الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

وقد تبيّن بذلك أنّ الغلط من جهة اللسان ، والنسيان من جهة الجنان ، ولا يقع بدل النسيان أيضا من فصيح ، ولا فيما يصدر عن روية ، وابن مالك وكثير من النحاة لم يفرّقوا بين بدل الغلط والنسيان ، فسمّوا النوعين بدل غلط ، وإنّما حكمنا بإهمال المصنّف لبدل النسيان مع إمكان إدخاله تحت بدل الغلط كما فعل الاكثرون ، لأنّ المصنّف (ره) اعتذر في حاشية هذا المتن عند عدم ذكره بأنّه غير مشهور ، ولا يقع من الفصحاء ، فقرّرنا كلامه ، وإنّما لم يقع بدل الغلط من الفصحاء ، لأنّه غير فصيح.

قال البدر الدمامينيّ : ولا أدري لأيّ معنى جزموا بأنّ بدل الغلط غير فصيح ، مع أنّ النسيان لا ينافي الفصاحة ، أللهمّ إلا أن يكون المراد أنّهم تتبّعوا كلام الفصحاء ، فلم يجدوا بدل الغلط فاشيا فيه ، فحكموا بأنّه غير فصيح نظرا إلى هذا المعنى ، وليس المراد أنّ الإنسان إذا سبق لسانه إلى ذكر ما لم يقصده فتنبّه فذكر المقصود يحكم أنّ لفظ المذكور على سبيل السهو غير فصيح ، انتهى. وقال بعضهم : الظاهر أنّ المراد بالفصاحة البلاغة ، فإنّ الغلط ينافي البلاغة ظاهرا دون الفصاحة باعتبار انتفاء المطابقة لمقتضي الحال ، انتهى. وحكم بتعيين ذلك بعض المحقّقين ، وهو حسن.

تنبيهات : الأوّل : قضية إطلاق المصنّف أنّ بدل الغلط يصحّ في النثر ، هو قول سيبويه والأكثرين ، وقال غيره : إنّه وجد في الشعر دون النثر ، وجوّزه بعضهم في النثر دون الشعر ، لأنّ الشعر في الغالب إنّما يقع عن تروّ وفكر ، وهذا نوع غريب أن يجوز شيء في النثر ، ولا يجوز في الشعر ، وإنّما المعروف عكس ذلك.

وقال ابن بابشاذ في شرح الجمل : لا يقاس على بدل الغلط ، لأنّه يقع على غير قصد ، انتهى ، وهو حسن. وقال خطاب (١) : إنّ بدل الغلط لم يقع في نثر ولا نظم ، وإنّه تطلّبه فلم يجده ، وإنّه طالب به من لقيه ، فلم يعرفه ، واستدلّ المثبتون له بقول ذي الرمة (٢) [من البسيط] :

٥٨٩ ـ لمياء في شفتيها حوّة لعس

وفي اللّثات وفي أنيابها شنب (٣)

فإنّ الحوّة : السواد ، والعس : سواد مشوب بحمرة ، وقال بعضهم : إنّه محمول على التقديم والتأخير ، أي في شفتيها حوّة ، وفي لثاتها لعس ، وأيّده بعضهم بأنّ ذا الرمة

__________________

(١) خطاب بن يوسف ، كان من جلّة النحاة ومحققيهم والمتقدّمين في المعرفة بعلوم اللسان على الإطلاق ، وهو صاحب كتاب الترشيح ، ينقل عنه أبو حيّان وابن هشام كثيرا. مات بعد ٤٥٠ ه‍ ق. بغية الوعاة ١ / ٥٥٣.

(٢) أبو الحارث غيلان بن عقبه المعروف بذي الرّمة (٧٧ ه‍ ـ ١١٧ ه‍). كان شعره الغزليّ حافلا بالرّقة والعذوبة واللين. الجامع في تاريخ الأدب العربي ١ / ٤٣٧.

(٣) اللغة : حوّة : لون يخالطه الكلمته مثل صدء الحديد ، لعس : سواد مستحسن في باطن الشفة. شنب : جمال الثعر وصفاء الأسنان.

٥٦١

يوجد في شعره التقديم والتأخير كثيرا ، ويبطله أنّه يلزم عليه تقديم ما في حيّز الواو العاطفة ، وهو باطل.

الثاني : الأحسن في التعبير عطف أقسام بدل المباين ببل ، فيكون من عطف النسق ، لئلا يتوهّم كون البدل في ذلك صفة لما قبله ، كما في قولك : رأيت رجلا حمارا ، إذ يحتمل أن يكون أردت بقولك : حمارا جاهلا أو بليدا ، كذا قاله غير واحد ، وفي كلام بعض المحقّقين أنّ ادعاء الغلط وإظهاره في بدل البداء أبلغ في المعنى من التصريح بكلمة بل ، وهو ظاهر.

الثالث : قال بعض الأئمة : المختار خلافا للجمهور إثبات بدل الكلّ من البعض لوروده نحو : (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً* جَنَّاتِ عَدْنٍ) [مريم / ٦١ و ٦٠] ، فجنات أعربت بدلا من الجنّة ، وهو بدل كلّ من البعض ، وفائدته تقرير أنّها جنّات كثيرة لا جنّة واحدة ، وقوله [من الخفيف] :

٥٩٠ ـ رحم الله أعظما دفنوها

بسجستان طلحة الطّلحات (١)

فطلحة بدل من أعظم ، وهي بعضة ، وقوله [من الطويل] :

٥٩١ ـ كأني غداة البين يوم تحمّلوا

 ... (٢)

فيوم بدل من الغداة ، وهي بعضه ، انتهى. والجمهور يؤوّلون ذلك كلّه.

إبدال الظاهر من المضمر : هذا «هداية» إلى مسألة مهمّة من مسائل البدل ، «لا يبدل الظاهر عن المضمر بدل الكلّ من الكلّ إلا من ضمير الغائب ، نحو : ضربته زيدا ، وقوله [من الطويل] :

٥٩٢ ـ على حالة لو أنّ في القوم حاتما

على جوده لضنّ بالماء حاتم (٣)

وإنّما لم يبدل من ضميرى المتكلّم والمخاطب ، لأنّهما أقوي وأخصّ من الظاهر ، فلو أبدل منهما لزم أن يكون المقصود بالنسبة وهو البدل أقلّ دلالة من غير المقصود ، فلم يقولوا : بي المسكين مررت ولا عليك الكريم المعوّل. وأمّا ضمير الغائب فلم يكن في القوّة والوضوح ، كذلك لوجود الاشتباه ، فجوّزوا ضربته زيدا لذلك.

__________________

(١) هو لعبيد الله بن قيس الرقيات. اللغة : أعظم : جمع العظم أي : القصب الّذي عليه اللحم. طلحة الطلحات : هو طلحة بن عبيد الله بن خلف الخزاعي ، أو طلحة بن عبيد الله بن بري. لسان العرب ٣ / ٢٣٩٩.

(٢) تمامه «لدي سمرات الحي ناقف حنظل» ، وهو من معلقة امري القيس. اللغة : غداة والغداة : الضحوة. البين : الفرقة. سمرات : جمع سمرة من شجر الطلح. الحي : القبيلة. نقف الحنظل : شقه عن الهبيد وهو الحب.

(٣) هو للفرزدق. اللغة : ضنّ به : بخل بخلا شديدا.

٥٦٢

وأفهم تقييد المسألة بالمضمر أنّ إبدال الظاهر من الظاهر جائز كما مرّ ، وببدل الكلّ أنّ ابداله بدل بعض أو اشتمال جائز من المضمر مطلقا ، كقوله [من الرجز] :

٥٩٣ ـ أو عدني بالسّجن والأداهم

رجلي فرجلي شثنه المناسم (١)

فرجلي الأوّل بدل من ياء المتكلّم ، بدل بعض من كلّ ، وقوله [من الطويل] :

٥٩٤ ـ بلغنا السّماء مجدنا وسناؤنا

وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا (٢)

فمجدنا وسناؤنا بدل اشتمال من ضمير المتكلّم ، وهو نا ، وإنّما جاز ذلك ، لأنّ مدلول الثاني فيه ليس مدلول الأوّل ، فلم يبل بكون الأوّل أقوى وأخصّ ، لأنّ الثاني يفيد فائدة زائدة على المتبوع.

