الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

المبنيّات

المضمر

ص : المبنيّات : منها المضمر ، وهو ما وضع لمتكلّم أو مخاطب ، أو غائب سبق ذكره ولو حكما ، فإن استقلّ فمنفصل وإلا فمتّصل ، والمتّصل مرفوع ومنصوب ومجرور ، والمنفصل غير مجرور ، فهذه خمسة ، ولا يسوغ المنفصل إلا لتعذّر المتّصل ، وأنت في هاء سلنيه وشبهه بالخيار.

مسألة : وقد يتقدّم على الجملة ضمير غائب مفسّر بها ، يسمّي ضمير الشأن والقصّة ، ويحسن تأنيثه إن كان المؤنّث فيها عمدة ، وقد يستتر ، ولا يعمل فيه إلا الابتدا أو نواسخه ، ولا يثنّى ولا يجمع ، ولا يفسّر بمفرد ، ولا يتبع ، نحو : هو الأمير راكب ، وهي هند كريمة ، وإنّه الأمير راكب ، وكان النّاس صنفان.

فائدة : ذكر بعض المحقّقين عود الضمير على المتأخّر لفظا ورتبة في خمسة مواضع :

* إذا كان مرفوعا بأوّل المتنازعين ، وأعملنا الثاني ، نحو : أكرمني أكرمت زيدا.

* أو فاعلا في باب نعم مفسّرا بتمييز ، نحو : نعم رجلا زيد.

* أو مبدلا منه ظاهر ، نحو : ضربته زيدا.

* أو مجرورا بربّ على ضعف ، نحو : ربّه رجلا.

* أو كان للشّأن أو القصّة ؛ كما مرّ.

ش : «المبنيّات» ، وهو مبتدأ ، خبرها قوله «منها المضمر» ، ويسمّى الضمير ، وتسميته بالأوّل أجرى على قاعدة التصريف ، لأنّه من أضمرت الشيء ، إذا أخفيته ، فهو مضمر ، ويجوز أن يكون من أضمرته ، بمعنى أهزلته ، لأنّه في الغالب قليل الحروف ، وأمّا تسميته ضميرا فهو على حدّ قولهم : عقدت العسل فهو عقيد ، وتسميته بهما اصطلاح البصريّين ، وتسمية الكوفيّين الكناية والمكني ، لأنّه ليس بالصريح ، والكناية تقابل الصريح.

قال ابن هاني [من الطويل] :

٤٥٦ ـ فصرّح بمن أهوي ودعني من الكنى

فلا خير في اللذات من دونها ستر (١)

__________________

(١) لم أجد البيت.

٤٦١

وبني للشبه بالحرف في الوضع ، لأنّ أكثر المضمرات على حرف أو حرفين كباء الجرّ ولامه ، وواو العطف وفاءه وقد وبل وهل وأم ، وما كان وضعه منها على أكثر من ذلك فمحمول عليه طردا للباب.

وقيل : لشبهه في المعنى لأنّ كلّ مضمر مضمر معنى التّكلّم أو الخطاب أو الغيبة ، وهي من معاني الحروف ، وقيل : في الافتقار إلى شيء ، إذ لا بدّ له من مفسّر ، أعني الحضور في المتكلّم والمخاطب ، وتقدّم الذكر في الغائب ، وقيل : في الجمود ، أي عدم التصرّف في لفظه بوجه ما حتى بالتصغير ، وبأن يوصف به كاسم الاشارة وقيل : لعدم موجب الإعراب فيه للاستغناء عن إعرابه باختلاف صيغته الدالّة على المعاني.

«وهو» أي المضمر «ما» أي اسم «وضع لمتكلّم» بعينه «أو مخاطب» بعينه ، كما مرّ تحقيقه في حدّ المعرفة ، فلا ينتقض بلفظ المتكلّم أو المخاطب «أو غائب» بعينه ، فخرج به الأسماء الظاهرة النكرات.

وبقيت الأسماء الظاهرة المعرفة ، إذ الاسماء الظاهرة كلّها غائب فأخرجها بقوله : «سبق» أي تقدّم «ذكره» ، فإنّها وإن كانت موضوعة لغائب بعينه ، لكن ليس سبق ذكر الغائب شرطا فيها ، وقد علم ممّا مرّ في حدّ المعرفة أنّ المضمرات موضوعة لجزئيات معيّنة لهذه المفهومات على ما هو الحقّ ، فيكون المراد بقوله لمتكلّم أو مخاطب أو غائب كلّ متكلّم أو مخاطب أو غائب (١) ، والنكرة قد تكون في الإثبات للعموم كما تقدّم.

والمراد بقوله : «سبق ذكره» أعمّ من أن يكون مذكورا لفظا ، سواء كان سابقا لفظا ورتبة ، نحو : ضرب زيد غلامه ، أو سابقا رتبة متأخّرا لفظا ، نحو : ضرب غلامه زيد ، أو سابقا لفظا متأخّرا رتبة ، نحو : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) [البقرة / ١٢٤] ، أو مذكورا معنى يدلّ عليه لفظ الفعل ، نحو : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة / ٨] ، فالضمير عائد إلى العدل الّذي يدلّ عليه لفظ الفعل تضمّنا ، أو سياق الكلام ، نحو : (وَلِأَبَوَيْهِ) [النساء / ١١] ، فالضمير عائد إلى الموروث الّذي دلّ عليه ذكر الميراث دلالة التزامية.

«ولو» كان سبق ذكره «حكما» أي محكوما به بأن يكون الغالب الّذي وضع له الضمير مذكورا لفظا ، لكن ليس سابقا لا لفظا ولا رتبة ، بل يكون متأخّرا ، فيحكم بسبقه حكما نظرا إلى وضع ضمير الغائب ، وذلك واقع في خمسة مواضع : وهي ما إذا كان الضمير مرفوعا بأوّل المتنازعين ، أو بنعم وبئس وما جرى مجراهما ، أو مبدلا منه

__________________

(١) من فيكون حتى هنا سقطت في «ح».

٤٦٢

ظاهرا ، أو مجرورا بربّ ، أو كان للشأن ، وسيأتي ذكر هذه المواضع في كلام المصنّف مفصّلا ، فتستوفي الكلام عليها هناك ، إن شاء الله تعالى.

وإنّما خولف مقتضي وضع ضمير الغائب في هذه المواضع بتأخير مفسّره لقصد التفخيم والتعظيم ، بأن يذكروا أوّلا شيئا مبهما حتى تتشوّق نفس السامع إلى العثور على المراد به ، ثمّ يفسّروه ، فيكون أوقع في النفس ، لكن هذا يختلف في باب التنازع المذكور ، فإنّه لمجرّد الاختصار والاحتراز عن التكرار عند غير الكسائي القائل بأنّ الفاعل محذوف كما سيأتي بيانه.

الضمير المنفصل والمتّصل : «فإن استقلّ» المضمر بنفس بأن لم يحتجّ إلى كلمة أخري قبله يكون هو كالتتّمة لها ، بل كان كالاسم الظاهر ، فهو «منفصل» وهو سبعة : أنا ، وألفه زائدة لبيان الحركة ، ونحن وأن وهو وهي والهاء وإيّا ، وأمّا لواحق أن والهاء وإيّا فحروف دالّة على المراد منها ، «وإلا» يستقلّ بنفسه ، بل احتاج إلى كلمة اخري قبله يكون هو كالتتمّة لها ، فهو متّصل ، وهو تسعة : التاء والنون والألف والواو وياء المخاطبة وتاء المتكلّم والهاء وتا ، وأمّا لواحق الكاف والهاء فحروف دالّة على المراد منها نظيرها ما مرّ ، فجملة الضمائر على هذا ، وهو الصحيح ، ستّة عشر ضميرا لا غير.

تنبيه : ظاهر صنعة أنّ كلّا من المنفصل والمتّصل قسم برأسه ، وذهب بعضهم إلى أنّ المتّصل أصل للمنفصل محتجّا بأنّ مبني الضمائر على الاختصار ، والمتّصل أخصر من المنفصل ، قاله في التصريح.

