الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

جالسا وأبو بكر خالدا سعيدا منطلقا ، وعلى منع العطف على معمولي أكثر من عاملين ، نحو : إنّ زيدا ضارب أبوه لعمرو وأخاك غلامه بكر.

التأكيد

ص : الثالث : التّأكيد وهو تابع يفيد تقرير متبوعه : أو شمول الحكم لإفراده ، وهو إمّا لفظيّ ، وهو اللفظ المكرّر ، أو معنويّ ، وألفاظه : «النفس» و «العين» ، ويطابقان المؤكّد في غير التثنية ، وهما فيها كالجمع ، تقول : جائني زيد نفسه ، والزيدان أنفسها ، والزيدون أنفسهم ، و «كلا» و «كلتا» للمثنّى ، و «كلّ» و «جميع» و «عامّة» لغيره من ذي أجزاء يصحّ افتراقها ، ولو حكما ، نحو : اشتريت العبد كلّه ، وتتّصل بضمير مطابق للمؤكّد ، وقد يتبع «كلّ» بأجمع وأخواته.

مسألتان : لا تؤكّد النكرة إلا مع الفائدة ، ومن ثمّ امتنع : رأيت رجلا نفسه ، وجاز اشتريت عبدا كلّه ، وإذا أكّد المرفوع المتّصل بارزا أو مستترا بالنّفس والعين فبعد المنفصل ، نحو : قوموا أنتم أنفسكم ، وقم أنت نفسك.

ش : «الثالث» من التوابع «التأكيد» بالهمزة وبإبدالها ألفا على القياس في نحو رأس ويقال : التوكيد أيضا ، وهو الأفصح ، «وهو تابع» ، وهذا كالجنس ، يشتمل جميع التوابع. «يفيد تقرير متبوعه» أي تقرير مفهومه ومدلوله ، «أو» تقرير «شمول الحكم لأفراده» أي أفراد المتبوع ، ومعنى التقريرها هنا أن يكون مفهوم التأكيد ومؤدّاه ثابتا في المتبوع ، ويكون لفظ المتبوع يدلّ عليه صريحا كما كان معنى نفسه ثابتا في زيد في قولك : جاءني زيد نفسه ، إذ يفهم من زيد نفس زيد ، وكذا كان معنى الشمول الّذي في كلّهم مفهوما من القوم في جاءني القوم كلّهم ، إذ لا بدّ أن يكون القوم إشارة إلى جماعة معيّنة ، فيكون حقيقة في مجموعهم ، ثمّ إنّ التاكيد يقرّر ما ثبت في المتبوع ، ودلّ عليه أي يجعله مستقرّا محقّقا ، بحيث لا يظنّ به غيره.

وبهذا خرج ما عدا المحدود من التوابع ، أمّا النعت غير التوكيديّ والعطف بالحرف فظاهر ، وأمّا النعت التوكيدي نحو (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) [الحاقة / ١٣] ، فإنّ واحدة وإن أفادت (١) تقرير مفهوم المتبوع ، وهو الوحدة ، لكن هذه الإفادة ليست بالوضع ، فإنّ النعت إنّما وضع للدلالة على معنى في متبوعه ، وأمّا عطف البيان فليس جميعه مدلولا عليه بلفظ المتبوع ، فزيد من نحو : جاءني العالم زيد ، لا دلالة للعالم عليه ، بل ربّما دلّ

__________________

(١) سقطت «فإنّ واحدة وإن أفادت» في «ح».

٥٤١

بعض متبوعاته عليه ، وذلك مع قلّة الاشتراك ، نحو : أقسم بالله أبو حفص عمر ، إذا فرضنا أنّه ليس هناك ممن سمّي بأبي حفص إلا اثنان أو ثلاثة ، كذا قيل.

وفي دلالة المتبوع عليه في هذا أيضا نظر ، فإنّ دلالته عليه أنّما استفيدت من خارج ، وهو علم المخاطب أو السامع بوضع هذه الكنيه لمسمّى هذا الاسم ، وإلا فأبو حفض مثلا لا يدلّ على عمر من حيث هو متبوع ، وأمّا البدل فمتبوعه غير مقصود ، فلا يكون تقريره مقصودا ، وقولهم : إنّ الإبدال للتقرير ، معناه أنّه لتقرير ما صدق البدل عليه لا بتقرير المتبوع من حيث هو متبوع.

تنبيه : قوله : «أو شمول الحكم لأفراده» ليس للإحتراز به عن شيء ، بل لبيان فائدة التوكيد. فتقرير المتبوع مقرّرا في ذهن السامع بإزالة غفلته عن سماع اللفظ ، أو بإزالة توهّمه كون ذكر المتبوع غلطا ، أو كونه بمعناه المجازي ، سواء كان منسوبا أو منسوبا إليه ، وتقرير شمول الحكم لأفراده جعله مقرّرا في ذهن السامع بإزالة توهّم أنّ الحكم أنّما هو على بعض أفراد المتبوع ، وحكم على الكلّ تجوّزا لعدم الاعتداد بمن لم يجئ منهم ، فإذا أكّد زال توهّم المجاز ، وثبت الحقيقة ، وسيأتي بيان ما يرفع به كلّ من هذه التوهّمات من ألفاظ التوكيد ، ولا يخف أنّ قوله : «يفيد تقرير المتبوع» يغني عن ذكر الشمول ، لظهور إن جاء القوم كلّهم ، يفيد تقرير المتبوع بإزالة توهّم كون المراد بالقوم بعضهم ، فذكره أنّما هو زيادة توضيح.

التوكيد اللفظيّ والمعنويّ : «وهو» أي التوكيد «إمّا لفظيّ وهو» أي التأكيد اللفظيّ «اللفظ المكرّر» بعينه ، نحو : جاء زيد زيد ، أو بموافقة في المعنى ، نحو : حقيق جدير ، و: (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة / ٣٥] ، أو في الزنة ، وإن لم يكن له في حال الإفراد معنى ، بل ضمّ إلى الأوّل لتزيين الكلام لفظا وتقويته معنى ، نحو : حسن بسن وشيطان ليطان. ويجب التأكيد اللفظيّ عند إرادة المتكلّم دفع ضرر غفلة السامع وظنّه به الغلط ، ولا يجدي هاهنا التأكيد المعنويّ ، لأنّك لو قلت : ضرب زيد نفسه ، فربّما ظنّ بك أنّك أردت ضرب عمرو ، فقلت نفسه ، بناء على أنّ المذكور عمرو ، وكذا إن ظننت به الغفلة عن سماع لفظ زيد يجب أيضا عند إرادته دفع ظنّ السامع به التجوّز في المنسوب ، نحو : زيد قتيل قتيل ، دفعا لتوهّم السامع أنّ المراد بالقتل الضرب الشديد ، وأمّا عند إرادته دفع ظنّه به التجوّز في المنسوب إليه فيجوز اللفظيّ ، نحو : ضرب زيد زيد ، أي ضرب هو ، لا من يقوم مقامه ، والمعنويّ كما سيأتي.

٥٤٢

تنبيهات : الأوّل : إنّ التأكيد اللفظيّ يجرى في الاسم ظاهرا كما مرّ ، ومضمرا كما قام إلا أنت أنت ، وفي الفعل بإعادة لفظه ، نحو : قام زيد ، أو بمرادفه ، نحو : صمت سكت زيد ، وفي الحرف كذلك ، نحو : نعم نعم وقوله [من الطويل] :

٥٦٨ ـ ...

أجل جير إن كانت أبيحت دعاثره (١)

وفي الجملة كقوله [من الهزج] :

٥٦٩ ـ أيا من لست أقلاه

ولا في البعد أنساه

لك الله على ذاك

لك الله لك الله (٢)

فإن كان المؤكّد ضميرا متّصلا أو حرفا غير جواب لم يعد اختيارا إلا مع ما دخل عليه ، نحو : قمت قمت ، أكرمتك أكرمتك ، مررت به مررت به ، إنّ زيدا إنّ زيدا قائم ، أو إنّ زيدا إنّه قائم ، أو مفصولا بفاصل ، ولو حرف عطف أو وقف ، كقوله [من الخفيف] :

٥٧٠ ـ ليت شعري هل ثمّ هل آتينهم (٣)

وقوله [من الرجز] :

٥٧١ ـ لا ينسك الأسى تأسّيا فما

ما من حمام أحد معتصما (٤)

ولا يجوز إعادته وحده دون فصل إلا ضرورة ، كقوله [من الوافر] :

٥٧٢ ـ فلا والله لا يلفي لما بي

ولا للما بهم أبدا دواء (٥)

أجاز الزمخشريّ وابن هشام والرضيّ نحو : إنّ إنّ زيدا قائم ، قال ابن مالك : وهو مردود لعدم إمام يستند إليه ، أو سماع يعتمد عليه ، ولا حجّة في قوله [من الخفيف] :

٥٧٣ ـ إنّ إنّ الكريم يحلم ما لم

يرين من أجاره قد ضيما (٦)

فإنّه من الضرورات.

