الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

الثاني : مدار وزن الفعل المصدّر بواحدة من زوائده على وجودها ، فلو تغيّرت صورته مع وجودها أو وجود بدلها الّذي لا يلزم إبدالها به لم يقدح في وزن الفعل ، فالأوّل كاحمير ، والثاني كهراق وهرق علمين ، فإنّ الهاء وإن كانت ليست من زوائد الفعل ، إلا أنّها مبدلة من الهمزة إبدالا غير لازم ، فلم يضرّ ، لأنّ الأكثر في الاستعمال أراق وأرق.

الصفة : «والصفة» ويقال : الوصف أيضا ، وهو كون الاسم دالّا على ذات مبهمة مع بعض صفاتها «تمنع صرف الاسم الموازن للفعل» كما مرّ آنفا «بشرط كونها الأصل فيه» ، أي بحسب الوضع احترازا عن نحو أرنب بمعنى ذليل ، لأنّ وضعه للحيوان المعروف ، فلا أثر لما طرأ عليه من الوصفيّة ، كما لا أثر لما طرا من الاسميّة في أدهم للقيد من الحديد ، وأسود للحيّة السوداء ، وأرقم للحيّة الّتي فيها نقط سود بيض.

وربّما اعتدّ بعضهم باسميّتها فصرفها ، وأمّا أجدل للصقر ، وأخيل لطائر ذي خيلان ، وأفعي للحيّة ، فإنّها أسماء في الأصل والحال ، فلهذا صرفت في لغة الأكثر ، وبعضهم منع صرفها للمح معنى الصفة ، وهي القوّة في أجدل ، والتلوّن في أخيل ، والإيذاء في الأفعي ، لكن المنع في أفعي أبعد منه في الأولين ، لأنّ الأخيل من الخيول ، وهو الكثير الخيلان ، والأجدل من الجدال ، وهو الشدّة ، وأمّا الأفعي فلا مادّة لها في الاشتقاق ، لكن ذكرها يقارن تصوير إيذائها ، فاشبهت المشتقّ ، وجرت مجراه على هذه اللغة ، قاله البدر بن مالك.

وعدم قبول التاء لما مرّ ، واعلم أنّ على المصنّف (ره) في هذا الكلام انتقادا ، وذلك أنّ قوله : يمنع صرف الموازن للفعل تكرار لا طائل تحته لما علم قبله من أنّ وزن الفعل يمنع الوصف ، بل هو موهم لكون هذه الصفة غير ذلك الوصف ، وبطلانه ظاهر ، فإن أراد بذكر ذلك بيان الشرطين المذكورين ، فلا اختصاص لوزن الفعل بهما ، بل يشترطان أيضا في منع الوصف الكائن بالألف والنون المزيدتين إمّا عدم قبول التاء ، فقد مرّ اشتراطه في كلامه صريحا ، وإمّا اشتراط أصليّة الصفة ، فقد صرّح به غير واحد للاحتراز عن نحو : صفوان بمعنى فأس ، لأنّ وضعه للحجر الأملس ، فلا أثر لما طرأ عليه من الوصفيّة ، فلو قال : والصفة شرطها أن تكون في الأصل ، كما قال ابن الحاجب لسلم من ذلك.

«و» أمّا اشتراط «عدم قبول التاء» فقد علم سابقا في كلّ من الوضعين «فأربع في نحو : مررت بنسوة أربع منصرف لوجهين» : أحدهما عدم أصليّة الوصف فيه ، لأنّه وضع

٦٤١

اسما للعدد ، فلم يلتفت لما طرأ عليه من الوصفيّة ، والثاني قبوله للتاء في نحو : مررت برجال أربعة.

تنبيه : ما كان أحد سببيه العلميّة إذا نكر صرف ، فتزول العلميّة ، ويبقى السبب الثاني غير مؤثّر ، وهو إمّا التأنيث أو الزيادة أو العدل أو الوزن أو العجمة أو التركيب أو ألف إلحاق المقصورة ، نحو : ربّ فاطمة وعمران وعمر وأحمد وإبراهيم ومعدي كرب وأرطي لقيتهم.

ويستثنى من ذلك ما كان قبل العلميّة صفة كأحمر إذا كانا علمين فنكّرا ، فسيبويه يبقيه غير منصرف ، وخالفه الأخفش أوّلا ، فقال بصرفه بناء على أنّ الصفة إذا زالت لا تعود ، وردّ بأنّ زوال الصفة كان لمانع ، وهو العلميّة ، وإذا زال المانع رجعت الصفة ، ثمّ رجع الأخفش عن مخالفة سيبويه ، فوافقه في كتابه الأوسط. قال ابن مالك في شرح الكافية : وأكثر المصنّفين لا يذكرون إلا مخالفته ، وذكر موافقته أولى ، لأنّها آخر قوليه ، انتهى.

والتصغير المزيل لأحد السببين مخلّ بمنع كحميد وعمير في تصغير أحمد وعمر (١) ، فينصرفان لزوال الوزن والعدل. أمّا زوال الوزن فواصح ، وأمّا زوال العدل فقال ابن هشام في حواشي التسهيل : إنّ نحو : عمر قد حكموا بأنّه معدول الصيغة ، والتصغير لا يزيل شيئا ممّا ثبت ، إذا لم يكن معتادا له فالحكم بصرفه بعيد ، انتهى. قال الأزهريّ : وجوابه أنّ ذلك في العدل التحقيقيّ ، أمّا العدل التقديرى فلا ، لأنّهم إنّما ارتكبوه حفظا لقاعدتهم ، لمّا رأوه غير منصرف ، فإذا صرف فلا حاجة لتقديره.

«وجميع الباب» أي باب ما لا ينصرف «يكسر» أي يجر بالكسرة وجوبا على أصله «مع اللام» معرفة كانت ، نحو : مررت بالمساجد ، أو موصولة كالأعمي والأصم ، أو زائدة كقوله [من الطويل] :

٦٧٠ ـ رأيت الوليد بن إليزيد مباركا

 ... (٢)

ومثلها أم في لغة طي كما ذكره ابن مالك في التسهيل وغيره.

«والإضافة» أي إضافته إلى غيره ، نحو : مررت بأحدكم ومساجد الله. «والضرورة» أي ما يضطرّ إليه الشاعر [من الطويل] :

__________________

(١) سقط «في تصغير احمد وعمر» في «ح».

(٢) تمامه «شديدا بأعباء الخلافة كاهلة» وهو لابن ميادة واسمه الرماح بن أبرد بن ثوبان. اللغة : أعباء الخلافة ، الأعباء : جمع عبء ، وهو الحمل الّذي يثقل عليك ، الكاهل : ما بين الكتفين.

٦٤٢

٦٧١ ـ إذا ما غزا في الجيش حلّق فوقهم

كتائب طير تهتدي بعصائب (١)

والقوافي مجرورة.