والمضمر «المتّصل مرفوع ومنصوب ومجرور» لا بمعنى المتّصف بالرفع والنصب والجرّ ، فإنّ أنت مثلا مرفوع ، وإن لم يتّصف بالرفع ، بل بمعنى ضمير لا يستعمل في التركيب إلا في موضع مرفوع أو منصوب أو مجرور. والضمير «المنفصل» مرفوع ومنصوب «غير مجرور» ، لأنّ المجرور بمترلة الجزء الأخير من العامل بحيث لا يجوز فصله ، فهو لا يكون إلا متّصلا.

فهذه خمسة أنواع ، وكلّ منها إمّا مفرد أو مثنى أو مجموع ، فهي خمسة عشر ، وكلّ منها إمّا مذكّر أو مؤنّث ، فهذه ثلاثون ، لكن اكتفي في المثنّى بلفظ واحد لقلّة استعماله ، فسقط خمسة ، فهي خمسة وعشرون ، وكلّ منها أمّا متكلّم ، أو مخاطب أو غائب ، فهذه خمسة وسبعون ، لكن اكتفي في المتكلّم بضميرين ، لأنّ المتكلّم يعلم غالبا كونه مذكّرا أو مؤنّثا ، إمّا برؤيته أو صوته ، فيسقط خمسة عشر من ضرب ثلاثة في

٤٦٣

خمسة ، فيبقي ستّون ، ويضمّ إليها ياء الواحدة المخاطبة ، كما زادها سيبويه خلافا للأخفش والمازنيّ في قولها : إنّها حرف تأنيث ، والفاعل مستتر كما تقدّم.

فجملة الضمائر أحد وستّون ضميرا. أمثلة الضمائر المرفوعة المتّصلة ضربت بضمّ التاء ، ضربنا ، وضربت بفتحها ، وضربت بكسرها ، وضربتما ، وضربتم ، وضربتن ، وضرب ، أي هو ، وضربت ، أي هي ، وضربا ، وضربتا ، وضربوا ، وضربن.

والمنفصلة أنا ونحن وأنت بالفتح وأنت بالكسر وأنتما وأنتم وأنتنّ وهو وهي وهما وهم وهنّ. والمنصوبة المتّصلة ضربني وضربنا وضربك وضربك بالفتح والكسر وضربكما وضربكم وضربكنّ وضربه وضربها وضربهما وضربهم وضربهنّ. والمنفصلة إيّاي وإيّانا وايّاك بالفتح وايّاك بالكسر وإيّاكما وإيّاكم وإيّاكن وإيّاه وإيّاها وإيّاهما وإيّاهم وإيّاهنّ. والمجرورة مرّ بي وبنا وبك بالفتح وبك بالكسر وبكما وبكم وبكنّ وبه وبها وبهما وبهم وبهنّ.

لا يجوز المنفصل الا لتعذّر المتّصل : «ولا يسوغ» أي لا يجوز المضمر «المنفصل إلا لتعذّر» المضمر «المتّصل» ، لأنّ وضع المضمر على الاختصار ، والمتّصل أخصر من المنفصل ، فمتى أمكن ، لا يجوز العدول عنه ، فنحو قمت وأكرمتك ، لا يقال فيهما : قام أنا ولا اكرمت إيّاك ، وأمّا قوله [من البسيط] :

٤٥٧ ـ وما أصاحب من قوم فأذكرهم

إلا يزيدهم حبّا إلى هم (١)

وقوله [من الرجز] :

٤٥٨ ـ أتتك وهي تقطع الأراكا

إليك حتى بلغت إيّاكا (٢)

وقوله [من البسيط] :

٤٥٩ ـ بالباعث الوارث الأموات قد ضمنت

إيّاهم الأرض في دهر الدّهارير (٣)

فضرورة.

مواضع تعذّر المتّصل : ويتعذّر المتّصل في مواضع :

أحدها : أن يتقدّم المضمر على عامله ، نحو : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الحمد / ٤].

__________________

(١) البيت لزياد بن حمل وقيل لمرار بن منقذ.

(٢) البيت لحميد الأرقط ، اللغة : الأراك أو شجر المسواك ، واحدته أراكة : نبات شجرى من الفصيلة الأراكية ، كثير الفروع ، خوار العود ، ويروى أتيك عنس ... والعنس ، الناقة الشديدة.

(٣) البيت للفرزدق ، يفتخر فيها ، ويمدح يزيد بن عبد الملك بن مروان. اللغة : الباعث : الّذي يبعث الأموات ويحييهم بعد موتهم ، ضمنت : تضمنت ، الدهارير : الزمن الماضي ، أو الشدائد ، وهو جمع لا واحد له من لفظه.

٤٦٤

الثاني : أن يتأخّر عن عامله ويلي إلا ، نحو : (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [يوسف / ٤٠] ، أو إنّما ، نحو : إنّما قام أنا ، ومنه قول الفرزدق [من الطويل] :

٤٦٠ ـ أنا الزائد الحامي الذمار وإنّما

يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي (١)

وأمّا قوله [من البسيط] :

٤٦١ ـ وما نبالي إذا ما كنت جارتنا

أن لا يجاورنا إيّاك ديّار (٢)

فضرورة.

الثالث : أن يكون العامل محذوفا ، إمّا لكونه مفسّرا بمذكور ، نحو : إن إيّاه ضربته فأكرم أخاه ، أو بقرينة السؤال ، نحو : إيّاه ، جوابا لمن قال : أضرب ، أو لكون الضمير جعل بدلا من اللفظ بالفعل ، فلا يجوز إظهاره ، وذلك في باب التحذير ، وهو تنبيه المخاطب على مكروه يجب الاحتراز عنه ، نحو : إيّاك والأسد ، أي ق نفسك ، واحذر الأسد.

الرابع : أن يكون تابعا ، إمّا توكيدا ، نحو : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة / ٣٥] ، أو بدلا ، كقولك بعد ذكر أخيك : لقيت زيدا إيّاه ، أو عطف نسق كجاءني زيد وأنت.

الخامس : أن يقع بعد أمّا ، نحو : جاءني أمّا أنت أو زيد.

السادس : أن يقع بعد واو المصاحبة ، كقوله [من الطويل] :

٤٦٢ ـ فاليت لا أنفكّ أحدو قصيدة

أكون وإيّاها مثلا بعدي (٣)

السابع : أن تقع بعد اللام الفارقة بين إن النافية والمخفّفة كقوله [من الخفيف] :

٤٦٣ ـ إن وجدت الصديق حقّا لإيّاك

فمن لي فلن أزال مطيعا (٤)

الثامن : أن يكون منادى ، نحو : يا إيّاك ويا أنت (٥).

التاسع : أن تكون ثاني مفعولي علمت أو أعطيت ، ويورث اتّصال الضمير التباسه بالمفعول الأوّل ، كما إذ أخبرت عن المفعول الثاني في علمت زيدا إيّاك وأعطيت زيدا

__________________

(١) اللغة : الذائد : فاعل من الذود بمعنى الطرد والمنع ، الذمار : ما يلزمك حفظه وحمايته ، الأحساب : جمع حسب : ما يعدّه الإنسان من مفاخر أبائه.

(٢) لم يعيّن قائله. اللغة : ما نبالي : يروى في مكانه وما علينا : من المبالاة بمعنى الاكثرات بالأمر والاهتمام له والعناية به ، ديار : معناه أحد ولا يستعمل إلا في النفي العام.

(٣) هو لأبي ذؤيب الهذلي. اللغة : اليت. حلفت.

(٤) البيت بلا نسبة.

(٥) كما جاء في بحث النداء إنّ هذا الاستعمال خطأ ، وكما قال شعبان :

ولا تقل عند النداء يا هو

وليس في النحاة من رواه

٤٦٥

عمرا قلت : الّذي علمت زيدا إيّاه أبوك ، والّذي أعطيت زيدا إيّاه عمرو ، ولا يجوز أن تقول : الّذي علمته زيدا ولا الّذي أعطيته زيدا ، لأنّه يلتبس المفعول الثاني بالأوّل.