أمّا أحرف الجواب فتعاد وحدها ، نحو : لا لا ، نعم نعم ، والأجود إعادة الجارّ مع الظاهر أو ضميره نحو : مررت بزيد بزيد ، وقوله تعالى : (فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) [هود / ١٠٨] ، (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [آل عمران / ١٠٧].

__________________

(١) صدره : «وقلن على الفردوس اوّل مشرب» ، وهو لمضرس بن ربعي. اللغة : الفردوس : ماء لبني تميم ، وهو اسم لأعلى مكان في الجنّة ، المشرب : اسم مكان من الشرب ، أجل وجير : حرفا جواب ، أبيحت : حلّلت ، سمح بها ، الدعاثر : جمع دعثور وهو الحوض المتهدّم.

(٢) البيتان بلا نسبة. اللغة : أقلاه : أبغضه وأهجره.

(٣) تمامه «أو يحولنّ من دون ذاك حمام» ، وهو للكميت بن معروف. اللغة : الحمام : المؤنّث.

(٤) لم يذكر قائله. اللغة : الأسى : الحزن ، الحمام : الموت

(٥) هو لمسلم بن معبد الوالبي. اللغة : يلفي : مجهول من ألفيته بمعنى وجدته ، واللام الثانية في للما لتأكيد اللام الأولى.

(٦) لم يعيّن قائله. اللغة : أجاره : حكاء وأنقذه ، ضيم : مبني للمجهول من ضامه ضيما : ظلمه.

٥٤٣

والأكثر اقتران الجملة المؤكّدة بعاطف ، وهو ثمّ خاصّة كما في الإرتشاف ، نحو : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) [النبا / ٥ و ٤] ، ويأتي بدونه نحو قوله (ص) : والله لأغزونّ قريشا والله لأغزونّ قريشا (١). ويجب ترك العاطف عند إيهام التعدّد ، نحو : ضربت زيدا ، إذ لو قيل : ثمّ ضربت زيدا لتوهّم أنّ الضرب وجد مرّتين ، وتراخت إحداهما عن الأخرى ، والغرض أنّه لم يقع إلا مرّة واحدة.

فإن قلت : إذا قرن المؤكّد بالعاطف ، فهل يكون توكيدا أو عطف نسق؟ قلت : النّحويّون على أنّه عطف نسق وإن أفاد التوكيد ، وزعم ابن مالك أنّه توكيد لفظيّ ، اغتفر فيه الفصل بالعاطف ، كذا قال ابن عادل (٢) في تفسيره. أقول : والصواب ما ذهب إليه ابن مالك ، فإنّ العطف في ذلك نظير العطف في الأوصاف المتعدّدة ، وقد مرّ أنّ إطلاق العطف عليها مجاز ، فيكون هنا كذلك ، وان كان المؤكّد هنا اسما ظاهرا أو ضميرا منصوبا منفصلا ، فيتكرّر بحسب الإرادة بلا شرط ، نحو قوله (ص) : أيّما امراة نكحت نفسها بغير وليّ فنكاحها باطل باطل باطل (٣) ، وقوله تعالى [من الطويل] :

٥٧٤ ـ وإيّاك إيّاك المراء فإنّه

إلى الشّرّ دعّاء وللشّرّ جالب (٤)

وإن كان ضميرا منفصلا مرفوعا جاز أن يؤكّد به كلّ ضمير متّصل ، مرفوعا كان أو منصوبا أو مجرورا مع طبقة في التّكلّم والإفراد والتذكير وأضدادها ، كقمت أنا ، وأكرمتني أنا ، وضربتك أنت ، وضربته هو ، ومررت بك أنت ، وبه هو ، وهكذا ، وأجاز بعضهم توكيد المنفصل بالإشارة ، وجعل منه (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) [البقرة / ٨٥].

الثاني : لا يزيد تكرار اللفظ في التوكيد على ثلاث مرّات ، قال الشيخ عز الدين بن عبد السّلام (٥) : اتّفق الأدباء على أنّ التأكيد في لسان العرب إذا وقع بالتكرار لا يزيد على ثلاث مرّات قال : وأمّا قوله تعالى في سورة المرسلات (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات / ١٥] ، في جميع السورة ، فذلك ليس بتوكيد ، بل كلّ آية قيل فيها : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) في هذه السورة ، فالمراد المكذّبون بما تقدّم ذكره قبيل هذا القول ، ثمّ يذكر الله معنى آخر ، ويقول : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ،) أي بهذا ، فلا يجتمعان على معنى واحد فلا تاكيد (٦). وكذلك (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن / ١٣] ، في سورة الرحمن.

__________________

(١) سنن أبي داود ، ص ٦٢٥ ، رقم ٣٢٨٥.

(٢) لم أجد ترجمة حياته.

(٣) الترمذي ، ٣ / ٤٠٨ ، رقم ١١٠٢.

(٤) هو للفضل بن عبد الرحمن. اللغة : المراء : الممّاراة والجدل.

(٥) لم أقع على ترجمه له.

(٦) سقطت «فلا تاكيد» في «ح».

٥٤٤

التوكيد المعنويّ وألفاظه : «أو معنويّ» ، هذا قسيم قوله إما لفظيّ ، وإنّما أخّره ، وان كان هو المعتدّ به في التوابع ، كما قال ابن عقيل لطول الكلام فيه ، «وألفاظه» محصورة ، وهي «النفس والعين» ، ويكونان لدفع المتكلّم ظنّ السامع به تجوّزا في المنسوب إليه ، فإنّه إذا قيل : قطع الأمير اللصّ ، احتمل أن يكون باشر قطعه ، وهو المعنى الحقيقيّ ، وأن يكون أمر بقطعه (١) ، ونسب إليه لكونه سبب أمر ، أو هو المعنى المجازيّ ، فإذا قيل : نفسه أو عينه ، ارتفع ظنّ التجوّز ، وثبت الحقيقة.

تنبيه : محلّ كون النفس والعين من ألفاظ التوكيد إذا أريد بهما الحقيقة ، فلو أريد بالنفس الدم ، وبالعين الجارية المخصوصة ، نحو : أرقت زيدا نفسه ، وطرفت زيدا عينه ، لم يكونا من التوكيد ، بل بدل بعض من كلّ ، وهو ظاهر.

«ويطابقان المؤكّد في غير التثنية» وهو الإفراد والجمع «وهما» أي النفس والعين «فيها» أي في التثنية «كالجمع» فيجمعان في توكيد الاثنين ، كما يجمعان في توكيد الجماعة ، تقول : جاء زيد نفسه أو عينه ، وجاءت هند نفسها أو عينها ، والزيدان أنفسهما أو أعينهما ، والهندان أنفسهما أو أعينهما ، والزيدون أنفسهم أو أعينهم ، والهندات أنفسهن أو أعينهنّ.

تنبيهات : الأوّل : ما جزم به من وجوب جمع النفس والعين في توكيد الاثنين هو ما صرّح به ابن مالك في التسهيل ، وجزم به ابن هشام في القطر ، وصرّح به بعضهم بجواز الأوجه الثلاثة ، وبه جزم ابن هشام في شرح الشذور ، قال : إذا أكّد المثنّى بالنفس والعين ففيهما ثلاث لغات : أفصحها الجمع ، ودونه الأفراد ، ودون الإفراد التثنية ، وهي الأوجه الجائزة في قطعت رؤوس الكبشين ، انتهى.

وإنّما أخّرت التثنية لكراهة اجتماع تثنيّتين فيما هو كالكلمة الواحدة ، واختير الجمع على الافراد ، لأنّ التثنية جمع في المعنى. وجوّز ابن مالك وولده تثنية النفس والعين في توكيد الاثنين ، نحو : قام الزيدان نفساهما وعيناهما ، ومنع ذلك أبو حيّان ، وقال : إنّه غلط ، لم يقل به أحد من النّحويّين ، انتهى. وفي شرح الكافية للرضيّ ، وقد يقال : نفساهما وعيناهما على ما حكى ابن كيسان عن بعض العرب.