ويرد على المصنّف (ره) أنّهم جوّزوا إبدال الظاهر من ضمير الحاضر بدل كلّ ، إذا كان مفيدا للإحاطة ، نحو قوله تعالى : (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) [المائدة / ١١٤] ، وأوّلنا وآخرنا بدل كلّ من ضمير المتكلّم المجرور باللام ، ولذلك أعيدت اللام مع البدل ، ولم أر من حكى خلافا في جواز ذلك ، ولم يعتبر الأخفش قيد إفادة الاحاطة ، فجوزه مطلقا تمسّكا بقوله [من البسيط] :

٥٩٥ ـ بكم قريش كفينا كلّ معضلة

وأمّ نهج الهدي من كان ضليلا (٣)

«وقال بعض المحقّقين» وهو الإمام جمال الدين محمد بن مالك في التسهيل ، وتبعه الشيخ جمال الدين بن هشام في الأوضح والجامع : «لا يبدل المضمر» مطلقا «من مثله» أي من مضمر وقوفا مع السماع «ولا من الظاهر» قال في شرح التسهيل : إنّه لم يسمع ، «وما مثّل به لذلك» في كلام النحاة «مصنوع على العرب». وما أوهم ذلك جعل توكيدا «فنحو : قمت أنت» ، ورأيتك أنت ، ومررت بك أنت ، ورأيتك إياك ، وأجبت زيدا إيّاه «تأكيد لفظيّ» أمّا نحو : قمت أنت فكونه تاكيدا متّفق عليه من الفريقين ، وأمّا نحو : رأيتك إيّاك ، فالبصريّون على أنّه بدل ، والكوفيّون على أنّه توكيد.

قال ابن مالك : وقول الكوفيّين عندي أصحّ من قول البصريّين ، لأنّ نسبة المنصوب المنفصل من المنصوب المتّصل في نحو : رأيتك إيّاك كنسبة المرفوع المنفصل من المرفوع المتّصل في نحو : فعلت أنت ، والمرفوع تأكيد بإجماع ، فليكن المنصوب تأكيدا ليجرى المتناسبان مجرى واحدا. قال المراديّ : وكأنّه يعني بقوله : تأكيدا بإجماع أنّه يجوز لا أنّه يتعيّن ، فإنّهم قد أعربوا قمت أنت بدلا ، انتهى ، فتأمّل.

__________________

(١) هو لعديل بن الفرج. اللغة : الأداهم : جمع أدهم وهو القيد ، الشثنة : الغلظة والخشنونه ، المناسم جمع منسم : خف البعير وأراد به تحت قدميه.

(٢) هو للنابغة الجعدي. اللغة : السناء : العلو والارتفاع.

(٣) لم ينسب البيت إلى قائل معين. اللغة : كفينا : وقينا ، أمّ : قصد ، ضليلا : الشديد الضلال.

٥٦٣

وقال الرضيّ والشاطبيّ : والظاهر مذهب البصريّين لما ثبت عن العرب أنّها إذا أرادت التوكيد أتت بالضمير المرفوع المنفصل ، فقال : جئت أنت ، ورأيتك أنت ، ومررت بك أنت ، وإذا أرادت البدل ، وافقت بين التابع والمتبوع ، فقال : جئت أنت ورأيتك إيّاك ، ومررت به به ، فيتّخذ لفظ التوكيد والبدل في المرفوع ، ويختلف في غيره ، هكذا نقل سيبويه عن العرب ، وتلقاه منه غيره بالقبول ، وهم المؤتمنون على ما ينقلون ، لأنهم شافهوا العرب ، وعرفوا مقاصدهم ، فلا يعارض هذا بقياس ، انتهى.

وأمّا نحو : أجبت زيدا إيّاه ، فقال ابن مالك : الصحيح عندي أنّه لم يستعمل في كلام العرب نثره ونظمه ، فلو استعمل لكان توكيدا لا بدلا ، وقال ابن هشام : ـ وفي ما قاله نظر ـ لأنّه لا يؤكّد القويّ بالضعيف ، وقد قالت العرب : زيد هو الفاضل ، وجوّز النّحويّون في هو أن يكون بدلا ، وأن يكون مبتدأ ، وأن يكون فضلا ، انتهى. وظاهر إيراد قوله : وقد قالت العرب إلى آخره في سياق الردّ على ابن مالك أنّ فيه ردّا عليه ، وفيه بحث.

تكميل : يوافق البدل متبوعه في واحد من أوجه الإعراب مطلقا ، وكذا في واحد من التذكير والافراد وضدّيهما إن كان بدل كلّ ، ما لم يمنع مانع ككون أحدهما مصدرا نحو : (مَفازاً* حَدائِقَ وَأَعْناباً) [النباء / ٣٢ و ٣١] أو قصد به التفضيل كقوله [من الطويل] :

٥٩٦ ـ وكنت كذي رجلين رجل صحيحة

ورجل رمى فيها الزّمان فشلّت (١)

ويخالفه في التعريف والتنكير ، فتبدل المعرفة من المعرفة ، والنكرة من النكرة ومن المعرفة ، لكن إن اتّحد اللفظ في إبدال النكرة من مثلها اشترط أن يكون مع الثاني زيادة بيان كقراءة يعقوب (٢) : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) [الجاثية / ٢٨] بنصب كلّ الثانية ، فإنّها قد اتّصل بها ذكر سبب الجثو.

ولا يشترط في إبدال النكرة من المعرفة اتّحاد اللفظ ، ولا أن تكون النكرة موصوفة خلافا للكوفيّين بشهادة السماع بخلافه كقوله [من الوافر] :

٥٩٧ ـ فلا وأبيك خير منك أنّي

ليؤذيني التحمحم والصهيل (٣)

__________________

(١) هو لكثير عزة. اللغة : شلّ العضو : أصيب بالشّلل ، أو يبس فيطلت حركته أو ضعفت.

(٢) يعقوب بن إسحاق كان أعلم الناس في زمانه بالقراءات والعربية ، له قراءة مشهورة به ، وهي إحدى القراءات العشر ، مات سنة ٢٠٥ ه‍ ق. بغية الوعاة ٢ / ٣٤٨.

(٣) هو لشمير بن الحارث. اللغة : التحمحم : صوت الفرس إذا طلب العلف ، الصهيل : صهيل الفرس ، صوته مطلقا ، فهو من عطف العامّ على الخاصّ.

٥٦٤

ويجوز قطع البدل ، نحو : مررت بزيد أخوك ، ويحسن مع الفصل ، نحو : (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ) [الحج / ٧٢] ، ويجب أن تبع متعدّدا ، ولم تستوف العدة ، نحو : اتّقوا الموبقات (١) الشرك والسحر ، أي منهنّ الشرك والسحر.

عطف البيان

ص : الخامس : عطف البيان ، وهو تابع يشبه الصّفة في توضيح متبوعه ، نحو : جاء زيد أخوك ، ويتبعه في أربعة من عشرة كالنّعت ، ويفترق عن البدل في نحو : هند قام أبوها زيد ، لأنّ المبدل منه مستغني عنه ، وهنا لا بدّ منه ، وفي نحو : يا زيد الحارث ، وجاء الضّارب الرّجل زيد ، لأنّ البدل تكرار العامل ، ويا الحارث والضّارب زيد ممتنعان.

ش : «الخامس» من التوابع «عطف البيان» سمّي بذلك ، لأنّه تكرار الأوّل بمرادفه لزيادة البيان ، فكأنّك رددته على نفسه ، ولم تحتج إلى حرف ، لأنّه عين الأوّل ، قيل : والكوفيّون يسمّونه الترجمة ، لأنّه مفسّر لمتبوعه ، وقال الأعلم في شرح الجمل : هذا الباب يترجم له البصريّون ، ولا يترجم له الكوفيّون.

«وهو تابع يشبه الصفة» بمعنى النعت السابق بيانه «في توضيح متبوعه» لكن الصفة توضّح متبوعها بحسب معنى فيه ، وعطف البيان يوضّح متبوعه بحسب الذات ، فقوله : تابع كالجنس يشتمل التوابع كلّها ، وقوله : يشبه الصفة مخرج النعت ، لأنّ المشبه للشيء غير ذلك الشيء ، فكأنّه قال : تابع غير صفة ، وقوله : في توضيح متبوعه يخرج بقيّة التوابع ، لأنّها غير موضحة ، «نحو : جاء زيد أخوك» ، فأخوك عطف بيان لزيد ذكر لإيضاحه.