العاشر : أن يكون عامله معنويّا ، نحو : أنا قائم.

الحادي عشر : أن يرفع بمصدر مضاف إلى المنصوب ، كقوله [من البسيط] :

٤٦٤ ـ بنصركم نحن كنتم ظافرين وقد

أغرى العدي بكم استسلامكم فشلا (١)

الثاني عشر : أن ينصب بمصدر مضاف إلى المرفوع ، نحو : عجبت من ضرب الأمير إيّاك. فإن قالوا : يجوز من ضربك الأمير ، قلنا : يجوز بنصرنا إيّاكم فما هو جوابكم ، فهو جوابنا.

الثالث عشر : أن يكون عامله حرف نفي ، نحو : (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) [المجادلة / ٢].

الرابع عشر : أن يرفع بصفة جرت على غير من هي له ، نحو : زيد هند ضاربته هي.

الخامس عشر : أن يجتمع ضميران ، ويقدّم غير الأخص ، نحو : أعجبني إكرامك إيّاي وإكرامه إيّاك.

السادس عشر : أن يجتمع ضميران في مرتبة واحدة بأن يكونا لمتكلّم أو مخاطب أو غائب ، نحو : ظننتني إيّاي وحسبتك إيّاك وعلمه ايّاه ، وأمّا قوله [من الطويل] :

٤٦٥ ـ وقد جعلت نفسي تطيب لضغمة

لضغمهماها يقرع العظم نابها (٢)

وإنّما سهّله اختلاف لفظي الضمير ، وهو مع ذلك شاذّ.

جواز الوجهين في سلنيه وشبهه : «وأنت في هاء سلنيه شبهه» من كل ثاني ضميرين أوّلهما أخصّ وغير مرفوع نحو : أعطيتكه «بالخيار» فإن شيءت وصلت نظرا إلى الأصل فقلت : سلنيه وأعطيتكه ، وإن شيءت فصلت ، هربا من توإلى اتّصالين في فضلتين ، فقلت : سلني إيّاه وأعطيتك إيّاه.

وظاهر كلامه أنّ الاتّصال والانفصال على السواء ، وهو ظاهر كلام ابن مالك في الألفية ، بل قال ابن عقيل : إنّه ظاهر كلام أكثر النّحويّين ، واختار في التسهيل الاتّصال لكونه الأصل ، ولا مرجّح لغيره ، واقتصر سيبويه عليه.

قال ابن مالك : فظاهر كلامه لزوم الاتصال ، وأجاز غير سيبويه الانفصال ويدلّ عليه قوله (ع) : إنّ الله ملّككم إيّاهم ولو شاء ملّكهم إيّاكم (٣) ، انتهى.

__________________

(١) لم يعين قائله. اللغة : أغري : حرّض.

(٢) هو لمغلس بن لقيط. اللغة : الضغمة : العضّة فكني بها عن المصيبة.

(٣) ما وجدت الحديث في المراجع.

٤٦٦

وذهب الشلوبين إلى رجحان الانفصال ، وتأوّل كلام سيبويه ، قال المراديّ : وهو بعيد ، فإن كان الأوّل من الضميرين مجرورا يرجّح الفصل اتّفاقا لاختلاف محلّي الضمير ، نحو : عجبت من حبّي إيّاه ، ومن الوصل قوله [من المتقارب] :

٤٦٦ ـ لئن كان حبّك لي كاذبا

لقد كان حبّيك حقّا يقينا (١)

وإن كان غير أخصّ وجب الفصل كما تقدّم ، أو مرفوعا وجب الوصل ، نحو : ضربته ، إلا إذا كان مرفوعا بكان أو إحدى أخواتها ، نحو : الصديق كنته ، فيترجّح الوصل عند ابن مالك لكونه الأصل ، وورود في أفصح النثر كقوله (ص) لعمر في ابن صياد : إن يكنه فلن تسلّط عليه ، وإن لا يكنه فلا خير لك في قتله (٢).

والفصل عند الجمهور ، لأنّ حقّ الخبر الفصل قبل دخول الناسخ ، فيترجّح بعده كقوله [من الطويل] :

٤٦٧ ـ لئن كان إيّاه لقد حال بعدنا

عن العهد والإنسان قد يتغيّر (٣)

وهذا الخلاف جار في المنصوب بفعل ناسخ أيضا ، نحو : خلتنيه ، وتوجبه كلّ من الترجيحين ما سبق ، فمن ورود الوصل ، قوله [من البسيط] :

٤٦٨ ـ بلّغت صنع امرئ برّ إخالكه

إذ لم تزل لاكتساب الحمد مبتدرا (٤)

ومن ورود الفصل ، قول الأخر [من البسيط] :

٤٦٩ ـ أخي حسبتك إيّاه وقد ملئت

أرجاء صدرك بالأضغان والإحن (٥)

تنبيه : ما ذكرته من جواز الاتّصال في أخوات كان ككان هو ما ذهب إليه ابن مالك ، وصرّح به في شرح الكافية ، وابن هشام صرّح به في الأوضح ، ونصّ عليه شراح الكتاب ، ونقل عن صاحب المستوفي (٦) أنّ خبر غير كان لا يكون متّصلا ، وجزم به أبو حيّان في شرح التسهيل قال وقولهم : ليسني وليسك شاذّ ، وخصّ بعضهم هذ الحكم بليس ولا يكون في الاستثناء ، وحمل قوله [من الرجز] :

٤٧٠ ـ ...

اذ ذهب القوم الكرام ليسي (٧)

على الضرورة مثل إلاك ديّار.

__________________

(١) البيت بلا نسبة.

(٢) تقدم في ص ٢١٥.

(٣) هو لعمر بن أبي ربيعه.

(٤) لم يسمّ قائله. اللغة : ابتدر : تسارع إليه.

(٥) لم يسمّ قائله. اللغة : أرجاه : جمع رجاء ، ناحية ، الأضغان : جمع الضغن : الحقد الشديد ، الإحن : جمع الإحنة : الحقد والصغن.

(٦) المستوفي في النحو لأبن سعد كمال الدين على بن مسعود الفرغاني. كشف الظنون ٢ / ١٦٧٥.

(٧) تقدّم برقم ٣٩٠.

٤٦٧

ففي ليس على هذا ضرورتان : إحداهما : اتّصال الضمير ، والثانية : عدم نون الوقاية.

ضمير الشأن والقصّة : هذه «مسألة» في بيان الضمير المسمّى بالشأن وضمير القصة وضمير الأمر وضمير الحديث عند البصريّين ، وضمير المحمول عند الكوفيّين ، لأنّه لا يدري عندهم على ما ذا يعود. وتسمية البصريّين أولى ، لأنّهم سمّوه بمعناه ، والكوفيّون إنّما سمّوه باعتبار وصفه.

«قد» للتقليل ، فإنّ هذا الضمير وقوعه في الكلام قليل بالنسبة إلى غيره من الضمائر «يتقدّم على الجملة» الخبريّة «ضمير غائب» بإضافة الضمير إلى الغائب «مفسّرا بها» ، أي بالجملة الخبريّة لغرض التعظيم والتفخيم ، إذ ذكر الشيء مبهما ، ثمّ مفسّرا أوقع في النفوس من ذكر مفسّرا من أوّل الأمر ، فعلى هذا لا بدّ أن يكون مضمون الجملة شيئا عظيما يعتنى به ، فلا يقال مثلا : هو الذباب يطير.

قال الرضيّ : وهذا الضمير كأنّه راجع في الحقيقة إلى المسؤول عنه بسؤال مقدّر ، يقول مثلا : هو الأمير مقبل ، كأنّه سمع ضوضأ وجلبة ، فاستبهم الأمر ، فسأل ما الشأن والقصة؟ فقلت : هو الأمير مقبل ، أي الشأن هذا ، فلمّا كان العود إليه الّذي تضمّنه السؤال غير ظاهر ، قيل : اكتفى بالتفسير مخبر هذا الضمير الّذي يتعقّبه بلا فصل ، لأنّه معيّن للمسؤول عنه ومبيّن له ، فبان لك بهذا أنّ الجملة بعد الضمير لم يؤت بها لمجرّد التفسير ، بل هي كسائر أخبار المبتدأ ، لكن سمّيت تفسيرا لما بيّنه ، انتهى.