الثاني : مثل النفس والعين في جوازه الأوجه الثلاثة (٢) ما أضيف إلى متضمّنه ، وهو مثنى لفظا ، نحو : قطعت رؤوس الكبشين ، أي رأساهما ، أو معنى ، كقوله [من الطويل] :

__________________

(١) لم يقطعه «ح».

(٢) في جواز الإضافة «ح».

٥٤٥

٥٧٥ ـ ...

كفاغري الأفواه عند عرين (١)

أي كأسدين فاغرين أفواههما عند عرينهما ، فإنّ مثل ذلك ورد فيه الجمع والإفراد والتثنية ، فمن الأوّل ، نحو : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم / ٤] ، وقراءة ابن مسعود : السارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما [المائدة / ٣٨] ، ومن الإفراد : (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) [الأعراف / ٢٢] ، ومن التثنية قراءة الجمهور : سوءاتاهما.

وطرد ابن مالك قياس الجمع والإفراد أيضا لمفهم المعنى ، وخصّ الجمهور القياس بالجمع ، وقصروا الإفراد على ما ورد ، وإنّما وافق الجمهور على قياس الجمع كراهة اجتماع التثنيتين مع فهم المعنى ، ولذلك شرط أن لا يكون لكلّ واحد من المضاف إليه إلا شيء واحد ، لأنّه إذا كان له أكثر التبس ، فلا يجوز في قطعت أذني الزيدين الإتيان بالجمع ولا الإفراد للإلباس.

الثالث : لا تجمع النفس والعين في التأكيد إلا جمع قلّة ، فلا يؤكّد بنفوس ولا بعيون ، قال المراديّ في شرح التسهيل ، وينبغي أن يقيّد جمع القلّة بأفعل ، فإنّ عينا جمع على أعيان ، ولا يؤكّد به ، واعترضه الدمامينيّ بأنّ في شرح العمدة لابن مالك وفي شرح المفصّل ونهاية ابن الخباز جواز أعيان في هذا الباب.

الرابع : يجوز الجمع بين النفس والعين ، ويجب تقديم النفس على الأصحّ ، كجاء زيد نفسه عينه بخلاف عكسه ، فإنّ النفس هي الذات حقيقة ، والعين مستعارة لها عن الجارحة المخصوصة. قال بعض المتأخّرين : وفي استعارة العين للنفس نظر ، فتأمّل.

الخامس : يجوز أن تزاد الباء فيهما ، كجاء زيد بنفسه وبعينه. ولا يجوز ذلك في غيرهما من ألفاظ التوكيد ، فأمّا جاؤوا بأجمعهم فليس من التوكيد ، لأنّ الباء لازمة ، ولأنّه بالضمير ، ولو كان توكيدا ، لكان الباء زائدة ، وكان يصحّ إسقاطها ، وكان وروده بدونها غالبا وبدون الضمير واجبا ، وإنّما هو بضمّ الميم لا بفتحها ، وهو جمع لقولك (٢) جمع على حدّ قولهم فلس وأفلس ، والمعنى جاؤوا بجماعتهم ، وخرّج بعضهم على زيادة الباء قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) [البقرة / ٢٢٨] ، وفيه نظر ، وسيأتي بيانه.

__________________

(١) صدره «رأيت بني البكريّ في حومة الوغى» ، ولم يعين قائلة ، اللغة : الوغي : الحرب ، فاغري الأفوه : فاتحي الأفواه جمع الفم ، العرين : مأوى الاسد.

(٢) سقط جمع لقولك في «ح».

٥٤٦

كلا وكلتا : «وكلا وكلتا للمثنّى» مذكّرا أو مؤنّثا ، ويكونان لتقرير شمول الحكم عند إرادة المتكلّم دفع ظنّ السامع به تجوّزا في الحكم على مدلول المتبوع المتعدّد ، وإنّما المراد بعضه ، نحو : جاء الرجلان كلاهما والمرأتان كلتاهما.

قال التفتازانيّ : وفي كون نحو ذلك لدفع توهّم عدم الشمول نظر ، لأنّ المثنّى نصّ في مدلوله لا يطلق على الواحد أصلا ، فلا يتوهّم فيه عدم الشمول ، أللهمّ إلا أن يقال : إنّ الفعل الصادر عن أحد المتصاحبين قد ينسب إليهما ، كما في قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن / ٢٢] ، وإنّما يخرجان من الملح الأجاج دون العذب الفرات ، فالتأكيد بكلاهما دفع مثل هذا ، انتهى.

ومنعه إطلاق المثنّى على الواحد ممنوع ، فإنّ العرب كثيرا ما تطلقه عليه مجازا ، ألا ترى إلى قول الشاعر [من الكامل] :

٥٧٦ ـ فجعلن مدفع عاقلين أيامنا

وجعلن أمعز رامتين شمالا (١)

فأطلق عاقلين ورامتين على جبل عاقل ورامة مجازا ، كذا قيل.

قلت : وفيه نظر ، إنّه لم يطلق عاقلين على عاقل ورامتين على رامة من غير اعتبار شيء آخر مع كلّ منهما ، بل الظاهر أنّه سمّي ما حول عاقل ورامة عاقلا ورامة ، ثمّ أطلق عليها عاقلين ورامتين من باب تغليب كالعمرين والقمرين كما قالوه في قول الفرزدق [من الطويل] :

٥٧٧ ـ عشيّة سال المربدان كلاهما

 ... (٢)

قالوا : إنّما هو مريد واحد ، لكنّه جعله وما حوله مربدين مجازا ، فلا حجّة في البيت على إطلاق المثنّى على الواحد ، فتدبّر.

تنبيهات : الأوّل : كما يؤكّد بكلا وكلتا المثنّى ، يؤكّد بهما في معناه ، نحو : جاء زيد وعمر كلاهما ، وزينب وهند كلتاهما ، فلو قال : وكلا وكلتا للاثنين بدل قوله للمثنّى ، لكان أولى.

الثاني : ذهب الفرّاء والفارسيّ وهشام إلى أنّ كلا وكلتا لا يؤكّدان ما لا يصلح في محلّه واحد ، فلا يجوز أن يقال : اختصم الزيدان كلاهما ، لأنّه لا يحتمل أن يكون المراد اختصم أحد الزيدين ، فلا فائدة في التوكيد.

__________________

(١) هو لجرير. اللغة : عاقل : جبل ، رامة : اسم موضع.

(٢) تمامه «سحابة يوم بالسيوف الصوارم» ، اللغة : المربد : الموضع الّذي تحبس فيه الابل وغيرها ، سحابة يوم : طوله ، الصوارم : جمع الصارم أي : القاطع.

٥٤٧

وذهب الجمهور إلى الجواز ، وتبعهم ابن مالك في التسهيل ، واختلف النقل عن الأخفش ، واحتجّ المجيز بأنّ العرب قد تأتي بالتوكيد حيث لا احتمال ، نحو : جاء القوم كلّهم أجمعون أكتعون ، فالتأكيد بأجمع واكتع بعد كلّ لا يرفع بهما احتمال لرفعه بكلّ. قال أبو حيّان : والجواب أنّ المعنى إذا كان يفيده اللفظ حقيقة ، فلا حاجة للفظ آخر يؤكّده ، إلا إذا قوي برواية من العرب ، ولم يسمع من العرب التوكيد في ذلك.

الثالث : يشترط في التوكيد بهما اتّحاد معنى المسند ، فلا يجوز : مات زيد وعاش عمرو كلاهما. وهل يجوز اختلاف لفظه مع اتّحاد معناه ، نحو : ذهب زيد وانطلق عمرو كلاهما ، جزم بجواز ذلك ابن مالك تبعا للأخفش. وقال أبو حيّان : إنّه يحتاج إلى صريح سماع من كلامهم ، حتى يصير قانونا يبني عليه ، والّذي تقتضيه القواعد المنع ، لأنّه لا يجتمع عاملان على معمول واحد فلا يجتمعان على تابعه.

الرابع : قال ابن هشام : الظاهر أنّ التوكيد يبعد إرادة المجاز ، ولا يرفعها ألبتّة ، ولهذا يتأتّي الإتيان بألفاظ متعدّدة ، ولو صار بالأوّل نصّا لم يؤكّد كما لا يقال : اختصم الزيدان كلاهما ، ألا ترى إلى قول الفرزدق [من الطويل] :

٥٧٨ ـ عشيّة سال المربدان كلاهما

 ... (١)

وإنّما هو مريد واحد ، فجعله وما حوله مريدين مجازا ، فعلم أنّ التؤكيد لا يمنع أن يكون في المؤكدّ مجازا ما ، انتهى.

