الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

مبدوّة باسم ، أو يكون جملة «إنشائية» غير محتملة للتصديق والتكذيب ، «أو» يكون «فعلا جامدا» كعسى وليس ، أو يكون فعلا «ماضيا مقرونا بقد» لفظا أو تقديرا ، ومثّل لذلك على طريقة اللف والنشر المرتب (١) فقال : «نحو إن تقم فأنا أقوم» ، قيل : ومثله قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنعام / ١٧] ، وإن تقم «فأكرمني» ومثله قوله : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ) [الجن / ١٣] ، فيمن قرأ بالجزم على أنّ لا ناهية «أو» إن تقم «فعسى أن أقوم» ومثله قوله تعالى : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) [الكهف / ٣٩] ، أو إن تقم فقد قمت ، ومثله قوله تعالى : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) [يوسف / ٧٧].

ومثال المقرون بقد تقديرا قوله تعالى : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ) [يوسف / ٢٦] ، أي فقد صدقت. والّذي لم يذكره المصنّف أن يكون مقرونا بحرف استقبال ، نحو : (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ) [المائدة / ٥٤] ، (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) [آل عمران / ١١٥] ، أو مقرونا بحرف له الصدر كما النافيه ، نحو : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) [يونس / ٧٢] ، وربّ كقوله [من الوافر] :

٧٣٢ ـ فإن أهلك فذي لهب لظاه

على يكاد يلتهب التهابا (٢)

لما عرفت من أنّ ربّ مقدّرة ، وأنّ لها الصدر.

فهذه ستّ مسائل ، يمتنع جعل الجواب فيها شرطا ، وأفهم كلامه أنّه إذا لم يمتنع جعل الجواب شرطا لم تكن الفاء لازمة له. قال ابن مالك : وإن اقترن بها فعلى خلاف الأصل ، وينبغي أن يكون خبر مبتدإ محذوف ، ولو لا ذلك لحكم بزيادة الفاء وجزم الفعل ، إن كان مضارعا ، لأنّ الفاء على ذلك التقدير زائدة في تقدير السقوط ، لكن العرب التزمت رفع المضارع بعدها فعلم أنّها غير زائدة ، وأنّها داخلة على المبتدإ مقدّر ، كما تدخل على مبتدأ مصرّح به ، ومن ذلك قوله تعالى : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) [الجن / ١٣]. ومثله قراءة حمزة : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) [البقرة / ٢٨٢]. ووقع لابنه في شرح الخلاصة أنّ ما بعد الفاء هو الجواب ، والأوّل هو التحقيق.

__________________

(١) اللفّ والنشر : هو ذكر متعدّد على التفصيل أو الإجمال ثمّ ما لكلّ واحد من غير تعيين ثقة بأن السامع يردّه إليه نحو : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)[القصص / ٧٣] انظر : الخطيب القزويني ، شرح المختصر ، الجزء الثاني ، د ط ، منشورات دار الحكمه ، ص ١٥٣.

(٢) هو لربيعة بن مقروم. اللغة : اللظى : النار ، تلتهب : تتوقّد وتشتعل.

٦٨١

تنبيهات : الأوّل : قضية إطلاق المصنّف أنّ الجزاء يكون ماضيا مقرونا بقد أنّه يكون ماضي اللفظ والمعنى ، وهو قول جماعة ، منهم الجزوليّ وابن مالك وابن هشام في أكثر مصنّفاته ، واستشكل بأنّ هذا لا يتمشّى مع القول بأنّ الشرط سبب ، والجزاء مسبّب ، إذ الشرط مستقبل بالفرض ، والجزاء محقّق المضي ، فكيف يكون الماضي مسبّبا عن المستقبل ، وهذا ممّا لا سبيل إليه ، وأجاب ابن الحاجب مع التزام هذه القاعدة بأنّ الجزاء على قسمين : إحدهما أن يكون مضمونه مسبّبا عن مضمون الشرط كما في قولك : إن جئتني أكرمك ، فإنّ مضمون الجزاء هو الإكرام مسبّب عن مضمون الشرط ، وهو المجي ، والثاني أن يكون مضمون الجزاء ليس مسبّبا عن مضمون الشرط ، وإنّما يكون الاخبار به مسبّبا ، نحو : إن تكرمني فقد أكرمتك أمس ، أي إنّ إكرمك لي سبب لأن أخبر بأنّي قد أكرمتك أمس ، وليس الإكرام الواقع بالأمس هو الجواب لاستحالة تسبّبه عن الإكرام الواقع في اليوم ، لكنّ الإخبار بذلك مسبّب على معنى أن اعتددت على بإكرامك إيّاي ، فأنا أيضا أقول : قد أكرمتك أي فأنا أيضا أعيد عليك بإكرامي إيّاك.

وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) [المائدة / ١١٦] ، و (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ) [يوسف / ٢٦] ، من هذا القبيل وكذا قوله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل / ٥٣] ، وبيانه أنّ الآية جيء بها لإخبار قوم استقرّت بهم نعم ، جهلوا معطيها ، أو شكّوا فيه ، فكان استقرارها مجهولة أو مشكوكة سببا لإخبارهم بأنّها من الله ، فكأنّه قيل : اعلموا أنّها من عند الله ، فالمسبّب الإخبار بمضمون الجملة لا نفس مضمونها ، حتّى يردّ أنّ الأوّل وهو استقرار النعمة ليس سببا للثاني.

وقال الرضّي : لا نسلم أنّ الشرط سبب ، والجزاء مسبّب ، وإنّما الشرط عندهم ملزوم ، والجزاء لازمة ، سواء كان الشرط سببا ، نحو : لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجودا ، أو شرطا كما في قولك : لو كان لي مال لحججت به ، أو لا شرطا ولا سببا كقولك : لو كان زيد أبي لكنت ابنه ، ولو كان النهار موجودا ، لكانت الشمس طالعة. وقال في موضع آخر : لا يلزم مع الفاء أن يكون الأوّل سببا للثاني ، بل اللازم أن يكون ما بعد الفاء لازما لمضمون ما قبلها كما في الشرط والجزاء ، ففي قوله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل / ٥٣] ، كون النعمة من الله لازمة لحصولها معنى فلا يغرّنك قول بعضهم : إنّ الشرط سبب للجزاء ، انتهى. وهو تحقيق حقيق بالقبول.

الثاني : قد تحذف الفاء في ندور كقوله (ع) لابي بن كعب لمّا سأله عن اللّقطة (١) : فإن

__________________

(١) الشيء الذي تجده ملقي فتأخذه.

٦٨٢

جاء صاحبها وإلا استمتع بها (١) ، أخرجه البخاريّ أو في ضرورة كقوله [من البسيط] :

٧٣٣ ـ من يفعل الحسنات الله يشكرها

 ... (٢)

وزعم الأخقش أنّ حذفها واقع في النثر الفصيح وأنّ منه قوله تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [البقرة / ١٨٠] ، وعن المبرّد أجازة حذفها في الإختيار ، لكن قال أبو حيّان : في محفوظي قديما أن المبرّد منع من حذفها في الضرورة ، وأنّه زعم في قوله [من البسيط] :

٧٣٤ ـ من يفعل الحسنات الله يشكرها

 ... (٣)

أنّ الرواية من يفعل الخير فالرحمن يشكره قال : وهذا ليس شيء ، لأنّه على تقدير صحّة الراوية لا يطعن ذلك في الراوية الأخرى.

قد تحلّ في بعض المواضع «إذا» محل الفاء : الثالث : يجوز أن تنوب إذا الفجائية عن الفاء في الربط ، لأنّها تشبهها في كونها لا يبتدأ بها ، ولا تقع إلا بعد ما هو معقّب بما بعدها ، وذلك إذا كانت الأداة إن والجواب جملة اسميّة غير إنشائية ولا منفية ولا مصدّرة بأنّ ، نحو : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) [الروم / ٣٦] ، فلو كانت إنشائية أو منفية أو مصدّرة بأنّ ، تعيّنت الفاء نحو : إن أطاع زيد فسلام عليه ، وإن قام زيد فما عمرو قائم ، وإن قام زيد فإنّ عمرا قائم.