وتكون اسميّة إذا كان الضمير مبتدأ ، وإذا دخله الناسخ اسميّة وفعلية كما سيأتي.

وسمّي ذلك الضمير ضمير الشأن ، إن كان مذكّرا ، نحو : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [التوحيد / ١] ، وضمير القصّة إن كان مؤنّثا ، نحو : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنبياء / ٩٧] ، وكذا قال غير واحد ، وقال بعض المحقّقين : قد يتوهّم كثير من الناس أنّ التذكير باعتبار لفظ الشأن والتأنيث باعتبار لفظ القصة ، وهذا غلط فاحش ، لأنّه إنّما يكون كذلك لو رجع هذا الضمير إلى هذين اللفظين ، وليس كذلك بل هو راجع إلى المتعقّل ذهنا ، انتهى.

قلت : المراد باعتبار الشأن والقصة في التذكير والتأنيث أنّ الضمير إذا كان مذكّرا ناسب أن يرجع إلى الشأن المعقول ، وإذا كان مؤنّثا ناسب أن يرجع إلى القصة المعقولة رعاية للمطابقة ، فهو راجع فيهما إلى المتعقّل ذهنا ، فان أراد بكثير من الناس من قال بهذا

٤٦٨

فلا وهم ، ولا غلط ، وإن أراد به من يقول بأنّه راجع إلى الشأن الملفوظ به أو القصّة الملفوظ بها فليس من الناس.

«ويحسن تأنيثه» أي تأنيث الضمير المذكور مع المؤنّث ، كما يحسن تذكيره مع المذكّر «إن كان المؤنّث فيهما» أي في الجملة المفسّرة له «عمدة» ، نحو : هي هند الملحية ، بخلاف ما إذا كان فضلة ، فلا يحسن أنّها بنيت غرفة ، أو كالفضلة ، فلا يحسن أنّها كان القرآن معجزه ، وذلك لأنّ الضمير مقصود مهم ، فلا يراعي مطابقته للفضلة ، لكنّه مع ذلك جائز بتأويل القصة قياسا ، ولم يسمع. وإنّما قال : يحسن تأنيثه ، لأنّه وإن كان في الظاهر راجعا إلى المؤنّث المذكور في الجملة ، لكنّه في الحقيقة راجع إلى المتعقّل في الذهن ، كما مرّ ، فحسن تانيثه مراعاة للظاهر.

هذا مذهب البصريّين ، وأوجب الكوفيّون تذكيره مع المذكّر وتأنيثه مع المؤنّث ، يدفعه قول العرب : إنّه أمة الله ذاهبة ، وقراءة : أولم تكن آية أن يعلمه [الشعراء / ١٩٧] ، بالفوقية ، فإنّ الاسم أن يعلمه وهو مذكّر ، كذا قيل ، ووقع للدمامينيّ في شرح التسهيل أنّ ضمير الشأن لا يفسّر بأنّ وصلتها ، فينبغي تحقيق ذلك.

تنبيه : يجرى مجرى المؤنّث في الحكم المذكور مذكّر شبّه به ، نحو : إنّها قمر جاريتك ، وفعل بعلامة تأنيث ، نحو : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) [الحج / ٤٦] ، ولا عبرة بمؤنّث شبّه به مذكّر ، فلا يحسن أنّها شمس وجهك ، ولا بتأنيث فاعل فعل بلا علامة التأنيث ، فلا يحسن أنّها قام جاريتك.

ويبرز الضمير المذكور مبتدأ واسم ما ومنصوبا في باب إنّ وظنّ ، وقد يستتر في باب كان وكاد ، ولا يعمل فيه إلا الابتداء على خلاف فيه ، فمنعه الفرّاء وأبو الحسن وجوّزه النّحويّون.

قال أبو حيّان : ومنعه غريب مع كثرته في كلام الله تعالى ، أو أحد نواسخه كأنّ وظنّ وأخواتهما ، ومنع بعضهم عمل ما المشبهة بليس فيه ، وبعضهم عمل كاد ، والأصحّ عملها كقوله [من الطويل] :

٤٧١ ـ وما هو من يأسو الكلوم وتتّقي

به نائبات الدّهر كالدّائم البخل (١)

وكقراءة حمزة وحفص : (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) [التوبة / ١١٧] ، بالمثنّاة من تحت ، وحينئذ يتعيّن أن يكون في كاد ضمير الشأن ، وقلوب فاعل ، ولا يجوز أن يكون فاعلا لكاد لما يلزم من جواز القلوب يزيغ ، وبابه الشعر.

__________________

(١) لم يسم قائله. اللغة : يأسو : يصلح ، الكلوم : جمع الكلم : الجرح.

٤٦٩

«ولا يثنّى ولا يجمع» وإن فسّر بجملتين أو جمل ، بل لا يكون إلا مفردا ، لأنّ مرجعه الّذي هو الشأن أو القصة المتعقّلان في الذهن لا يكون إلا مفردا ، وأمّا من قال : لأنّه ضمير يفسّره مضمون جملة ، ومضمون الجملة (١) مفرد ، فيلزمه أن يثنّى ويجمع إذا فسّر بجملتين أو جمل لتعدّد مضمون الجمل حينئذ ، فتدبّر.

«ولا يفسّر بمفرد» لأنّه كناية عن الشأن والقصّة ، وهما بمعنى الجملة ، فلا يفسّر إلا بجملة مصرّح بجزئيتها لا بمفرد ، وأجاز الكوفيّون والأخفش تفسيره بمفرد له مرفوع ، نحو : كان قائما زيد ، وظننته قائما عمرو ، وهذا إن سمع خرج على أنّ المرفوع مبتدأ ، واسم كان وضمير ظننته راجعان إليه ، لأنّه في نيّة التقديم ، ويجوز كون المرفوع بعد كان اسما.

وأجاز الكوفيون أنّه قام وأنّه ضرب على حذف المرفوع والتفسير بالفعل مبنيّا للفاعل أو المفعول ، وفيه فسادان : التفسير بالمفرد وحذف مرفوع الفعل ، قاله ابن هشام.

قلت : هذان الفسادان لا يلزم شيء منهما الكوفيّين ، لأنّ كلّا منهما عندهم جائز ، فتخطئتهم على مذهب غيرهم ليس بصواب ، وهو كما قال أبو عثمان المازنيّ : دخلت بغداد فألقيت على مسائل ، فكنت أجيب فيها على مذهبي ، ويخطؤوني فيها على مذاهبهم ، انتهى. نعم الّذي يدفع قول الكوفيّين أنّه ليس لهم شاهد على ما ذهبوا إليه ، كما قاله الرضيّ.

«ولا يتبع» بشيء من التوابع ، فلا يؤكّد ولا يعطف عليه عطف بيان ، ولا يبدل منه ، لأنّه أشدّ إبهاما من النكرة ، وهي لا تؤكّد ، ولئلّا يزول الإبهام المقصود منه بالبدل وعطف البيان.

قال الدمامينيّ : وانظر ما وجه كونه لا يعطف عليه عطف نسق ، انتهى. ووجّهه الشمنيّ بأنّ الجملة الّتي هي خبر ضمير الشأن لا تحتاج إلى رابط لكونه نفسه ، فلو عطف عليه عطف نسق لشاركه المعطوف في الإخبار عنه بالجملة ، ولزم خلوّ خبر المعطوف عليه من رابط ، وهو ممنوع ، انتهى ، فتأمّل.

ومثل المصنّف للأحكام المذكورة بقوله : «نحو : هو الأمير راكب ، وهي هند كريمة» ، مثالان لما عمل فيه الابتداء ، والضمير في الأول مذكّر ، وفي الثاني مؤنّث ، «وإنّه الأمير راكب» مثال لما عمل فيه الناسخ ، وهو أنّ ، ومثله قوله [من البسيط] :

__________________

(١) سقط «ومضمون الجملة» في «ح».