تنبيهات : الأوّل : أجمعوا على مجئ عطف البيان لإيضاح المعرفة ، وذهب الكوفيّون وجماعة إلى أنّه يجيء لتخصيص النكرة أيضا ، ونفاه جمهور البصريّين ، وخرّجوا ما جاء من ذلك على البدل ، فلذلك لم يثبته المصنّف ، وحجّتهم أنّ البيان بيان كاسمه ، والنكرة مجهولة ، والمجهول لا يبيّن المجهول ، ودفع بأنّ بعض النكرات أخصّ من بعض ، والأخصّ يبيّن غير الأخصّ.

__________________

(١) الموبقات : الكبائر من المعاصي : لأنّهنّ مهلكات.

٥٦٥

الثاني : قال السعد التفتازانيّ في شرح التلخيص : فائدة عطف البيان لا تحصر في الإيضاح لما ذكر صاحب الكشاف أنّ البيت الحرام في قوله تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) [المائدة / ٩٧] ، عطف بيان جئ به للمدح للإيضاح ، كما تجئ الصفة لذلك ، انتهى. وردّ أبو حيّان قول الزمخشريّ بأنّهم شرطوا في عطف البيان الجمود ، والجامد ليس فيه إشعار بمدح ، إنّما يشعر بالمدح المشتقّ ، إلا أن يقال إنّه لمّا وصف عطف البيان هنا بقوله : الحرام اقتضي المجموع المدح ، فيمكن ذلك ، انتهى.

وقضيّة كلام بعضهم أنّ مجئ عطف البيان للمدح رأي أهل المعاني دون النّحويّين ، فلا يرد على من اقتصر في فائدته على ذكر الإيضاح من النّحويّين ، ولو سلم أنّه رأي الجميع ، أمكن أن يقال : إنّ ذلك مسكوت عنه ، فلا يرد ، أو إنّه باعتبار الأعمّ الأغلب.

الثالث : اشترط الجرجانيّ والزمخشريّ كون البيان أخصّ من متبوعه ، وهو مخالف لقول سيبويه في : يا هذا ذا الجمّة ، أنّ ذا الجمة عطف بيان ، مع أنّ الإشارة أخصّ من المضاف إلى ذي الأداة كما قاله ابن هشام (١).

وقال البدر بن مالك : وهو مخالف للقياس أيضا ، لأنّ عطف البيان في الجامد بمترلة النعت في المشتقّ ، ولا يلزم تخصيص النعت باتّفاق ، فلا يلزم زيادة تخصيص عطف البيان ، انتهى.

وقصرهما نقل الاشتراط المذكور على الرجلين تبعا فيه ابن مالك في شرح الكافية ، والصواب أنّه قول أكثر النّحويّين ، كما قاله في حاشية التسهيل ، لا يقال : يلزم من كونه موضحا أن يكون أعرف ، لأنّا نقول : جاز أن يوضح متبوعه عند الاجتماع ، ولا يكون أوضح منه عند الانفراد ، قاله السّيّد الشريف في شرح المفتاح.

«ويتبعه» أي يتبع عطف البيان متبوعه وجوبا «في أربعة من عشرة» أوجه الإعراب الثلاثة والإفراد والتذكير وفروعهنّ «كالنعت» ، تقول : جاءني محمد أبو الفضل ، كما تقول : جاءني محمد الفاضل ، فأبو الفضل والفاضل مرفوعان ، والرفع واحد من ثلاثة ، وهي الرفع والنصب والجرّ ، ومفردان ، والإفراد والتثنية واحد من ثلاثة أيضا ، وهي الإفراد والتثنية والجمع ، ومذكّران ، والتذكير واحد من اثنين ، وهما التذكير والتأنيث ، ومعرّفان ، والتعريف واحد من اثنين أيضا ، وهما التعريف والتنكير.

ويصحّ في عطف البيان إعرابه بدل كلّ من كلّ لما فيه من البيان «ويفترق» عطف البيان عن البدل «في نحو : هند قام أخوها زيد» ، فزيد عطف بيان على أخوها ، ولا يجوز أن يكون بدلا منه ، لأنّه لو كان بدلا منه لكان مستغنى عنه ، لأنّ المبدل منه مستغنى عنه

__________________

(١) سقطت «كما قاله ابن هشام» في «ط».

٥٦٦

في الكلام ، وهنا لا بدّ منه لاشتماله على ضمير رابط للجملة الواقعة خبرا لهند ، إذ الجملة الواقعة خبرا لا بدّ لها من رابط يربطها بالمخبر عنه كما سيأتي ، والرابط هنا هو الضمير المضاف إليه الأخ الّذي هو متبوع زيد ، ولو أسقط لم يصحّ ، فوجب أن يكون أخوها عطف بيان لا بدلا.

تنبيه : قضية قوله إنّ المبدل منه مستغنى عنه أنّه في حكم المطروح لفظا ومعنى ، وهو مذهب المازنيّ ، حكى عنه أنّه كان يقول : إذا أبدلت من الشيء فقد طرحته من لفظيّ ، ولهذا جعل الزمخشري : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) عطف بيان على الضمير في (بِهِ) من قوله تعالى : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) [المائدة / ١١٧] ، أي (اعْبُدُوا اللهَ)(١) قال في المغني : وإنّما لم يجعله بدلا توهّما منه أنّ ذلك يخلّ بعائد الموصول ، لأنّ المبدل منه في قوة الساقط ، فتبقي الصلة بلا عائد ، والعائد موجود حسّا ، فلا مانع ، انتهى.

والحقّ أنّ المبدل منه ليس في حكم الطرح لا لفظا ولا معنى إلا في بدل الغلط ، كما سنبيّنه من كلام الرضيّ ، فعلى هذا لا مانع من جعل زيد في مثال المصنّف بدلا من أخوها. وقد هدي الزمخشريّ في المفصّل إلى الحقّ في المسألة ، فقال وقولهم : إنّ البدل في حكم تنحية الأوّل إيذان منهم باستقلاله بنفسه ومفارقته التأكيد والصفة في كونهما تتمتين لما يتبعانه لا أن يعنوا إهدار الأوّل وإطراحه ، ألا تراك تقول : زيد رأيت غلامه رجلا صالحا ، فلو ذهبت تهدر الأوّل لم يسدّ كلامك ، انتهى كلامه (٢).

ومثاله هذا نظير مثال المصنّف ، وفي الارتشاف عن الفارسيّ أنّ معنى قولهم : إنّ المبدل في نيّة الطرح أنّه يقدّر له عامل من جنس الأوّل يعمل به ، لا إنّ الأوّل مطروح ألبتّة ، لأنّ في كلام العرب ما يبطل ذلك ، كزيد ضربته إيّاه ، فلو طرح الضمير لم يبق ما يربط الجملة بالابتداء.

وقال الرضيّ ـ عليه من الله الرضا ـ لا كلام في أنّ المبدل ليس في حكم الطرح لفظا لوجوب عود الضمير إليه في بدل البعض والاشتمال ، وفي بدل الكلّ أيضا ، إذا كان المبدل منه ضميرا (٣) لا يستغنى عنه ، نحو : ضربت الّذي مررت به أخيك ، أو ملتبسا بضمير كذلك ، نحو : الّذي ضربت أخاه زيدا كريم ، وقد يعتبر الأوّل في اللفظ دون الثاني ، قال [من الكامل] :

٥٩٨ ـ وكأنّه لهق السراة كأنّه

ما حاجبيه معيّن بسواد (٤)

__________________

(١) سقط من عطف بيان إلى هنا في «ح».

(٢) الزمخشري ، المفصل في صنعة الإعراب ، الطبعة الأولى ، بيروت ، دار لكتب العلمية ، ١٤٢٠ ه‍. ص ١٥٥.

(٣) سقط ضميرا في «ح».

(٤) هو للأعشي. اللغة : اللهق : البياض ، السراة : أعلى الشيء. وثور الوحش يوصف بأنّه لهق السراة.

٥٦٧

وقال [من الكامل] :

٥٩٩ ـ إنّ السّيوف غدوّها ورواحها

تركت هوازن مثل قرن الأعضب (١)

ولو كان في حكم الطرح لفظا لم يعتبر هو دون الثاني.

وليس في حكم الطرح معنى إلا في بدل الغلط ، وقولهم : إنّ المقصود بالنسبة هو البدل دون المبدل منه ممنوع إلا في بدل الغلط ، لأنّ المبدل منه في الأبدال الثلاثة منسوب إليه في الظاهر ، ولا بدّ أن يكون في ذكره فائدة لم تحصل لو لم تذكر صونا لكلام الفصحاء عن اللغو ، ولا سيّما كلامه تعالى وكلام نبيه (ص) ، فادّعاء كونه غير مقصود بالنسبة مع كونه منسوبا إليه في الظاهر واشتماله على فائدة يصحّ أن ينسب إليه لأجلها دعوى خلاف الظاهر ، انتهى.