عطف مضارع على جواب الشرط : الرابع : إذا انقضت جملتا الشرط والجواب ، ثمّ جيء بمضارع مقرون بالفاء أو بالواو ، جاز جزمه بالعطف على الجواب المجزوم لفظا أو محلّا ، ورفعه على الاستئناف ، ونصبه بأن مضمرة وجوبا ، وهو قليل ، كقوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) [البقرة / ١٨٤] ، قرأ عاصم (٤) وابن عامر فيغفر ، بالرفع ، وباقيهم بالجزم وابن عباس (٥) بالنصب.

__________________

(١) مسند أحمد حنبل ٥ / ٩١.

(٢) تمامه «والشرّ بالشرّ عند الله مثلان» ، وهو لكعب بن مالك أو لعبد الرحمن بن حسان.

(٣) تقدّم برقم ٧٣٣.

(٤) عاصم بن أبي النجود ، أحد القرّاء السبعة ، تابعيّ من أهل الكوفة ، كان ثقة في القراءات. الأعلام للزركلي ٤ / ١٢.

(٥) عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، الصحابي الجليل ، لازم رسول الله (ص) وروي عنه الأحاديث الصحيحة ، ينسب إليه كتاب في تفسير القرآن جمعه بعض أهل العلم من مرويّات المفسّرين عنه. مات سنة ٦٨ ه‍. المصدر السابق ص ٢٢٨.

٦٨٣

عطف مضارع على فعل الشرط : وإذا توسّط بين الجملتين مضارع مقرون بالواو والفاء ، قال الكوفيّون : أو ثمّ ، فالوجه الجزم بالعطف على الشرط المجزوم لفظا أو محلا ، ويجوز النصب بأن مضمرة وجوبا كقوله [من الطويل] :

٧٣٥ ـ ومن يقترب منّا ويخضع نؤوه

ولا يخش ظلما ما أقام ولا هضما (١)

حذف فعل الشرط وجوابه : الخامس : يجوز حذف ما علم من شرط أو جواب ، لكن يشترط في الشرط أن يكون بعد أن مقرونة بلا كقوله [من الوافر] :

٧٣٦ ـ فطلّقها فلست لها بكفء

وإلا يعل مفرقك الحسام (٢)

أي وإلا تطلّقها يعل.

وفي الجواب أن يكون شرطه بلفظ الماضي أو مضارع المقرون بلم ، نحو قوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) [الانعام / ٣٥] ، أي فافعل ، ولا يجوز أن يكون بصيغة المضارع إلا في الشعر ، وهذا مذهب البصريّين ، وجزم به في التسهيل ، وقد يحذف الشرط والجواب معا بعد أن خاصّة كقوله [من الرجز] :

٧٣٧ ـ قالت بنات العمّ يا سلمى وإن

كان فقيرا معدما قالت وإن (٣)

أي وإن كان كما تصفن فزوّجته ، وخصّه ابن مالك بالضرورة تبعا لابن عصفور ، قال أبو حيّان : ولم ينصّ غيرهما على أنّ ذلك ضرورة ، بل أطلقوا الجواز إذا فهم المعنى.

هذه «مسالة» تتعلّق بهذا الباب «وينجزم» الفعل المضارع «بعد الطلب بإن» الشرطية «مقدّرة» هي وفعل الشرط ، «مع قصد السّببيّة» ، أي سببيّة الطلب للفعل ، بأن يقدّر الفعل مسبّبا عن ذلك الطلب المتقدّم ، كما أنّ فعل الشرط سبب لجزاء الشرط.

ويشمل الطلب الأمر ، «نحو : زرني أكرمك» ، فأكرمك واقع بعد الطلب ، وهو زرني ، وقصد به السّببيّة ، فجزم بأن مقدّرة ، والتقدير : زرني إن ترزني أكرمك ، فالزيارة سبب للإكرام ، والنهي نحو : لا تكفر تدخل الجنّة. التقدير لا تكفر ، إن لا تكفر تدخل الجنّة ، والدعاء نحو : أللهمّ اغفرلي أدخل الجنة ، والاستفهام نحو : هل تزرني أحسن إليك والتمنّي نحو : ليت لي مالا أنفقه ، والعرض نحو : ألا تترل عندنا تصب خيرا ، والتحضيض

__________________

(١) لم ينسب البيت إلى قائل معيّن. اللغة : نؤوه : نترله عندنا ، هضما : ظلما وضياعا لحقوقه.

(٢) البيت للأحوص. اللغة : الكلف : النظير المكافئ المفرق : وسط الرأس. الحسام : السيف.

(٣) البيت منسوب إلى رؤبة بن العجاج. اللغة : المعدم : من لا مال له.

٦٨٤

نحو : لولا تأتينا تحدّثنا ، والتقدير إن تغفر لي أدخل الجنة ، وإن تزرني أحسن إليك وإن يكن لي مال أنفقه ، وإن تترل عندنا تصب خيرا ، وإن تأتنا تحدّثنا.

قال أبو حيّان في الإرتشاف : وسمع الجزم بعد الترجّي ، واستشهد له في شرح التسهيل بقول الشاعر [من الطويل] :

٧٣٨ ـ لعلّ التفاتا منك نحوي ميّسر

يمل بك من بعد القساوة لليسر (١)

تنبيهات : الأوّل : لا فرق في الأمر بين أن يكون صريحا كما مرّ ، أو مدلولا عليه بخبر نحو : اتّق الله امرء خيرا يثب عليه ، أي إن يتّق ، أو اسم فعل كقوله [من الوافر] :

٧٣٩ ـ ...

مكانك تحمدي أو تستريحي (٢)

أي إن تثبتي تحمدي ، أو بجملة اسميّة ، نحو : أين بيتك أزرك ، أي إن تخبرني أزرك ، قال أبو حيّان : وقال بعض أصحابنا : الفعل الخبريّ لفظا ، الأمريّ معنى ، لا ينقاس ، إنّما هو موقوف على السماع ، والمسموع اتّق الله امرء فعل خيرا يثب عليه.

الثاني : ما ذكره من أنّ المضارع مجزوم بعد الطلب بأن مقدّرة هو مذهب الجمهور ، وذهب الخليل وسيبويه وابن خروف إلى أنّه مجزوم بنفس الطلب لما تضّمنه من معنى أنّ الشرطية ، كما أنّ أسماء الشرط إنّما جزمت لذلك ، واختاره ابن مالك ، وجرى عليه ابن هشام في شرح القطر ، وذهب السيرافيّ إلى أنّه بالطلب لنيابته مناب الجوازم الّذي هو الشرط المقدّر ، كما أن النصب بضربا في قولك : ضربا زيدا لنيابته عن اضرب لا لتضمّنه معناه ، وصحّحه ابن عصفور. قال ابن هشام في المغني : والأوّل أرحج من الثاني ، لأنّ الحذف والتضمين وإن اشتركا في أنّهما خلاف الأصل ، لكن في التضمين تغيير معنى الأصل ، ولا كذلك الحذف ، وأيضا فإنّ تضمين الفعل معنى الحرف إمّا غير واقع أو غير كثير ، وأرجح من الثالث ، لأنّ نائب الشيء يؤدّي معناء ، والطلب لا يؤدّي الشرط.

الثالث : إذا لم تقصد السببيّة بعد الطلب وجب رفع المضارع على أنّه حال نحو : (ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام / ٩١] ، أو نعت ، نحو : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي) [مريم / ٥] ، على قراءة الرفع ، والاستئناف نحو : لا تذهب به تغلب عليه.

«ومن ثمّ» أي ومن أجل اعتبار قصد السببيّة «امتنع» قوله : «لا تكفر تدخل النار بالجزم» لتدخل «فساد المعنى» ، لأنّ عدم الكفر لا يكون سببا لدخول النار ، إذ التقدير إن

__________________

(١) لم يسمّ قائله.

(٢) صدره «وقولي كلّما جشأت وجاشت» ، وهو لعمرو بن الإطنابة. اللغة : جشأت : تطلعت ونهضت جزعا وكراهة ، جاشت : علت من الفزع أو الحزن.