٤٧٠

٤٧٢ ـ علمته الحقّ لا يخفي على أحد

 ... (١)

وهو في هذه الأمثلة بارز ، ونحو : قول الشاعر ، وهو العجير بن عبد الله السلوليّ (٢) [من الطويل] :

٤٧٣ ـ إذا متّ كان الناس صنفان شامت

وآخر مثن بالّذي كنت أصنع (٣)

مثال للمستتر الّذي عمل فيه الناسخ ، ففي كان ضمير الشأن ، وهو اسمها ، والناس مبتدأ ، وصنفان خبر ، وشامت خبر مبتدإ محذوف ، أي أحد الصنفين شامت.

وقيل : يجوز أن يكون بدلا من صنفان ، وقوله : مثن يجوز أن يكون بدلا من صنفان وقوله : مثن أي على ، وأصنع ، أي أصنعه ، لأنّه عائد الموصول ، والمعنى : إذا متّ ، وكان الناس ورائي نوعين : نوع منهم يشمت بي ، ونوع يثنّى علىّ بالّذي كنت أصنعه في حياتي.

تنبيهات : الأوّل : لا يجوز للجملة المفسّرة لهذا الضمير أن تتقدّم هي أو شيء منهما عليه ، خلافا ليوسف بن أبي سعيد السيرافي ، فإنّه أجاز في قوله [من الطويل] :

٤٧٤ ـ أسكران كان ابن المراغة إذ هجا

تميما بجوف الشّام أم متساكر (٤)

فيمن رفع سكران وابن المراغة على أن يكون في كان ضمير الشأن ، وابن المراغة وسكران مبتدأ وخبر ، والجملة مفسّرة ، والصواب أنّ كان زائدة ، والأشهر في إنشاده نصب سكران ورفع ابن المراغة ، فارتفاع متساكر على أنّه خبر لهو محذوفا ويروى بالعكس ، واسم كان مستتر فيها.

الثاني : لا يجوز حذف هذا الضمير لعدم الدليل عليه إذ الخبر مستقلّ ، ليس فيه ضمير رابط ، ولا يحذف المبتدأ ولا غيره إلا مع القرينة ، وأيضا فإنّ المقصود من الكلام المصدريّة هو التفخيم والتعظيم ، فلا يلائمه الاختصار ، والّذي سوّغ حذفه منصوبا صيرورته بالنصب في صورة الفضلات مع دلالة الكلام عليه نحو قوله [من الخفيف] :

٤٧٥ ـ إنّ من يدخل الكنيسة يوما

يلق فيها جاذرا وظباء (٥)

__________________

(١) عجزه «فكن محقّا تنل ما شيءت من ظفر» ، وقائله مجهول.

(٢) العجير بن عبد الله من بني سلول من شعراء الدولة الأموية ، كنيته أبو الفرزدق وعجير لقبه ، عدّه ابن سلام في شعراء الطبقة الخامسة من الاسلاميين ، مات سنه ٩٠ ه‍. الأعلام للزركلي ، ٥ / ٥.

(٣) اللغة : الشامت : اسم فاعل من شمت بعدوه أي : فرح بمكروه أصابه. مثن : اسم فاعل من أثنى على فلان أي : وصفه بخير.

(٤) هو للفرزدق يهجو بها جرير بن عطية بن الخطف التميمي. اللغة : الهمزة للتوبيخ على سبيل الإنكار. سكران : من به سكر. ابن المراغة : كنية جرير الشاعر ، المتساكر : اسم الفاعل من التساكر وهو إظهار السكر وتكلّفه من غير وجوده في الشخص.

(٥) تقدّم برقم ١٥٠.

٤٧١

وذلك الدليل هو أنّ نواسخ المبتدإ لا تدخل على كلم المجازات كما مرّ ، والتزم حذفه في باب أنّ المفتوحة ، إذا خفّفت تبعا لحذف النون ، نحو : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس / ١٠] ، وإنّما لم تلغ ، لأنّ المكسورة قد علمت مخفّفه في الظاهر ، نحو : (إِنَّ كُلًّا لَمَّا) [هود / ١١١] ، مع أنّ المفتوحة أقوي منها لمشابهة فتح أوّلها فتح أوّل الماضي ، فلو ألغيت لزم إعمال الأدنى وإهمال الأقوى ، وإنّما أعملت تلك في الظاهر ، وهذه في المضمر ، لأنّ هذه فرع عن تلك ، والمضمر فرع عن الظاهر الّذي يفسّره ، فأعمل الأصل في الأصل ، والفرع في الفرع.

وهذا مذهب الجمهور ، وذهب سيبويه وجماعة إلى أنّ الملتزم حذفه لا يجب أن يكون ضمير شأن ، واختاره ابن مالك ، وسيأتي لذلك مزيد كلام في حديقة المفردات ، إن شاء الله تعالى.

الثالث : الجمهور على أنّ هذا الضمير اسم ، وزعم ابن الطراوة أنّه حرف ، فمثّل كان زيد قائم ، وليس زيد بقائم ، فإلغاء لكان وليس وأخواتهما ، وأمّا إنّه أمة الله ذاهبة ، فحرف كفّ إنّ عن العمل ، وفي [قول الشاعر من الخفيف] :

٤٧٦ ـ إنّ من يدخل الكنيسة يوما

 ... (١)

إنّ ملغاة ، وأمّا : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [التوحيد / ١] ، فهو هنا فسّره المعنى ، أي المعبود الله أحد ، قاله في الإرتشاف.

مواضع عود الضمير إلى المتأخّر : هذه «فائدة» في بيان مواضع عود الضمير إلى متأخّر لفظا ورتبة «ذكر بعض المحقّقين» وهو الرضيّ (رض) ، والمحقّقون جمع محقّق اسم الفاعل من حقّق الشيء تحقيقا ، أي رجعه إلى حقيقته ، بحيث لا يشوبه شبهة ، «عود الضمير إلى» المفسّر «المتأخّر لفظا ورتبة في خمسة مواضع».

وإنّما أسندنا ذكر هذه الفائدة إلى الرضي ، مع أنّه ذكرها ابن بابشاذ في شرح الجمل وابن مالك في التسهيل وابن هشام في المغني وغيرهم ، لأنّ الرضيّ هو الّذي عدّ المواضع خمسة ، وابن بابشاذ عدّها أربعة ، وابن مالك وابن هشام عدّاها سبعة. والمرتضى صنع الرضيّ كما سيأتي بيانه ، والمواضع الخمسة هي :

* «إذا كان» الضمير «مرفوعا بأوّل» العاملين «المتنازعين» للمعمول بعدهما ، «وأعملنا» العامل «الثاني» فيه على مذهب البصريّين ، «نحو : أكرمني وأكرمت زيدا» ، ففي

__________________

(١) تقدّم برقم ١٥٠ و ٤٧٥.

٤٧٢

أكرمني ضمير مرفوع به على الفاعلية عائد إلى المتنازع فيه ، وهو زيد المنصوب على المفعوليّة ، والمفعول رتبته التأخير ، فعاد الضمير إلى متأخّر لفظا ورتبة.

* «أو» كان الضمير «فاعلا في باب نعم» وبئس وما جرى مجراهما «مفسّرا بتمييز» ، ولا يفسّر إلا به ، وعبارته توهّم خلاف ذلك ، «نحو : نعم رجلا زيد» ، وبئس رجلا عمرو ، ففي كلّ من نعم وبئس ضمير فاعل يفسّره التمييز ، ورتبة التمييز التأخير ، فقد عاد الضمير إلى التمييز ، وهو متأخّر لفظا ورتبة ، ويلتحق بهما فعل الّذي يراد به المدح والذم ، نحو : (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) [الأعراف / ١٧٧] ، و (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) [الكهف / ٥] ، وظرف رجلا زيد ، وذهب الفرّاء والكسائي إلى أنّه لا ضمير في الفعل ، بل المرفوع بعد المنصوب هو الفاعل ، ويأتي الكلام على ذلك في باب أفعال المدح والذّمّ ، إن شاء الله تعالى.