قلت : وفيه نظر ، أمّا نحو : اختصم الزيدان كلاهما ، فقد علمت أن الجمهور على جوازه ، وأمّا قول الفرزدق فليس المراد بالتوكيد فيه رفع إرادة المجاز في نفس المؤكّد ، بل رفع إرادته في نسبة الفعل إلى مدلول المؤكّد المتعدّد ، فإنّ التأكيد بكلاهما فيه إفادة شمول الحكم بالسيلان للمريد وما حوله ألبتّة ، فاندفع توهّم أنّ السائل إنّما هو المريد وحده ، لكنّه حكم بالسيلان عليه وعلى ما حوله مجازا ، وهذا نظير قولك : جاء العمران كلاهما ، وكسف القمران كلاهما ، وأمّا إرادة المجاز في المؤكّد نفسه فهي مقصودة للمتكلّم ، فكيف يرفعها.

التوكيد بكلّ وجميع وعامّة : «وكلّ وجميع وعامّة لغيره» أي لغير المثنّى «من ذي أجزاء» ، مفردا كان أو جمعا ، قال بعضهم : إذ الكلّية والاجتماع لا يتحقّقان إلا فيه ، و

__________________

(١) تقدم برقم ٥٧٧.

٥٤٨

لا حاجة إلى ذكر الأفراد ، لأنّ الكلّي ما لم يلحظ إفراده مجتمعة ، ولم تصر أجزاء لا يصحّ تأكيده بكلّ وجميع ، انتهى.

«يصحّ افتراقها» أي الأجزاء ، نحو : جاء القوم كلّهم أو جميعهم أو عامّتهم. فالقوم ذو أجزاء يصحّ افتراقها ، وهي زيد وعمرو وبكر وغيرهم. ولا يجب صحّة افتراقها حسّا كهذا المثال ، بل صحّته «ولو» كان «حكما ، نحو : اشتريت العبد كلّه» أو جميعه أو عامّته ، فالعبد ذو أجزاء ، يصحّ افتراقها باعتبار الشراء مثلا ، وإن لم يصحّ افتراقها باعتبار ذاته ، بخلاف جاء زيد كلّه ، فإنّه لا يصحّ افتراق أجزائه ، لا حسّا ولا حكما ، وإنّما يؤكّد بهذه الألفاظ ذو أجزاء كذلك ، لأنّها إنّما تكون لتقرير الشمول الحكم ، فما لم يكن المؤكّد كذلك لم يمكن توهّم أنّ المراد الحكم على البعض ، وإنّما حكم على الكلّ تجوّزا.

«وتتّصل» أي ألفاظ التوكيد المعنويّ «بضمير» عائد إلى المؤكّد لفظا ، ليحصل الربط بين التابع والمتبوع «مطابق للمؤكّد» في تذكيره وتأنيثه وإفراده ، نحو : جاء زيد نفسه ، وهند نفسها ، والزيدان كلاهما والهندان كلتاهما والزيدون كلّهم والهندات كلّهنّ كذا والباقي.

فليس من التوكيد «جميعا» في قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة / ٢٩] ، خلافا لمن وهم ، ولا من التؤكيد بكلّ قراءة بعضهم : إنا كلا فيها [غافر / ٤٨] ، خلافا للفرّاء والزمخشريّ لعدم الضمير فيها ، بل الصواب أنّ جميعا حال من ما الموصولة ، وكلّا بدل من اسم إنّ ، وإبدال الظاهر من ضمير الحاضر بدل كلّ جائز ، إذا كان مفيدا للاحاطة ، نحو : قمتم ثلاثتكم ، وبدل الكلّ لا يحتاج إلى الضمير.

ويجوز في كلّ أن تلي العوامل إذا لم تتّصل بالضمير ، نحو : جاءني كلّ القوم. ويجوز مجيئها بدلا بخلاف جاءني كلّهم ، فلا يجوز إلا في الضرورة ، وخرّجها ابن مالك أنّ كلّا حال من ضمير الظرف ، وفيه ضعفان : تنكير كلّ بقطعها عن الإضافة لفظا ومعنى ، وهو نادر كقول بعضهم : مررت بهم كلّا ، أي جميعا ، وتقديم الحال على عاملها الظرفيّ ، قاله ابن هشام في المغني.

تنبيه : التوكيد بجميع وعامّة غريب ، ولذلك أهملهما أكثر المصنّفين ، ومن التوكيد بجميع قول امرأة من العرب ترقص ولدها [من الرجز] :

٥٧٩ ـ فداك حيّ خولان

جميعهم وهمدان

والتاء في عامّة لازمة بمترلة هاء في نافلة فتصلح مع المذكّر والمؤنّث ، تقول : اشتريت الأمة عامّتها ، والعبد عامّته ، كما قال تعالى : (وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) [الأنبياء / ٧٢] ،

٥٤٩

وفي الإفصاح (١) أنّ المبرّد يفسّر عامّة بأكثر لا بجميع ، فعلى هذا تكون بدل بعض من كلّ لا توكيد ، وتفيد تخصيصا لا تعميما ، وقد يكون جميع بمعنى مجتمع ضدّ مفترق ، فلا تفيد توكيدا كقوله [من الطويل] :

٥٨٠ ـ ...

نهيتك عن هذا وأنت جميع (٢)

«وقد يتبع» عند إرادة تقوية التوكيد «كلّ بأجمع وأخواته» وهي أكتع وأبصع حال كونها مطابقة للمؤكّد في التذكير والتأنيث والإفراد والجمع ، فيقال : اشتريت العبد كلّه أجمع أكتع أبصع أتبع ، والأمة كلّها جمعاء كتعاء بصعاء بتعاء ، وجاء القوم كلّهم أجمعون أكتعون أبصعون أبتعون ، والنساء كلّهنّ جمع كتع بصع بتع.

وأمّا التثنية فقضية إطلاقه أنّها تطابقه فيها أيضا ، وهو مذهب الأخفش والكوفيّون. قال ابن خروف : ومن منع التثنية فقد تكلّف ، وادّعى ما لا دليل عليه ، والمنع مذهب جمهور البصريّين. قال ابن هشام : وهو الصحيح ، لأنّه لم يسمع ، وفي الهمع ، وممّا لا يثنّى لتعريفه أجمع وجمعاء في التوكيد وأخوته خلافا للكوفيّين.

تنبيهات : الأوّل : الجمهور على أنّه لا يؤكّد بأجمع دون كلّ اختيارا ، كما قال أبو حيّان : جوازه لكثرة وروده في القرآن والكلام الفصيح ، كقوله تعالى : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر / ٣٩] (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر / ٤٣] ، (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود / ١١٩].

وفي الحديث : فله سلبه أجمع ، فصلّوا جلوسا أجمعين (٣). قال أبو حيّان : ولا يقال : دليل المنع وجوب تقديم كلّ عند الاجتماع ، لأنّ النفس يجب تقديمها على العين إذا اجتمعا ، ويجوز التأكيد بالعين على الانفراد ، قاله في الهمع.

الثاني : لا يؤكّد بأخوات أجمع دونه عند الجمهور ، وجوّزه الكوفيّون وابن كيسان محتجّين بقول الشاعر [من الطويل] :

٥٨١ ـ ...

وسائره باد إلى الشّمس أكتع (٤)

وقول الراجز [من الرجز] :

__________________

(١) هناك كتابان باسم الإفصاح حول النحو : الأوّل الإفصاح في غوامض الإيضاح لأبي الحسن الفارسيّ ، والثاني الإفصاح في إعراب الكافية لواحد من علماء الدولة المرادية. كشف الظنون ١ / ٢١٣ و ٢ / ١٣٧٣.

(٢) صدره «فقدتك من نفس شعّاع فإنّني» ، وهو لقيس بن معاذ وهو مجنون بني عامر.

(٣) سنن أبي داود ، ص ٤٩٦ ، رقم ٢٦٥٤.

(٤) صدره «ترى الثور فيها مدخل الظّل رأسه» ، ولم يسمّ قائله. اللغة : باد : اسم الفاعل من بدا ا بمعنى ظهر.

٥٥٠

٥٨٢ ـ ...