وإنّما قال : يكسر ، ولم يقل ينصرف ، لأنّ المسألة خلافية ، فبيّن ما هو المتّفق عليه ، وأعرض عن بيان الخلاف ، لأنّه خلاف لا يثمر ، وهو على ثلاثة أقوال ، مرّ منها قولان في أوّل الباب ، والثالث : وهو التحقيق أنّه إن زالت إحدى علّتيه باللام أو الاضافة كما في العلم ، فمنصرف ، وان بقيت العلّتان كما في أحمر بقي على منع صرفه (٢).

هذا بالنسبة إلى ما أضيف ، أو دخلته اللام ، وأمّا بالنسبة إلى الضرورة فقيل : ينصرف ، وهو المشهور ، لأنّ الضرورة تجيز ردّ الشيء إلى أصله ، وأصل الأسماء الصرف ، وقيل : بل هو باق على منع صرفه لوجود العلّتين ، وإنّما جعل كالمنصرف في الصورة باعتبار إدخال الكسرة عليه أو التنوين كما سيأتي.

يصرف الممنوع من الصرف ويمنع المصروف للضرورة : تنبيهات : الأوّل : قد ينوّن غير المنصرف للضرورة والتناسب ، والضرورة قد تكون موجبة التنوين ، وقد تكون غير موجبة له ، فالأوّل كقوله [من الطويل] :

٦٧٢ ـ ويوم دخلت الخدر خدر عنيرة

 ... (٣)

إذ لا محيص فيه عن التنوين ، لأنّه لا يستقيم الوزن إلا به ، والثاني كقوله [من الطويل] :

٦٧٣ ـ أعد ذكر نعمان لنا إنّ ذكره

هو المسك ما كررته يتضوّع (٤)

إذ لو بقي نعمان هنا على منع صرفه لم ينكسر الوزن ، إلا أنّه يكون فيه الزحاف

__________________

(١) هو للنابغة الذبياني اللغة : حلّق : ارتفع في طيرانه واستدار ، الكتائب : جمع كتيبة بمغني الجيش ، العصائب : جمع عصابة بمغني الجماعة من الناس أو الخيل أو الطير.

(٢) يبدو أنّ الممنوع من الصرف يبقي ممنوعا من الصرف وإن أضيف أو دخلته اللام ، يعني عند ما أضيف أو دخلته اللام يجرّ بالكسرة فقط ، ولا يصير منصرفا ، يقول ابن مالك في الألفية :

الصرف تنوين أتي مبيّنا

معنى به يكون الاسم أمكنا

(شرح ابن عقيل ٢ / ٣٢٠)

يعني علامة المنصرف أن يدخله التنوين ، ويقول أيضا :

وجرّ بالفتحة ما لا ينصرف

ما لم يضف أو يك بعد أل ردف

(شرح ابن عقيل ١ / ٧٧)

يعني الاسم الذي لا ينصرف جرّ بالكسرة إن أضيف أو إن دخلته الألف واللام.

(٣) تمامه «فقالت لك الويلات إنك مرجلي» وهو لامرئ القيس. اللغة : الخدر : الهودج.

(٤) لم يسم قائله. اللغة : أعد : أمر من الإعادة بمعنى التكرار ، يتضوّع : من التضوغ بمعنى التحريك وانتشار الرائحة.

٦٤٣

المسمّى بالكفّ (١) ، وهو قبيح عندهم ، فدعت الضرورة إلى تنوينه لتحصيل أمر مستحسن ، قاله الدمامينيّ في المنهل. قال بعضهم : والكفّ ليس قبيحا في الطويل متّفق عليه ، فقد ذهب الأخفش إلى أنّه أحسن من القبض (٢) ، انتهى.

وأمّا التناسب فالمراد به تناسب كلمة معه مصروفة ، إمّا بوزن كسبأ بنبأ ، أو قرينه منه ك سلاسلا وأغلالا [الإنسان / ٤] ، أو لا ، ولكن تعدّدت الألفاظ المصروفة ، واقترنت اقترانا متناسبا منسجما ك ودا ولا سواعا لا يغوثا ويعونا ونسرا (٣) [نوح / ٢٣] ، وآخر الفواصل الأسجاع كـ (قَوارِيرَا) [الإنسان / ١٥].

قال جماعة منهم ابن بابشاذ في شرح الجمل وابن عصفور والرضيّ في شرح الحاجبية وابن هشام في الجامع الصغير : لا ينوّن ما فيه الألف المقصورة لعدم الضرورة ، لأنّ التنوين حرف ساكن كالألف ، ولا داعي أن يحذف ساكن ، ويؤتى بدله بمثله ، وردّ بأنّ هذا إنّما يتمّ إن لو كان الساكنان متساوين ، وليس كذلك ، فإن الألف لا تقبل الحركة ، والنون الساكنة تقبلها ، وقد تدعو الضرورة إلى نقل حركة متأخّرة إلى ساكن متقدّم ، لا يتأتّى الوزن إلا به ، فيحذف الألف ، ويؤتى بالتنوين ليتأتّى النقل كما قال الشاعر [من الكامل] :

٦٧٤ ـ علقتها غضبى إن استرضها نفرت

وبدلتني بالإقبال إعراضا (٤)

الثالث : قال السيوطيّ في شرح الألفية : إذا اضطرّ إلى تنوين مجرور بالفتحة فهل ينوّن بالنصب أو الجرّ؟ صرّح الرضيّ بالثاني ، ولو قيل بالوجهين كالمنادى لم يبعد ، انتهى. قلت : والظاهر أنّه لم يرد بتنوينه بالنصب سماع ، والقياس لا يجدي.

الرابع : قال الأخفش : صرف ما لا ينصرف مطلقا ، أي في الشعر ، وغيره لغة الشعراء ، وذلك أنّهم كانوا يضطرّون كثيرا لإقامة الوزن إلى صرف ما لا ينصرف ، فتمرّنت على ذلك ألسنتهم ، فصار الأمر إلى أن صرفوه في الاختيار أيضا ، وعليه حمل قوله تعالى : سلاسلا وأغلالا و (قَوارِيرَا.)

وقال الكسائي : إنّ صرف ما لا ينصرف مطلقا لغة قوم إلا أفعل منك وأنكر غيرها ، إذ ليس بمشهور عن أحد في الاختيار ، نحو : جاءني أحمد وإبراهيم ونحو ذلك ، و

__________________

(١) الزحاف : هو تغيير يقع على الحرف الثاني من السبب الخفيف أو الثقيل ، وله أنواع منها الكف ، وهو حذف الحرف السابع الساكن ، نحو : فاعلاتن. فاعلات : مفاعيلن. مفاعيل. يحيي معروف ، العروض العربي البسيط ، الطبعة الأولى. سمت ١٣٧٨ ش ، ص ٢٢ و ٢٠.