* «أو» كان الضمير «مبدلا منه ظاهر» مفسّر له ، «نحو : ضربته زيدا» ، فالضمير في ضربته عائد إلى المبدل منه ، وهو زيد المنصوب على البدليّة ، والبدل رتبته التأخير عن المبدل منه ، فعاد الضمير إلى المتأخّر لفظا ورتبة ، وهذه المسألة قال ابن عصفور : أجازها الأخفش ، ومنعها سيبويه. وقال ابن كيسان : هي جائزة بإجماع نقله عنه ابن مالك ، كذا قال ابن هشام في المغني. وفي الهمع صحّح الجواز ابن مالك وأبو حيّان ، ومنعه قوم ، وردّه أبو حيّان بالورود ، انتهى.

وممّا خرجوا على ذلك قولهم : أللهمّ صلّ عليه الرؤوف الرحيم ، وقال الكسائيّ : هو نعت وهم يأبون نعت الضمير ، وقوله [من الرجز] :

٤٧٧ ـ ...

فلا تلمه أن ينام البائسا (١)

وقال سيبويه : هو بإضمار أذمّ.

* «أو» كان الضمير «مجرورا بربّ على ضعف» ، تقدّم الكلام فيه في بحث المجرورات فليراجع «نحو : ربّه رجلا» ، فالضمير المجرور بربّ عائد إلى التمييز ، وهو رجلا ورتبة التمييز التأخير ، كما مرّ ، فقد عاد الضمير إلى متأخّر لفظا ورتبة.

تنبيه : ذهب الزمخشريّ إلى أنّ التمييز يفسّر بالتمييز في باب نعم وربّ ، وذلك أنّه قال في قوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [فصلت / ١٧] : يجوز أن يرجع الضمير فيه إلى السماء على المعنى ، كما قال : (طائِعِينَ) [فصلت / ١١] ، ونحوه : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة / ٧] ، ويجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسّرا بسبع سموات ، والفرق بين

__________________

(١) صدره «قد أصبحت بقرقرى كوانسا» ، ولم يذكر قائله. اللغة : القرقرى : اسم موضع ، الكوانس : جمع كانس : مأوى الظبي بين الأشجار.

٤٧٣

النصبين أنّ أحدهما على الحال والثاني على التمييز ، وصرّح بمثل ذلك في قوله تعالى : (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [البقرة / ٢٩] ، فقال : الضمير في سوّاهنّ ضمير مبهم وسبع سموات تفسيره كقولهم : ربّه رجلا ، انتهى.

وضعف كلامه بوجهين : أحدهما : إنّ الباب ليس بقياس ، وإنّما حمل الضمير في ربّه رجلا على أنّه مبهم ، لأنّ ربّ لا تدخل إلا على النكرات ، وهذا لا يوجد في سوّاهنّ ، وفيه نظر ، يعلم ممّا مرّ من الكلام على تعريف هذا الضمير وتنكيره. الثاني : إنّ هذا التقدير يجعل الكلام غير مرتبط بما قبله ارتباطا كليّا ، إذ يكون الكلام قد تضمّن أنّه تعالى استوى إلى السماء ، وأنّه سوى سبع سموات عقب استوائه إلى السماء ، فيكون قد أخبر بإخبارين : أحدهما استوائه إلى السماء ، والآخر تسوى ته سبع سموات ، وظاهر الكلام أنّ الّذي استوى إليه هو بعينه المسوى سبع سموات ، وفيه نظر ظاهر. «أو كان» الضمير «للشأن والقصة كما مرّ» عن قريب فليراجع إليه.

تنبيه : زاد ابن مالك في التسهيل موضعين آخرين يعود فيهما الضمير على متأخر لفظا ورتبة : أحدهما : أن يكون الضمير مخبرا عنه فيفسّره خبره ، نحو : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) [الأنعام / ٢٩] ، وقال الزمخشريّ : هذا ضمير لا يعلم ما يعني به إلا بما يتلوه ، وأصله إن الحياة إلا حياتنا الدنيا ، ثمّ وضع هي موضع الحياة ، لأنّ الخبر يدلّ عليها ويبيّنها.

قال ابن مالك : وهذا من جيّد كلامه ، ونازعه في ذلك أبو حيّان ، قال : لأنّ الخبر إذا كان مضافا لشيء أو موصوفا بشيء ، وجعل مفسّرا ، كان المبتدأ الّذي هو ضمير عائد عليه باعتباره ما قيّد به من إضافة أو صفة ، وحينئذ يصير التقدير إن حياتنا الدنيا إلا حياتنا الدنيا.

قال : وليس في كلام الزمخشريّ دليل على ما ذهب إليه ، لأنّه قال : وضع هي موضع الحياة ، ولم يقل موضع حياتنا الّذي هو الخبر وقوله : لأنّ الخبر يدلّ عليها ويبيّنها ، يعني سياق هذا الكلام دلّ على أنّ المفسّر هو الحياة ، فيكون المفسّر إذن هو السّياق إلا الخبر ، انتهى.

الثاني : أن يكون الضمير متّصلا بفاعل مقدّم مفسّره مفعول مؤخّر نحو : ضرب غلامه زيدا ، ومن شواهده قول حسان [من الطويل] :

٤٧٨ ـ ولو أنّ مجدا أخلد الدّهر واحدا

من الناس أبقي مجده الدّهر مطعما (١)

__________________

(١) تقدم برقم ٩١.

٤٧٤

وقد تقدّم أنّ هذا ضرورة فلا يقاس عليه ، فظهر وجه عدم ذكر الرضي لهذين الوضعين واتباع المصنّف له ذلك.

ضمير الفصل : تتمة : يتوسّط بين المبتدأ والخبر قبل دخول العوامل وبعدها ضمير بلفظ المرفوع المنفصل مطابق للمبتدإ يفيد التوكيد والاختصاص ، وكون ما بعده خبرا لا نعتا.

ويسمّيه البصريّون فصلا لفصله بين كون ما بعده خبرا وبين كونه نعتا ، والكوفيّون عمادا ، لأنّه اعتمد عليه في هذا المعنى ، وشرطه أن يكون ما قبله معرفة وما بعده معرفة ، أو كالمعرفة في أنّه لا يقبل أل ، نحو : (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة / ٥] ، و (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) [الصافات / ١٦٥] ، (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) [المائدة / ١١٧] ، (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) [الكهف / ٣٩] ، (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً) [المزمل / ٢٠]. ولا موضع له من الإعراب عند البصريّين ، فقال بعضهم : هو حرف ، وقال بعضهم : هو اسم ، لكن لمّا كان الغرض به الإعلام من أوّل الأمر يكون مايليه خبرا لا نعتا اشتدّ شبهه بالحرف ، في أنّه لم يؤت به إلا لمعنى في غيره ، فلم يجعل له موضع من الإعراب.

وقال الكوفيّون : بل له موضع ، فقال الكسائي : موضعه بحسب ما بعده. وقال الفرّاء بحسب ما قبله ، فمحلّه بين المبتدأ والخبر رفع ، وبين معمولي ظنّ نصب ، وبين معمولي كان رفع عند الفرّاء ، ونصب عند الكسائيّ ، وبين معمولي أنّ بالعكس.

وكثير من العرب تجعله مخبرا عنه بما بعده ، وحكى الجرميّ أنّها لغة بني تميم وحكى عن أبي زيد أنّه سمع منهم يقرؤون : تجدوه عند الله هو خير وأعظم [المزمل / ٢٠] ، بالرفع. وقال قيس بن الذريح [من الطويل] :

٤٧٩ ـ تبكّي على لبنى وأنت تركتها

وكنت عليها بالملا أنت أقدر (١)

__________________

(١) اللغة : الملا : موضع.