٦٨٥

لا تكفر تدخل إلنار ، ولا يجوز أن يكون التقدير : إن تكفر تدخل النّار ، لأنّ المقدّر يجب أن يكون مثل المظهر نفيا وإثباتا.

هذا مذهب سيبويه وأكثر البصريّين ، وخالف الكسائيّ في ذلك ، قيل : بل الكوفيّون قاطبة ، فأجازوا الجزم في نحو المثال المذكور بتقدير إن تكفر بغير نفي ، واحتجّوا بالقياس على النصب ، نحو : لا تكفر فتدخل النار ، وفي التتريل : (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) [طه / ٦١] ، وبقوله : لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض (١) ، وقوله (ع) من أكل من هذه الشجرة فلا يقرب مسجدنا يوذنا (٢) ، وقول أبي طلحة (٣) للنبي (ص) لا تشرف يصبك سهم ، ويروي لا تطاول يصبك.

وأجاب البصريّون بأنّه لو صحّ القياس على النصب لصّح الجزم بعد النفي قياسا على النصب ويضرب مدغم ، ويؤذنا بدل من يقرب ، ويصبك بدل من تشرف أو تطاول. قال في التصريح : وفي ردّ القياس نظر ، فإنّهم قائلون بجواز الجزم بعد النفي ، نحو : ما تأتينا تحدّثنا ، انتهى.

تنبيهات : الأولّ : ظاهر كلامهم أنّ الخلاف بين الجماعة والكسائيّ معنويّ ، وقال بعض المحقّقين من شرّاح الكافية : الأظهر أنّ الخلاف لفظيّ لا معنويّ ، فالجمهور نفوا صحّة تقدير المثبت بمجرّد وقوعه بعد النهي ، والكسائيّ أثبتها عند قيام قرينة تقدير المثبت ، ولا نزاع للجمهور في هذه الصحّة ، وكيف ينازع في حذف الشرط لقرينة كما لا نزاع له في أنّ سبق النهي لا يستدعي تقدير المثبت.

وفي المغني لابن هشام قال الجمهور : لا تدن من الأسد يأكلك ، بالجزم لأنّ الشرط المقدّر إن قدّر مثبتا ، أي فإنّ تدن لم يناسب فعل النهي الّذي جعل دليلا عليه ، وإن قدّر منفيّا ، أي فإن لا تدن فسد المعنى ، بخلاف لا تدن من الأسد تسلم ، فإنّ الشرط المقدّر منفيّ ، وذلك صحيح في المعنى والصناعة ، وعن الكسائيّ في إجازته الجزم إنّه يقدّر الشرط مثبتا مدلولا عليه بالمعنى لا باللفظ ترجيحا للقرينة المعنويّة على القرينة اللفظيّة ، وهذا وجه حسن ، إذا كان المعنى مفهوما.

الثاني : لا في نحو : إن لا تكفر تدخل الجنّة نافية ، كما جزم به المراديّ وابن هشام وغيرهما ، قيل : وظاهر قول ابن مالك في الألفيه [من الرجز] :

٧٤٠ ـ وشرط جزم بعد نهي إن تضع

إن قيل لا دون تخالف يقع

__________________

(١) صحيح مسلم ، ١ / ٨٤ ، رقم ٦٦.

(٢) سنن ابن ماجه ، ص ٢٤٦ ، رقم ١٠١٦.

(٣) أبو طلحه زيد بن سهل بن الأسود الأنصاري ، صحابيّ ، وكان جهير الصوت ، وفي الحديث : لصوت أبي طلحه في الجيش خير من ألف رجل ، مات سنة ٣٤ ه‍. الأعلام للرزكلي ، ٣ / ٩٧.

٦٨٦

أنّ المراد إن تضع أن قبل لاء الناهية ، وعلى ذلك شرحه الشاطبيّ.

الثالث : قضيه اقتصار المصنّف على ما ذكره من الجوازم لفعل واحد ولفعلين أنّ الجزم لا تكون بغيره ، وهو مذهب البصريّين ، وأجاز الكوفيّون جزم المسبّب عن صلة الّذي والنكرة الموصوفة تشبيها بجواب الشرط ، نحو : الّذي يأتيني أحسن إليه ، وكلّ رجل يأتيني أكرمه ، واختاره ابن مالك ، قال الشاعر [من الكامل] :

٧٤١ ـ لا تحفرن بئرا تريد أخا بها

فإنّك فيها أنت من دونه تقع

كذلك الّذي يبغي على الناس ظالما

تصبه على رغم عواقب ما صنع (١)

وأنشد الروزباني [من طويل] :

٧٤٢ ـ وكلّ امرئ يبغي على الناس ظالما (٢)

وهذا عند البصريّين من الضرورة ، بحيث لا يقاس عليه.

__________________

(١) أنشدهما ابن الإعرابي ولم ينسبهما إلى شاعر. اللغة : يبغي : يتسلط ويظلم.

(٢) لم أقف على صدر هذا البيت أو عجزه.

٦٨٧

أفعال المدح والذّم

ص : فصل : في أفعال المدح والذّم : أفعال وضعت لإنشاء مدح أو ذمّ ، فمنها «نعم» و «بئس» و «ساء» وكلّ منها يرفع فاعلا معرّفا باللام ، أو مضافا إلى معرّف بها ، أو ضميرا مستترا مفسّرا بتمييز. ثمّ يذكر المخصوص مطابقا للفاعل ، ويجعل مبتدأ مقدّم الخبر ، أو خبرا محذوف المبتدأ ، نحو : نعم المرأة هند ، وبئس نساء الرّجل الهندات ، وساء رجلا زيد ، ومنها «حبّ» و «لا حبّ» وهما كنعم وبئس ، والفاعل «ذا» مطلقا ، وبعده المخصوص ، ولك أن تأتي قبله أو بعده بتمييز أو حال على وفقه ، نحو : حبّذا الزيدان ، وحبّذا زيد راكبا ، وحبّذا امرأة هند.

ش : فصل في أفعال المدح والذّم : أفعال وضعت لإنشاء مدح أو ذمّ ، فخرج ما يمدح به تجوّزا ، نحو : شرف زيد ، مقصودا به المدح وما هو للإخبار عن المدح والذم ، نحو : مدحت وذممت ، فإنّ شيئا من ذلك ليس موضوعا لإنشاء مدح أو ذمّ ، وفي قوله : مدح أو ذمّ بالتنكير إشارة إلى أنّها للمدح والذمّ العامّين أي اللذين لا خصوصيّة فيهما ، فإنّك إذا قلت : نعم الرجل زيد مثلا ، فقد مدحته مطلقا من غير تعيين خصلة بجهة ، وكذا بئس الرجل.

وإنّما قال : لإنشاء مدح أو ذمّ لأنّه إذا قيل : نعم الرجل زيد ، أو بئس الرجل عمرو ، كان إنشاء للمدح أو الذّمّ وإحداثا له بهذا اللفظ ، وليس المدح بموجود في الخارج في أحد الأزمنة مقصود مطابقة هذا الكلام له حتّى يكون خبرا ، بل يقصد بهذا الكلام مدحه على جودته أو ذمّه على ردائته الموجودتين خارجا ، فقول الأعرابيّ لمن بشّره بمولده فقال : نعم الولد هي ، والله ما هي بنعم الولد ليس تكذيبا له في المدح ، إذ لا يمكن تكذيبه فيه ، وإنّما هو إخبار بأنّ الجودة الّتي حكمت بحصولها في الخارج ليست بحاصلة ، فهو إنشاء متضمّن للإخبار ، فالتكذيب والتصديق أنّما يتسلّطان على ما تضمّنه من الخبر ، لا عليه باعتبار كونه إنشاء ، وكذا الانشاء التعجّبيّ وإلانشاء الّذي في كم الخبريّة ففي ربّ ، هذا معنى ما قرّره ابن الحاجب ، وأقرّه غيره.