(٢) القبض : هو حذف الخامس الساكن ، نحو : فعولن ـ فعول ، ومفاعيلن ـ مفاعلن ، المصدر السابق ص ٢١.

(٣) في القرآن (وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ.)

(٤) ما وجدت البيت.

٦٤٤

أمّا للضرورة فلا خلاف في جواز صرفه ، وعدم جواز صرف أفعل منك في الضرورة مذهب الكوفيّين ، قالوا : لأنّ من مع مجرورها كالمضاف إليه ، فلا ينوّن ما هو كالمضاف (١) ، والأصل الجواز ، لأنّ اللكلام في الضرورة ، وبين المضاف وما هو كالمضاف فرق ، قاله الرضيّ.

الخامس : ذهب الكوفيون والأخفش وجماعة إلى جواز منع صرف المنصرف للضرورة ، كما جاز العكس لها ، واختاره ابن مالك وأبو حيّان كقوله [من الكامل] :

٦٧٥ ـ طلب الأزارق بالكتائب إذ هوت

بشيب غائلة النّفوس غدور (٢)

وأباه سائر البصريّين ، واختاره ثعلب في الكلام مطلقا ، وفصّل بعضهم بين ما فيه العلميّة وغيره ، فأجازه معها لوجود أحد السببين ومنعه مع غيرها ، ويؤيده أنّه لم يسمع إلا في العلم.

فائدة : قال ابن جنيّ في الخصائص : سألت أبا على. هل يجوز لنا في الشعر من الضرورة ما جاز للعرب أو لا؟ فقال : كما جاز أن نقيس منثورنا على منثورهم ، فكذلك يجوز لنا أن نقيس شعرنا على شعرهم ، فما أجازته الضرورة لهم ، أجازته لنا ، وما حظرته عليهم حظرته علينا ، وإذا كان كذلك فما كان من أحسن ضروراتهم ، فليكن من أحسن ضروراتنا ، وما كان من أقبحها عندهم ، فليكن من أقبحها عندنا ، وما بين ذلك ، انتهى.

فهنا انقضى كلام المصنّف (ره) على ما يتعلّق بالأسماء ، فشرع في الكلام على ما يتعلّق بالأفعال فقال :

__________________

(١) سقطت «فلا ينوّن ما هو كالمضاف» في «ح».

(٢) هو الأخطل. اللغة : والازارق : هم الأزارقة ، فرقة من الخوارج وأصحاب نافع بن الأزرق ، شيب : هو ابن يزيد من بني مرّة ، وأحد الثائرين على بني أمية ، غائلة النفوس : شرّها.

٦٤٥
٦٤٦

الفصل الثالث الحديقة الثالثة

٦٤٧
٦٤٨

فيما يختصّ بالأفعال

إعراب الفعل المضارع

الحديقة الثّالثّة : فيما يتعلّق بالأفعال.

يختصّ المضارع بالإعراب : فيرتفع بالتجرّد عن النّاصب والجازم.

وينصب بأربعة أحرف «لن» وهي لتأكيد نفي المستقبل و «كي» ومعناها السببيّة و «أن» وهي حرف مصدريّ ، والّتي بعد العلم غير ناصبة ، وفي «أن» الّتي بعد الظّنّ وجهان ، و «إذن» وهي للجواب والجزاء ، وتنصبه مباشرة مقصودا به للاستقبال. نحو : إذن أكرمك ، لمن قال : أزورك ، ويجوز الفصل بالقسم ، وبعد التإليه للواو والفاء وجهان.

تكميل : وينصب بأن مضمرة جوازا بعد الحروف العاطفة له على اسم صريح ، نحو : «للبس عباءه وتقرّ عيني» وبعد لام كي إذا لم يقترن بلا ، نحو : أسلمت لأدخل الجنّة ، ووجوبا بعد خمسة أحرف :

«لام الجحود» : وهي المسبوقة بكون منفي ، نحو : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ.) و «أو» بمعنى إلى أو إلا ، نحو : لالزمنك أو تعطيني حقّي. و «فاء السببية وواو المعية» ، المسبوقتين بنفي أو طلب ، نحو : زرني فأكرمك ، ولا تأكل السّمك وتشرب اللّبن. و «حتّى» بمعنى إلى وكي ، إذا أريد به الاستقبال ، نحو : أسير حتّى تغرب الشّمس ، وأسلمت حتّى أدخل الجنّة ، فإن أردت الحال كانت حرف ابتداء.

ش : الحديقة الثالثة فيما يتعلّق بالأفعال ممّا لم يسبق له ذكر ، إذ قد مرّ في الحديقة الأولى بيان حدّ الفعل وخواصّه وتقسيمه وأحكام أقسامه من الإعراب والبناء.

٦٤٩

رفع المضارع

يرتفع المضارع بالتجرّد عن الناصب والجازم : والكلام الآن في ما عدا ذلك ، «يختصّ» الفعل «المضارع» من بين أقسام الفعل «بالإعراب» ، وذلك لمشابهته الاسم فيما مرّ «فيرتفع بالتجرّد عن الناصب والجازم».

هذا أحد الأقول في رافعه ، وهو قول الفرّاء وحذّاق الكوفيّين ، وأورد عليه أن التجرّد أمر عدميّ ، والرفع وجوديّ ، والعدمّي لا يكون عاملا في الوجودي ، وردّ بمنع كونه عدميّا ، بل هو الإتيان بالمضارع على أوّل أحواله ، وهذا ليس بعدميّ ، ولو سلم فمن أين أنّه لا يعمل في الوجوديّ ، بل يعمل ، لأنّه هنا علّة لا مؤثّر ، كما في المبتدإ.

وذهب الكسائيّ إلى أنّ رافعه حرف المضارع (١) ، وثعلب إلى أنّه مضارعته الاسم ، والبصريّون إلى أنّه وقوعه موقع الاسم. قالوا : ولهذا إذا أدخل عليه نحو : إن ولم ولمّا امتنع رفعه ، لأنّ الاسم لا يقع بعدها ، فليس حينئذ واقعا موقع الاسم.

قال ابن هشام : وأصحّ الأقوال الأوّل ، وهو الّذي يجري على ألسنه المعربين ، حيث يقولون : مرفوع لتجرّده عن الناصب والجازم. قال : ويفسد قول الكسائيّ أنّ جزء الشيء لا يعمل فيه ، وقول ثعلب إنّ المضارعة أنّما اقتضت إعرابه من حيث الجملة ، ثمّ يحتاج كلّ نوع من أنواع الإعراب إلى عامل يقتضيه ، ثمّ يلزم على المذهبين أن يكون المضارع مرفوعا دائما ، ولا قائل به.