تحملني الذّلفاء حولا أكتعا (١)

وقول أعشي ربيعة (٢) [من الوافر] :

٥٨٣ ـ تولّوا بالدّوابر واتّقونا

بنعمان بن زرعة أكتعينا (٣)

وحمله المانعون على الضرورة.

الثالث : اختلف في هذه الكلمات عند اجتماعها ، هل كلّ منها توكيد لما قبله ، أم جميعها توكيد للمؤكّد الأوّل؟ قال الرضيّ ، قال ابن برهان (٤) : إذا قلت : جاءني القوم كلّهم أجمعون اكتعون أبصعون أتبعون ، كلّهم تأكيد للقوم ، وأجمعون تاكيد لكلّهم ، وكذا البواقي ، كلّ واحد منها توكيد لما قبله ، وقال غيره : بل كلّها تأكيد للمؤكد الأوّل كالصفات المتتالية ، انتهى. قلت : ويفهم من كلام بعض النحاة قول ثالث ، وهو أنّ أجمعين توكيد لما قبله وما بعده جمعه توكيد له.

الرابع : قال ابن هشام في شرح الملحة : يجوز أن يجمع بين جميع ألفاظ التوكيد في تركيب واحد ، وذلك للمبالغة في التأكيد ، وما أظنّ العرب فاهت بجميع الجميع ، وإنّما هذا قياس من النّحويّين ، انتهى. وقال في تذكرته نقلا عن ابن عصفور : إذا اجتمعت ألفاظ التوكيد بدأت بالنفس والعين فأجمع وأكتع وأبصع وأبتع ، وأنت مخيّر بين أبصع وأبتع ، فأيّهما شيءت قدّمته ، فإن حذفت النفس ، أتيت بما بعدها مرتّبا ، أو العين فكذلك ، أو أجمع ، لم تأت بأكتع وما بعده ، لأنّ ذلك توكيد لا جمع ، فلا يؤتى بدونها ، انتهى.

وقال الرضيّ : المشهور أنّك إذا أردت ذكر أخوات أجمع وجب الابتداء بأجمع ، ثمّ تجئ بأخواته على هذا الترتيب أجمع أكتع أبصع ، ولا خلاف أنّه لا يجوز تأخير أجمع عن أخواته. وقال ابن كيسان : تبدأ بأيّهنّ شيءت بعد أجمع ، انتهى.

الخامس : قال بعضهم : أخوات أجمع تابعة لها على معنى أنّها إذا أفردت دونها لم يكن لها معنى ، نحو : حسن بسن وشيطان ليطان ، والأكثرون على أنّ أكتع مأخوذ من

__________________

(١) صدره «يا ليتني كنت صبيّا مرضعا» ، ولا يعلم قائله. اللغة : الذلفاء : أصله وصف لمؤنث الأذلف ، وهو مأخوذ من الذلف وهو صغر الأنف واستواء الأرنبة ، ثمّ نقل إلى العلمية فسم      

(٢) أعشى ربيعة (٨٥ ه‍ / ٧٠٤ م) : هو عبد الله بن خارجة من شيبان ، كان شديد التعصب لبني أميّة ، وشعره فيهم صادق العاطفة. سهل الاسلوب. تعصف فيه الغيرة على سلطانهم والثورة على خصومهم. الجامع في تاريخ الأدب العربي ، ١ / ٥٠٣.

(٣) اللغة : الدوابر : جمع الدابر : آخر السهام.

(٤) عبد الواحد بن على بن عمر بن إسحاق بن إبراهيم بن برهان ، صاحب العربية واللغة والتواريخ ، ومات سنة ٤٥٦ ه‍ ق. بغية الوعاة ، ٢ / ١٢٠.

٥٥١

حول كتيع ، أي تامّ ، وأبصع من تبصّع العرق ، أي سال. قال الرضيّ : والمشهور أبصع بالصاد المهملة. وقيل : أبضع بالضاد المعجمة ، انتهى.

وفي القاموس تبضّع العرق ، وتبصّع وبالعجمة أصحّ ، وأتبع من التبع بالتحريك ، وتقديم الباء الموحّدة على التاء المثنّاة من فوق ، وهو طول العنق مع شدّة مغرزها. قال بعضهم : ويمكن استنباطات مناسبات خفيّة بين هذه المعاني ومعناها التوكيديّ بالتأمّل الصادق.

السادس : الجمهور على أنّه لا تعرض في أجمعين إلى اتّحاد وقت الفعل ، بل معناه ومعنى كلّ سواء ، وذهب الفرّاء والزجّاج والمازنيّ والمبرّد إلى أنّه يفيد مع التوكيد الاجتماع في وقت الفعل ، فإذا قيل : قام القوم كلّهم ، احتمل قيامهم مجتمعين ومتفرقين ، وإذا قيل : أجمعون أفاد أنّ قيامهم في وقت واحد ، وأنّ هذا هو السبب في ذكر أجمعين بعد كلّ في الآية ، وردّ بقوله تعالى : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر / ٣٩] ، فإنّ إغواء الشيطان لهم ليس في وقت واحد.

قال بعض المحقّقين : ومن قال بإفادة الاجتماع لاحظ أنّه بحسب أصل الاشتقاق يدلّ على الاجتماع ، فلا يبعد قصد ذلك المعنى مع قصد المبالغة تكثيرا للفائدة ، انتهى. وهذا التوجيه لا يسمن ولا يغني من جوع ، ومن توهّمه جوابا عن الردّ عليهم بنحو آيه الاغواء فقد أغرب.

السابع : ألفاظ التوكيد معارف ، أمّا ما أضيف إلى الضمير فظاهر ، وأمّا أجمع وتوابعه ففي تعريفه قولان : أحدهما أنّه بنيّة الإضافة ، ونسب إلى سيبويه والثاني : أنّه بالعلمية علّق على معنى الإحاطة. قال محمد بن مسعود الغزني (١) في البديع : وتعريفها كتعريف أسامة ، انتهى. ولكون هذه الألفاظ معارف منع البصريّون نصبها على الحال ، قاله المراديّ في شرح الألفية.

هاتان «مسألتان» ، الأولى : «لا تؤكّد النكرة» بالتوكيد المعنويّ «إلا مع الفائدة». هذا ما ذهب إليه الكوفيّون والأخفش ، واختاره ابن مالك في جميع كتبه لصحة السماع به ، ولأنّ فيه فائدة ، لأنّ من قال : صمت شهرا ، قد يريد جميع الشهر ، وقد يريد أكثره ، ففي قوله احتمال ، يرفعه التوكيد. قال ابن هشام في الأوضح : وهذا المذهب هو الصحيح.

__________________

(١) محمد بن مسعود الغزنيّ المتوفى سنة ٤٢١ ه‍ سمّاه ابن هشام ابن الزكي ، صاحب كتاب البديع في النحو. بغية الوعاة ١ / ٢٤٥.

٥٥٢

«ومن ثمّ» أي من أجل اشتراط الفائدة في توكيد النكرة «امتنع رأيت رجلا نفسه» لعدم الفائدة ، «وجاز اشتريت عبدا كلّه» ، وصمت حولا كلّه ، لحصول الفائدة ، فإنّ الشراء قد يتعلّق ببعض العبد ، والصوم قد يتعلّق ببعض الحول ، فالتوكيد يرفع احتمال ذلك ، قال الرضيّ : فعلى هذا لا يشترط تطابق التأكيد والمؤكّد تعريفا وتنكيرا عندهم خلافا للبصريّين ، انتهى.

والمنع مطلقا مذهب جمهور البصريّين ، قالوا : لأنّ ألفاظ التوكيد معارف ، فلا تجرى على النكرات ، واحتجّ المجيزون بالسماع كقول الراجز [من الرجز] :

٥٨٤ ـ يا ليتني كنت صبيّا مرضعا

تحملني الذلفاء حولا أكتعا (١)

وقول الآخر [من الرجز] :

٥٨٥ ـ ...

قد صرّت البكرة يوما أجمعا (٢)

وقول الآخر [من السريع] :

٥٨٦ ـ نلبث حولا كاملا كلّه

 ... (٣)

وقوله [من البسيط] :

٥٨٧ ـ لكنّه شاقه أن قيل ذا رجب

يا ليت عدّة حول كلّه رجب (٤)

قال ابن مالك : لو لم ينقل استعماله عن العرب لكان جديرا بأن يستعمل قياسا ، فكيف به واستعماله ثابت ، انتهى. قال [السيوطيّ] في الهمع : والمانعون مطلقا يجيبون عما ورد من ذلك بأنّه محمول على البدل أو النعت أو الضرورة ، انتهى. وينبغي أن يقال : أو الشذوذ ليشمل ما جاء في الاختيار كقول عايشة : ما رأيت رسول الله (ص) صام شهرا كلّه إلا رمضان.