قال الرضيّ : وفيه نظر ، إذ هذا الّذي قرّره يطّرد في جميع الاخبار ، لأنّك إذا قلت : زيد أفصل من عمرو ، فلا ريب في كونه خبرا ، ولا يمكن أن يكذب في التفضيل ، أو يقال لك : إنّك لم تفضّله ، بل التكذيب أنّما يتعلّق بأفضلية زيد ، وكذا إذا قلت : زيد قائم هو خبر بلا شكّ ، ولا يدخله التصديق والتكذيب من حيث الإخبار ، بل يدخلانه من حيث القيام ، فيقال : إنّ القيام حاصل ، أو ليس بحاصل. وكذا قوله : والله ما هي بنعم الولد

٦٨٨

بيان أنّ النعمة أي الجودة المحكوم بثبوتها خارجا ليست ثابتة ، وكذا في التعجّب وفي كم وربّ ، انتهى.

نعم وبئس وما جرى مجراهما : «فمنها» أي من أفعال المدح والذمّ «نعم وبئس» ، بكسر الأوّل وسكون الثاني ، نحو : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ) [ص / ٤٤] ، ونحو : (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) [الكهف / ٥٠] ، وأصلهما فعل بفتح الفاء وكسر العين ، وقد يردان به ، قال طرفة [بن العبد من الرمل] :

٧٤٣ ـ ما أقلّت قدم أنّهم

نعم الساعون في الأمر المبر (١)

وقد يقال : نعم وبئس بسكون العين وفتح الفاء تخفيفا. قال أبو حيّان : ولم يذكروا له شاهدا. ونعم وبئس بكسر العين والفاء معا اتباعا قال تعالى : (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) [النساء / ٥٨]. ويقال في بئس : بئس ، بفتح الباء وبياء ساكنة مبدلة من الهمزة على قياس ، حكاه الأخفش والفارسيّ.

قال بعضهم : والأفصح نعم بكسر الفاء وسكون العين ، وهي لغة القرآن ، ثمّ نعم بكسرهما وعليه : (فَنِعِمَّا هِيَ) [البقرة / ٢٧١] ، ثمّ نعم بفتح الفاء وكسر العين ، وهي الأصليّة ، ثمّ نعم بفتح الفاء وسكون العين ، والقول بفعليتها مذهب البصريّين والكسائيّ من الكوفيّين بدليل اتّصال التاء الساكنة بهما عند جميع العرب. وفي الحديث : من توضّأ يوم الجمعة فيها ونعمت (٢). وتقول : بئست المراة حمالة الحطب.

وذهب الكوفيّون سوى الكسائيّ إلى أنّهما اسمان لدخول حرف الجرّ عليهما ، كما في قول بعضهم ، وقد بشّر ببنت : والله ما هي بنعم الولد. وقول آخر ، وقد سار إلى محبوبته على حمار بطيء السير : نعم السير على بئس العير. ووهم الدمامينيّ في تفسيره السير هنا بقوله شيء يقدّ من الجلد ، ويجعل في عنق البهيمة. وأجيب عن ذلك بأنّه مؤوّل بحذف الموصوف وصفته وإقامة معمول الصفة مقامهما ، والتقدير ما هي بولد مقول فيه : نعم الولد ، ونعم السير على عير مقول فيه بئس العير ، فحرف الجرّ في الحقيقة إنّما دخل على اسم محذوف.

وفي حكاية الخلاف في حقيقتهما طريقة أخرى ، وهي الّتي حرّرها ابن عصفور في تصانيفه المتأخّرة ، فقال : لم يختلف أحد من البصريّين في أنّ نعم وبئس فعلان ، وإنّما

__________________

(١) اللغة : المبر : اسم الفاعل من أبرّ فلان على أصحابه ، أي : غلبهم أي : هم نعم الساعون في الأمر الغالب الّذي عجز الناس عن دفعه.

(٢) سنن الترمذي ، ٢ / ٣٦٩ ، رقم ٤٩٧.

٦٨٩

الخلاف بعد إسنادهما إلى الفاعل ، فالبصريّون يقولون : نعم الرجل وبئس الرجل جملتان فعليتان ، والكسائيّ يقول : هما اسمان محكيّان بمترلة تأبّط شرّا ، فنعم الرجل عنده اسم للمدوح ، وبئس الرجل اسم للمذموم ، وهما في الأصل جملتان نقلتا عن أصلهما ، وسمّي بهما.

والفرّاء يقول : الأصل في نعم الرجل زيد ، وبئس الرجل عمرو ، رجل نعم الرجل زيد ورجل بئس الرجل عمرو ، فحذف الموصوف الّذي هو رجل ، وأقيمت الصفة الّتي هي الجملة من نعم وبئس وفاعلهما مقامه ، فحكم لها بحكمه ، فنعم الرجل ، وبئس الرجل رافعان لزيد وعمرو ، كما لو قلت : ممدوح زيد ، ومذموم عمرو ، كذا في التصريح. وقال ابن هشام في البهجة المرضية : الخلاف في فعلية نعم وبئس قد نقله الأصحاب في مسائل الخلاف ، انتهى.

والصحيح أنّهما فعلان جامدان للزومهما إنشاء المدح والذّمّ على سبيل المبالغة ، فنقلتا عمّا وضعتا له من الدلالة على المضي ، وصارتا للإنشاء ، فنعم منقولة من قولك : نعم الرجل ، إذا أصاب نعمة ، وبئس منقولة من قولك : بئس الرجل إذا أصاب بؤسا.

«وساء» بالمدّ وهي ملحقه ببئس ، فإنّها في الأصل سوء بالفتح ، فحوّلت إلى فعل بالضّمّ ، فصارت فعلا قاصرا ، ثمّ ضمّنت معنى بئس ، فمنعت التصرّف. وكلّ فعل ثلاثيّ صالح للتعجّب منه ، فإنّه يجوز استعماله على فعل بضمّ العين ، إمّا بالإصالة كظرف ولؤم ، أو بالتحويل من مفتوح العين أو مكسورها كضرب وفهم ، ثمّ يجري مجرى نعم وبئس في إفادة المدح والذّمّ وفي حكم الفاعل وحكم المخصوص الآتي بيانه ، واستثني الكسائيّ علم وجهل وسمع ، فلا يجوز تحويلها إلى فعل بل استعمل استعمالة باقية على حالها.

فاعل أفعال المدح والذمّ : «وكلّ» منها أي من نعم وبئس وساء ومثلها ما جري مجراها يرفع فاعلا مظهرا معرّفا بأل ، نحو : (نِعْمَ الْمَوْلى) [الأنفال / ٤٠] ، (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) [البقرة / ٢٠٦] ، وساء الرجل أبو جهل ، وفهم الرجل زيد ، وخبث الرجل عمرو.

واختلف في أل هذه ، فقال الجمهور : هي جنسيّة ، ثمّ اختلفوا ، فقيل : للجنس حقيقة. فالجنس كلّه ممدوح أو مذموم ، والمخصوص مندرج تحته ، لأنّه فرد من أفراده ، ثمّ نصّ عليه ، كما ينصّ على الخاصّ بعد العامّ الشامل له ولغيره ، وهو المشهور ، ونقله ابن أياز في شرح الفصول عن أبي على وعبد القاهر الجرجانيّ ، ونسب إلى سيبويه ، و

٦٩٠

ردّ بأنّه يؤدّي إلى التكاذب في نحو قولك : نعم الرجل زيد ، وبئس الرجل عمرو ، وقيل : للجنس مجازا ، لأنّه لم يقصد غير مدح معيّن أو ذمّه ، لكنّه جعل جميع الجنس مبالغة.

وقال قوم : هي عهديّة ، ثمّ اختلفوا ، وقيل : عهديّة ذهنيّة ، كما تقول : اشتريت اللحم ، ولا تريد الجنس ولا معهودا تقدّم. وأريد بذلك أن يقع إبهام ، ثمّ يأتي التفسير بعده تفخيما للأمر ، وقيل : عهديّة شخصيّة ، والمعهود هو الشخص الممدوح والمذموم ، فإذا قلت : نعم الرجل زيد ، فكأنّك قلت : زيد نعم هو ، وهو قول ابن ملكون والجواليقيّ (١) والشلوبين الصغير (٢) ، واستدلّوا عليه بتثنيه وجمعه ، ولو كان عبارة عن الجنس ، لم يسغ فيه ذلك.