ويردّ قول البصريّين ارتفاعه بعد هلّا يقوم ، إذ الاسم لا يقع بعد حرف التحضيض وإنّما يرجّح عامل النصب والجزم على عامل الرفع. إذا دخل على الفعل لقوّته ، إذ هو لفظيّ ، وعامل الرفع معنويّ ، انتهى. وهو خلاف لا ثمرة له ، إذ لا ينشأ عنه حكم نطقيّ.

المضارع المنصوب ونواصبه

و «ينتصب» بحرف من أربعة أحرف على الأصحّ :

احدها «لن» وبدأ بها لملازمتها النصب ، نحو : (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ) [طه / ٩١] ، وهي حرف بالإجماع بسيطة على وضعها الأصليّ عند سيبويه والجمهور. وادّعى الفرّاء أنّ أصلها لا النافية ، فأبدلت الألف نونا ، وحجّته أنّهما حرفان نافيان ثنائيان ولا

__________________

(١) هذا القول فاسد ، لأنّ حرف المضارع بعض الفعل ، ولا ينفصل منه في اللفظ ، بل من تمام معناه. أبو البركات الانباري ، الإنصاف في مسائل الخلاف ، الجزء الثاني ، لاط ، صيدا ـ بيروت ، المكتبة العصرية ؛ ١٤١٩ ه‍ ، ص ٥٥٤.

٦٥٠

أكثر استعمالا ، ويردّه أنّ الإبدال لا يغيّر حكم المهمل ، فيجعله معملا ، وأنّ المعروف أنّما هو إبدال النون ألفا لا العكس ، نحو : (لَنَسْفَعاً) [العلق / ١٥] ، (وَلَيَكُوناً) [يوسف / ٣٢].

وزعم الخليل والكساني أنّ أصلها لا وأن الناصبه ، فحذفت الهمزة تخفيفا لكثرة الاستعمال ، كما حذفت في قولهم : ويلمه ، وأصله ويل أمّته ، والألف لالتقاء الساكنين ، هي والنون ، وحجّتهما قرب لفظهما منهما ، وأنّ معناهما من النفي والتخلّص للاستقبال حاصل فيها. وقد جاءت على الأصل في الضروره كقوله [من الوافر] :

٦٧٦ ـ يرجّي المرء ما إن لا يراه

وتعرض دون أبعده الخطوب (١)

أي ما أن يلاقي.

وردّه سيبويه بجواز تقديم معمول معمولها عليها ، نحو : زيدا لن أضرب ، وامتناع نحو : زيدا يعجبني أن تضرب. قال الرضيّ : وللخليل أن يقول : لا منع أن تتغيّر الكلمه بالتركيب عن مقتضاها معنى وعملا ، إذ هو وضع مستأنف ، انتهى.

والنفي بها أبلغ من النفي بلا ، فهي لتأكيد نفي الفعل المستقبل وفاقا للزمخشريّ في كشافه ومفصّله. ووافقه ابن الخباز في شرح الإيضاح ، فقال : لن لنفي المضارع على جهه التأكيد ، ووافقه الرضيّ وصاحب التبيان أيضا ، بل قال بعضهم : إنّ منعه مكابرة ، فهي لنفي إنّي أفعل ، ولا لنفي أفعل كما في لم ولما.

ادّعى الزمخشرّي في أنموذجه (٢) أيضا لتأييد النفي ، كقوله تعالى : (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) [الحج / ٧٣] ، (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) [الحج / ٤٧]. قال ابن مالك : والحاصل له على ذلك اعتقاده في : (لَنْ تَرانِي) [الأعراف / ١٤٣] ، أنّ الله تعالى لا يرى ، وردّ غيره بأنّه لو كانت للتأييد لم يقيّد منفيها باليوم في : (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [مريم / ٢٦] ، ولكان ذكر الأبد في : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) [البقرة / ٩٥] ، تكرارا ، والأصل عدمه ، انتهى.

وهو ضعيف ، إذ للقائل بالتأييد أن يجيب عن الأوّل بأنّ قولنا : بذلك عند إطلاق منفيّها وخلوّ المقام عن مقيّداته ، وعن الثاني بأنّ ذكر الأبد ليس تكرارا باللفظ ، وهو ظاهر ولا بالمرادف ، لأنّ أبدا لا يرادف لن ، لأنّ الاسم لا يرادف الحرف كما تقرّر في غير هذا الموضع ، ولأنّ التأييد نفس معنى أبدا ، وجزء معنى لن ، وإنّما هو تصريح ودلالة بالمطابقة على ما يفهم بالتضمّن ، ولو سلم فله فائدة ، وهي دفع ما يتوهّم من أنّ

__________________

(١) هو لجابر بن رألان. اللغة : الخطوب : جمع الخطب : الأمر الشديد يترل.

(٢) النموذج في النحو للعلّامة جار الله الزمخشري المتوفى سنة ٥٨٨ ، كشف الظنون ١ / ١٨٥.

٦٥١

لن لمجرّد النفي بناء على استبعاد نفي تمنّي الموت منهم على جهه التأييد. قاله التقيّ الشمنيّ في شرح المغني.

ومذهب سيبويه والجمهور أنّها لنفي المستقبل ، أعمّ من أن يكون محدّدا كما في : (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) [طه / ٩١] ، أو مؤبّدا كما في : (لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [الجاثية / ١٩] ، قال بعضهم : وإنكارهم اقتضاءها التأييد مناقض لقولهم هذا ، كما لا يخفي.

تنبيهان : الأوّل : ذهب جماعه منهم ابن عصفور إلى أنّ الفعل قد يخرج بعد لن إلى الدعاء كحاله بعد لا ، وأنكره الجمهور ، قالوا : بل حاله بعدها كحاله بعد سائر حرف النفي غير لا ، واختار الأوّل ابن هشام في المعنى ، قال : والحجّة في قوله [من الخفيف] :

٦٧٧ ـ لن تزالوا كذلكم ثمّ لازل

 ... ت لكم خالدا خلود الجبال (١)

وأما قوله تعالى : (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) [القصص / ١٨] ، وقيل : منه ، وقيل : ليس منه ، لأنّ فعل الدعاء لا يستند إلى المتكلّم بل إلى المخاطب ، أو إلى الغائب ، نحو : يا ربّ لا عذّبت فلانا ، ونحو : لا عذّب الله عمرا ، انتهى.

ويردّه قوله [من الخفيف] :

٦٧٨ ـ ... ثمّ لازل ...

ت لكم خالدا ... (٢)

الثاني : ما أسلفت من ملازمة لن النصب هو المشهور ، وزعم بعضهم أنّها قد تجزم كقوله [من الطويل] :

٦٧٩ ـ ...

فلن يحل للعينين بعدك منظر (٣)

وقوله [من المنسرح] :

٦٨٠ ـ لن يخب الآن من رجالك من

حرّك من دون بابك الحلقه (٤)

قال ابن هشام : والأوّل محتمل للاجتزاء (٥) بالفتحة عن الألف للضرورة ، وسكت عن الثاني ، لأنّ الراوية فيه بكسر الباء ، كما صرّح به في موضع آخر من المغني.