«وفي نحو : يا زيد الحارث ، وجاء الضارب الرجل زيد» ، فالحارث في المثال الأوّل عطف بيان على زيد ، وزيد في المثال الثاني عطف بيان على الرجل ، ولا يجوز أن يكونا بدلين ، «لأنّ البدل في نيّة تكرار العامل» فلو جعلا بدلين كان التقدير يا الحارث وجاء الضارب زيد. والحال أن «يا الحارث» بالجمع بين أل وحرف النداء «والضارب زيد» بإضافة الصفة المحلّاة بأل إلى المجرّد منها «ممتنعان» ، لأنّ أل وحرف النداء لا يجتمعان هنا ، والصفة المحلّاة بأل إلى المجرّد منها ممتنعان ، لأنّ أل وحرف النداء لا يجتمعان هنا ، والصفة المحلّاة بأل لا تضاف إلا إلى المعرّف بها ، وأجاز الفرّاء إضافة الصفة المذكورة إلى جميع المعارف ، فلا يمتنع عنده جعل زيد بدلا من الرّجل.

فائدة : قال الأعلم في شرح الجمل : الدليل على أنّ البدل في نية تكرار العامل ثلاثة أدّلة : شرعيّ ولغويّ وقياسيّ. فالشرعيّ في قوله تعالى : (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ* اتَّبِعُوا) [يس / ٢١ و ٢٠] ، و (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) [الأعراف / ٧٥] ، واللغويّ قول الشاعر [من الوافر] :

٦٠٠ ـ إذا ما مات ميت من تميم

فسرّك أن يعيش فجئ بزاد

بخبز أو بلحم أو بتمر

أو الشيء الملفّف في البجاد (٢)

والقياسيّ نحو : يا أخانا زيد ، إذ لو كان في غير نيّة النداء لقال : يا أخانا زيدا.

تنبيهات : الأوّل : هذه العلّة وهي كون البدل في نية تكرار العامل تجرى في مسائل أخر ، فتمتنع البدليّة ، ويتعيّن عطف البيان ، ولذلك قال المصنّف في نحو : يا زيد الحارث.

__________________

(١) هو للأخطل. اللغة : هوازن : أبو قبيلة ، وهو هوازن بن منصور بن عكرمة ، الأغضب : المكسور القرن.

(٢) هما ليزيد بن عمرو بن الصعق أو لأبي المهوش الأسدي. اللغة : البجاد : كساء مخطّط (ج) بجد.

٥٦٨

فمنها أن يتبع مجرور ، أي بمفصّل ، نحو : بأيّ الرجلين زيد وعمرو مررت ، فلو جعلت زيدا ، وما عطف عليه بدلا من الرجلين ، والبدل في نيّة تكرار العامل ، لزم إضافة أيّ إلى المعرفة المفردة ، وهي لا تضاف إليها إلا إذا كان بينهما جمع مقدّر ، نحو : أيّ زيد أحسن ، بمعنى أي أجزائه أحسن ، أو عطف على أيّ مثلها ونحو [من الكامل] :

٦٠١ ـ ...

أيّي وأيّك فارس الأحزاب (١)

ومنها أن يتبع مجرور كلا بمفصّل ، نحو : كلا أخويك زيد وعمرو عندي ، فلو جعل زيد وما عطف عليه بدلا من أخويك ، لزم إضافة كلا إلى مفرد ، وهي أنّما تضاف إلى مثنى غير مفرد ، وشذّ قوله [من البسيط] :

٦٠٢ ـ كلا أخي وخليلي واجدي عضدا

في النّائبات وإلمام الملّمات (٢)

ومنها أن يتبع المنادى باللقب مرفوعا أو منصوبا نحو : يا سعيد كرز (٣) بالفرع أو كرزا بالنصب ، فلو جعل كرز أو كرزا بدلا لزم ضمّة بخلاف يا سعيد كرز بالضمّ ، فإنّه يمتنع أن يكون عطف بيان ، ويجب إعرابه بدلا.

الثاني : امتناع البدليّة في جميع هذه المسائل مبنيّ على أنّ البدل لا بدّ أن يكون في نيّة تكرار العامل ، وفيه نظر ، لأنّهم يغتفرون في الثواني ما لا يغتفرون في الأوائل ، وقد جوّزوا في أنّك أنت ، كون أنت تاكيدا ، وكونه بدلا ، مع أنّه لا يجوز إن أنت ، قاله ابن هشام في حواشي التسهيل ، وسبقه إلى ذلك ابن القواس في شرح الدرّة.

قال ابن النحاس في التعليقه : إنّما اغتفر في الثواني ما لم يغتفر في الأوائل من قبل أنّه إذا كان ثانيا يكون ما قبله قد ، وفي الموضع ما يقتضيه مجازا لتوسّع في ثاني الأمر بخلاف ما لو أتينا بالتوسّع من أوّل الأمر ، فإنّا حينئذ لا نعطي الموضع شيئا ممّا يستحقّه ، انتهى. وهذه قاعدة يبتني عليها كثير من المسائل ، فاحفظها.

ما افترق فيه عطف البيان والبدل : الثالث : إنّما قال المصنّف (ره) : ويفترق عن البدل في نحو : هند قام أخوها إلخ إشارة إلى أنّ عطف البيان يفترق عن البدل في غير ما ذكره من الصور.

__________________

(١) صدره «فلئن لقيتك خاليين لتعلمن» ، ولم يسمّ قائله. اللغة : خاليين : منفردين وهو حال من الفاعل والمفعول.

(٢) لم يعين قائله. اللغة : عضدا : معينا وناصرا ، النائبات : جمع نائبة ، وهي ما ينتاب الإنسان ويعرض له من نوازل الدهر ، إلمام : نزول ، الملمات : جمع ملمة ، وهي ما يترل بالمرء من المحن والمصائب.

(٣) كرز : لقب : قال سيبويه : إذا لقبت مفردا بمفرد أضفته إلى اللقب ، وذلك قولك : هذا سعيد كرز ، جعلت كرزا معرفة لأنّك أردت المعرفة الّتي أردتها إذا قلت : هذا سعيد ، فلو نكّرت كرزا صار سعيد نكرة لأنّ المضاف أنّما يكون نكرة ومعرفة بالمضاف إليه. لسان العرب ٤ / ٣٤١٥.

٥٦٩

فمنها أنّ عطف البيان لا يكون مضمرا ولا تابعا لمضمر ، لأنّه في الجوامد نظير النعت في المشتقات ، قال في المغني : ووهم الزمخشري وأجاز في (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) [المائدة / ١١٧] ، أن يكون بيانا للهاء من قوله تعالى : (إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) ذهولا عن هذه النكتة ، وممّن نصّ عليها من المتأخّرين أبو محمد بن السّيّد وابن مالك ، والقياس معهما ، وأمّا البدل فيكون عند الجمهور تابعا لمضمر كرأيته إيّاه ، ولظاهر كرأيت زيدا ، وخالفهم ابن مالك ، وقد مرّ الكلام على ذلك.

ومنها أنّه لا يخالف متبوبه في تعريفه وتنكيره ، وأمّا قول الزمخشريّ إنّ (مَقامُ إِبْراهِيمَ) عطف على (آياتٌ بَيِّناتٌ) [آل عمران / ٩٧] ، فقال ابن هشام : إنّه سهو ، ثمّ اعتذر عنه بقوله قد يكون عبّر عن البدل بعطف البيان لتآخيهما ، ولا يختلفون في جواز التخالف في البدل كما مرّ. قال الرضيّ ، والّذي يقول عندي إنّه يجوز التخالف في عطف البيان أيضا.

ومنها أنّه لا يكون جملة بخلاف البدل ، نحو : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) [فصلت / ٤٣] ، ونحو : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [الأنبياء / ٣] ، وهو أصحّ الأقوال في عرفت زيدا أبو من هو.

ومنها أنّه لا يكون تابعا لجملة بخلاف البدل ، نحو (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ* اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) [يس / ٢١ و ٢٠] ، ونحو (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ* أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) [الشعراء / ١٣٣ و ١٣٢] ، وقوله [من الطويل] :

٦٠٣ ـ أقول له ارحل لا تقيمنّ عندنا

وإلا فكن في السّرّ والجهر مسلما (١)

ومنها أنّه لا يكون فعلا تابعا لفعل بخلاف البدل نحو : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً* يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ) [الفرقان / ٦٩ و ٦٨].