«أو مضافا إلى معرّف بها» أي بأل ، نحو : (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) [النحل / ٣٠] ، ولبئس دار المتكبّرين ، وساء حطب النار أبو لهب ، أو مضافا إلى مضاف إلى معرّف بها كقوله [من الطويل] :

٧٤٤ ـ فنعم ابن أخت القوم غير مكذّب

 ... (٣)

قيل : أو مضافا إلى ضمير عائد إلى معرّف بها كقوله [من الطويل] :

٧٤٥ ـ فنعم أخو الهيجاء ونعم شهابها (٤)

والأصحّ أنّه لا يقاس عليه لقلّته ، وأجاز الفرّاء أن يكون مضافا لنكرة كقولة [من البسيط] :

٧٤٦ ـ فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم

 ... (٥)

ونقل إجازته عن الكوفيّين وابن السّراج وخصّه سائر البصريّين بالضرورة ، وزعم صاحب البسيط أنّه لم يرد نكرة غير مضافة ، وليس كذلك ، بل ورد ، ولكنّه أقلّ من المضاف كقوله [من الوافر] :

٧٤٧ ـ نياف القرط غرّاء الثّنايا

وريد للنساء ونعم نيم (٦)

__________________

(١) موهوب بن أحمد الجواليقيّ النحويّ اللغويّ ، كان إماما في فنون الأدب ، وكان في اللغة أمثل منه في النحو ، صنف : شرح أدب الكاتب ، ما تلحن فيه العامّة ، ما عرّب من كلام العجم. مات سنة ٤٦٥. بغية الوعاة ٢ / ٣٠٨.

(٢) محمد بن على بن محمد المالقيّ يعرف بالشّلوبين الصغير ، شرح أبيات سيبويه شرحا مفيدا وكمل شرح شيخه ابن عصفور على الجزوليّة ومات سنة ٦٠٦. المصدر السابق ١ / ١٨٧.

(٣) تمامه «زهير حساما مفردا من حمائل» ، وهو لأبي طالب بن عبد المطلب. يمدح بها زهيرا : اللغة : الحسام : السيف القاطع ، الحمائل : جمع حمالة ، وهي علاقة السيف.

(٤) لم يسمّ قائله.

(٥) تمامه «وصاحب الركب عثمان بن عفّانا» ، وهو لكثير بن عبد الله النهشلي ، أو لاوس بن مغراء ، أو لحسان بن ثابت.

(٦) هو لتأبّط شرّا. اللغة : النياف : التامة الطول والحسن. الغرّاء : البيضاء الحسنة ، الثنايا : الأسنان الموجدة في الفم.

٦٩١

تنبيهات : الأوّل : قد يرد الفاعل اسم إشارة متبوعا بذي اللام وعلما ومضافا إلى اسم الجلالة كقوله [من الرمل] :

٧٤٨ ـ بئس هذا الحيّ حيّا ناصرا

 ... (١)

وقول سهل بن خيف : شهدت صفين وبئست صفون ، وقول بعض العبادلة : بئس عبد الله إن كان كذا ، وقول الشاعر [من الرمل] :

٧٤٩ ـ بئس قوم الله قوم طرقوا

 ... (٢)

وكلّ ذلك من الشذوذ ، بحيث لا يقاس عليه. قال الجرميّ باطّراد المضاف إلى اسم الجلالة وغيره بتأويل ما ورد منه ، ومن العلم على أنّه المخصوص ، والفاعل مضمر ، حذف مفسّره.

الثاني : القول بأنّ كلّا من نعم وبئس يرفع فاعلا مبنيّ على مذهب البصريّين والكسائيّ القائلين بفعليتهما ، وأمّا جمهور الكوفيّين القائلين باسميّتهما ، فقال ابن العلج في البسيط : ينبغي أن يكون المرفوع بعدهما تابعا عندهم لنعم ، أمّا بدلا أو عطف بيان ، ونعم اسم يراد به الممدوح ، فكأنّك قلت : الممدوح الرجل زيد.

الثالث : الجمهور على أنّه لا يجوز الفصل بين نعم وأخواتها وفاعلها بظرف ولا غيره ، وفي البسيط يجوز الفصل لتصرّف هذا الفعل في رفعه الظاهر والمضمر وعدم التركيب ، وقال الكسائيّ يجوز الفصل بمعمول الفاعل نحو : نعم فيك زيدا راغب ، وقال أبو حيّان : في الشعر ما يدلّ له قال [من الوافر] :

٧٥٠ ـ ...

وبئس من المليحات البديل (٣)

قال : وورد الفصل بإذن وبالقسم في قوله [من الطويل] :

٧٥١ ـ ...

لبئس إذن راعي المودّه والوصل (٤)

وقوله [من الرمل] :

٧٥٢ ـ بئس قوم الله قوم طرقوا

 ... (٥)

«أو ضميرا مستترا» فيه وجوبا «مفسّرا بتمييز» مؤخّر عن الفعل مطابق للمخصوص في الإفراد والتذكير ، وفروعهما عامّ في الوجود قابل لأل ، فلا يقال : نعم شمسا هذه الشمس ، لأنّ الشمس مفرد في الوجود ، ولا يفسّر بمثل وغير وأي وأفعل

__________________

(١) تمامه «ليت أحياءهم فيمن هلك» ، لم يسمّ قائله.

(٢) تمامه«فقروا جارهم لحما وحر» ، وهو مجهول القائل.

(٣) صدر «فبادرن الديار يزفن فيها» ، وهو لرفاعة بن عاصم الفقعسى.

(٤) صدره «أروح ولم أحدث ليلي زيارة» ، وهو لأبي هلال الأحدب.

(٥) تقدّم برقم ٧٤٩.

٦٩٢

التفضيل ، فلا يقال : نعم أفضل منك زيد ، لأنّه خلف عن فاعل مقرون بأل ، فاشترط صلاحيّته لها ، وقد يحذف عند فهم المعنى كقوله (ع) : من توضّأ يوم الجمعة فيها ونعمت ، أي فبالسنة أخذ ، ونعمت السنة سنة ، فأضمر الفاعل على شريطة التفسير ، وحذف المميّز للعلم به ، ونصّ سيبويه على لزوم ذكره ، وممّن أجاز حذفه ابن عصفور وابن مالك.

اختلاف النحاة في الجمع بين التمييز والفاعل الظاهر في كلام واحد : تنبيهان : الأوّل : اختلفوا في الجمع بين التمييز وبين الفاعل الظاهر على أقوال : أحدها : المنع مطلقا ، إذ لا إبهام يرفعه التمييز ، وعليه سيبويه والسيرافيّ وجماعة. والثاني : الجواز مطلقا وعليه المبرّد وابن السراج والفارسيّ ، وهو مختار ابن مالك ، قال : ولا يمنع منه زوال الإبهام ، لأنّ التمييز قد يؤتي به للتأكيد ، وممّا ورد منه قوله [من البسيط] :

٧٥٣ ـ والتغلبيّون بئس الفحل فحلهم

فحلا ... (١)

وقوله [من البسيط] :

٧٥٤ ـ نعم الفتاه هند لو بذلت

 ... (٢)

والثالث : وعليه ابن عصفور ، فإن أفاد التمييز ما لم يفده الفاعل جاز الجمع بينهما كقوله [من الوافر] :

٧٥٥ ـ ...

فنعم المرء من رجل تهامي (٣)

فالتمييز هنا أفاد معنى لم يفده الفاعل ، وهو كونه تهاميّا ، وان لم يفد امتنع الجمع.