وهذا البيت من جملة أبيات ، لها حكاية لطيفة ، لا بأس بإيرادها ، وهي ما رواه الحسن عن إسماعيل بن موسى عن جعفر بن محمد (ع) : قال بلغني أنّ أعرابيا دخل المدينة ، فبينما هو يجول في أزقّتها ، إذ مرّ بباب الحسين بن علي بن أبي طالب (ع).

__________________

(١) هو للأعشى.

(٢) تقدم برقم ٦٧٧.

(٣) صدره «أيادي سبا يا عزّ ما كنت بعدكم» ، وهو لكثير عزة. اللغة : سبا : لقب ابن يشجب ابن يعرب بن قحطان ، وأيادي سبا أي متفرقين ، أي مثل تفرّق أيادي سبا.

(٤) البيت لأعرابي يمدح بها حسين بن علي بن أبي طالب (ع).

(٥) الاجتزاء : الاكتفاء.

٦٥٢

فلمّا عرف الدار أنشأ يقول [من المنسرح] :

٦٨١ ـ لن يخب الآن من رجائك من

حرك من دون بابك الحلقة

أنت جواد وأنت معتبر

أبوك من كان قاتل الفسقة

لولا الّذي كان في أوائلكم

كانت علينا الجحيم منطبقة (١)

فسمعه الحسين (ع) : وهو يصلّي ، فأوجز في صلاته ، ثمّ خرج ، فإذا هو بأعرابي في أسمال (٢) ، فقال : رويد يا أعرابيّ ، ثمّ نادي يا قنبر ، ما معك من النفقة؟ فقال : ألف درهم ، قال : فأت بها ، فقد جاء من هو أحقّ بها منّا ، ثمّ أخذها من قنبر ، فصيّرها في إحدى بردتين كانتا عليه ، ثمّ دفعها للأعرابي من داخل الباب ، وقال [من المنسرح] :

٦٨٢ ـ خذها فإني إليك معتذر

وأعلم بأنّي عليك ذو شفقة

لو كان في سيرنا الغداة عصي

كانت سمانا عليك مندفقة

لكنّ ريب الزمان ذو غير

والكفّ منا قليلة النفقة

فأخذها الأعرابيّ وقال [من البسيط] :

٦٨٣ ـ مطهّرون نقيات ثيابهم

تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا

فأنتم أنتم الأعلون إنّ لكم

أمّ الكتاب وما جاءت به السور

من لم يكن علويّا حين تنسبه

فلن يكون له في الناس مفتخر

قال البطليوسيّ : وجزم الأعرابيّ بلن. وذكر اللحيانيّ أنّ ذلك لغة العرب ، يجزمون بالنواصب ، وينصبون بالجوازم. وسكن اللغويّون لام الحلقة ، وفتحها الأعرابيّ. قال ابن الجنيّ يقال : حلقة حديد وحلقة من الناس بالسكون ، والجمع حلق بفتح اللام ، وحكي عن يونس حلقة ، وحلق بفتح اللام فيها ، وقال أبو عمرو الشيباني : ليس في كلامهم حلقة بفتح اللام إلا في جمع حالق.

والثاني : «كي» ، وجاء بها بعد لن لمشاركتها لها في العمل من غير شرط ، نحو : أسلمت كي أدخل الجنّة ، ومعناها السببيّة أي سببيّة ما قبلها لما بعدها ، وحينئذ المراد السببيّة الخارجيّة ، بأن يكون تحقّق ما قبلها في الخارج سببا لما بعدها ، أو المعنى سببيّة ما بعدها لما قبلها ، بمعنى أنّ ما بعدها باعتبار تصوّره سبب لما قبلها ، أو المعنى سببيّة كلّ من ما قبلها وما بعدها للآخر ، إلا أنّ سببيّة ما قبلها بحسب الخارج ، وسببيّة ما بعدها بحسب الذهن ، ويقال لها ، التعليليّة ، والقول بأنّها هي الناصبة دائما ، كما اختاره المصنّف تبعا لابن حاجب هو مذهب الكوفيّين. وجمهور البصريّين على أنّ كي قسمين :

__________________

(١) تقدّم البيت الأوّل من هذه الأبيات برقم ٦٨٠.

(٢) الأسمال : جمع السمل ، وثوب سمل : خلق بال.

٦٥٣

مصدريّة ناصبة بمترلة أن معنى وعملا ، وتعليليّة جارّة بمترلة لام التعليل معنى وعملا ، والنصب بعدها بأن مضمرة غير جائزة الإظهار.

قال ابن مالك في شرح الكافية. والّذي أحوج إلى القول بذلك قول العرب في السؤال عن العلّة كيمه؟ كما يقولون : لمه؟ فسوّوا بينهما وبين اللام في المعنى ، فثبت بذلك أنّها حرف جرّ مرادف لللام ، وثبت بدخول اللام عليها ، نحو : قوله تعالى : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ) [الأحزاب / ٣٧] ، إنّها مصدريّة ، لأنّ حرف الجرّ لا يدخل على حرف الجرّ ، إلا أن يكون مصدريّا ، فيلزم من ذلك جعل كي على قسمين ، انتهى.

ويتعيّن المصدريّة إن سبقتها اللام كما في الآية ، والتعليلية إن تأخّرت عنها اللام أو أن كقوله [من المديد] :

٦٨٤ ـ كي لتقضيني رقيّة ما

وعدتني غير مختلس (١)

والثاني كقوله [من الطويل] :

٦٨٥ ـ فقالت أكلّ الناس أصبحت مانحا

لسانك كيما أن تغرّ وتخدعا (٢)

ويجوز الأمران في نحو : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً) [الحشر / ٧] ، فإن قدّرت قبلها اللام فهي مصدريّة ، وإلا فهي تعليليّة.

والأوّل أولى لكثرة ظهور اللام معها ، نحو : (لِكَيْلا تَأْسَوْا) [الحديد / ٢٣] ، وفي نحو قوله [من الطويل] :

٦٨٦ ـ أردت لكيما أن تطير بقربتي

فتتركها شنّا ببيداء بلقع (٣)

فكي هنا تحتمل أن تكون مصدريّة لدخول اللام عليها ، وتحتمل أن تكون تعليليّة لتأخّر أن بعدها ، فإن كانت مصدريّة كانت أن مؤكّدة لها لمعنى السبك ، وإن كانت تعليليّة فاللام مؤكّدة لمعنى التعليل ، وكونها تعليليّة أولى ، لأنّ توكيد الجارّ بالجارّ أسهل من توكيد الحرف المصدريّ بمثله. قاله ابن هشام في حواشي التسهيل : وأجاب الكوفيّون عن كيمه بأنّ الفعل المنصوب بكي مقدّر ، والأصل كي تفعل ما ذا ، ويلزمهم كثرة الحذف وإخراج ما الاستفهاميّة عن المصدر ، وحذف ألفها في غير الجرّ ، وحذف الفعل المنصوب مع بقاء عامل النصب ، وكلّ ذلك لم يثبت ، قاله في المغني ، وفي عدم ثبوت إخراج ما ذا عن المصدر بحث تقدّم الكلام عليه.