ومنها أنّه لا يكون بلفظ الأوّل ، ويجوز ذلك في البدل بشرط أن يكون مع الثاني زيادة بيان كما مرّ ، وهذا الفرق ذهب إليه ابن الطراوة ، وتبعه ابن مالك وولده ، وحجّتهم أنّ الشيء لا يبيّن نفسه ، وقد مضي إبطالها على أنّ حجّتهم هذه تقضي أنّ البدل ليس مبيّنا للمبدل منه ، وليس كذلك ، ولهذا منع سيبويه : بي المسكين ، وبك المسكين ، دون به المسكين ، وإنّما يفارق البدل عطف البيان في أنّه بمترلة جملة استونفت للتبيين ، والعطف تبيين بالمفرد المحض ، قاله ابن هشام في المغني.

__________________

(١) لم يسمّ قائله.

٥٧٠

الأسماء العاملة المشبهة بالأفعال

المصدر

ص : الأسماء العاملة المشبّهة بالأفعال وهي خمسة أيضا :

الأوّل : المصدر ، وهو اسم للحدث الّذي اشتقّ منه الفعل ، ويعمل عمل فعله مطلقا ، إلا إذا كان مفعولا مطلقا ، إلا إذا كان بدلا عن الفعل ، ففيه وجهان ، والأكثر أن يضاف إلى فاعله ، ولا يتقدّم معموله عليه ، وإعماله مع اللّام ضعيف ، كقوله «ضعيف النّكاية اعداءه».

ش : هذه «الأسماء العاملة» عمل الفعل «المشبّهة بالأفعال» ، إعلم أنّ العمل أصل في أفعال ، فرع في غيرها ، وذلك أنّ الفعل وضع ليسند إلى شيء ، فلذلك وجب ذكر مرفوعه ، لأنّه مقتضاه ، والمقتضي مرتبته التقديم على مقتضاه ، وكان حقّه أن لا يطلب غير المسند إليه ، ولا يعمل إلا فيه ، لأنّه لم يوضع لطلب غيره ، لكنّه عمل في غير المسند إليه من المفاعيل الّتي لم تقم مقام الفاعل بالتبعيّة للفاعل لاقتضائه لها ، فصار الفعل في عمل المسند إليه أصلا ، وفي غيره تبعا ، وغير الفعل من الصفات والمصدر فروع عليه في العمل ، لأنّها لم توضع لما وضع له الفعل ، لكنّها شابهت الفعل من حيث دلالتها على معناه ، فأعملت عمله.

«وهي أيضا خمسة : المصدر» واسما الفاعل والمفعول والصفة المشبهة وأفعل التفضيل ، وعدّها بعضهم ستّة بزيادة اسم الفعل ، واعتذر المصنّف عن إهماله في الحاشية بعدم اشتداد الحاجة إليه ، وبعضهم سبعة بزيادة المثال (١) ، ولم يتعرّض له ، لأنّه محوّل من اسم الفاعل ، كما سنبيّنه.

وأوصلها ابن هشام في الشذور إلى عشرة ، السبعة المذكورة واسم المصدر والظرف والمجرور المعتمدان (٢) ، وأمّا اسم المصدر فإنّما لم يعترض له ايضا لندورا أعماله ، بل البصريّون يمنعون إعماله نظرا إلى أنّ أصل وضعه لغير المصدر ، وأمّا الظرف والمجرور المعتمدان فاكتفى عن ذكره هنا بذكره في حديقة الجمل ، وسيأتي الكلام عليها هنالك ، إن شاء الله تعالى.

تنبيه : إنّما أتي المصنّف بأيضا هنا لموافقة هذه الأسماء ما ذكر قبلها من التوابع في العدد الأوّل من الأسماء العاملة عمل الفعل المصدر ، هذا التعبير متّفق عليه ، قال في شرح

__________________

(١) المثال : ما حول للمبالغة من فاعل إلى فعّال أو مفعال أو فعول بكثرة ، أو فعيل أو فعل بقلّة ، شذور الذهب ، ص ٣٩٢.

(٢) يعني اعتمد الظرف والمجرور على النفي أو الاستفهام أو الاسم المخبر عنه أو الاسم الموصوف أو الاسم الموصول. المصدر السابق ، ص ٤١٠.

٥٧١

الضوء (١) : وإنّما سمّي به ، لأنّ الفعل يصدر عنه ، والمصدر في الأصل هو الموضع الّذي تصدر عنه الإبل.

قال الرضيّ وسيبويه : يسمّى المصدر فعلا وحدثا وحدثانا ، قال ابن مالك : وهو من تسمية الشيء بلفظ مدلوله ، وبدأ به ، لأنّه أصل المشتقّ على الصحيح كما سيأتي ، ولأنّه يعمل في الأزمنة كلّها.

«وهو اسم للحدث» أي اسم يدلّ على الحدث مطابقة كالضرب أو تضمّنا كالجلسة والجلسة ، وهذا كالجنس يشمل المحدود وغيره من أسماء المصادر ونحوها ، وقوله : «الّذي اشتقّ منه الفعل» أخرج ما عدا المحدود ، وهذا الحدّ أولى من حدّه في التهذيب (٢) تبعا للكافية ، بأنّه اسم الحدث الجاري على الفعل لما في لفظ الجرى ان من الإبهام الّذي ينبغي صيانة الحدّ عن مثله ، وفسّر بعضهم جرى انه على الفعل باشتماله على جميع حروفه ، وهو منقوض بالصفات كاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة ، فإنّها جارية على الفعل بالمعنى المذكور لاشتمالها على جميع حروف أفعالها ، فالأولى أن يفسّر الجريان بما قاله غير واحد من أنّه إيراد اسم الحدث بعد ما اشتقّ منه منصوبا به على أنّه مفعول مطلق ، وحينئذ تخرج المذكورات قطعا.

ثمّ حدّه هنا مبنيّ على مذهب البصريّين من أنّ المصدر أصل الفعل ، وهو فرعه ، وذهب الكوفيّون إلى العكس ، وقال ابن طلحة ، كلّ منهما أصل ، فلا اشتقاق.

احتجّ البصريّون من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ المصدر اسم ، والاسم أولى بالأصالة من الفعل.

الثاني : أنّ المصدر يدلّ على معنى واحد ، وهو الحدث ، والفعل يدلّ على معنيين ، وهما الحدث والزمان ، والواحد قبل الاثنين.

الثالث : وهو العمدة ، إنّ كلّ فرع يوجد من أصل ، ويصاغ منه ، ينبغي أن يكون في الفرع ما في الأصل مع زيادة ، هي الغرض من الصوغ كالباب من الساج والخاتم من الفضة ، وهكذا حال الفعل فيه معنى المصدر مع زيادة أحد الأزمنة الّتي هي الغرض من وضع الفعل ، لأنّه كان يحصل في نحو قولك : لزيد ضرب ، نسبة الضرب إلى زيد ، لكنّهم طلبوا بيان زمان الفعل على وجه أخصر (٣) ، فوضعوا الفعل الدالّ بجوهر حروفه على المصدر وبوزنه على الزمان.

__________________

(١) «الضوء» شرح لمحمد بن محمد الأسفرايني على كتاب «المصباح» في النحو للمطرزي النحويّ المتوفى سنة ٦١٠ ه‍ ق ، وقد اعتني عدد من العلماء بشرح الضوء. كشف الظنون ٢ / ١٧٠٨.

(٢) التهذيب في النحو لأبي البقاء العكبري المتوفى سنة ٥٣٨ ه‍ ق المصدر السابق ١ / ٥١٨.

(٣) أخصر : أوجز.

٥٧٢

واحتجّ الكوفيّون من ثلاثة أوجه أيضا :

الأوّل : إنّ الفعل يعمل في المصدر كقوله : نظرت نظرا ، والعامل أولى بالأصالة ، ونقض بالحروف ، فإنّها يعمل في الأسماء والافعال ، وليست أصولا لها.

الثاني : إنّ المصدر يذكر توكيدا للفعل كقولك : قمت قياما ، والمؤكّد أولى بالإصالة ، ونقض بنحو : قام القوم أجمعون ، مع أنّ أحدهما غير مشتقّ من الآخر.

الثالث : إنّ المصدر يعتلّ بإعتدال الفعل كقولك : قام قياما وصام صياما ، ويصحّ بصحّته كقولك : عاود عوادا ، والمتبوع أولى بالأصالة ، ونقض بالمضارع ، فإنّه يعتلّ بإعتلال الماضي ، نحو : قام يقوم ، ويصحّ بصحّته ، نحو : عور يعور ، وليس أحدهما مشتقّا من الآخر.