الثاني : ما حكاه المصنّف من أنّ الفاعل في نحو : نعم رجلا زيد ضمير ، وأنّ المنصوب تمييز ، هو مذهب سيبويه والجمهور ، وذهب الكسائيّ والفرّاء إلى أنّه لا ضمير في الفعل ، بل المرفوع بعد المنصوب هو الفاعل واختلفا في المنصوب ، فقال الكسائيّ : هو حال ، وقال الفرّاء : محوّل عن الفاعل ، والأصل : نعم الرجل زيد ، ويقبح عنده تأخّره عن زيد ، وأجازه الكسائيّ تأخيره عنه. والصحيح رأي الجمهور بدليل قولهم : نعم رجلا كان زيد ، فادخلوا عليه الناسخ.

وحقّ الفاعل أن يذكر بعد الفعل ، ثمّ يذكر المخصوص ، وهو المقصود بالمدح والذمّ بعد الفاعل مطابقا للفاعل في الإفراد والتذكير وفروعها لكونه عبارة عن الفاعل

__________________

(١) تمامه «وأمّهم زلّاء منطبق» ، وهو لجرير بن عطية. اللغة : زلّاء : المرأة إذا كانت قليلة الحم الإليتين ، منطبق : المراد به هنا الّتي تتأزر بما يعظم عجيزتها.

(٢) تمامه «ردّ التحيّة نطقا أو بإيماء» ، وهو مجهول القائل. اللغة : الايماء : الاشارة.

(٣) صدره «تخيّره فلم يعدل سواه» ، وهو لأبي بكر بن الأسود المعروف بابن شعب الليثي.

٦٩٣

في المعنى ، وكذا يذكر المخصوص بعد التمييز ، لأنّه قائم مقام الفاعل المضمر ، ولا يجوز تأخّره عن المخصوص إلا في ضرورة خلافا للكوفيّين ، وعلى مذهبهم بني الحريري قوله في الملحة (١) [من الرجز] :

٧٥٦ ـ تقول منه نعم زيد رجلا

وبئس عبد الله منه بدلا

والسرّ في ذلك أنّه لمّا كان نعم وبئس للمدح العامّ والذّمّ العامّ الشايعين في كلّ خصلة محمودة أو مذمومة المستعبد تحقيقها ، سلكوا بهما في الأمر العامّ طريقي الإجمال والتفصيل لقصد مزيد التقرير ، فجاؤوا بعد الفعل بما يدلّ على المخصوص بالمدح والذمّ ، حتّى يتوجّه المدح والذمّ إلى المخصوص به أولّا على سبيل الإجمال لكونه فردا من الجنس ، ثمّ عقّبوه بذكر المخصوص ، حتّى يتوجّه المدح والذّمّ إليه ثانيا على سبيل التفضيل ، فيحصل من تقوي الحكم ومزيد التقرير ما يزيل ذلك الاستبعاد.

إعراب المخصوص : واختلف في رفع المخصوص ، فقيل : «يجعل مبتدأ مقدّم الخبر» ، فهو الجملة قبله ، «أو» يجعل «خبرا محذوف المبتدإ» وجوبا ، فتقدير نعم الرجل زيد ، الممدوح زيد ، والوجهان جائزان عند الجمهور. وقال سيبويه وابن الخروف وابن الباذش : يتعيّن الأوّل ، وقيل بتعيّن الثاني ، وقيل : يجعل مبتدأ محذوف الخبر وجوبا ، وإليه ذهب ابن عصفور ، قال ابن مالك في شرح التسهيل : وليس بصحيح ، لأنّ هذا الحذف لازم ، ولا نجد خبرا يلزم حذفه ، إلا ومحلّه مشغول بشيء يسدّ مسدّه ، وقيل : يجعل بدلا من الفاعل ، وإليه ذهب ابن كيسان ، وردّ بأنّه لازم ، ولا شيء من البدل بلازم (٢).

ومثّل المصنّف (ره) للأحكام المذكورة بقوله : «نحو نعم المرأة هند وبئس نساء الرجل الهندات ، وساء رجلا زيد» وتقول أيضا : نعم الرجل زيد ، ونعم رجلا زيد ، ونعم الرجلان الزيدان ، ونعم رجلين الزيدان ، ونعم المرأتان الهندان ، ونعم المرأتين الهندان ، ونعم الرجال الزيدون ، ونعم رجالا الزيدون ، ونعم النساء الهندات ، ونعم نساء الهندات ، وقس على ذلك.

تنبيهات : الأوّل : للمخصوص أحكام لم يذكرها المصنّف طلبا للاختصار ، ولا بأس بذكرها.

__________________

(١) ملحه الإعراب منظومة في النحو لأبي محمد قاسم بن على الحريريّ المتوفى سنة ٥١٦.

(٢) المشهور والمقبول من هذه الآراء الرأي الأوّل والثاني ، يعني المبتدأ المؤخّر ، أو خبر لمبتدإ محذوف ، وابن مالك أيضا يختارهما ، وهو يقول :

ويذكر المخصوص بعد مبتدأ

أو خبر اسم ليس يبدو أبدا

(شرح ابن عقيل ٢ / ١٦٦)

٦٩٤

فمنها أنّه يغلب أن يختصّ بأن يكون معرفة أو مقاربا لها بالتخصيص ، نحو : نعم الفتى رجل من قريش ، وإن يصلح للإخبار به عن الفاعل موصوفا بالممدوح بعد نعم وبالمذموم بعد بئس كقولك في نعم الرجل زيد ، وبئس الولد العاق أباه : الرجل الممدوح زيد ، والولد المذموم العاق أباه ، فإن وقع غير مختصّ ولا صالح للإخبار عنه ، بل وقع مباينا له أوّل كقوله تعالى : (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ) [الجمعة / ٥] ، فإنّ الفاعل هنا المثل بالّذين مباين له ، فلو وصفت المثل بالمذموم ، وجعلته مبتدأ ، امتنع في الظاهر الإخبار عنه بالّذين ، إذ لا يقال : المثل المذموم الّذين ، لأنّ الّذين ليس بمثل فيؤوّل بحذف المضاف ، والتقدير مثل القوم مثل الّذين ، فيصحّ الإخبار به عن الفاعل حينئذ.

ومنها أنّه قد يدخله ناسخ : نحو : نعم الرجل كان زيد ، وبئس الرجل ظننت عمرا ، فالجملة في الأوّل في موضع خبر كان وفي الثاني في موضع مفعولي ظنّ.

ومنها أنّه قد يتقدّم على الفعل ، نحو : زيد نعم الرجل ، فتعيّن كونه مبتدأ على القول بفعلية نعم وبئس ، والجملة بعده خبر ، وعلى القول باسميّتها فجوّزوا أن يكون مبتدأ ، والمخصوص الخبر ، وبالعكس.

ومنها أنّه قد يحذف لدليل يدلّ عليه ، نحو : (نِعْمَ الْعَبْدُ) [ص / ٣٠] أي أيوب و: (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) [الذاريات / ٤٨] أي نحن ، وقيل : إنّما يحذف إذا تقدّم ذكره ، والأكثرون على عدم اشتراطه وتخلّفه إذا حذف صفته ، وهي إن كانت اسما فوقاق ، نحو : نعم الرجل حليم كريم ، أي رجل حليم ، وإن كانت فعلا نحو : نعم الصاحب تستعين به فيعينك ، أي رجل ، فممنوع عند الأكثر ، وجائز عند الكسائيّ ، وغالب إن كان الفاعل ما ، نحو : بئسما تشترون به ، وقليل دونها كالمثال المذكور عند ابن مالك ، وأقلّ منه أن يحذف المخصوص وصفته ، ويبقي متعلّقها كقوله [من الرجز] :

٧٥٧ ـ بئس مقام الشيخ إمرس إمرس

 ... (١)

أي مقام مقول فيه إمرس إمرس ، فحذف المخصوص وصفته ، وأبقي معمول القول.

الثاني : إذا كان المخصوص ، مؤنّثا جاز أن يقال : نعمت وبئست مع تذكير الفاعل ، لأنّهما في المعنى شي واحد ، نحو : نعمت الثواب الجنّة ، وبئست المقام النار ، والأجود التذكير ، نحو : نعم الثواب الجنّة ، قاله في التسهيل وشرحه ، وأمّا إذا كان مؤنّثا فقد مرّ في باب الفاعل أنّ الأجود عدم إلحاق علامة التأنيث أيضا.