__________________

(١) هو لعبد الله بن قيس الرقيّات. اللغة : لتقتضني : من القضاء : الأداء ، رقيه : اسم محبوته ، ما : زائدة ، المختلس : مصدر ميمي ، بمعنى المختلف.

(٢) هو لجميل بثينة.

(٣) لم يعين قائله ، اللغة : الشن : القربه الخلق ، البيداء : الفلاة الّتي يبيد (يهلك) من يدخلها ، البلقع ، القفر.

٦٥٤

وأجابوا عن نحو كيما أن تعزّ بأنّ أن زائدة ، أو بدل عن كي وعن كي لتقتضيني بزيادة اللام كما في ردف لكم ، وذهب الأخفش إلى أنّ كي جارّة دائما ، وأنّ النصب بعدها بأن ظاهرة أو مقدّرة ، ويردّه نحو : (لِكَيْلا تَأْسَوْا) [الحديد / ٢٣] ، فإن زعم أنّ كي تاكيد لللام كقوله [من الوافر] :

٦٨٧ ـ ...

ولا للمابهم أبدا دواء (١)

وردّ بأن الفصيح المقيس لا يخرج عن الشاذّ.

تنبيه : أثبت الكوفيّون من حروف النصب كما بمعنى كيما ، ووافقهم المبرّد ، واستدلّوا بقوله [من الطويل] :

٦٨٨ ـ وطرفك إمّا جئتنا فاصرفنّه

كما حسبوا أنّ الهوي حيث تنظر (٢)

وأنكر ذلك البصريّون ، وتأوّلوا ما ورد على أنّ الأصل كيما ، حذفت ياؤه ضرورة ، أو الكاف الجارّة كفّت بما ، وحذفت النون من الفعل ضرورة ، قاله في الهمع.

والثالث أن ، ويقال فيما : عن ، بإبدال الهمزة عينا ، و «هي حرف مصدريّ» نسبه إلى المصدر ، لأنّه يؤوّل مع صلته به كما تقدّم ، نحو : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة / ١٨٤] ، وهي أمّ الباب. قال أبو حيّان : بدليل الاتّفاق عليها والاختلاف في لن وإذن وكي ، وعن الخليل أن لا ناصب سواها ، وبعضهم يهملها حملا على ما المصدريّة كقراءة ابن محيصن : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة / ٢٣٣] ، برفع يتمّ وكقوله [من البسيط] :

٦٨٩ ـ أن تقران على أسماء ويحكما

منّي السّلام وأن لا تشعرا أحدا (٣)

قال ابن الحاجب : وذلك كما أعملت ما المصدريّة حملا عليها فيما روي عنه (ع) : كما تكونوا يولى عليكم (٤). قال ابن هشام : والمعروف في الرواية كما تكونون. وقال أبو حيّان : لا يحفظ أن غير ناصية إلا في القراءة المذكورة وفي البيت المذكور ، وما هذا سبيله لا تبنى عليه قاعدة.

وصرّح بشذوذه ابن مالك في الكافية ، حيث قال [من الرجز] :

٦٩٠ ـ وشذّ رفع بعد أن حيث استحقّ

نصبا بها فاعرف شذوذه وثق

__________________

(١) صدره «فلا والله لا يلفي لما بي» ، وهو لمسلم بن معبد الوالبي.

(٢) هو لعمر ابن أبي ربيعة. اللغة : الطرف : العين.

(٣) البيت مجهول القائل.

(٤) نهج الفصاحة ص ٤٦٢ رقم ٢١٨٢.

٦٥٥

على أنّ القول بأنّ هذه مصدريّة مهملة هو قول البصريّين ، وقال الكوفيّون : إنّها المخفّفة من الثقلية ، شذّ اتصالها بالفعل المتصرّف الخبريّ ، والقياس فصله منها بقد أو إحدى أخواتها.

أن بعد العلم غير ناصبة : وأن «الّتي بعد العلم» الخالص ، سواء دلّ بمادّة (ع ل م) أم لا «غير ناصبة» لأنها ليست المصدريّة ، بل هي المخفّفة من الثقيلة ، فتعمل عملها ، لأنّ أن الناصبة علم الاستقبال ، فما بعدها غير معلوم التحقّق ، فلا يقع بعد العلم بخلاف المخفّفة ، لأنّها للتحقيق فتناسب العلم. وتقييد العلم بالخالص احترازا من إجرائه مجرى الإشارة نحو قولهم : ما علمت إلا أن تقوم. قال سيبويه : يجوز النصب ، لأنّه كلام خرج مخرج الإشارة ، فجرى مجرى قولك : أشير عليك أن تقوم ، انتهى.

ومن إجرائه مجري الظنّ كقراءة بعضهم : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ) [طه / ٨٩] ، بالنصب وقولنا : سواء دلّ عليه بمادة (ع ل م) أم لا تعميم لنحو قوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) [المزمل / ٢٠] ، (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ ،) ومثل ذلك كلّ ما يؤدّي معناه كالتبيّن والتيقّن والانكشاف والظهور والنظر الفكريّ والايحاء ونحو ذلك.

وفي أن الّتي بعد الظّن وجهان : إهمالها بناء على تأويله بالعلم ، وإعمالها إجراء له على أصله ، وهو الأرجح عقلا ونقلا ، لأنّ التأويل خلاف الأصل ، والأكثر في لسان العرب النصب بعده ، ولذا أجمع القرّاء عليه في : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) [العنكبوت / ٢] ، واختلفوا في قوله : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) [المائدة / ٧١] ، فقراءة غير أبي عمرو وحمزة والكسائيّ بالنصب ، والثلاثة بالرفع.

قال أبو حيّان : وليس في الواقعه بعد الشكّ إلا النصب. وأجراها سيبويه والأخفش بعد الخوف مجراها بعد العلم لتيقّن الخوف ، نحو : خفت أن لا يفعل ، وخشيت أن تقوم ، ومنه قوله [من الطويل] :

٦٩١ ـ ...

أخاف إذا ما متّ أن لأأذوقها (١)

ومنع ذلك الفرّاء ، وترد أن مفسّرة وزائدة أيضا ، سيأتي الكلام عليهما في الحديقة الخامسة إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) صدره «ولا تذفننّي في الفلاة فإنّني» ، وهو لأبي مجحن التفقي.