تنبيهات : الأوّل : قال غير واحد : تحصل الفائدة في توكيد النكرة بأن يكون المنكّر المؤكّد محدود أو التوكيد من ألفاظ الإحاطة كالشواهد المذكورة ، وفسّر المحدود بما كان موضوعا لمدّة لها ابتداء وانتهاء كيوم وأسبوع وشهر وحول. وقيل : المراد به المعلوم المقدار كدينار ودرهم ويوم وليلة وشهر وسنة ، والحق أنّ الفائدة قد تحصل مع غير ذلك أيضا كمثال المصنّف (ره) ، فلا ينبغي الجمود على ما قالوه ، فتأمّل.

__________________

(١) تقدم برقم ٥٨٢.

(٢) هذا الشاهد مجهول النسبة إلى قائله ، ويروى بعض من يستشهد به قبله : «إنا إذا خطّافنا تقعقعا». اللغة : الخطّاف : الحديدة المعوجة تكون في جانب البكرة ، تقعقعا : تحرّك وسمع له صوت ، صرّت : صوّتت ، البكرة : هنا ما يستقي عليها الماء من البئر.

(٣) تمامه «لا نلتقي إلا على منهج» ، وهو للعرجي. اللغة : الحول : السنة.

(٤) قائله عبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي. اللغة : شاقه : أعجبه ، أو أثار شوقه ويروى ساقه من السوق.

٥٥٣

الثاني : نقل غير واحد أيضا الاتّفاق على امتناع توكيد النكرة ، إذا لم يفد ، واعترض بما حكاه ابن مالك في شرح التسهيل أنّ بعض الكوفيّين أجاز توكيد النكرة مطلقا ، أفاد ، أو لم يفد ، لكن قال ابن هشام في حاشية التسهيل : هذا النقل من ابن مالك لم أقف عليه من غير جهته ، وفهمت أنّه استنتجه من إعراب بعض الكوفيّين كلمة كلّ توكيدا لعجايا في قوله [من الوافر] :

٥٨٨ ـ ...

عجايا كلّها إلا قليلا (١)

ولا يسلم أنّ توكيد عجايا لا يفيد ، ثمّ كيف يجيز عاقل التّكلّم بشيء مع اعترافه أنّه لا يفيد ، ثمّ إنّه قد نقل في شرح العمدة الاتّفاق على المنع إذا لم يفد ، انتهى.

والمسالة الثانية ، «إذا أكّد» الضمير «المرفوع المتّصل بارزا كان أو مستترا بالنفس أو العين فبعد» توكيده بالضمير «المنفصل ، نحو : قوموا أنتم أنفسكم» وقاموا هم أنفسهم ، وقمن هنّ أنفسهنّ ، وقمتنّ أنتنّ أنفسكنّ ، «وقم أنت نفسك» وقوما أنتما أنفسكما ، وقاما هما أنفسهما. وذلك كراهة إيهام الفاعلى ة عند استتار الضمير المؤنّث ، إذ لو قيل : خرجت عينها ، وتوهّمت الجارحة ، أو نفسها ، توهّمت نفس الحياة ، وأجروا ما لا لبس فيه على ما ألبس.

وبهذا يبطل قول من قال : إنّ العطف كالتأكيد ، وإنّما ذلك في العطف خاصّة ، إذ الفصل لا يرفع الإبهام المذكور ، ألا ترى أنّه لو قيل : خرجت اليوم نفسها لكان الإبهام باقيا ، وخرج بقيد الضمير بالمرفوع الضمير المنصوب والمجرور ، فيؤكّد أنّ بالنفس والعين بدون المنفصل ، نحو : ضربتهم أنفسهم ومررت بهم أنفسهم ، وبالمتّصل المنفصل ، فيؤكّد بهما بدونه أيضا ، نحو : أنت نفسك قائم ، وبقيد النفس والعين غيرهما ، فيؤكّد به المرفوع المتّصل بغير شرط ، نحو قاموا كلّهم أو أجمعون لعدم اللبس في ذلك كلّه.

__________________

(١) صدره «عداني أن أزورك أنّ بهمي» ، ولم يسمّ قائله. اللغة : البهم : جمع البهمة : الصغير من أولاد الغنم الضأن والمعز والبقر من الوحش وغيرها ، العجايا : جمع العجي وهو الفصيل تموت أمّه ، فيرضعه صاحبه بلبن غيرها.

٥٥٤

البدل

ص : الرّابع : البدل وهو التابع المقصود أصالة بما نسب إلى متبوعه ، وهو بدل الكلّ من الكلّ ، والبعض من الكلّ ، والاشتمال : وهو الّذي اشتمل عليه المبدل منه ، بحيث يتشوّق السّامع إلى ذكره ، نحو : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ،) والبدل المباين : وهو إن ذكر للمبالغة ، سمّي بدل البداء كقولك : حبيبي قمر شمس ، ويقع من الفصحاء ، أو لتدارك الغلط ، فبدل الغلط نحو : جاءني زيد الفرس ، ولا يقع من فصيح.

هداية : لا يبدل الظاهر عن المضمر بدل الكلّ إلا من الغائب ، نحو : ضربته زيدا ، وقال بعض المحقّقين : لا يبدل المضمر من مثله ، ولا من الظاهر ، وما مثّل به لذلك مصنوع على العرب ، ونحو : قمت أنا ، ولقيت زيدا إيّاه تاكيد لفظيّ.

ش : «الرابع» من التوابع «البدل» التعبير به اصطلاح البصريّين ، والكوفيّون يعبّرون عنه بالترجمة والتبيين في نقل الأخفش ، وقال ابن كيسان : يعبّرون عنه بالتكرير ، والغرض منه أن يذكر المقصود بالنسبة بعد التوطئة لذكره بالتصريح بتلك النسبة إلى ما قبله لإفادة تقوية الحكم وتقريره ، لأنّه بمترلة إسناد الحكم إلى المحكوم عليه مرّتين.

«وهو» في اللغة العوض ، وفي الاصطلاح «التابع» هو كالجنس ، يشتمل جميع التوابع ، وقوله : «المقصود أصالة» بفتح الهمزة «بما نسب إلى متبوعه» أخرج ما عدا المحدود من التوابع ، أمّا النعت والتوكيد فظاهر ، وأمّا البيان والمعطوف بالحرف فإنّما وإن كانا مقصودين بما نسب إلى متبوعهما ، إلا أنّهما مقصودان تبعا لا أصالة ، لكن هذا لا يفي بإخراج جميع أقسام المعطوف بالحرف لصدق التعريف على المعطوف ببل في مثل قولنا : جاء زيد بل عمرو ، لأنّه مقصود أصالة بما نسب إلى متبوعه.

وذكر الأوّل أنّما هو غلط أو سهو لسان ، كما تفيده كلمة بل ، والجواب عنه بأنّ المتبوع كان مقصودا أصالة ، لكن لمّا بدا له ، وعرض عنه ، خرج عن تلك الحالة ، وصار المقصود هو التابع ، لا يخفي ما فيه ، ولئن تمّ فإنّما يتمّ إذا كان ذكر المتبوع غلطا ، وأمّا إذا كان سهو لسان فليس المتبوع مقصودا أصلا ، فضلا عن أن يكون أصالة ، فيبقي هذا القسم داخلا في التعريف ، وأيضا فهذا الجواب يخرج التعريف عن عدم الاطّراد إلى عدم الانعكاس ، فإنّ بدل البداء وبدل الغلط يشاركان المعطوف ببل في كون المتبوع كان مقصودا أصالة ، لكن لمّا أبدل منهما أخرجا عن تلك الحالة ، وصار المقصود هو التابع ، فافهم.

