهر. وقال الرضيّ : إعلم أنّه قد يجيء القول بمعنى الاعتقاد ولا لفظ هناك ، سواء كان ذلك الاعتقاد علما أو ظنّا ، نحو : كيف تقول في هذه المسالة ، أي كيف تعتقد ، فيلحق بالظّنّ في نصب المفعولين ، وليس بمعنى الظنّ خلافا لظاهر كلام سيبويه وبعض المتأخرين. قال المصنّف

__________________

(١) إنّ «القول» متعدّد المعاني ، وإنّ الّذي يتّصل منها بموضوعنا معنيان ، أحدهما : التلفّظ المحض ، ومجرّد النطق ، والآخر : الظّنّ ، فإن كان معناه «التلفظ المحض ، ومجرّد النطق» فإنّه ينصب مفعولا به واحدا ، سواءأ كان الّذي جري به التلفّظ ووقع عليه القول كلمة مفردة أم جملة. وإن كان معنى «القول» ومشتقّاته هو «الظنّ» فإنّه ينصب المفعولين مثله. عباس حسن ، النحو الوافي ، الطبعة السابعة ، ناصر خسرو ، طهران ، ١٣٨٣ ه‍ ش ، ٢ / ٤٥.

(٢) اللغة : الشأوان : مثني شأو ، وهو الطلق السريع ، ابتلّ عطفه : سال عرقه على جانبيه ، هزيز الريح : صوتها ، الأثاب : الشجر.

(٣) هو لإعرابي. اللغة : الفطين : الذكي المتوقّد ، اسرائين : لغة في اسرائيل قلبت لامه بالنون.

٧٢٠