٦٥٦

تنبيه : جوّز بعض الكوفيّين الجزم بأن ، وأنكره الجمهور ، قال الرواسيّ (١) : فصحاء العرب ينصبون بأن وأخواتها الفعل ، ودونهم قوم يرفعون بها ، ودونهم قوم يجزمون بها ، وأنشد على الجزم [من الطويل] :

٦٩٢ ـ أحاذر أن تعلم بها فتردّها

فتتركها ثقلا على كما هيا (٢)

وحكاه من البصريّين أبو عبيده واللحيانيّ ، وقال : إنّها لغة بني الصباح ، قاله في الهمع. قال ابن هشام : وفي كونها في البيت جازمة نظر ، لأنّ عطف المنصوب عليه يدلّ على أنّه سكن للضرورة لا مجزوم ، انتهى.

وأنشد غيره على ذلك قول امرئ القيس [من الطويل] :

٦٩٣ ـ إذا ما غدونا قال ولدان أهلنا

تعالوا إلى أن يأتنا الّصيد نحطب (٣)

والرابع إذن ، وقد يحذفون الهمزة ، فيقولون : ذن ، وأخّرها لطول الكلام عليها ، قال الجمهور : هي حرف ، وذهب بعض الكوفيّين إلى أنّها اسم ، والأصل في إذن أكرمك إذا جئتني أكرمك ، ثمّ حذفت الجملة ، وعوّض عنها التنوين ، وأضمرت أن.

وعلى الأوّل فالصحيح أنّها بسيطة لا مركّبة من إذ وأن ، وعلى البساطة فالصحيح أنّها الناصبة لا أن مضمرة بعدها ، خلافا للزجاج والفارسيّ والرضيّ ، وهو أحد قولي الخليل ، وهو المشهور عنه ، وحكى سيبويه عنه سماعا الأوّل.

و «هي للجواب والجزاء» ، قال الدمامينيّ : المراد بكونها للجواب أن تقع في كلام يجاب به كلام آخر ملفوظا أو مقدّرا ، سواء وقع في صدره أو في حشوه أو آخره ، ولا يقع في كلام مقتضب ابتداء ليس جوابا عن شيء ، فباعتبار ملابستها للجواب على هذا الوجه سمّيت حرف جواب.

والمراد بكونها للجزاء أن يكون مضمون الكلام الّتي هي فيه جزاء لمضمون كلام آخر ، قال في المفصّل : وإذن جواب وجزاء ، يقول الرجل : أنا آتيك ، فتقول : إذن أكرمك. فهذا الكلام قد أجبته به ، وصيّرت إكرمك جزاء له على إتيانه ، انتهى.

وكونها للجواب والجزاء هو نصّ سيبويه ، واختلف فيه ، فحمله قوم منهم الشلوبين على ظاهره ، وقال : إنّها لهما في كلّ موضع ، وتكلّف تخرّج ما خفي فيه ذلك ، وذهب الفارسيّ إلى أنّها قد ترد لهما ، وهو الأكثر ، وقد تتمحّض للجواب

__________________

(١) محمد بن الحسن بن أبي سارة الرواسي النحوي وهو أول من وضع من الكوفيّين كتابا في النحو ، وهو أستاذ الكسائي والفرّاء ، وله من الكتب : الفيصل ، معاني القرآن و... المصدر السابق ، / ٨٢.

(٢) هو لجميل بثنية. اللغة : الثقل : الحمل. والضمير في بها وتردها يعود إلى الحاجة الّتي ذكرها في البيت السابق.

(٣) اللغة : غدونا : دخلنا في البكرة. الولدان : جمع ولد ، نحطب : نجمع الحطب.

٦٥٧

وحده ، نحو أن يقول : أحبّك ، فتقول : إذن أظنّك صادقا. فلا يتصوّر هنا الجزاء ، قال الرضّي : لأنّ الشرط والجزاء إمّا في المستقبل أو في الماضي ، ولا مدخل للجزاء في الحال.

تنصب إذن المضارع بثلاثة شروط : وإنّما «تنصبه» أي المضارع بثلاثة شروط :

أحدها : أن تكون مصدّرة في أوّل الجواب ، لأنّها حينئذ في أشرف محالّها ، فإن وقعت حشوا بأن كان ما بعدها من تمام ما قبلها لم تنصبه ، وذلك في ثلاثه مواضع :

الأوّل : أن يكون ما بعدها خبرا لما قبلها ، نحو : أنا إذن أكرمك ، وإنّي إذن أكرمك ، وأمّا قوله [من الرجز] :

٦٩٤ ـ لا تتركنّي فيهم شطيرا

إنّي إذن أهلك أو أطيرا (١)

فضرورة. أو الخبر محذوف. أي إنّي لا أستطيع ذلك ، ثمّ استؤنف ما بعده ، أو الخبر مجموع إنّي إذن أهلك ، لا أهلك ، قاله الرضيّ.

قال الدمامينّي : وفيه نظر ، إذ مقتضاه جواز مثل قولك : زيد إذن يقيم بالنصب ، على أن يجعل الخبر هو المجموع من إذن وما دخلت عليه ، وظاهر كلامهم يأباه ، انتهى.

الثاني : أن يكون جوابا لشرط ما قبلها ، نحو : إن تأتني إذن أكرمك.

الثالث : أن يكون جوابا لقسم قبلها ، نحو : والله إذن لأخرجنّ ، وقوله [من الطويل] :

٦٩٥ ـ لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها

وأمكنني منها إذن لا أقيلها (٢)

التقدير : والله لئن عاد ، وجواب الشرط محذوف.

الشرط الثاني : أن تكون «مباشرة» للمضارع غير منفصل عنه ، فلو انفصلت عنه لم تنصب لضعفها مع الفصل عن العمل فيما بعدها ، نحو : إذن زيد يكرمك.

الثالث : أن يكون الفعل المضارع «مقصودا به الاستقبال» ، فلو قصد به الحال لم تنصبه ، نحو قولك : إذن تصدق لمن قال : أنا أحبّك ، قياسا على سائر النواصب ، حيث لم يعمل إلا في المستقبل ، لأنّ فعل الحال له تحقّق في الوجود كالأسماء ، فلا يعمل فيه عوامل الأفعال.

وإذا استوفت إذن هذه الشروط نصبت المضارع وجوبا في الأشهر ، نحو : «إذن أكرمك» بالنصب «لمن قال لك أزورك» وإلغاوها حينئذ لغة لبعض العرب ، حكاها عيسى بن عمر ، وتلقّاه البصريّون بالقبول ، ووافقهم ثعلب ، وخالف سائر الكوفيّين فلم يجز أحد الرفع بعدها.

__________________

(١) البيت مجهول القائل. اللغة : الشطير : الغريب.

(٢) هو لكثير عزة. اللغة : لا أقيلها : لا أتركها تفوتني.