تنبيهات : الأوّل : بنى بعض المتأخّرين تعيّن الفعل الّذي يشتقّ المصدر منه على قول الكوفيّين على الخلاف في الأفعال أيّما زمانه أسبق. فقيل : الماضي ، وقيل : المستقبل ، وهو الحقّ ، لأنّ الماضي كان قبل وجوده مستقبلا ، إذ هو مسبوق بعدمه.

الثاني : اختلف في الصفة ، فالجمهور على أنّ أصلها المصدر ، قال ابن مالك في شرح التسهيل ببعض ما استدللنا به على فرعية الفعل بالنسبة إلى المصدر ، ويستدلّ على فرعية الصفة بالنسبة إليه ، لأنّ كلّ صفة تضمّنت حروف الفعل فيها ما في المصدر من الدلالة على الحدث ، وتزيد بالدلالة على ما هي له كما زاد الفعل بالدلالة على الزمان المعيّن ، فيجب كون الصفة مشتقّة من المصدر لا من الفعل ، إذ ليس فيها ما في الفعل من الدلالة على زمان معيّن ، وذهب جماعة إلى أنّ أصلها الفعل ، ونسب الرضيّ هذا القول إلى السيرافيّ.

وقال العلامة الحسن بن المطهر الحليّ (ره) (١) في نهاية الأصول : ذكر أبو على في التمكلة (٢) أنّها مشتقّة من الأفعال ، وكذا عبد القاهر ، واستدلّ أبو على بكونها جارية على سنن الأفعال وطريقتها ، والأفعال أصولها القريبة ، والمصادر الّتي هي أفعال حقيقة أصولها البعيدة ، وإذا ثبت هذا كان لنا أن نشتقّها من الأفعال لأصالتها القريبة ومن المصادر لأصالتها البعيدة ، انتهى.

__________________

(١) الحسن بن يوسف بن على بن المطهر الحليّ يعرف بالعلّامة من أئمة الشيعة وأحد كبار العلماء له كتب كثيرة منها «كتر العرفان في معرفة القرآن» و «مطالب العلمية في علم العربية. الأعلام للزركلي ٢ / ٢٤٤ ..

(٢) التكملة كتاب في النحو ، صنفه أبو على الفارسي بعد تصنيف الإيضاح في النحو. كشف الظنون ١ / ٢١١.

٥٧٣

أنواع الاشتقاق : فائدة : الاشتقاق ثلاثة أقسام : أصغر : وهو اتّفاق اللفظين في الحروف الأصليّة والترتيب ، نحو : بصر وبصير ، وصغير ، ويسمّي كبيرا. وأوسط ، وهو اتّفاقها في الحروف دون الترتيب ، نحو : جيذ وجذب. وأكبر : وهو اتّفاقها في بعض الحروف دون بعض ، نحو : ثلم وثلب ، وحيث أطلق الاشتقاق ، فالمتبادر الأوّل.

«ويعمل المصدر عمل فعله» المشتقّ منه في التعدي واللزوم ، فإن [كان] لازما (١) لزم المصدر ، أو متعديّا ، تعدّي على حسب تعدية ، فتقول : عجبت من قيامك ومن ضربك زيدا ، ومن إعطائك زيدا درهما ، ومن ظنّك عمرا قائما ، ومن إعلامك زيدا (٢) عمرا قائما. «مطلقا» أي سواء كان ماضيا أو حالا أو مستقبلا ، تقول : أعجبني ضرب زيد عمرا أمس ، كما تقول : الآن أو غدا.

سبب إعمال المصدر : تنبيهان : الأوّل : اختلف في سبب إعمال المصدر عمل فعله ، فقيل : لشبهه بالفعل معنى من حيث كونه بتقدير أن والفعل ، وهو قضية كلام المصنّف (ره) حيث قال في ترجمة باب الأسماء العاملة لشبهه بالأفعال ، فتأمّل.

قال الرضيّ : وتقديرهم له بأن والفعل لا يتمّ إذا كان بمعنى الحال ، لأنّ أن إذا دخلت على المضارع خلّصته للاستقبال ، بخلاف ما إذا دخلت على الماضي فإنّه يبقى معها على معنى المضي ، لكنهم قدّروه بأن دون ما وكي ، وإن كان في الحال أيضا لكونها أشهر وأكثر استعمالا منهما ، ولتقديرهم له بأن والفعل ، ووهم بعضهم فظنّ أنّه لا يعمل حالا لتعذّر تقديره إذن بأن ، انتهى.

وقال غير واحد منهم ابن هشام في الأوضح والقطر ما معناه أنّه إذا كان بمعنى المضيّ أو الاستقبال قدّر بأن ، وإذا كان بمعنى الحال قدّر بما. قال الدمامينيّ : ولك تقدير المصدر في جميع الحالات بالفعل مع ما ، لأنّها تدخل على الأفعال الثالثة ، نحو أعجبتني ما صنعت أمس ، وما تصنع الأن ، وما تصنع غدا ، انتهى.

وقال ابن مالك في شرح الكافية : يعمل المصدر عمل فعله لا لشبهه بالفعل ، بل لأنّه أصل ، والفعل فرع ، ولذلك يعمل مرادا به المضيّ أو الحال أو الاستقبال بخلاف اسم الفاعل ، فإنّه يعمل لشبهه بالفعل المضارع ، فاشترط كونه حالا أو مستقبلا ، لأنّهما مدلولا المضارع. وقال بعضهم : إنّما عمل لنيابته عن الفعل ، ولذلك عمل في الأزمنة كلّها ، لأنّ الفعل لا يشترط فيه زمان مخصوص.

__________________

(١) لازما ذكر في «س وح».

(٢) سقط زيدا في «ح».

٥٧٤

شرط عمل المصدر : الثاني : يشترط لعمل المصدر أمورا.

الاوّل : أن لا يصغّر ، فلا يقال : أعجبني ضريبك زيدا ، لأنّ التصغير من خصائص الأسماء ، فيبعد به عن الفعل ، وهذا الشرط مجمع عليه.

الثاني : أن لا يحدّ بالتاء أو التثنية أو الجمع ، فلا يقال : أعجبتني ضربتك أو ضربتاك أو ضرباتك زيدا ، لأنّ الفعل يصدق على القليل والكثير ، والمصدر إنّما عمل لمشابهته له أو أصالته أو نيابته عنه ، فروعي فيه أن لا يبعد عنه بالتحديد بما ذكر ، وما ورد في كلامهم ممّا يخالف ذلك فشاذّ ، لا يقاس عليه ، قاله ابن مالك.

الثالث : أن لا يتبع بنعت أو غيره قبل العمل فلا يقال : أعجبني ضربك الشديد زيدا ، لأنّه مع معموله كموصول مع صلته ، فلا يفصل بينهما ، وأما قول الحطيئة [من البسيط] :

٦٠٤ ـ أزمعت يأسا مبينا من نوالكم

ولن ترى طاردا للحرّ كاليأس (١)

فمن متعلّق بيئست محذوفا لا بيأسا ، كما توهّمه بعضهم ، فإن اتبع بعد العمل جاز كقوله [من الخفيف] :

٦٠٥ ـ إنّ وجدي بك الشديد أراني

عاذرا فيك من عهدت عذولا (٢)

الرابع : أن لا يكون مضمرا ، فلا يقال : ضربي زيدا أحسن ، وهو عمرا قبيح ، لأنّه بالإضمار يبعد عن مشابهة الفعل ، وأجاز ذلك الكوفيّون ، واستدلّوا بقول زهير [من الطويل] :

٦٠٦ ـ وما الحرب إلا ما علمتم وذفتم

وما هو عنها بالحديث المرجّم (٣)

قالوا : فعنها متعلّق بالضمير العائد إلى الحديث المفهوم من السياق ، وتأوّله البصريّون على تعليق عن بمحذوف ، أي أعني عنها ، وفيه نظر ظاهر.

وأجاز أبو على في رواية الرمانيّ وابن جنيّ إعماله مضمرا في المجرور ، وجماعة في الظرف ، وأجاز الرضيّ إعماله فيها. قال ابن عقيل : وأطلق النّحويّون النقل عن الكوفيّين في إعمالهم ضمير المصدر مع اختلاف النقل في إعمال صريحه.

الخامس : أن لا يكون محذوفا ، لأنّه يكون كحذف الموصول مع بعض الصلة وإبقاء البعض ، إذ هو مع معموله كموصول (٤) مع صلة. قال ابن هشام في شرح القطر : ولهذا

__________________

(١) اللغة : أزمعت : عزمت وصممت ، النوال : النصيب والعطاء.