٤٧٥

اسم الإشاره

ص : ومنها : أسماء الاشارة : وهي ما وضع للمشار إليه المحسوس ، فللمفرد المذكّر «ذا» ولمثنّاه «ذان» مرفوع المحلّ ، و «ذين» منصوبه ومجروره ، (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) متأوّل. والمؤنّث «تا» و «ذي» و «ذه» و «تي» و «ته» ولمثنّاه «تان» رفعا و «تين» نصبا وجرّا ، ولجمعهما «أولاء» مدّا وقصرا ، وتدخلها «هاء» التنبيه ، وتلحقها «كاف» الخطاب بلا لام للمتوسّط ، ومعه للبعيد ، إلا في المثنّى والجمع عند من مدّه ، وفيما دخله حرف التنبيه.

ش : «ومنها» أي ومن المبنيّات «أسماء الأشارة» ، وفي الاصطلاح هي ما وضع لمشار إليه ، أي لمعنى مشار إليه إشارة حسيّة ، إذ مطلق الإشاره حقيقة فيها دون الذهنيّة ، فلا نقض بما عدا المحدود من المعارف ، فإنّها وإن كانت موضوعة لمشار إليه إلا أنّ الإشارة فيها ذهنيّة.

وقضية هذا أن يكون الأصل في أسماء الإشارة أن لا يشار بها إلا إلى مشاهد محسوس قريب أو بعيد ، فإن أشير بها إلى غير محسوس ، نحو : (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي) [الشوري / ١٠] ، و (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) [يوسف / ٣٧] ، وإلى محسوس غير مشاهد نحو : (تِلْكَ الْجَنَّةُ) [مريم / ٦٣] ، فلتصيره كالمشاهد.

وإنّما بنيت أسماء الإشارة لشبهها بالحرف في الافتقار إلى مشار إليه ، كذا قال غير واحد. وقال ابن مالك لتضمّنها معنى الحرف ، وبيانه أنّ الاشارة كان حقّها أن يوضع لها حرف ، كما وضع لسائر المعاني من الاستفهام والنفي والتمنّي والتشبيه ، لكن العرب لم تضع للإشارة حرفا ، فتضمّن اسم الإشارة معنى ذلك الحرف الّذي كان ينبغي أن يوضع لمعنى الإشارة ، لا يقال : إنّ اللام العهديّة يشار بها إلى معهود ذهنا ، وهي حرف ، فقد وضعوا للإشارة حرفا ، لأنّا نقول : المراد بالإشارة الإشارة الحسيّة ، لأنّها الّتي وضع لها اسم الاشارة.

ما يشار به إلى المفرد المذكّر ومثنّاه : «فللمفرد المذكّر» من أسماء الأشارة «ذا» ، وليس له غيرها ، وقد مرّ الكلام على بنيته ولغاته. «ولمثنّاه ذان» حال كونه «مرفوع المحلّ ، وذين» حال كونه «منصوبه» أي المحلّ «ومجروره» ، وليست الألف فيه علامة الرفع ، والياء علامة النصب والجرّ ، لأنهما ليسا مثنيين حقيقة ، بل هما مبنيّان ، جئ بهما علي صورة المثنّى ، لأنّ من شرط التثنية قبول التنكير كما مرّ ، وأسماء الاشارة ملازمة

٤٧٦

للتعريف ، ففي حالة الرفع وضعا على صيغة المثنّى المرفوع ، وفي حالة النصب والجرّ وضعا على صيغة المثنّى المنصوب والمجرور.

هذا مذهب ابن الحاجب ، وصحّحه جماعة من المحقّقين. وذهب بعضهم إلى أنّهما معربان ومثنيان حقيقة ، وهو الظاهر ، كما سيأتي في الموصولات ، وكلام ابن هشام في الأوضح يقتضي أنّ ثمّ قولا ثالثا ، وهو إعرابهما مع تثنيتهما ، ولا قائل به كما نبّه عليه شارحه.

تأويل إنّ هذان لساحران : وقوله تعالى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه / ٦٣] ، بالألف في اسم الإشارة وتشديد نون إنّ في قراءة غير أبي عمرو وابن كثير وحفص متأوّل ، وتأويله بأوجه.

أحدها : أنّ اسم إنّ ضمير الشأن محذوف ، والأصل إنّه هذان لهما ساحران ، فحذف المبتدأ ، وهو كثير ، وحذف ضمير الشأن ، كما حذف من قول (ع) : إنّ من أشدّ الناس عذابا يوم القيامة المصوّرون (١) ، وهو ضعيف لما مرّ.

الثاني : أنّ إنّ بمعنى نعم ، مثلها في قول ابن الزبير (٢) لمن قال له : لعن الله ناقة حملتني إليك : إنّ وراكبها ، أي نعم ولعن راكبها ، وهي لا تعمل شيئا ، لأنّها حرف تصديق فلا اسم لها ولا خبر ، وهذان مبتدأ ، وساحران خبر لمبتدإ محذوف ، أي لهما ساحران ، ويضعفه أنّ الجمع بين لام التوكيد وحذف المبتدإ كالجمع بين متنافين.

الثالث : أنّه جاء لغة خثعم (٣) وبلحارث بن كعب وزبيد (٤) وكنانه وآخرين ، فإنّهم يستعملون المثنّى بالألف دائما قال [من الطويل] :

٤٨٠ ـ تزّود منّا بين أذناه طعنة

 ... (٥)

قال [من الرجز] :

٤٨١ ـ إنّ أباها وأبا أباها

قد بلغا في المجد غايتاها (٦)

واختار هذا الوجه ابن مالك.

__________________

(١) الجامع الصغير ، ص ١٣٣ ، رقم ٢٢٠٠.

(٢) هو عبد الله بن الزبير الأشيم الأسدي ، من شعراء الدولة الأموية ، كان هجّاء ، يخاف الناس شرّه ، ومات في خلافة عبد الملك بن مروان سنة ٧٥ ه‍ ق. الأعلام للرزكلي ، ٤ / ٢١٨.

(٣) خثعم : قبيله عربيّة قحطانية.

(٤) قبيلة من كهلان ، من القحطانية.

(٥) تمامه «دعته إلى هابي التّراب عقيم» ، وهو لهوبر الحارثيّ. اللغة : الطعنة : المرة من الطعن وهو الضربة بالرمح ، هابي التراب : ما ارتفع ودقّ منه العقيم من الارض : ما اعتقمتها فحفرتها.

(٦) تقدّم برقم ٧٤.

٤٧٧

الرابع : أنّه لمّا ثنّي هذا اجتمع ألفان : ألف هذا وألف التثنية ، فوجب حذف إحداهما لالتقاء الساكنين ، فمن قدّر المحذوفة ألف هذا والباقية ألف التثنية قلبها في النصب والجرّ ياء ، ومن قدّر العكس لم يغيّر الألف عن لفظها.

الخامس : أنّه جيء به على أوّل إعرابه ، وهو الرفع كما في اثنان قبل التركيب.

السادس : أنّه مبنيّ كما مرّ (١).

قال ابن هشام : وعلى هذا فقراءة (هذانِ) أقيس ، إذ الأصل في المبنيّ أن لا تختلف صيغة ، مع أنّها مناسبة لألف ساحران ، وعكسة الياء في : (إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) [القصص / ٢٧] ، فهي هنا أرجح لمناسبة ياء ابنتي.

وحكى السقطي (٢) في تاريخه «أبناء الراوة» أنّ القاضي اسماعيل بن اسحاق (٣) سأل أبا الحسن محمد بن أحمد بن كيسان ما وجه قراءة من قرأ : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه / ٦٣] ، على ما جرت به عادتك من الإعراب في الاعراب؟ فأطرق ابن كيسان مليّا (٤) ثمّ قال : نجعلها مبنيّة لا معربة ، وقد استقام الأمر. قال : وما علّة بناءها؟ قال : لأنّ المفرد منها هذا ، وهو مبنيّ والجمع هؤلاء (٥) وهو مبنيّ ، فيحتمل التثنية على الوجهين ، فأعجب القاضي ذلك ، وقال : ما أحسنه لو قال به أحد ، فقال ابن كيسان : ليقل به القاضي ، وقد حسن.