٦٥٨

قال أبو حيّان : ورواية الثقة مقبولة ، ومن حفظ حجّة على من لم يحفظ ، إلا أنّها لغة نادرة جدّا ، ولذلك أنكرها الكسائيّ والفرّاء على اتّساع حفظهما ، وأخذهما بالشاذّ والقليل ، قاله في الهمع. وقال في التصريح : إلغاؤها هو القياس ، لأنّها غير مختصّة ، وإنّما أعملها الأكثرون حملا على الظّنّ ، لأنّها مثلها في جواز تقديمها على الجملة وتأخيرها عنها وتوسّطها بين جزءيها كما حملت ما على ليس ، لأنّها مثلها في نفي الحال ، والمرجع في ذلك كلّه إلى السماع ، انتهى.

ويجوز الفصل بينها وبين المضارع «بالقسم» ولا يقدح في نصبها له كقوله [من الوافر] :

٦٩٦ ـ إذن والله نرميهم بحرب

تشيب الطفل من قبل المشيب (١)

وإنّما اغتفر الفصل به لأنّه زائد : جيء به للتأكيد ، فلا يمتنع النصب كما لا يمنع الجرّ في قولهم : إنّ الشاة لتجترّ فتسمع صوت والله ربّها.

وأجاز ابن هشام في المغني والشذور الفصل بلا النافيه أيضا ، نحو : إذن لا أهينك ، لأنّ النافي كالجزء من المنفي ، فكأنّه لا فاصل ، وأجاز ابن عصفور والأبذيّ وغيرهما الفصل بالظرف ، وابن بابشاذ الفصل بالنداء أو الدعاء ، والرضيّ بأحد الثلاثة ، والكسائيّ وهشام الفصل بمعمول الفعل ، نحو : إذن زيدا أكرم ، والأرجح عند الكسائيّ النصب ، وعنده هشام الرفع.

وفي المضارع «بعد» إذن «التالية للواو والفاء وجهان» الرفع والنصب باعتبارين ، فالرفع باعتبار كون العاطف من تمام ما قبله بسبب ربطه بعض الكلام ببعض ، والنصب باعتبار كون ما بعد العاطف جملة مستقلّة ، والفعل فيها بعد إذن ليس من تمام ما قبلها ، والرفع أجود وأكثر في لسان العرب ، قال تعالى : (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء / ٧٦] ، (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) [النساء / ٥٣] ، وقرئ شاذّا بالنصب فيهما.

قال ابن هشام في المغني : والتحقيق أنّه إذا قيل : إن تزرني أزرك ، وإذن أحسن إليك ، فإن قدّرت العطف على الجواب ، جزمت ، وبطل عمل إذن لوقوعها حشوا ، أو على الجملتين معا ، جاز الرفع والنصب لتقدّم العاطف فقط ، وقيل : يتعيّن النصب ، لأنّ ما بعدها مستأنف ، أو لأنّ المعطوف على الأوّل أولى ، ومثل ذلك زيد يقوم ، وإذن أحسن إليه ، إن عطفت على الفعلية ، رفعت ، أو على الاسميّة فالمذهبان.

__________________

(١) هو لحسان بن ثابت. اللغة : تشيب : تصيّره أشيب.

٦٥٩

تنبيهات : الأوّل : إنّما اقتصر أكثر النّحويّين كالمصنّف على ذكر الواو والفاء من حروف العطف ، لأنّهم لم يعثروا على وقوع إذن بعد غيرهما ، صرّح به ابن مالك في العمدة وشرحها ، ومن أطلق العاطف فقد قاس.

الثاني : قال بعضهم هاهنا صورة أخرى ، لم يذكره ابن مالك في شيء من كتبه سوي شرح العمدة. قال : وكذا لا يمتنع النصب إذا بدئ بإذن بعد قول حكيت به نحو قيل للقائل : أزورك إذن أكرمك.

كتابة إذن : الثالث : اختلف في إذن في حالة الوقف عليها ، فقيل : تبدل ألفا تشبيها لها بتنوين المنصوب ، قال ابن هشام : وهو الصحيح : وقيل : توقف بالنون ، لأنّها كنون من ، وإن نقل عن المازنيّ والمبرّد ، ويبتني على هذا الخلاف الخلاف في كتابتها ، فجزم ابن مالك في التسهيل بأنّها تكتب بالألف مراعاة للوقف عليها ، وهو قول أبي علي والجمهور ، وقال المبرّد : تكتب بالنون ، وبالغ في الإنكار على من يكتبها بالألف.

قال أبو حيّان : وجد بخطّ الشيخ بهاء الدين النحاس ما نصّه : وجدت بخطّ عالي بن عثمان بن جنيّ (١) ، حكي أبو جعفر النحاس ، قال : سمعت على بن سليمان (٢) يقول : سمعت أبا العباس محمد بن يزيد (٣) يقول : أشتهي أن أكوي يد من يكتب إذن بالألف ، لأنّها مثل أن ولن ، ولا يدخل التنوين في الحرف ، انتهى.

قال في الهمع : وممّن صحّح كتابتها بالنون الزنجانيّ (٤) في شرح الهادي ، انتهى ، وصحّحه ابن عصفور أيضا ، فقال : الصحيح كتابتها بالنون فرقا بينها وبين إذا الظرفيّة ، لئلا يقع الالتباس. قال أبو حيّان : ولأنّ الوقف عنده بالنون ، وفصّل الفرّاء ، فقال : إذا أعملتها فاكتبها بالألف ، وإذا ألغيتها فاكتبها بالنون ، لئلا يلتبس بإذا الزمانية ، وأمّا إذا أعملتها ، فالعمل يميّزها عنها ، وقال ابن هشام في حاشية التسهيل بعد حكايته لما نقل عن المبرّد ما لفظه : الحقّ أنّ كتابتها بالالف ، وأنّ الوقف عليها بالألف ، وكذا وقف

__________________

(١) عالي بن عثمان بن جني النحوي ابن النحوي ، كان مثل أبيه ، نحويّا أديبا ، روي عن إبيه وعيسى بن علي الوزير. مات سنة ٤٥٨. المصدر السابق ٢ / ٢٤.

(٢) على بن سليمان بن الفض النحوي أبو الحسن الأخفش الأصغر ، قرأ على ثعلب والمبرد. له تصانيف وهي : شرح سيبويه ، الانواء ، التثنية والجمع و... مات سنة ٢١٥. المصدر السابق ١٦٨.

(٣) هو محمد بن يزيد أبو العباس المبرّد وقد تقدّم ذكره.

(٤) عبد الوهاب بن إبراهيم بن عبد الوهاب بن أبي المعإلى الخرزجيّ الزنجاني ، صاحب شرح الهادي المشهور (في النحو والصرف) ، أكثر الجاربردي من النقل عنه في شرح الشافي ، ذكر في آخره أنه فرغ منه سنة ٦٥٤. المصدر السابق ص ١٢٢.

٦٦٠