(٢) لم ينسب هذا البيت إلى قائل معين. اللغة : الوجد : العشق ، عذولا : فعول بمعنى الفاعل : أي عاذل ، أو هو صيغة مبالغة معناه الشديد العذل والعذل : اللوم والتعنيف على ما تفعله.

(٣) اللغة : الذوق : التجربة ، والحديث المجرم : الّذي يرجم فيه بالظنون ، أي يحكم فيه بظنونها.

(٤) سقطت «إذ هو مع معموله كموصول» في «ح».

٥٧٥

ردّوا على من قال في بسم الله : إنّ التقدير ابتدائي بسم الله ثابت ، فحذف المبتدأ والخبر ، وأبقي معمول المبتدإ ، وجعلوا من الضرورة قوله [من البسيط] :

٦٠٧ ـ هل تذكرنّ إلى الدّيرين هجرتكم

ومسحكم صلبكم رحمان قربانا (١)

لأنّه بتقدير وقولكم يا رحمن قربانا ، انتهى ، والأولى أن يقال : أنّه بتقدير قائلين يا رحمن قربانا.

فإذا توفّرت هذه الشروط للمصدر عمل عمل فعله مطلقا ، كما مرّ ، «إلا إذا كان مفعولا مطلقا» لأنّ تقديره بأن والفعل أو بما والفعل حينئذ متعذّر ، إذ ليس معنى ضربت ضربا أو ضربة أو ضربا شديدا ضربت أن ضربت ، وأمّا قولك : ضربت ضرب الأمير اللص ، فالمصدر العامل ليس مفعولا مطلقا في الحقيقة ، بل المفعول المطلق محذوف ، تقديره ضربا مثل ضرب الأمير اللص ، فالعمل في نحو قولك : ضربت ضربا زيدا ، وقولك : ضربة زيدا في جواب من قال لك : كم ضربت؟ ليس للمصدر ، بل للفعل الظاهر في المثال الأوّل وللمقدّر في المثال الثاني ، «إلا إذا كان» المفعول المطلق «بدلا من الفعل» ، أي سادا مسدّه بعد حذفه وجوبا «ففيه وجهان» :

أحدهما : أن يكون العامل الفعل المحذوف ، بناء على أنّ الأصل في العمل له ، ولا ينعزل عنه بالحذف ، وهذا رأي المبرّد والسيرافيّ وجماعة.

الثاني : أن يكون العامل المصدر لا لكونه مصدرا ، بل لكونه بدلا عن الفعل بدليل أنّه لا يجمع بينهما لفظا ، كما لا يجمع بين البدل والمبدل منه ، فإذا قلت سقيا زيدا ، فزيدا منصوب سقيا من حيث إنّه قام مقام اسق ، لا من حيث كونه مصدرا هو مفعول مطلق ، وإلا لزم أن يعمل كلّ مصدر هو مفعول مطلق ، وهذا الوجه ذهب إليه سيبويه والأخفش والفرّاء والزجّاج والفارسيّ ، وذهب بعضهم إلى أنّ العامل فعل من غير لفظ المصدر كالزم ونحوه ، وهذا وجه ثالث.

تنبيه : المفعول المطلق لا يكون بدلا عن الفعل حقيقة ، إذ لو كان لم يقدّر الفعل قبله ، فلم ينتصب ، وإنّما يقال : إنّه بدل عن الفعل مجازا ، إذا لم يجز إظهار الفعل ، فكأنّه بدل منه ، قاله الرضيّ.

«والأكثر» في المصدر «أن يضاف إلى فاعله» ، لأنّه محلّه الّذي يقوم به ، فجعله معه كلفظ واحد باضافته إليه أولى من رفعه له ، ومن جعله مع مفعوله كلفظ واحد نحو قوله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ) [البقرة / ٢٥١] ، ويجوز أن يضاف إلى مفعوله إذا قامت

__________________

(١) هو لجرير من قصيدة طويلة يهجو فيها الأخطل. اللغة : الديرين : تثنيه الدير ، وهو معبد من معابد النصاري ، صلبكم : جمع صليب ، قربانا : أي تقربا.

٥٧٦

قرينة على كونه مفعولا إمّا بمجئ تابع له منصوب حملا على المحلّ ، نحو : أعجبني ضرب زيد الكريم بنصب الكريم ، أو بمجي الفاعل بعده صريحا كقوله [من البسيط] :

٦٠٨ ـ أفني تلادي وما جمّعت من نشب

قرع القواقيز أفواه الأباريق (١)

فيمن رواه برفع الأفواه ، والقوافيز جمع قاقوزة بالزاء ، وهو القدح ، ويروى القوارير بالراء المهملة أو بقرينة معنويّة ، نحو : أعجبني أكل الخبر.

إعراب تابع ما أضيف إليه المصدر : تنبيه : تابع ما أضيف إليه المصدر من فاعل أو مفعول يجرّ على اللفظ ، أو يحمل على المحلّ ، فيرفع إن كان المضاف إليه فاعلا كقوله [من الكامل] :

٦٠٩ ـ حتى تهجّر في الرّواح وهاجها

طلب المعقّب حقّه المظلوم (٢)

برفع المظلوم نعتا للمعقّب على محلّه ، أي كما يطلب ، والمعقّب المظلوم حقّه ، وينصب إن كان المضاف إليه مفعولا كقوله [من الرجز] :

٦١٠ ـ قد كنت دانيت بها حسّانا

مخافة الإفلاس والليّانا (٣)

فالليّان عطف على محلّ الإفلاس.

هذا مذهب الكوفيّين وبعض البصريّين ، وذهب سيبويه والجمهور إلى منع الاتّباع على المحلّ ، وما جاء من ذلك فمؤوّل. قال المراديّ : والظاهر الجواز لكثرة الشواهد على ذلك ، والتأويل خلاف الظاهر ، انتهى.

وعلى الجواز فقد اختلف في المختار من ذلك ، فقال طائفة : المختار الاتّباع على اللفظ ، وقال الكوفيّون : وهو كذلك إلا أن يفصل بين التابع والمتبوع بشيء فيستويان ، نحو : يعجبني ضرب زيد عمرا وبكر ، ويتعيّن الإتّباع على المحلّ بلا خلاف ، إذا كان المفعول المضاف إليه ضميرا ، نحو : يعجبني زيد إكرامكه وعمرا ، ولا يجوز الاتّباع على اللفظ إلا في ضرورة ، ذكره [أبو حيّان] في الإرتشاف.

__________________

(١) هو للأقيشر الأسديّ واسمه المغيرة بن الأسود. اللغة : التلاد : المال القديم ، نشب : الثابت من الأموال كالدور والضياع.

(٢) هو للبيد بن ربيعة العامري يصف حمارا وحشيأ وإتانه. وشبه به ناقته. اللغة : تهجّر : سار في الهاجرة. الرواح : هو الوقت من زوال الشمس إلى الليل ويقابله الغدو ، هاجها : أزعجها ، المعقب : الّذي يطلب حقّه مرّة بعد أخري.

(٣) ينسب هذا البت إلى زياد العنبري وروبة بن العجاج التميمي. اللغة : دانيت : أقرضته وأقرضني ، حسّان : اسم رجل ، الإفلاس : الفقر ، الليّان : الممّاطلة في أداء الدين.

٥٧٧

تقدّم معمول المصدر عليه : «ولا يتقدّم معموله» أي المصدر «عليه» ، لأنّه عند العمل مؤوّل بحرف مصدريّ مع الفعل ، والحرف المصدري موصول ، ومعمول المصدر في الحقيقة معمول الفعل الّذي هو صلة الحرف ، ومعمول الصلة لا يتقدّم على الموصول ، وأمّا قوله [من الهزج] :

٦١١ ـ وبعض الحلم عند الجهل للذّلة إذعان

 ... (١)

فمؤوّل على إضمار فعل.

قال ابن هشام : وأجاز السهيليّ تقديم الجار والمجرور ، واستدلّ بقوله تعالى : (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) [الكهف / ١٠٨] ، وقولهم : أللهمّ اجعل لنا من أمرنا فرجا ومخرجا ، انتهى.