٥٥٥

تنبيهات : الأوّل : أورد على هذا الحدّ أنّه لا يتناول المبدل الّذي بعد إلا مثل : ما قام أحد إلا زيد ، فإنّ زيدا بدل من أحد ، وليس نسبة من أنسب إليه من عدم القيام مقصودة بالنسبة إلى زيد ، بل النسبة المقصودة بنسبة ما نسب إلى أحد نسبة القيام إلى زيد ، وأجيب بأنّ ما نسب إلى المتبوع هاهنا القيام ، فإنّه نسب إليه نفيا ، ونسبة القيام بعينه إلى التابع مقصودة ، ولكن إثباتا ، فيصدق على زيد أنّه تابع مقصودة نسبته بنسبة ما نسب إلى المتبوع ، فإنّ النسبة المأخوذة في الحدّ أعمّ من أن تكون بطريق الإثبات أو النفي ، ويمكن أن يقصد بنسبته إلى شيء نفيا نسبته إلى شيء إثباتا ، فيكون الأوّل توطئة للثاني.

الثاني : قال بعض المتأخّرين عدّ البدل تابعا ظاهر على القول بأنّ عامله عامل المبدل منه ، أمّا على القول بأنّ عامله مقدّر من جنس عامل المبدل منه فلا ، إذ لا يصدق عليه حقيقة التابع اصطلاحا ، كما لا يخفي ، فينبغي أن يحمل جعله تابعا على المسامحة لمكان الشبه الصوريّ ، انتهى.

قلت : وإلى هذا أشار شارح المصباح (١) ، حيث قال : إنّ البدل لكونه مقصودا في الكلام ومستقلّا بنفسه ، كأنّه ليس من التوابع إلا من جهة اللفظ دون المعنى ، وهو أربعة أقسام.

أنواع البدل : الأوّل : بدل الكلّ من الكلّ ، وهو الّذي يكون ذاته عين ذات المبدل منه ، وإن كان مفهوما هما متغايرين ، نحو : قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الحمد / ٦ و ٥] ، وقوله : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً* حَدائِقَ وَأَعْناباً) [النبأ / ٣٢ و ٣١].

والتعبير ببدل الكلّ من الكلّ للجمهور ، وعبّر عنه ابن مالك في منظومته بالبدل المطابق ، وقال في شرح الكبرى : وهو أولى ، لأنّها عبارة صالحة لكلّ بدل يساوي المبدل منه في المعنى بخلاف العبارة الأخرى ، فإنّها لا تصدق إلا على ذي أجزاء ، وذلك غير مشترط للإجماع على صحّة البدل في أسماء الله كقراءة غير نافع وابن عامر : (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ* اللهِ) [إبراهيم / ٢ و ١] ، وعبّر عنه في شرح التسهيل ببدل الموافق من الموافق ، وبعض المغاربة يقول : بدل الشيء من الشيء.

__________________

(١) المصباح في النحو للامام ناصر بن عبد السّيّد المطرزي النحويّ المتوفى سنة ٦١ ه‍ ق ، شرحه كثير من العلماء. كشف الظنون ٢ / ١٧٠٨.

٥٥٦

الفرق بين بدل الكلّ من الكلّ وعطف البيان : تنبيه : قال الرضيّ : أنا إلى الآن لم يظهر لي فرق جليّ بين بدل الكلّ من الكلّ وعطف البيان ، بل لا أري عطف البيان إلا البدل ، كما هو ظاهر كلام سيبويه ، وما قالوه من أنّ الفرق بينهما أنّ البدل هو المقصود بالنسبة دون متبوعة بخلاف عطف البيان ، فإنّه بيان ، والبيان فرع المبيّن ، فيكون المقصود هو الأوّل ، فالجواب أنّا لا نسلم أنّ المقصود بالنسبة في بدل الكلّ هو الثاني فقط ، ولا في سائر الإبدال إلا الغلط ، فإنّ كون الثاني فيه هو المقصود بها دون الأوّل ظاهر ، انتهى.

قال المحقّق الجرجانيّ : الظاهر أنّهم لم يريدوا أنّه ليس مقصودا بالنسبة أصلا ، بل أرادوا أنّه ليس مقصودا أصليّا ، والحاصل أنّ مثل قولك : جاءني أخوك زيد ، إن قصدت فيه الإسناد إلى الأوّل وجئت بالثاني تتمّة له توضيحا فالثاني عطف بيان ، وإن قصدت الإسناد إلى الثاني ، وجئت بالأوّل توطئة مبالغة له في الإسناد فالثاني بدل ، وحينئذ يكون التوضيح الحاصل به مقصودا تبعا ، والمقصود أصالة هو الإسناد إليه بعد التوطئة ، فالفرق ظاهر ، كما حقّقه المتأخّرون ، انتهى.

وقال شارح التهذيب للمصنّف : إنّ الرضي لمّا فهم من تعريف ابن الحاجب أنّ المتبوع في البدل لا يكون مقصودا أصلا اعترض عليهم بما اعترض ، وحكم بعدم الفرق الجليّ ، ولله درّ المصنّف حيث سلم ممّا وقع فيه ابن الحاجب وأوقع غيره بأوجز عبارة ، انتهى.

يعني أنّ المصنّف أشار إلى الفرق الّذي ذكره المحقّق المذكور في تعريفه للبدل بقوله : المقصود أصالة ، فسلم من تداخل القسمة الّذي اعترض به الرضيّ ، لكنّه قال في اللآلى الدريّة : هذا الفرق لا يجدي نفعا في بعض الأمثلة ، كما إذا كان الثاني لمجرّد التفسير بعد الإبهام مع أنّ في الأوّل فائدة مقصودة ، ليست في الثاني ، وهي الإبهام ، نحو : مررت برجل زيد ، فإنّ زيدا ذكر مفسّرا لرجل ، إذ هو دالّ على ما دلّ عليه رجل مع زيادة التعريف ، فليس الأوّل منهما توطئة للثاني ، بل كلّ منها مقصود ، فإنّ الإبهام مقصود لذاته (١) ، والتفسير كذلك ، فعدم ظهور الفرق الجليّ بين عطف البيان وبدل الكلّ ثابت ، كما ذكره الرضيّ ، انتهى ، فتأمّل.

والثاني : بدل البعض من الكلّ ، وهو الّذي يكون ذاته بعضا من ذات المبدل منه ، وان لم يكن مفهومه بعضا من مفهومه ، سواء كان ذلك البعض نصفا أم أقلّ أم أكثر على الصحيح.

__________________

(١) سقطت «فإنّ الإبهام مقصود لذاته» في «س».

٥٥٧

وذهب الكسائيّ وهشام إلى أنّ بدل البعض لا يقع إلا على ما دون النصف ، ولا يسمّى أكلت الرغيف نصفه أو ثلثه أو أكثره ، بدل بعض عندهما ، ولا بدّ في هذا البدل من اتّصاله بضمير يعود إلى المبدل منه ، مذكور ك بعت العبد نصفه ، أو مقدّر كقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران / ٩٧] ، أي منهم ، فمن بدل بعض من الناس ، لأنّ المستطيع بعض الناس لا كلّهم ، وقال ابن برهان : بدل الكلّ ، والمراد بالناس المستطيع ، فهو عامّ أريد به خاصّ ، لأنّ الله لا يكلّف الحجّ من لا يستطيع.

تنبيه : التعبير بلفظ البعض والكلّ بإدخال أل عليها وقع في كلام كثير ، وقد استعملهما الزجاجيّ في جملة ، كذلك واعتذر عنه بأنّه تسامح فيه موافقة للناس ، قال بعض الأئمة : لا يجوز إدخال أل عليها عند الجمهور. قال ابن خالويه في كتاب : يغلط كثير من الخواصّ بإدخال أل على كلّ وبعض ، وليس من لغة العرب ، لأنّهما معرفتان في نيّة الإضافة ، وبذلك نزل القرآن ، وعن الأصمعيّ أنّه قال : قرأت آداب المقفع فلم أر فيه لحنا إلا قوله : العلم أكثر من أن يحاط بالكلّ منه ، فاحفظوا البعض ، قال : وذلك خطأ ، لأنّهما معرفتان ، لا تدخلهما ال ، قال : ومثل ذلك قبل وبعد ، انتهى.

والجواز مذهب الأخفش والفارسيّ : ومن الغريب ما وقع في الكتاب الهادي الشادي (١) نقلا عن الأزهري أنّ النّحويّين أجازوا إدخال الألف واللام في بعض وكلّ ، وإن أباه الأصمعيّ ، وإنّما أباه الأصمعيّ لأنّ مذهب العرب عدم جواز دخول الألف واللام (٢) عليهما ، لأنّها مضافان ألبتّة ، وإمّا ظاهرا وإمّا مضمرا ، انتهى.