__________________

(١) تمامه «إمّا على قعو وإمّا اقعنسس» ، وهو مجهول القائل. اللغة : القعو : البكرة من خشب : اقعنس : تأخّر ورجع إلى خلف.

٦٩٥

الثالث : يجوز في فاعل الفعل المجري نعم وبئس الجرّ بالباء الزائدة والاستغناء عن أل وإضماره على وفق ما قبله كقوله [من المديد] :

٧٥٨ ـ حبّ بالزّور الّذي لا يرى

منه إلا صفحة أو لمام (١)

ونحو : فهم زيد والزيدون كرموا رجالا نظرا لما فيه من معنى التعجّب.

حبّذا ولا حبّذا : «ومنها» أي من أفعال المدح والذّمّ «حبّ ولا حبّ ، وهما كنعم وبئس» فحبّ كنعم ، ولا حبّ كبئس ، وتزيد حبّ على نعم بأنّها تشعر بأنّ الممدوح محبوب للقلب وقريب من النفس ، وأصلها حبب بضمّ العين ، أي صار حبيبا محوّلا من حبب بفتحهما ، ثمّ ادغم فصار حبّ ، وألزم منع التصرّف لما مرّ.

تنبيه : دخول لا في الذمّ على حبّ لا يخلو من إشكال ، لأنّ لا لا تدخل على فعل ماض جامد ، ولا يعمل في اسم إذا لم يكن جنسا ، ولا يكون غير مكرّرة ، إذا لم تعمل في الاسم الّذي دخلت عليه إلا على قول أبي الحسن وأبي العباس ، وهو ضعيف ، قاله في التصريح.

«والفاعل» أي فاعل حبّ ولا حبّ «ذا مطلقا» أي في حالة الإفراد وضدّية والتذكير وضدّه ، فلا يتغيّر عن الإفراد والتذكير ، وإن كان المخصوص بخلاف ذلك بل يقال : حبّذا زيد ولا حبّذا هند ، وحبّذا الزيدان ، ولا حبّذا الهندان ، وحبّذا الزيدون ، ولا حبّذا الهندات. قال [من الطويل] :

٧٥٩ ـ ألا حبّذا أهل الملأ غير أنّه

إذا ذكرت ميّ فلا حبّذا هيا (٢)

واختلف في علّة التزام ذلك ، فقال ابن مالك : لأنّ ذلك كلام جرى مجري المثل ، والأمثال لا تغيّر كما في قولهم : في الصيف ضيّعت اللبن (٣) يقال لكلّ بكسر التاء وإفرادها ، ونسب هذا القول للخليل ، وقال ابن كيسان : لأنّ المشار إليه مضاف محذوف ، و

__________________

(١) هو للطرماح بن حكيم ، اللغة : صفحة الشيء : جانبه. اللمام : جمع لمّة ، وهي شعر الرأس الّذي يصل إلى شحمة الأذن.

(٢) هو لذي الرّمة أو لكترة أم شملة. اللغة : الملأ : الجماعة.

(٣) ويروي «الصيّف ضيّعت اللبن» والتاء من ضعيف مكسور في كلّ حال ، إذا خوطب به المذكّر والمونث والاثنان والجمع ، لأن المثل في الأصل خوطبت به امرأة ، وهي دختنوس بنت لقيط بن زرارة كانت تحت عمرو بن عداس ، وكان شيخا كبيرا ففركته (فركته : كرهته) فطلقها ، ثمّ تزوّجها فتي جميل الوجه ، أجدبت ، فبعثت إلى عمرو تطلب منه حلوبه فقال عمرو «في الصيف ضعيت اللبن» فلمّا رجع الرسول ، وقال لها ما قال عمرو ، ضربت يدها على منكب زوجها ، وقالت : «هذا ومذقه خير» تعني أنّ هذا الزوج مع عدم اللبن خير من عمرو. فذهبت كلماتها مثلا. فالأوّل يضرب لمن يطلب شيئا قد فوّته على نفسه ، والثاني يضرب لمن قنع باليسير إذا لم يجد الخطير. وإنّما خصّ الصيف لأن سؤالها الطلاق كان في الصيف ، أو أن الرجل إذا لم يطرق ماشيته في الصيف كان مضيعا لألبانها عند الحاجة. الميداني ، مجمع الأمثال ، الجزء الثاني ، الطبعة الثانية ، بيروت ، دار الجيل ١٤٠٧ ه‍. ص ٤٣٤.

٦٩٦

التقدير في حبّذا هند مثلا حبّذا حسن هند. وفي حبّذا زيد ، حبّذا أمره ، أو شأنه ، فالمقدّر المشار إليه مذكّر مفرد ، واقيم المضاف إليه مقامه ، وردّه ابن العلج بأنّه لم ينطق به في وقت ، وقال الفارسيّ في البغداديات : لأنّ ذا جنس شايع ، فالتزم فيه الإفراد كفاعل نعم ، إذا كان ضميرا ، ولهذا يجامع التمييز ، فيقال : حبّذا زيد رجلا.

فائدة : إنّما لم تغيّر الأمثال ، لأنّ المثل من قبيل الاستعارة ، والاستعارة يجب أن يكون لفظ المشبه به مستعملا في المشبه ، فلو تطرّق تغيير إلى المثل لما كان لفظ المشبّه بعينه ، فلا تكون استعارة ، فلا يكون مثلا ، وتحقيق ذلك أنّ المستعار يجب أن يكون اللفظ الّذي هو حقّ المشبه به أخذ منه عارية للمشبه ، فلو وقع فيه تغيير لما كان هذا هو اللفظ الّذي يختصّ المشبه به ، فلا يكون عارية ، فلهذا لا يلتفت في المثل إلى مضربه تذكيرا وتأنيثا وإفرادا وتنثية وجمعا ، بل إنّما ينظر إلى مورد المثل.

مثلا إذا طلب رجل شيئا ضيّعه قبل ذلك ، تقول : بالصيف ضيّعت اللبن ، بكسر تاء الخطاب ، لأنّ المثل قد ورد في امرأة ، وأمّا ما يقع في كلامهم من نحو : ضيّعت اللبن بالصيف على لفظ المتكلّم فليس بمثل ، بل مأخوذ من المثل وإشارة إليه. قاله العلامة التفتازانيّ في شرح التلخيص. وقال بعض المحقّقين : إنّما لم تفتح التاء من قولك : في الصيف ضيّعت اللبن ، إذا كان المخاطب مذكّرا ، لأنّ المذكّر المخاطب الّذي هو ضرب له المثل يشبه بالمخاطبة الّتي هي مورد المثل ، فهو مؤنّث ادّعاء.

تنبيه : ما ذكره المصنّف من أنّ حبّ فعل وذا فاعلها ، وإنّما باقيان على أصلهما هو المشهور ، وهو قول درستويه وابن برهان وابن خروف وابن كيسان وابن مالك ، ونسب إلى ظاهر مذهب سيبويه ، وقال ابن خروف بعد أن مثّل بحبّذا زيد : حبّ فعل ، وذا فاعله ، وزيد مبتدأ ، وخبره حبّذا.

هذا قول سيبويه ، وأخطأ عليه من زعم غير ذلك ، وذهب قوم منهم الأخفش وخطاب (١) إلى أنّهما ركّبا ، وغلبت الفعلية لتقدّم الفعل ، فصار الجميع فعلا ، وما بعده فاعل ، وذهب المبرّد وابن السرّاج ، ووافقهما ابن عصفور ، إلى أنّهما ركّبا ، وغلبت الاسميّة لشرف الاسم ، فصار الجميع اسما مبنيّا ، وما بعده خبره ، ونسب ابن عصفور هذا القول إلى سيبويه.

__________________

(١) خطاب بن يوسف بن هلال القرطبي ، كان من جلّة النحاة ومحققيهم والمتقدّمين في المعرفة بعلوم اللسان على الإطلاق ، اختصر الزاهر لابن الانباري ، وله حظّ من قرض الشعر ، وهو صاحب كتاب الترشيح ، ينقل عنه أبو حيّان وابن هشام كثيرا ، بغية الوعاة ١ / ٥٥٣.