وللمفرد المؤنّث «ذي» بذال معجمة مكسورة فياء ساكنة مبدلة من ألف ذا فرقا بين المذكّر والمؤنّث بالياء الّتي هي علامة التأنيث في نحو : تقومين. و «ذه» باختلاس حركة الهاء ، أي اختطافها والإسراع ، وذه باسكان الها ، والظاهر أنّه بناء. وقال بعضهم : السكون في الوقف لأجله ، وفي الوصل لاجرائه مجرى الوقف ، وذهي باشباع كسرة الهاء. قال بعض المحقّقين : الياء الحاصلة بالإشباع لا تكتب كالواو الحاصلة به ، فيكتب مرّ به وضربه بلا ياء وواو ، وكأنّه خصّ اسم الإشارة هنا بكتابته تقليلا للاشتراك بكتابة ذه وته ، انتهى.

__________________

(١) من بين هذه الوجوه المذكورة يبدو أنّ هذا الوجه أشدّ مناسبة ، لأنه لا إشكال فيه إذا قلنا بأنّ أسماء الإشارة مبنيّة في كلّ حال.

(٢) هبة الله بن المبارك ، أبو البركات ، السقطي ، مؤرّخ محدّث رحال ، صنف «تاريخا» جعله ذيلا على تاريخ بغداد للخطيب ، مات سنة ٥١٩ ه‍ ، المصدر السابق ، ٩ / ٦٤.

(٣) إسماعيل بن إسحاق الجهضمي الأزدي ، فقيه على مذهب مالك ، ولي قضاء القضاة ، من تاليفه «الموطأ» و «أحكام القرآن» مات سنة ٢٨٢ ه‍. المصدر السابق ، ١ / ٣٠٥.

(٤) مليا : زمانا طويلا.

(٥) سقط والجمع هؤلاء في «ح».

٤٧٨

وذات بضمّ التاء ، قال ابن هشام : الإشارة ذا ، والتاء للتانيث ، وهي التاء في امرأة ونحوه ممّا فيه تاء الفرق ، وليس بصفة ، «وتي» بإبدال الذال المعجمة تاء لغة في الفرق بين المذكّر والمونّث ، «وته» بالاختلاس ، وته بالإسكان ، وتهي بالاشباع نظير ما مرّ ، وتاء بقلب ذال ذاتا للفرق بين المذكّر والمؤنّث ، وهذه العشرة كلّها للواحد.

ما يشار به إلى المثنّى : «ولمثنّاه تان رفعا ، وتين نصبا وجرّا» على حدّ ما مرّ في المثنّى المذكّر ، وأمّا تذكير الإشارة في قوله تعالى : (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ) [القصص / ٣٢] ، مع أنّ المشار إليه إلى د والعصا ، وهما مؤنّثان ، فلكون المبتدأ عين الخبر في المعنى ، والبرهان مذكّر ، ذكره في المغني.

الإشارة للمؤنّث بلفظ المذكّر : تنبيه : قد تقع الإشارة للمؤنّث بلفظ المذكّر كما في قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) [الأنعام / ٧٨] ، قال أبو حيّان : أشار بلفظ المذكّر لأنّه حكى قول ابراهيم ، ولا فرق في لسانه بين المذكّر والمؤنّث ، والفرق بينهما في الإخبار لا يكون في أكثر الألسن ، فلا يوجد في لسان الترك ولا الفرس ، بل المذكّر والمؤنّث فيه سواء. قال : وهذا أحسن ممّا يعتذر به عن التذكير في الآية ، انتهى.

ما يشار به إلى الجمع : «ولجمعهما» أي المذكّر والمونّث عاقلا كان أو غيرة «أولاء» مدّا في لغة الحجاز ، وبه جاء لتتريل ، والهمزة الأولى مضمومة ، والأخيرة مكسورة ، وقصرا في لغة أهل نجد من بني تميم وقيس وربيعة وأسد. وذكر ذلك الفرّاء في لغة القرآن. تقول : أولاء أو أولى ذهبوا في المذكّر ، وأولاء أو أولى ذهبن في المؤنّث ، وتقول أيضا في غير العاقل : أولاء أو أولى الأيام انقرضت ، قال [من الطويل] :

٤٨٢ ـ ذمّ المنازل بعد منزلة اللّوي

والعيش بعد أولئك الأيام (١)

وإذا قصر كتب بالياء ، لأنّ ألفه مجهولة الأصل ، فتلتبس إلى حرف جرّ ، فتكتب بواو بعد الهمزة للفرق ، وحملوا أولاء عليها ، وقد تبدل همزته هاء ، ويقال هلاء ، وقد تضمّ الهمزة الأخيرة ، نحو : أولاء ، وربّما أشبعت الضمة قبل اللام ، نحو : أولاء على وزن طومار ، وأمّا قولهم : أولاء على وزن توراة كما قال [من الوافر] :

٤٨٣ ـ تجلّد لا يقل هؤلاء هذا

بكي لمّا بكي أسفا وغيظا (٢)

__________________

(١) البيت لجرير بن عطية من كلمة له يهجو فيها الفرزدق. اللغة : اللّوي : موضع بعينه ، العيش : أراد به الحياة.

(٢) لم يسمّ قائله. اللغة : تجلّد : اصبر.

٤٧٩

فليس بلغة ، بل هو تخفيف هؤلاء بحذف ألف وقلب الهمزة أولاء واوا.

تدخل هاء التنبيه أسماء الاشارة : «وتدخلها» أي أسماء الإشارة المذكورة ، والمراد منه ما ذكر خاصّة لا مطلقا ، لأنّ منها ما لا يدخله هاء ولا يلحقه كاف ولا لام كثمّة ، «هاء التنبيه» أي الهاء والألف الدّالّ مجموعهما على التنبيه على ما يذكر بعدهما من مشار إليه أو غيره نحو : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ) [المائدة / ١١٩] ، (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه / ٦٣] ، (إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) [القصص / ٢٧] ، (هؤُلاءِ بَناتِي) [هود / ٧٨].

وقد يفصل بينهما بأنا وأخواته كثيرا ، قال تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) [النساء / ١٠٩] ، وبغيرها قليلا كقوله [من البسيط] :

٤٨٤ ـ تعلّمن ها لعمر الله ذا قسما

 ... (١)

ففصل بين ها وذا بقوله لعمر الله ، وقد تعاد بعد الفصل للتوكيد ، نحو : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ.)

تنبيه : هاء المذكورة ليس بعد ألفها همزة ، وإنّما هي علم على الكلمة المركبة من ها فألف ، ثمّ نكّروا ضيف إلى التنبيه ، ليتّضح المراد به كقوله [من الطويل] :

٤٨٥ ـ علا زيدنا يوم النّقا رأس زيدكم

 ... (٢)

ولا يصحّ أن يضبط بهمزة بعد الألف إذ ليس لنا هاء تكون للتنبيه (٣) أصلا ، قاله الدماميني في شرح التسهيل.

والظاهر أنّه ليس للألف نفسها هنا وجود لحذفها لالتقاء الساكنين هي والتاء الأولى من التنبيه ، وما جزم به من أنّه ليس بعد ألفها همزة ليس بجيّد.

فقد قال بعض المحقّقين : إنّ أمثالها إذا أريد بها نفسها قد تزاد في آخرها همزة ، كما تزاد إذا جعلت اسما ، وقد لا تزاد.

تلحق كاف الخطاب أسماء الإشارة : «وتلحقها» أي أسماء الإشارة المذكورة «كاف» تدلّ على «الخطاب» ، وهي حرف بالاتّفاق لامتناع وقوع الظاهر موقعها ، ولو كانت أسماء لم يمتنع ذلك كما في كاف ضربتك ، كذا قيل ، فتأمّل.

__________________

(١) تمامه «فاقصر بذرعك وانظر أين تنسلك» ، وهو لزهير بن أبي سلمى.

(٢) تقدّم برقم ١٨٧.

(٣) سقط للتنبيه في «ح».

٤٨٠