وتبعه الرضيّ فقال : وأنا لا أري منعا من تقديم معموله عليه ، إذا كان ظرفا أو شبهه ، نحو : قولك : أللهمّ ارزقني من عدوّك البراءة وإليك الفرار ، وقال تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) [النور / ٢] ، وقال : (بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) [الصافات / ١٠٢] ، وفي نهج البلاغه : قلّت عنكم نبوته (٢). ومثله في كلامهم كثير ، وتقدير الفعل في مثله (٣) تكلّف ، وليس كلّ مؤوّل بشيء حكمه حكم ما أوّل به ، فلا منع من تأويله بالحرف المصدريّ من جهة المعنى ، مع أنه لا يلزمه أحكامه ، بلي لا يتقدّم عليه المفعول الصريح لضعف عمله ، والظرف وأخوه يكفيهما رائحة الفعل ، حتى أنّه يعمل فيهما ما هو في غاية البعد من العمل كحرف النفي في قوله تعالى : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم / ٢] ، فقوله : (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) متعلّق بمعنى النفي ، أي انتفي بنعمة الله وبحمده منك الجنون ، ولا معنى لتعلّقه بمجنون ، انتهى.

قال الدمامينيّ : وهنا نكتة ، ينبغي التنبيه لها ، وهي أنّ المصدر إنّما يتقدّر بالحرف المصدريّ والفعل ، حيث يكون فاعل المصدر أو نائبه مذكورا ، أمّا بطريق الرفع كما في أعجبني قيام الزيدان وضرب السارقان لإمكان التأويل هنا ، لأنّك إذا جئت بالفعل وجدت في اللفظ ما تستند إليه فيستقيم التأويل ، وأمّا حيث لا يكون للفاعل ولا نائبه ذكر في الترتيب أصلا ، فإنّ التأويل بذلك يمتنع لما يلزم من بقاء الفعل بلا فاعل أو نائب عنه.

__________________

(١) هو للفند الزماني.

(٢) نهج البلاغة ، ترجمة جعفر شهيدي خطبة ٢٢١.

(٣) حذف مثله في «ح».

٥٧٨

ففي القسم الأوّل يمتنع التقديم ، لأنّه من باب تقديم معمول الصلة على الموصول ، فإن تقدّم ما يتخيّل أنّه معمول للمصدر قدّر له عامل متقدّم يفسّره المتأخّر ، كما إذا قلت : أعجبني عن الشعر بعدك ، فالتقدير : أعجبني بعدك عن الشر بعدك ، وحذف المصدر مدلولا عليه بالمذكور آخرا ، وفي القسم الثاني يجوز تقديم معمول الّذي هو ظرف أو شبهه للانتفاء المانع ، نحو : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) [النور / ٢] ، (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) [يونس / ٢] ، ومنه قول كعب في قصيدته المشهورة [من البسيط] :

٦١٢ ـ ضخم مقلّدها فعم مقيّدها

في خلقها عن بنات الفحل تفضيل (١)

قال ابن هشام في شرحه لهذه القصيدة عن بنات الفحل يتعلّق بتفضيل ، وإن كان مصدرا ، لأنّه ليس بمنحل بأن والفعل ، ومن ظنّ أنّ المصدر لا يتقدّم معموله عليها مطلقا فهو واهم ، انتهى.

المصدر يعمل منوّنا ومضافا ومقرونا باللام : ثمّ المصدر يعمل منوّنا ومضافا ومقرونا باللام ، لكن إعماله مضافا للفاعل مع ذكر المفعول أو حذفه أكثر من إعماله منوّنا أو مضافا للمفعول أو مقرونا باللام ، نحو : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) [البقرة / ٢٥١] ، وأمّا إعماله مضافا للمفعول مع ترك الفاعل فكثير ، نحو : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) [فصلت / ٤٩] ، ومع ذكره قليل ، وليس خاصّا بالشعر كما زعم بعضهم بدليل قوله تعالى : (حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران / ٩٧] ، أي وأن يحجّ البيت سبيلا.

قال ابن هشام وغيره : ولا يصحّ الاستدلال بآية الحجّ ، لأنّها ليست من ذلك في شيء ، بل الموصول في موضع جرّ بدل بعض من الناس ، أو في موضع رفع بالابتداء على أنّ من موصولة ضمّنت معنى الشرط أو شرطيّة ، وحذف الجزاء والجواب أي من استطاع فليحجّ ، ويؤيّد الابتداء : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران / ٩٧] ، وأمّا الحمل على الفاعلية فمفسد للمعنى ، إذ التقدير حينئذ ولله على الناس أن يحجّ المستطيع ، فعلى هذا إذا لم يحجّ المستطيع ، يأثم الناس كلّهم ، انتهى.

قال بعضهم وفي دعوى فساد المعنى نظر ، لأنّ حجّ المستطيع فرض كفاية على جميع المكلّفين ، ومعلوم أنّ المخاطبين بفرض الكفاية إذا لم يقم به أحد منهم فكلّهم آثمون ، انتهى ، فتأمّل.

__________________

(١) هذا البيت من قصيدة بانت سعاد. اللغة : المقلّد : موضع القلادة ، الرقبه ، فعم : واسع ، المقيد : موضع القيد ، بنات الفحل : النوق.

٥٧٩

وإعماله منوّنا أقيس من إعماله مضافا وبأل ، لأنّه يشبه الفعل حينئذ في التنكير ، نحو : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) [البلد / ١٤] ، ومنعه الكوفيّون ، وقالوا : العمل بعده للفعل ، وقدّروا يطعم يتيما.

«وإعماله مع اللام ضعيف» في القياس لبعده عن مشابهة الفعل باقترانه بأل ، وهو قليل في الاستعمال أيضا ، فلذلك لا يعمل عند بعضهم إلا في الشعر «كقوله» أي الشاعر يصف رجلا بضعف الراي [من المتقارب] :

٦١٣ ـ «ضعيف النّكاية أعداءه»

يخال الفرار يراخي الأجل (١)

فالنكاية مصدر مقرون بأل ، وفاعله محذوف ، وأعداؤه مفعوله ، والمعنى ضعيف نكايته أعداءه ، يظنّ أنّ الفرار من الموت يباعد الأجل ، فلا يحارب أعداءه حبّا للسلامة وحذرا من العطب (٢) وفي التتريل : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) [الجمعة / ٨] ، وما أحسن قول العميد فخر الكتاب مؤيّد الدين الطغرايي (٣) [من البسيط] :

٦١٤ ـ حبّ السلامة يثني همّ صاحبه

عن المعإلى ويغري المرء بالكسل

وإن جنحت إليه فاتّخذ نفقا

في الأرض أو سلّما في الجوّ فاعتزل

ودع غمار العلى للمقدمين على

ركوبها واقتنع منهنّ بالبلل (٤)

وحكى المراديّ في شرح التسهيل في إعمال المصدر مع أل أربعة مذاهب : أحدها الجواز ، وهو مذهب الخليل وسيبويه. الثاني : المنع ، وهو مذهب الكوفيّين وبعض البصريّين. الثالث : جوازه على قبح ، وهو مذهب الفارسيّ ، وجماعة من البصريّين.

الرابع : التفصييل بين أن تكون أل معاقبة للضمير ، فيجوز نحو : إنّك والضرب خالدا المسئ إليه ، أي إنّك وضربك خالدا ، أو لا تكون معاقبة له ، فلا يجوز نحو : عجبت من الضرب عمرا ، وهو مذهب ابن طلحة وابن طراوة.

قال الشيخ أثير الدين : وهذا المذهب هو الصحيح ، واستدلّ بأنّ أل في الشواهد الّتي ذكروها معاقبة للضمير ، ومن منع إعماله مطلقا قدّر لما يقع بعده من منصوب ناصبا يدلّ عليه المصدر ، فيقدّر في قوله [من المتقارب] :

٦١٥ ـ ضعيف النكاية أعداءه

 ... (٥)

__________________

(١) لم يسمّ قائله. اللغة : النكاية : مصدر نكيت في العدو ، إذا أثرت فيه ، يخال : يظنّ ، يراخي : يؤجل.

(٢) العطب : الهلاك.

(٣) هو مؤيد الدين الاستاذ العميد فخر الكتّاب آخر فحول المشرق في الشعر ، ومن شعره لامية العجم المشهورة ، قتل في فتنة سياسية سنة ٥١٣ ه‍. احمد الاسكندري والآخرون ، المنتخب من أدب العرب ، الجزء الثاني ، لاط ، المطبعة الاميرية بالقاهرة ، ١٩٥١ م ، ص ١٦.

(٤) اللغة : الهم : العزم ، يغري : يولع ، غمار : جمع غمرة وهو الماء الكثير ، البلل : التندية.

(٥) تقدّم برقم ٦١٣.

٥٨٠