الثالث : بدل الاشتمال ولاختلافهم فيه ، بيّنه المصنّف بقوله : وهو الّذي اشتمل عليه المبدل منه لا كاشتمال الظرف على المظروف ، بل من حيث كونه دالّا عليه إجمالا ومتقاضيا له بوجه ما ، بحيث يتشوّق السامع عند ذكر المبدل منه إلى ذكره أي ذكر البدل ، ويكون منتظرا له ، فجئ هو مبيّنا وملخّصا لما أجمل أوّلا نحو : قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) [البقرة / ٢١٧] ، فقتال بدل اشتمال من الشهر لاشتماله عليه بالمعنى المذكور ، فالمشتمل هو الأوّل ، وهو مذهب الفارسيّ والرمانيّ وخطاب ابن مالك.

__________________

(١) الهادي الشادي في النحو لأبي الفضل أحمد بن محمد الميداني المتوفى سنة ٥١٨ ه‍ ق. كشف الظنون ، ٢ / ٢٠٢٦.

(٢) سقطت هذه العبارات في «س».

٥٥٨

واختلف في تعليله فقال ابن جعفر (١) : لأنّه مشتمل على الثاني بالمعنى المذكور ، وردّه بعض المتأخّرين بأنّ قولك : سلب زيد ثوبه ، ليس زيد فيه مشتملا على الثوب ، لأنّه لا يدلّ عليه ، ولا يتقاضاه ، كما ذكر في تعريفه ، انتهى. قلت : ليس المراد بكونه يدلّ عليه ويتقاضاه دلالة صريحة ، بل المراد إنّا إذا قلنا : سلب زيد ، دلّ على أنّه سلب شيء ، فهو يتقاضي ذلك المسلوب ، فيتشوّق السامع إلى ذكره إلى أن يجىء مبيّنا له وملخّصا ، فافهم.

وقال الجزوليّ : لأنّ الثاني إمّا صفة للأوّل ، كأعجبتني الجارية حسنها ، أو مكتسب منه صفة ، نحو : سلب زيد ماله ، فإنّ الأوّل اكتسب من الثاني كونه مالكا ، وردّه بأنّه يلزم منه أن يجيز ضربت زيدا عبده على الاشتمال ، وهم قد منعوا ذلك.

قال أبو حيّان في التذكرة (٢) ، وقال طائفة : ووقع لأبي على في الحجّة أنّ المشتمل هو الثاني قال : بدليل سرق زيد ثوبه ، وردّ بسرق زيد فرسه ، وقيل : لا اشتمال لأحدهما على الآخر ، وإنّما المشتمل الإسناد على الأوّل على معنى أنّ الإسناد إلى الأوّل لا يكتفي به من جهة المعنى ، وإنّما أسند إليه على قصد غيره ممّا يتعلّق به ، ويكون المعنى مختصّا بغير الأوّل ، ولهذا لا يجوز ضرب زيد عبده على الاشتمال لاكتفاء المسند بالأوّل ، وهو مذهب المبرّد ، وبه قال ابن جنيّ : وأورد عليه نحو : زيد ماله كثير ، إذا أعرب ماله بدلا من زيد إلا أن يقال : الابتداء مشتمل على زيد مجازا وعلى ماله حقيقة.

وقيل : لا يتعيّن اشتمال أحدهما على الآخر ، بل تارة يكون المشتمل هو الأوّل ، نحو : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ،) وتارة يكون المشتمل هو الثاني ، نحو : سلب زيد ثوبه ، ويشكل عليه نحو : زيد ماله كثير ، إذا أعرب ماله بدلا ، كما قلنا ، فإنّه لا اشتمال فيه لأحدهما على الآخر.

وأمر هذا البدل في الضمير كما مرّ في بدل البعض ، فمثال الضمير المذكور ما مرّ ، ومثال المقدّر قوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ* النَّارِ) [البروج / ٥ و ٤] ، أي فيه أو الأصل ناره ، ثمّ نابت أل عن الضمير.

تنبيهان : الأوّل : يشكل على قول المصنّف ، وهو بدل الكلّ من الكلّ والبعض من الكلّ الاشتمال لزوم عطف جزء الاسم على جزء الاسم ، لأنّ الاسم هو المركّب الاضافيّ ، وهو بدل البعض وبدل الاشتمال ، ودفعه أنّ تقدير الكلام وبدل البعض من الكلّ وبدل الاشتمال ، فحذف جزء الاسم لانسياق الذهن إليه ، بقي أنّه هل يجوز

__________________

(١) لعلّه أحمد بن جعفر الدينوري ، أحد النحاة المبرزين ، صنّف : المهذّب في النحو ، ضمائر القرآن ومات سنة ٢٨٩ ه‍ ق. بغية الوعاة ، ١ / ٣٠١.

(٢) التذكرة في العربية للشيخ أثير الدين أبي حيان محمد بن يوسف الأندلسي المتوفى سنة ٧٤٥ ه‍ في أربع مجلدات كبار. كشف الظنون ، ١ / ٣٩٣.

٥٥٩

حذف جزء الاسم ، أم هو أمر مستحدث فيما بين المصنّفيّن ، لا أصل له في كلام العرب ، والأظهر هو الثاني قاله بعض المحقّقين من شراح الكافيّة.

الثاني : ردّ السهيليّ بدل البعض والاشتمال إلى الكلّ ، فقال : العرب تتكلّم بالعامّ ، وتريد الخاصّ ، وتحذف المضاف ، وتنوينه ، فإذا قلت : أكلت الرغيف ثلثة ، إنّما تريد أكلت بعض الرغيف ، ثمّ بنيت ذلك البعض بقولك : ثلثه ، وإذا قلت : أعجبني زيد علمه ، إنّما تريد أعجبني صفة زيد ، فبنيت بقولك : علمه ، تلك الصفة المحذوفة.

الرابع : «البدل المباين» للمبدل منه ، «وهو» ثلاثة أقسام ، ذكر المصنّف منها قسمين ، فقال : «إن ذكر للمبالغة ، سمّي بدل البداء» بالدّال المهملة والمدّ ، وبدل اضراب أيضا ، وذلك بأن تذكر المبدل منه عن قصد وتعمّد ، ثمّ توهّم أنّك غالط لكون الثاني مباينا للأوّل أجنبيّا عنه ، وهذا معتمد الشعر كثيرا للمبالغة والتفنّن في الفصاحة ، وشرطه أن يرتقي من الأدني إلى الأعلى ، «كقولك : حبيبي قمر شمس» ، كأنّك وإن كنت متعمّدا لذكر القمر توهّم من نفسك الغلط ، وترى أنّك لم تقصد في الأوّل إلا تشبيها بالشمس ، كذا قال الرضي. وقال غيره : إنّما سمّي بدل بداء لأنّ المتكلّم يخبر بشيء ، ثمّ يبدو له أن يخبر بآخر من غير إبطال الأوّل.

«ويقع» بدل البداء «من الفصحاء» ، بل هو من التفنّن في الفصاحة كما علمت ، ولا عبرة بمن أنكره ، فقد ذكره سيبويه ، ويشهد لصحّته قوله (ع) : إنّ الرجل ليصلّى الصلوة ، وما كتب له نصفها ثلثها إلى عشرها (١). وما قيل من أنّه محمول على إضمار بل ، ليس بشيء ، فإنّ بل لم يثبت حذفها.

«أو» ذكر «لتدارك الغلط» ، فاسمه «بدل الغلط» ، أو فيسمّي بدل الغلط ، «نحو : جاء زيد الفرس» ، أردت أن تقول : جاء الفرس ، فسبقك لسانك إلى زيد ، ثمّ تداركت الغلط فقلت : الفرس ، فمعنى قولنا : بدل غلط ، أنّه يدلّ عن اللفظ الّذي هو غلط ، لا أنّ البدل نفسه هو الغلط ، كما قد يتوهّم من ظاهر اللفظ «ولا يقع» بدل الغلط «من فصيح» ، ولا فيما يصدر عن روية فلا يكون في شعر أصلا.

وقد أهمل المصنّف القسم الثالث من أقسام البدل المباين ، وهو بدل النسيان ، وهو أن تعتمد ذكر ما هو الغلط ، ولا يسبقك لسانك إلى ذكره ، لكن تنسي المقصود ، ثمّ بعد ذلك تتداركه بذكر المقصود ، فمعنى قولنا : بدل نسيان أنّه بدل من شيء ذكر نسيانا.

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ، لاط ، دار احياء الثرات العربي ، بيروت ، ٤ ، ١٩٩٤ / ٣١٩.

٥٦٠