٦٩٧

قلت : وقد مضي فيما نقلته عن الهمع من استدلال سيبويه على حرفيّته ، إذ ما التصريح منه باسميّة حبّذا ، والعهدة عليه ، واستدلّ القائلون ببقاء حبّذا على أصلهما بأنّ الأصل عدم التغيير وباقتصارهم على حبّ ، إذا عطف على حبّذا كقوله [من السريع] :

٧٦٠ ـ فحبّذا ربّا وحبّ دينا (١)

أي فحبّذا دينا ، فحذف ، ولم يتغيّر المعنى ، ولا يفعل ذلك بنحو إذما وأخواته من المركّبات الّتي تغيّر حكمها بالتركيب ، واستدلّ مدّعي غلبة الفعلية بقولهم فيما حكى لا يحبّذه ، فجاؤوا لها بمضارع ، وردّ بجواز حذف المخصوص كقوله [من الطويل] :

٧٦١ ـ ألا حبّذا لو لا الحياء وربّما

منحت الهوي ما ليس بالمتقارب (٢)

أي ألا حبّذا حالتي معك. ولو كان فاعلا لم يجز ، لأنّ الفاعل لا يجوز حذفه ، وأمّا يحبّذه فمضارع حبّذه ، إذا قال له حبّذا ، لا مضارع حبّذا ، واستدلّ مدّعي غلبة الاسميّة بإكثار العرب من دخول يا عليها من غير استيحاش كقوله [من البسيط] :

٧٦٢ ـ يا حبّذا جبل الرّيّان من جبل

وحبّذا ساكن الريّان من كانا (٣)

وقوله [من السريع] :

٧٦٣ ـ يا حبّذا القمراء واليل السّاج

وطرق مثل ملاء النسّاج (٤)

وبعدم الفصل بين حبّ وذا ، وبعدم تصرّف ذا بحسب المشار إليه.

«وبعده» أي بعد الفاعل المخصوص ، ولا يجوز تقدّمه عليه ، إذا لا يفصل بين حبّ وفاعلها ، وإن جاز ذلك في نعم على قول كما تقدّم ، لأنّ نعم هي الأصل المعقود عليه الباب ، ويجوز في الأصول لقوّتها ما لا يجوز في غيرها ، قاله ابن بابشاذ في شرح الجمل.

ولا تقدّمه على حبّذا بجملتها ، وإن جاز في نعم أيضا لما ذكر ، ولأنّها جارية مجري المثل كما مرّ ، ولئلا يتوهّم من قولك مثلا حبّذا كون المراد الاخبار بأنّ زيدا أحبّ ذا إن كان توهّما بعيدا ، نعم يجوز فصله من حبّذا بنداء كقول كثير [من الطويل] :

٧٦٤ ـ ألا حبّذا يا عزّ ذاك التساير

 ... (٥)

وبتمييز وحال كما سيأتي ، واختلف في إعرابه ، فقيل : هو مبتدأ ، والجملة من الفعل والفاعل قبله خبر ، والرابط ذا ، أو العموم إن قلنا : أريد الجنس ، وقيل : مبتدأ محذوف الخبر ، وقيل عكسه ، ويردّ هما أنّه يجوز حذف المخصوص ، فيلزم حذف الجملة

__________________

(١) قبله

«باسم الإله وبه بدينا

ولو عبدنا غيره شقينا».

(٢) هو لمرار (أو لمرداس) بن هماس الطائي.

(٣) هو لجرير بن عطية. اللغة : الريان : جبل ببلاد طي.

(٤) هو للحارثي. اللغة : الساج : الساكن ، الملاء : جمع الملاءه : الملحفة.

(٥) لم يوجد البيت في ديوان كثير.

٦٩٨

بأسرها من غير دليل وقيل عطف بيان ، وردّ بمجيئه نكرة واسم الإشارة معرفة كقوله [من البسيط] :

٧٦٥ ـ وحبّذا نفحات من يمانية

تأتيك من جبل الرّيّان أحيانا (١)

وقيل : بدل من ذا ، وردّ بأنّه على نيّة تكرار العامل ، وهو لا يلي حبّ ، وأجيب بعدم اللزوم بدليل أنّك أنت.

«ولك أن تأتي قبله» أي المخصوص «أو بعده بتمييز أو حال على وفقه» أي المخصوص في الإفراد والتذكير وفروعهما لاتّحادهما فيما صدقا عليه ، ولكونه عبارة عن المخصوص ، فلا جرم يوافقه ، وذكر أمثلة حبّذا جملة ، فقال : «حبّذا الزيدان» مثال لحبّذا إذا كان بعده المخصوص دون تمييز أو حال ، ونحو «حبّذا زيد راكبا» مثال لما كان بعده حال على وفقه في التذكير والإفراد ، ومثله حبّذا الزيدان راكبين ، والزيدون راكبين.

وكذا تأتي بالحال قبل المخصوص ، فتقول : حبّذا راكبا زيدا وراكبين الزيدان أو راكبين الزيدون ، وذو الحال هو ذا ، لا المخصوص ، لأنّ المخصوص لا يجيء إلا بعد تمام المدح أو الذّمّ لفظا أو تقديرا ، فالركوب في نحو الأمثلة المذكورة من تمام المدح ، ونحو «حبّذا امرأة هند» مثال لما كان قبله تمييز على وفقه في التأنيث والإفراد. ومثله حبّذا امرأتين الهندان وحبّذا نساء الهندات ، وكذا إذا كان بعده ، تقول : حبّذا هند امرأة والهندان امرأتين ، والهندات نساء. وإنّما جاز هنا تأخير التمييز عن المخصوص في السعة دون نعم وبئس كما مرّ ، لأنّ التمييز هنا عن الظاهر ، وهو ذا وهناك عن الضمير المستكن ، ففضل الظاهر على المضمر كما فضل عليه بجواز ترك التمييز هنا ، نحو : حبّذا زيد ، وجب الأتيان به اختيارا في نعم.

والعامل في الحال والتمييز حبّ اتّفاقا ، وإن كانت غير متصرّفة لأنّ الحال والتمييز تكفى هما رائحة الفعل. وهل تعمل في غيرهما؟ قال أبو حيّان : لا ينبغي أن يقدّم عليه إلا بسماع ، وقال غيره : تعمل في ما عدا المصدر كالظرف والمفعول له ومعه ، نحو : حبّذا زيد إكراما له ، وحبّذا وعمرا زيد بخلاف المصدر ، إذ هي غير متصرّفة ، فلا مصدر لها.

تنبيهات : الأوّل : ما ذكره المصنّف (ره) من أنّ المنصوب بعد المخصوص أو قبله يكون تمييزا أو حالا ، وهو الحقّ ، وقال الأخفش والفارسيّ والربعيّ : هو حال مطلقا ،

__________________

(١) هو لجرير. اللغة : النفحات : جمع النفحة : الطيب الّذي ترتاح له النفس ، الريان : اسم جيل ببلاد بني عامر.

٦٩٩

وأبو عمرو بن العلاء : تمييز مطلقا ، وابن عصفور : الجامد تمييز ، والمشتقّ حال ، وأبو حيّان : الجامد تمييز ، والمشتقّ إن أريد تقييد المدح به كقوله [من البسيط] :

٧٦٦ ـ يا حبّذا المال مبذولا بلا سرف

في أوجه البرّ إسرارا وإعلانا (١)

فحال وإلا فتمييز ، والمصنّف جوّز وقوعهما ، ولم يفرق بينهما ، فيحتمل أنّه قائل بقول ابن عصفور وبقول أبي حيان.

الثاني : اختلف في الأولى من تقديم الحال والتمييز على المخصوص وتأخيرهما عنه ، فقال الفارسيّ : الأولى التأخير ، وقال ابن مالك : الأولى التقديم ، وقال الجرميّ وابن الخروف : هما سواء في الحال ، ثمّ قال الجرميّ : تقديم التمييز قليل ، وقال ابن خروف أحسن.

__________________

(١) البيت بلا نسبة.

٧٠٠